عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لما خلق الله عز وجل الجنة والنار، أرسل جبريل يعنى إلى الجنة فقال: انظر إليها إلى ما أعددت لأهلها فيها. فجاء فنظر إليها وإلى ما أعد الله عز وجل لأهلها فيها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحجبت بالمكاره، وقال: ارجع إليها فانظر إليها، فرجع فإذا هى قد حجبت بالمكاره، قال: لقد خشيت ألا يدخلها أحد، قال: فانظر إلى النار وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فجاءها فنظر إليها، إلى ما أعد لأهلها فإذا هى يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، وقال له: ارجع إليها فانظر إليها فإذا هى قد حفت بالشهوات، فرجع إليه فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها ". إن حياة الدعة والطراوة تقتل المواهب، وتطمر الملكات... والإنسان يتحرك، ويتكشف معدنه، ويغزر إنتاجه كلما أحس خطر المعارضين، أو صدمات الشدائد، كأن أسرار الحياة الكامنة فيه يستثيرها التهديد فتتحفز للدفاع عن نفسها، فتندفع إلى الأمام ناشطة آملة. ! ومعادن العظماء إنما تبرق وسط الأنواء التى تكتنفها، فكأن هذه الأنواء رياح تنفخ فى ضرامها، فيتوهج، ولو ترك وحده لكان وشيك الانطفاء. ومن حكمة الله البالغة أنه لم يدع البشر يحيون فى بيئة تعطيهم خيرها منحا بل استحياهم فى بيئة تفرض الكفاح فرضا، ولا تعطى الثمار إلا بعد غراس. وهذا الجهد المبذول من مصلحة الحياة نفسها لتبقى وتزدهر. من مصلحة الأحياء أنفسهم ليبلغوا تمامهم. وقد كتب الأستاذ عبد العزيز الإسلامبولى كلاما فى هذا المعنى يستحق التسجيل. قال: حكى أحد العلماء المحدثين عن نفسه، فقال: كنت مغرما فى طفولتى بجمع شرانق الفراش، ومراقبة خروج الفراشة منها فى الربيع، وكان جهادها فى التخلص من سجنها يثير عطفى دائما. وأتى والدى يوما ما بمقص وأعمله فى غلاف الحرير المطبق على الفراشة وساعدها على الخلاص، ولكنها ما لبثت قليلا حتى ماتت، وعندئذ قأل أبى: يا بنى إن الجهد الذى تبذله الفراشة لتخرج من الشرنقة يخرج السم من جسمها وإذا لم يخرج هذا السم ماتت الفراشة، وكذلك الناس إذا جهدوا فى سبيل ما يريدون زادوا قوة وعزما، ولكن إذا واتاهم ما يريدون سهلا طيعا، غلب عليهم 1 ص 5 الضعف ومات منهم شىء جليل الخطر. وهكذا تعلم أن طبيعة الحياة عجيبة، لأنها لا تعطينا إلا لتأخذ منا، ولا تهب لنا شيئا إلا لتنال مقابلا، إنها تكيل لنا صاعا بصاع، فلا غرو إذا كانت آمالنا لا تتحقق إلا بين الأشواك فى الأرض الوعرة، وكأنما شاءت الدنيا أن تخفى مفاتنها تحت مصارع المطامع لتدفع الإنسان إلى مواجهتها والتغلب عليها. ومن ثم نعرف قيمة الشدائد، بل نعرف الفرق بين الأبطال الصناديد، والجبناء الرعاديد، إذ الشدائد هى المحك الذى يكشف عن معدن الرجل: قوة وضعفا. عقلا وهوى، والحياة فى الأغلب الأعم ليست إلا مزاجا من سعادة وتعاسة، وهناء وشقاء، وفرح وترح، ولا قيمة لها إذا كانت ذات لون واحد، وقديما قالوا: وبضدها تتميز الأشياء. فلا طعم للحلو دون المر، ولا مذاق للماء الفرات دون الماء الأجاج. ولعله من أنفع ما يساق فى هذا المطلب، ما قصه على أستاذ من جلة المعاصرين، وكان يرحمه الله معروفا بالهدوء، والعزوف عن الشهرة، وقد رقى أرفع المناصب العلمية قال: لقد أخذت نفسى بتلاوة القرآن الكريم كلما ادلهم خطب، وأهرع إلى تدبر كلام الفلاسفة الحكماء، أروح به عن نفسى، وقد وقفت على تشبيه رائع لما نلابس فى دنيانا، كلما تذكرته هدأت أعصابى واطمأن خاطرى. ذلك بأن الحياة اليومية، ليست إلا كوبا، نصفه مملوء بالماء، ونصفه الآخر فارغ لا ماء فيه. فلست بمستطيع أن تحكم بأنه مملوء كله ولا فارغ كله وهكذا الناس لن تجد فيهم ذا حياة مملوءة كلها ولا ذا حياة فارغة كلها، وإنما لكل منا نصيب من السعادة، ونصيب من الشقاء ، ومن ثم يسعد أحدنا أو يشقى بنظرته إلى الكوب الذى يستقى منه، فإن رآه مملوءا إلى نصفه سعد بحياته، وان رآه فارغا إلى نصفه شقى بها. وهكذا تعودت إذا ما نزعت نفسى إلى الجزع، أن أذكر أن الحياة ليست فارغة إلى نصفها، بل مملوءة إلى نصفها، ومن ثم تذهب متاعبى كفاء الغم، وتروح أحزانى بددا". وتصبير النفس على لأواء العيش، وإرهاق الواجب، وإغراء الهوى يحتاج إلى عزم وقوة، وللعرب فى هذا الأفق آداب رفيعة، استوحوها من تجاربهم ومن أشواقهم إلى العزة، ورغبتهم فى وفرة العرض وصون الجانب، وهم يرون أن الركوع للشدائد لا جدوى منه إلا الذلة التى منها يأنفون، وأن هذه الشدائد لا تقيم بساحة إلا ريثما تتحول عنها، فعل المرء أن يواجه ما يكره بجلد، آملا أن تنقشع الغمة وهو ثابت الخلق نقى الصفحة قال عبد العزيز بن زرارة : 1 ص 6
مخ ۱۶۴