86

جامع کبیر

الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور

پوهندوی

مصطفى جواد

خپرندوی

مطبعة المجمع العلمي

ومن هذا النوع أيضًا قوله في الخمر: صعُبت فراضَ الماءُ سيسيء خلقها ... فتعّلمتْ من حُسنِ خلق الماء ألا ترى إلى حسن هذه الاستعارة، فإنه ليس بشيء أحسن من قوله في الخمر بأنها سيئة الخلق، وذلك حيث تكون صرفًا لا يستطاع شربها، ولا يمكن اساغتها، كالخلق السيئ الذي تعافه الأنفس، وتستكرهه الأرواح. وقوله (حسن خلق الماء) أيضًا غاية في الجودة؛ لأن الماء الصافي في سلاسته، ولطافة جوهره، شبيه بالخلق السهل الطيب. وأبدًا توصف الأخلاق الحسنة بالماء؛ فيقال، (فلان ألطف أخلاقًا من الماء) لأنه ليس في الأجسام المدركة بالبصر ألطف ولا أرق من الماء؛ لأن النفس تجد لمشاهدته من اللذة، والسرور، والانبساط، مالا خفاء به. ولهذا قال يعض الحكماء: (الماء من طبع الروح). ومما يؤيد قوله هذا، ما ورد في القرآن الكريم؛ فإنه قد ذكر الماء في مواضع كثيرة منه، ثم يذكر إحياء الأرض الميتة به، كقوله تعالى: (والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور). فجعل الماء للأرض بمنزلة الروح للجسد. ومن بديع الاستعارة قول بعضهم: يا طودَ حلم ظَلْتُ معتصمًا به ... يا بحر علم عمتُ في تيّاره فإن المناسبة بينها وبين ما استعيرت له شديدة جدًا، وذاك أن الحلم أصله في وضع اللغة: التأني والثبات، وترك الاعجال بالعقوبة، فلما كان الطود ثابت الأصل راسخ القواعد، لا يتحرك عن مكانه، ولا يزول من مستقره حسنت استعارته للحلم، للمشابهة التي بينهما. وهاهنا نكتة أخرى، وهو أن قوله: (طود حلم) أبلغ في الاستعارة من أن لو قال (جبل حلم) لأن الطود هو الجبل العظيم، وذلك أرسخ وأرسى أصلًا من غيره. وأما استعارته للعلم بحرًا فحسن لا خفاء به على من له معرفة بهذا الفن.

1 / 86