الكتاب: جمهرة تراجم الفقهاء المالكية
المؤلف: د. قاسم علي سعد
عدد الأجزاء: ٣ (ترقيم الصفحات متصل)
الناشر: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - دبي
الطبعة: الأولى، ٢٠٠٢م
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
أعده للشاملة: //محمود الجيزي - عفا الله عنه//
ناپیژندل شوی مخ
[الجزء الاول]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الافتتاحيّة
نستفتح بالذي هو خير، حمدا لله، وصلاة وسلاما على رسوله ﵌ وعلى عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
فنقدم إلى أهل العلم وطلبته في (سلسلة تراجم الأعلام) كتاب جمهرة تراجم الفقهاء المالكية، وذلك في حلقته الأولى المختصة بتراجم كتاب ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض بن موسى اليحصبي، مختصرة ومهذبة وموثقة ومرتبة على حروف المعجم مع الاستدراك على نصوصها، من أجل تقريب تراجم أعلام الفقه المالكي وتيسيرها للباحثين والمطلعين بصورة سهلة محررة.
وهذا التقديم مقرون بالشكر والعرفان لأسرة (آل مكتوم) حفظها الله، التي ترعى العلم، وتشيّد نهضته، وتحيي تراثه، وتؤازر قضايا العروبة والإسلام، وعلى رأسها صاحب السمو الشيخ مكتوم بن راشد بن سعيد آل مكتوم نائب رئيس الدولة. . . رئيس مجلس الوزراء. . حاكم دبي الذي أنشأ هذه الدار لتكون منار خير، ومنبر حق على درب العلم والمعرفة، تجدد ما اندثر من تراث هذه الأمة، وتبرز محاسن الإسلام فيما سطره الأوائل وفيما يمتد من ثماره، مما تجود به القرائح في شتى مجالات البحوث الإسلامية والدراسات الجادة التي تعالج قضايا العصر، وتؤصل أسس المعرفة على مفاهيم الإسلام السمحة عقيدة وشريعة، وآدابا وأخلاقا، ومناهج حياة،
1 / 5
مستلهمة الأدب القرآني، في الدعوة إلى الله على بصيرة اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَاَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ النحل ١٢٥.
وكذلك مؤزارة: سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم نائب حاكم دبي. . وزير المالية والصناعة.
والفريق أول سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ولي عهد دبي. .وزير الدفاع.
سائلين الله ﷾ العون والسداد، والهداية والتوفيق، إنه نعم المولى ونعم النصير.
ولا يفوت الدار أن تشكر كل من عاون المؤلف في بعض جوانب هذا العمل العلمي من العاملين بالدار، وهم:
١ - الباحث: الشيخ/ محمد العربي بوضياف الذي ساعد في المدة الأولى من العمل في التفتيش عن مصادر لرجال هذه الحلقة من الجمهرة.
٢ - الباحث: الشيخ/ محمد عيادة الكبيسي الذي ساعد في المدة الأولى في التفتيش عن مصادر لهؤلاء الرجال أيضا.
٣ - مساعد الباحث: الشيخ/ محمد عبد الله التمين الذي قام بقراءة هذا العمل قراءة حرة بعد صفه الأول على الحاسوب، فنبه على ما اعترى هذا الصف من أوهام.
٤ - الكاتب بالدار: السيد/ محمد عبد العزيز المهدي الذي ساعد في المدة الثانية من هذا العمل في التفتيش عن مصادر لرجال هذه الحلقة أيضا، وقام بإعداد الفهارس، وتصحيح تجارب الطبع المختلفة.
1 / 6
ونرجو من الله تعالى أن يعين على متابعة السير في هذا الدرب، ليستمر العطاء ويرتقي.
وصلى الله وسلم على خير خلقه سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث - دبي
1 / 7
بسم الله الرّحمن الرّحيم
استهلال
الحمد لله مالك الملك يؤتي ملكه من يشاء، ومدرك الخلق فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والصلاة والسلام على صفوته من عباده موئل أهل الفضل ومنجع الفقهاء، وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى بهديهم وتجمهر في حزبهم إلى يوم الجزاء.
