والشعور بوجود الله ليس أمرا يتكلف له الإنسان شيئا، إنه شعور بالواقع؟. قد يكون لك حبيب مسافر مثلا فأنت إذا اشتقت إليه تتخيل صورته، وتحاول الأنس بالوهم عن الحقيقة. ولكن الشعور بالله ليس تقريبا لبعيد ولا تجسيدا لوهم، إنه شعور بالواقع الذى يعد تجاهله باطلا، كشعورك مثلا وأنت فى البيت بأنك فى البيت، أو شعورك وأنت فى القطار بأنك فى القطار... إنه الواقع الذى لا معدى عن الاعتراف به، وبناء كل تصرف على أساسه. إن الألوهية لا تفارق العباد لحظة من ليل أو نهار، ومن ثم فإن الغفلة عن الله غفلة عن الحق المبين. وإذا كان الأعمى يعجز عن رؤية الأشياء فإن الأشياء لم تزل من مكانها لأن عينا كليلة لم تتبينها. وإذا كان الناس مذهولين عن الحق المصاحب لهم المحيط بهم، فذلك عمى تعود عليهم وحدهم معرته. وقد كثر القرآن الكريم من إشعار الناس بهذه المعانى، وصاح بهم وهم يفرون عنها، إلى أين؟ ( فأين تذهبون ) أين المذهب (والله من ورائهم محيط). قال تعالى: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم * هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير). هو بصير بما نعمل، وهو معنا حيثما كنا ! ألا تعين هذه الحقائق على صدق المعرفة وحدة الشعور بوجوده وإشرافه؟. ثم ألا يدل ذلك على أن ذكر الله ليس استحضارا لغائب؟ إنما هو حضورك أنت من غيبة، وإفاقتك أنت من غفلة!! ولابد هنا من توكيد التفرقة بين وجود الله. ووجود العالم، فإن بعض الناس يستغلون المعانى التى شرحناها للبس الحق بالباطل. إن وجود الله مغاير لوجود سائر المخلوقات وهذا العالم منفصل عن ذاته جل شأنه انفصالا تاما. قد تسمع بعض الفلاسفة أو بعض المتصوفين يقول: إنه يرى الله فى كل شىء. 118 وهذا التعبير صحيح إن كان يعنى أنه يرى آثاره وشواهده. أما إن كان يعنى وحدة الخالق والمخلوق، أو وحدة الوجود كما يهرف الكذبة، فالتعبير باطل من ألفه إلى يائه، والقول بهذا كفر بالله والمرسلين... ووصف الإحاطة الإلهية فى هذا المجال وسيلة لا غاية، وسيلة لتصحيح النية والجهد والهدف، وإهابة بالإنسان أن يدير نشاطه البدنى والعقلى على مرضاة الله وحده. وليت الناس يسعون فى هذا الطريق بنصف قواهم! لو أن امرءا حاول استرضاء الله بنصف الجهد الذى يبذله فى كسب المال، أو التمكين فى الأرض لقطع مرحلة رحبة فى طريق الارتقاء الروحى والخلقى، ولو أن امرءا كره الشيطان ووساوسه بنصف الشعور الذى يكره به الآلام، والخصوم لنال من طهر الملائكة حظا... إن الله قد يقبل نصف الجهد فى سبيله، ولكنه لا يقبل نصف النية. إما أن يخلص القلب له، وإما أن يرفضه كله. وقد أسلفنا القول أن الإنسان قد تحتل قلبه مقاصد شتى هى التى تبعثه على الحركة والسكون، وعلى الرضا والسخط، وأن هذه المقاصد تنبعث عن أنانيته لا عن إيمانه بربه، وابتغائه ما عنده. والعلماء المربون يطاردون هذه المقاصد المتسللة إلى القلب، ويمنعونها أن تئوى فيه، ولا يتوانون فى مطاردتها حتى تخفى ويطهر القلب منها. ذلك أن الإسلام دقيق جدا فى تقويم العمل بالنية الباعثة عليه والغاية المصاحبة له، فمن لم يكن الله وجهته فى هجرته فلا عمل له ولا خير فيه. وفى الحياة الآن ألوف من المدرسين والأطباء والمهندسين والضباط والعمال والتجار والموظفين... إلى آخره يزحمون ظهر الأرض بحركة واسعة المدى، فأما ما كان للتكاثر والتظاهر فسوف يلصق بالتراب، وربما بقى لصاحبه طول حياته، وربما افتقده قبل أن يموت وأما ما كان لله فهو مبارك الثمر ممتد الأثر، إن البقاء لما قصد به رب السماء (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) . ونعود إلى الصنف المسجون بين عناصر المادة لا يعرف غيرها، إنه ينتقل من 119
عنصر إلى عنصر، وينسب مادة إلى مادة، ويجحد ما بعد ذلك. وقد ناقشنا هؤلاء فى مكان آخر، ودحضنا ما ساقوا من شبه، ونريد هنا كشف الستر عن بعض دعاوى القوم. إن وصف الإيمان بأنه حركة رجعية، والإلحاد بأنه حركة تقدمية وصف كاذب، فالكفر قديم قدم الغرائز الخسيسة، والأفكار السفيهة، وتاريخ الحياة يتجاور فيه الخير والشر، والصلاح والفساد، فمن قال: إن الإيمان طبيعة أيام مضت وانتهى دورها، وإن الكفر يجب أن يفسح له الطريق فهو دجال... كذلك وصف الإيمان بأنه حركة فكر محدود، والإلحاد بأنه حركة عقل ذكى، أو وصف الإيمان بأنه منطق الدراسة النظرية، والإلحاد بأنه منطق الدراسة العلمية والبحوث الكونية، هذا كلام خرافى لا حرمة له، فإن جمهرة كبرى من قادة العلم الكونى والدراسات الحيوية يؤمنون بالله، ويرفضون الزعم بأن الكون خلق من غير شىء. والواقع أن الإلحاد يعتمد على الظنون والشائعات، لا على اليقين والبراهين، وأنه لم يثبت فى معمل أو مختبر بأن الله غير موجود، وكل ما هنالك أن الماديين نسبوا لغير الله من النظام والإبداع ما لا تصح نسبته إلا لله. كما وصف القرآن الكريم (وما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا إن الله عليم بما يفعلون) . أما الدلائل التى تغرس الإيمان فى القلوب، عن طريق التفكير السليم فى هذا الكون الكبير فهى قائمة ناهضة.
من؟ إلا الله..!!:
مخ ۱۰۸