ولم تلبث الدولتان بعد هذا أن أشهرتا الحرب على الدولة، واحتلت الروسيا بلاد الفلاخ والبغدان وبسارابيا، ودخل النمساويون بلاد الصرب وارتكب الروسيون الفظائع في هذه الحرب في قلعة إسماعيل.
4
وصارت الدولة على شفا الخطر لو لم يعجل الموت على إمبراطور النمسا يوسف الثاني، وتسعى بعض الدول في إبرام الصلح مع الدولة العلية ووضع معاهدة زشتوي المعروفة.
ولما أخذت الدولة بعد هذه الحرب في لم شعثها وإصلاح جنديتها، فاجأتها الجمهورية الفرنساوية بإرسال نابليون إلى مصر واحتلالها دون سابق سبب ولا إعلان للحرب، وذلك سنة (1213ه) سنة (1798م)، وكان ما كان من غزو الفرنساويين لسوريا، ثم جلائهم عنها، ثم اتفاق الإنكليز مع الدولة على إخراجهم من مصر، وتم ذلك فعلا.
وقد قضت أوروبا أن لا تستريح هذه الدولة ولا يوما واحدا من عناء الحرب، أو يقضى عليها إذا اتفقت الدولة الروسية والدولة الإنكليزية سنة (1807م) على حرب شعواء يقيمانها على الدولة بسبب تقرب نابليون منها بعد توليه شئون الحكومة الفرنساوية، فهاجمتاها من البر والبحر، ودمر الأسطول الإنكليزي كل المراكب الحربية العثمانية الواقفة في مدخل مضيق الدردنيل، بينما كانت الجيوش الروسية تهاجم الجيوش العثمانية عند نهر الطونة، ولم يطفأ شواظ هذه الحرب إلا بمهاجمة نابليون للدولة الروسية، وتقهقر جيوشها أمامه، ولما استقر الصلح بين الدولتين، وعقدت بينهما معاهدة تلسيت الشهيرة سنة (1223ه)، واجتمع الإمبراطور نابليون والقيصر إسكندر الأول في تلسيت وارفورد، اتفقا بينهما على اقتسام المملكة العثمانية، وأن تكون الأستانة في القسم التابع لروسيا أو على الحياد، بل يقال: إنهما اتفقا على ما هو أوسع من ذلك من الآمال المبنية على المطامع الوهمية التي يصورها خيال الملوك القادرين، على أن هذا الاتفاق - وإن وافق مقاصد نابليون الكبيرة وأطماعه الأشعبية - إلا أن وجود الدولة الروسية في مركز عظيم كالأستانة أو قربها أمر جلل لا يجهل نابليون عواقبه الوخيمة على أوروبا جميعها، بل وعلى آسيا وإفريقيا أيضا لهذا غض النظر عن الوفاء بوعده فأغاظ ذلك دولة الروسيا، ورأت أن الاضطراب الواقع في الأستانة العلية في شأن تغيير نظام الجندية، وما حصل فيها من تمرد الانكشارية على السلطان سليم وخلعهم له، وما أعقب ذلك من قتل سليم وخلع السلطان مصطفى وتولية السلطان محمود، فرصة لا تفوت، فاستأنفت الحرب مع الدولة العثمانية، إلا أنه لحسن حظها كانت العلائق فترت بين الروسيا ونابليون لإخلال هذا ببعض شروط معاهدة تلسيت، ورأى نابليون أن يعيد الكرة على الروسيا لاشتغالها بالحرب مع الدولة العلية، فبادرت الروسيا إلى عقد الصلح بينها وبين هذه الدولة لتتفرغ لقتال نابليون، وأمضيت بينهما معاهدة بخارست سنة (1812م).
كل هذه الحروب المتوالية والدماء المسفوحة لم تقف بطمع الإمبراطور إسكندر عند حد؛ إذ لما أعياه أمر القضاء على هذه الدولة وتنفيذ وصية بطرس الأكبر أخذ بتحريض اليونانيين من أهالي الموردة على الثورة والاستقلال؛ فأنشئوا جمعية سرية مركزها في «بطرس برج» برئاسة أحد الغراندوقات، وأخذت هذه الجمعية بنشر مبادئها الثورية وإعداد المورة لثورة يتطاير شررها في أنحاء البلاد، حتى إذا تخمرت في النفوس دواعي البغضاء ونمى حب الاستقلال نهض أهل المورة في وجه الدولة ورفعوا راية العصيان، وأنجدتهم يومئذ أكثر أوروبا المسيحية مؤملة إضعاف الدولة ومشاطرة ممالكها فيما بعد، وبعد استمرار الثورة مدة طويلة، وتطوع عدد غير قليل من الضباط الأوروبيين والجنود أيضا لمساعدة اليونانيين، ويأس الدول من توصل اليونانيين إلى قهر الدولة، أرسلت كل من فرنسا وإنكلترا وروسيا أساطيلهن إلى سواحل اليونان لإرهاب الدولة العثمانية، ثم فاجأت هذه الأساطيل في ناڤارين المراكب العثمانية والمصرية بالحرب بدون سابق إعلان بها ودمرتها تدميرا، ثم أصرت هاته الدول على الباب العالي بوجوب التسليم بمطالب اليونانيين ومنحهم الاستقلال، فأبى ذلك فأعلنت الروسيا عليه الحرب وناهيك بحرب تدخل فيها الدولة بعد ذلك الجهاد الطويل مع الروسيا من قبل واليونان بعد ذلك، ثم هي تكون مضطربة في شئونها الداخلية لقضاء السلطان محمود على جنود الانكشارية وحل معسكراتهم، واشتغاله بتنظيم جند جديد على الطراز الأوروبي، وهم لم يكونوا بعد شيئا مذكورا بالنسبة لقوة الروس العظيمة واستعدادهم الهائل.