أما بعد: فإن مقام الفقه في الدين جليل المقدار، لأن الفقه هو غاية العلم وثمرته. وقد أنبت الله تعالى في هذه الأمة من تربى على هذا الشأن وتمرّس فيه وبرع، فكان في كل عصر ومصر: فقهاء ربانيون، وأئمة مرضيون، يبيّنون شرائع الإسلام وآدابه، ويفتون في النوازل والوقائع، ويسيرون بالأمة على المحجة البيضاء، ويرتبونها على الجادة العصماء، قصاراهم طاعة الله تعالى ورسوله ﷺ، ومبتغاهم خدمة هذا الدين وأهله، شعارهم الاتباع لا الابتداع، وديدنهم الاجتهاد والاتساع.
وفي مقدمة هؤلاء الفقهاء بعد الصدر الأول: الأئمة الذين طار ذكرهم في الآفاق، وهم الأربعة المنتجبون المتّبعون، الذين لم يألوا جهدا في التمسك بالأصلين، ولم يدّخروا وسعا في الاجتهاد والنصح. وقد قيّض الله لهم من الأتباع العدد الوفير، والجحفل الكبير، فقاموا بخدمة مذاهبهم على أكمل وجه وأرضاه، وأظهروا مناهج أئمتهم حتى صارت قبسا هاديا للناس.
1 / 9
ومن هؤلاء الأربعة النحارير: إمام دار الهجرة، وعالم المدينة، وحجة الأمة، وأستاذ الأئمة، وعلم الفقهاء، وأمير المؤمنين في الحديث. أحد أوعية العلم - مع الثقة التامة، والحفظ البارع، والنقد السديد، والعقل الكامل، والصدع بالحق، فضلا عن التثبت وجودة الأخذ، والتأسي بمن سلف -.
صاحب الهيئة والهيبة، والسّمت والوقار، والمروءة والأدب. شيخ تابعي التابعين: أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الحميري ثم الأصبحي، حليف بني تيم بن مرّة من قريش، المدني. المولود بذي المروة (١) سنة (٩٣) على الأصح، والمتوفى بالمدينة المنورة والمدفون بالبقيع سنة (١٧٩) وله ست وثمانون سنة على الأرجح.
فناهيك به من رجل كان نسيج وحده في الصنعتين (الحديث والفقه)، وغرّة زمانه عند الطائفتين، مع علمه الفائق بالرد على أهل الأهواء، وغير ذلك من علوم.
وشيوخه هم شيوخ الأئمة: كنافع مولى عبد الله بن عمر (ت ١١٧)، ومحمد بن مسلم ابن شهاب الزّهري (ت ١٢٤)، وعبد الله بن دينار المدني (ت ١٢٧)، وأبي الزّناد عبد الله بن ذكوان (ت ١٣٠)، ومحمد بن المنكدر (ت ١٣٠)، وأيوب بن أبي تميمة السّختياني (ت ١٣١)، وربيعة بن أبي عبد الرحمن المعروف بربيعة الرأي (ت ١٣٦)، ويحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري (ت ١٤٣)، وهشام بن عروة بن الزبير (ت ١٤٦)، وغيرهم الكثير.
_________
(١) ذو المروة قرية بوادي القرى، وهو واد من أعمال المدينة المنورة، يقع بينها وبين الشام، وبالتحديد بين تيماء وخيبر، سمي بذلك لكثرة قراه. معجم البلدان لياقوت الحموي: ٤/ ٣٣٨، ٥/ ١١٦، ٣٤٥.
1 / 10
وقد روى عنه بعض شيوخه، منهم جماعة ممن ذكر: كالزّهري، ويحيى الأنصاري، وغيرهما.
كما روى عنه الكثير من أقرانه الأعلام: كعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (ت ١٥٠)، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت ١٥٧)، وشعبة بن الحجّاج (ت ١٦٠)، وسفيان الثّوري (ت ١٦١)، وحمّاد بن سلمة (ت ١٦٧)، والليث بن سعد (ت ١٧٥)؛ وكل هؤلاء ماتوا قبله. وممن أخذ عنه من أقرانه الذين تأخروا بعده - ولو يسيرا -: حمّاد بن زيد (ت ١٧٩)، وعبد الله بن المبارك (ت ١٨١)، وسفيان بن عيينة (ت ١٩٨)، وحسبك بهؤلاء الثلاثة عن ذكر غيرهم.
وأما تلامذته فلا يكادون يحصون كثرة، قال القاضي عياض: «وقد جمع الرواة عنه غير واحد، وبلغ بعضهم في تسمية من علم بالرواية عنه سوى من لم يعلم: ألف راو، واجتمع لي من مجموعهم زائد على ألف وثلاث مئة راو، وتدل كثرة قصدهم له على كونه أعلم أهل وقته» (١). وقال الذهبي: «وقد كنت أفردت أسماء الرواة عنه في جزء كبير يقارب عددهم ألفا وأربع مئة» (٢). وفي عددهم العظيم الفريد يقول جلال الدين السيوطي: «الرواة عن مالك فيهم كثرة بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته» (٣).
