ونعلم أن ذنوب هؤلاء المنسوبة إليهم وما منهم إلا نسب له ذنب ليست بتة على غرار ما تقترف من سيئات، إنما هو ما ذكرنا آنفا من نزولهم أحيانا عن الأوج الذى يسبحون فيه مع الكواكب، أما هبوطهم إلى مستوانا الأرضى فمستحيل. ولكن ما دام الأمر قد غمض فى بعض الأذهان حتى تطاولت على مقام النبى الخاتم صاحب الرسالة العظمى فيجب أن نلقى على الموضوع فضل بيان. إن مكانة محمد بين إخوانه المرسلين تقررها الوظيفة التى وكلت إليه، وهى وظيفة تعرف ضخامتها عندما تعرف أن الله قسم تاريخ الحياة نصفين. نصفا أول، وزع عشرات ومئات الأنبياء فى أرجائه. ونصفا آخر اكتفى فيه بنبوة واحدة لا معقب عليها!! ونصف الحياة الأول يمثل الجانب الناشىء، أما نصفها الآخرهو يمثل الجانب الذكى المستحكم الرأى. إن محمدا وحسب هو الرسول الذى صاحب العالم فى الفترة اليقظة النابهة من تاريخه. فعلام يدل هذا؟. على أنه أخف كفة من أحد الأنبياء الذين زحموا العالم القديم!! وشىء آخر، إن كتاب محمد هو السجل الباقى المستوعب لتعاليم الله دون نقص ولا زيادة، تلك التعاليم التى جمعت وصايا السماء من الأزل إلى الأبد، وكتبت لها صيانة لم تؤثر عن كتاب فى الأولين والآخرين، فهى محفوظة حرفا حرفا، ولا نقول كلمة كلمة. فعلام يدل هذا؟. على أن صاحب الكتاب الخالد أتفه حظا، وأضأل شأنا من أصحاب الكتب التى فقدت أصولها وعراها من التحريف ما عراها! هل النبوات المحلية أنبه وأرقى من النبوة التى استطالت واستعرضت حتى وسعت الأمكنة والأزمنة؟. إن مكانة محمد بالنسبة لغيره من الأنبياء قد عرفت وتوطدت بعد ما استبانت حدود رسالته، وعرف المستقدمون والمستأخرون: أى مهمة أعدتها له الأقدار، وزودته لاحتمالها بأنفس المواهب؟. نعم، لقد استغنى بهذه الشهادة العلمية عن تزكية الكلام. وأضحى فى المنصب الذى يمنح هو فيه الآخرين ما يدفع عنهم الشبه ويرد 155 المفتريات. ولذلك أجرى الله على لسانه الآيات التى تعلى قدر ابن مريم، وانساق الأسلوب فيها أقرب إلى الإطناب منه إلى الإيجاز. لماذا؟ لأن النبى الكريم عيسى تعرض لاتهام ساقط، وقذفت أمه المحصنة بما هى منه براء، فكان هدف القرآن تبرئة الرجل الشريف، والإشادة بشخصه والثناء عليه بما هو أهله. وكذلك كان موقف القرآن من موسى لما آذاه اليهود ونالوا منه: (فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها) . وبديهى أن موقف الدفاع عن شخص ما إنما يقوم على إعظامه وتكريمه وذلك هو السر فى التنويه بعيسى على النحو الذى حفل به القرآن... ولا مجال لعقد مقارنة بين الرسولين عيسى ومحمد، لأن ذلك لا باعث عليه ولا محل له ولا فائدة فيه. وإنه لمما يعلى قدر محمد أن يكون كتابه مقتضبا فى مدحه، مرسلا فى مدح غيره. لقد تدبرت هذه وأنا أقرأ آيات من سورة الدخان، ووجدت أن الله جل شأنه أعظم محمدا بهذه المعاملة. قال يصف موقف العرب من الرسالة وصاحبها: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين * ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون * إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون * يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) . كل الذى وصف به محمد هنا هو الإبانة. فلننظر ما جاء بعد فى موسى ورسالته: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم * أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين * وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) إن موسى هنا وصف بالكرم والأمانة وبأنه آت بسلطان مبين!! هذا السياق المختلف هو الآية على عظمة محمد، وعلى أن الله جعله إمام الأنبياء طرا. إن الله أجرى على لسان الأخ الأكبر ما يليق بمكانته من دفاع عن إخوته وتنويه بجهادهم وإبراز لما خفى منه... 156 أما هو فحسبه أصل الاصطفاء لإبلاغ أضخم رسالة سماوية. رسالة أنقذت من العدم تراث من قبله، وردت إليه الحياة، ثم نهدت لقوى الشر التى هزمت الوحى وحملته فى الأعصار السالفة فدمرتها تدميرا. إن إمامة محمد تشهد بها دلائل كثيرة، فإذا أنكرها البعض فلا ضير. لقد قال عن نفسه إخبارا بالواقع فقط : " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ". إنه لا يذكر ذلك فخزا، بل كما يذكر ترتيب الناجحين فى امتحان أو مباراة. لتقرير حقيقة علمية ينبغى أن تعرف ولا معنى لسترها.
الورع:
مخ ۱۴۳