لهذا لم يقو الجيش العثماني على الوقوف في وجه العدو إلا قليلا، ثم أخذ بالتقهقر حتى بلغت الجيوش الروسية مدينة أدرنة، وهناك رأت الدول أن الغاية من إنهاك قوى الدولة قد حصلت وأن دخول الجيوش الروسية إلى الأستانة خطر عظيم على مصالحهن في الشرق والغرب؛ فتداخلن في الصلح بين الدولتين على كره من روسيا، وأمضيت بينهما معاهدة أدرنة سنة (1829م) وقد ردت الروسيا بمقتضاها إلى الدولة العلية كل ممالك البلقان.
وعلى عقب هذه الحرب وإنهاك قوى الدولة وجهت فرنسا فكرها إلى إفريقيا الشمالية الغربية، وانتهزت فرصة ضعف الدولة واضطراب حالة الجزائر، فهاجمتها بحجة الانتقام من واليها لإهانة ألحقها بالقنصل الفرنساوي، وما زالت الحرب ناشبة بينها وبين الجزائريين حتى سنة (1847م) حيث بسطت عليها جناح سلطتها إلى اليوم.
رأيت أيها القارئ العناء الدائم الذي لاقته الدولة العثمانية من مكافحة أوروبا ومصادمة الدول الطامعة في ملك الإسلام، وربما قلت إن دولة بلغ بها الوهن وضعف القوة من الحروب المتوالية مبلغا يستدعي اتفاق الدول الأوروبية على اقتسام ممالكها منذ أكثر من مائة سنة ولم تفعل فلم هذا؟ فنجيبك: أن لهذا سببا ها نحن باسطوه لديك.
إن الدول الأوروبية لما وجهت مقاصدها إلى الشرق ورغبت في الفتح والاستعمار في البلاد القاصية كانت الدولة العلية في مكانة من القوة لا تتطاول إليها الأعناق ولا تتناولها الأطماع، فكانت كسد منيع قائم بين الغرب والشرق ليس فيه منفذ تتسرب منه جيوش تلك الدول الفاتحة إلى ممالك الإسلام في الشرق الأدنى، حتى اضطرت الدول إلى تحويل وجهتها إلى ما وراء البحار ودارت أساطيلها حول الكرة عن طريق رأس الرجاء لتبسط جناح سلطانها على ممالك الإسلام في الشرق الأقصى، وشغلها من هذا الفتح الجديد شاغل عظيم عن تركيا حتى إذا بدأ الوهن والضعف يظهران على الدولة العثمانية وسنحت لأوروبا فرصة العمل في تركيا، ظهرت شوكة العنصر السلافي المنتشر من حدود الطونة إلى أقصى الشمال في الروسيا، وذلك بهمة بطرس الأكبر الذي نهض بالأمة الروسية إلى مقام السياسة نهوضا ارتج له الغرب، وأخذت من ثم الدولة الروسية تنازع الدول الأوروبية بحكم الوحدة المسيحية على مشاطرة الممالك الإسلامية، وأقرب ما يكون إليها القسطنطينية التي تشبه بمركزها الجغرافي مرتفعا مشرفا على الأرض إذا اعتلا قمته النسر الروسي بسط جناحيه على الشرق والغرب، وهو مطمح نظرها في كل آن، فهال الدول ذلك المنازع الجديد وأخافها طموع الروسيا إلى الأستانة ومحاولة خروجها بقوتها العظيمة إلى شطوط البحر الأبيض، وأكثر ما أخاف ذلك دولة إنكلترا لا سيما وأن الروسيا لم تنحصر مطامعها في تركيا، بل امتدت إلى الهند، فكانت تهدد إنكلترا من جهات التركستان، وتنازعها النفوذ في البامر وفارس وخليج العجم، فهذا ما جعل الدول وفي مقدمتهن إنكلترا تنكمش عن التطاول إلى تركيا ما دامت الروسيا شريكة معهن في اقتسام ممالكها، ومن ثم غيرن وجهة سياستهن في الشرق حيث عدلن عن الاتحاد على اقتسام الممالك التركية إلى ترقب الفرص المناسبة لاختطاف كل دولة على حدة جزءا منها مع بذل الجهد في منع الروسيا عن التجاوز إلى داخل المملكة العثمانية، وكان من نتائج هذه السياسة مشاركة الدول للدولة العثمانية في حرب القريم التي كان منشؤها الامتيازات الأجنبية التي كانت بلاء على الدولة وسببا عظيما من أسباب تحكك الدول الأوروبية بالدولة العثمانية وإليك البيان.
ناپیژندل شوی مخ