_________
(١) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك: ١/ ٧٢ - ٧٣. وكان القاضي عياض قد نبه من قبل في هذا الكتاب ١/ ١٣ على أنه تتبع هؤلاء الرواة من المؤلفات المفردة في ذلك - وسمّى جملة منها -، وأفرد لهم كتابه جمهرة رواة مالك.
(٢) سير أعلام النبلاء: ٨/ ٥٢.
(٣) مقدمة تنوير الحوالك على موطأ مالك: ١٠.
1 / 11
ولا ينبئك عن شدة حرص العلماء على الرواية عن الإمام مالك مثل قول بشر بن الحارث الحافي: «حدثنا مالك - وأستغفر الله -؛ إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل: حدثنا مالك» (١).
وقد تصدّر الإمام مالك للرواية والفتوى نحو سبعين سنة، وجلس للناس وهو ابن سبع عشرة سنة، ويقال: ابن إحدى وعشرين، بعد أن شهد له شيوخه بالأهلية، فلذا - ولغيره أيضا - روى عنه أهل عدة طبقات، قال صلاح الدين العلائي: «وسبب كثرة الرواية عنه أنه انتصب للرواية ونشر العلم قديما، وعمّر كثيرا، وقصده الناس من سائر الأمصار، وكان بالمدينة النبوية المشرفة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، وغالب من يمر بها حاجّا يكتب عنه، فانتشرت الرواية عنه في البلدان ﵁» (٢).
ومن مشاهير تلامذته الأئمة الذين رووا عنه وتفقهوا به ونهلوا من معينه: محمد بن الحسن الشّيباني (ت ١٨٩)، وعبد الرحمن بن القاسم العتقي (ت ١٩١)، وزياد بن عبد الرحمن المعروف بشبطون (ت ١٩٣)، وعبد الله بن وهب المصري (ت ١٩٧)، ويحيى بن سعيد القطّان (ت ١٩٨)، وعبد الرحمن ابن مهدي (ت ١٩٨)، ومحمد بن إدريس الشافعي الإمام (ت ٢٠٤)، وأشهب بن عبد العزيز (ت ٢٠٤)، وأبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر (ت ٢١٨)، وأبو نعيم الفضل بن دكين (ت ٢١٩)، وعبد الله بن مسلمة القعنبي (ت ٢٢١)، ويحيى بن عبد الله بن بكير (ت ٢٣١)، ويحيى بن يحيى
_________
(١) ترتيب المدارك: ٢/ ٣٥.
(٢) بغية الملتمس في سباعيات حديث الإمام مالك بن أنس: ٦٥.
1 / 12
الليثي (ت ٢٣٤)، وقتيبة بن سعيد (ت ٢٤٠)، وخلق كثير يتعذر حصرهم (١).
وللإمام مالك عدة تصانيف (٢)، اشتهر منها كتابه الحافل (الموطّأ)، الذي هذّبه وثقّفه وحرره وأتقنه، فاستغرق ذلك منه زمنا طويلا، وبذل في سبيله جهدا جليلا، ويدلك على هذا قول عمر بن عبد الواحد السّلمي الدمشقي: «عرضنا على مالك الموطّأ في أربعين يوما، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما، ما أقلّ ما تفقّهون فيه» (٣). مع قول يحيى بن سعيد القطان: «كان علم الناس في زيادة، وعلم مالك في نقصان، ولو عاش مالك لأسقط علمه كله - يعني تحرّيا -» (٤)، وقول عتيق بن يعقوب الزّبيري: «وضع مالك الموطّأ على نحو من عشرة آلاف حديث، فلم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتى بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله» (٥).
_________
(١) كل من سميت منهم عرف برواية الموطأ عن الإمام مالك.
(٢) تنظر في ترتيب المدارك: ٢/ ٩٠ - ٩٤.
(٣) نسب هذا القول في ترتيب المدارك: ٢/ ٧٥ (طبعة المغرب)، ١/ ١٩٥ (طبعة بيروت)، ١/ ٣٧ ب (نسخة دار الكتب المصرية)، ١/ ٨٢ ب - ٨٣ أ (نسخة الحرم المدني الشريف)، ١/ ٨٠ (نسخة الخزانة الحسنية) إلى صفوان بن عمر بن عبد الواحد، وهو وهم، والصواب أنه لعمر بن عبد الواحد - أحد رواة الموطأ، وصاحب الإمام الأوزاعي - كما أثبته ابن ناصر الدين الدمشقي في إتحاف السالك برواة الموطأ عن الإمام مالك: ١٨٤، والسيوطي في مقدمة تنوير الحوالك: ١/ ٦. وتنظر حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني: ٦/ ٣٣١، وإتحاف السالك: ١٨٢ - ١٨٣.
(٤) ترتيب المدارك: ٢/ ٧٣.
(٥) المصدر السابق. وينظر في الموضع نفسه قول سليمان بن بلال.
1 / 13
وقد سارت بهذا الكتاب الركبان، وضربت بسببه آباط الإبل من كل مكان، ورواه عن صاحبه الجم الغفير (١)، وألف الأئمة حوله التأليف الكثير (٢)، فلله درّه من كتاب!
وقد انبرى الأئمة للثناء على هذا الإمام الهمام، وألّفوا في أخباره ومناقبه المؤلفات الكثيرة (٣)، ودونك بعض أقوالهم فيه، التي تظهر منزلته السامية، وتبرز جلالته العظيمة:-
قال عبد الله بن المبارك: «لو قيل لي: اختر للأمة إماما، اخترت لها مالكا» (٤).
وقال ابن عيينة: «مالك بن أنس سيد المسلمين» (٥).
وقال أيضا: «كان مالك لا يبلّغ من الحديث إلا صحيحا، ولا يحدث إلا عن ثقة» (٦).
وقال أيضا: «ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم» (٧).
ومن ذلك أيضا: قول عبد الله بن وهب: «مالك والليث إسناد، وإن لم يسندا» (٨).
وقول يحيى القطان: «مالك أمير المؤمنين في الحديث» (٩).
وقوله
_________
(١) ينظر ترتيب المدارك: ٢/ ٨٦ - ٩٨، وإتحاف السالك. وقد بلغ بهم ابن ناصر الدين تسعة وسبعين راويا، أولهم ذكرا معن بن عيسى المدني القزاز (ت ١٩٨)، وخاتمتهم أبو حذافة أحمد ابن إسماعيل السهمي (ت ٢٥٩).
(٢) ينظر ترتيب المدارك: ٢/ ٨٠ - ٨٥.
(٣) تنظر مقدمة ترتيب المدارك: ١/ ٨ - ١٢.
(٤) المصدر السابق: ١/ ١٥٣.
(٥) أخرجه أبو القاسم الجوهري في مسند الموطأ: ١١٥.
(٦) ترتيب المدارك: ١/ ١٨٩.
(٧) أخرجه ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل: ٢٣، والجوهري في مسند الموطأ: ١٠٠. واللفظ للأول.
(٨) ترتيب المدارك: ١/ ١٦٥.
(٩) أخرجه الجوهري في مسند الموطأ: ١٠٤، ١٠٧.
1 / 14
أيضا: «ما أقدّم على مالك في زمانه أحدا» (١).
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «أئمة الناس في زمانهم أربعة: سفيان الثّوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام، وحمّاد بن زيد بالبصرة» (٢).
وفيه أيضا يقول الإمام الشافعي: «إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمنّ عليّ من مالك بن أنس» (٣).
وقال أيضا: «مالك وابن عيينة القرينان، ولولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز» (٤).
وقال محمد بن إسحاق السّرّاج: «سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن أصح الأسانيد؟ فقال: مالك عن نافع عن ابن عمر» (٥).
وقال أبو عبد الرحمن النّسائي: «وما أحد عندي بعد التابعين أنبل من مالك بن أنس، ولا أحد آمن على الحديث منه» (٦).
ومن تقريظ المتأخرين له قول النووي: «وأجمعت طوائف العلماء على إمامته وجلالته وعظم سيادته، وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبيت وتعظيم حديث رسول الله ﷺ» (٧).
وقال الذهبي: «وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره، أحدها: طول العمر وعلو الرواية،
_________
(١) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء: ٦/ ٣٢١.
(٢) أخرجه أبو عمر بن عبد البر في الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: ٦٢.
(٣) أخرجه ابن عبد البر في المصدر السابق: ٥٥.
(٤) خرّج مجموعا في المصدر السابق: ٥٣. وأخرجه مقتصرا على الفقرة الأخيرة منه الجوهري في مسند الموطأ: ١٠١، وأبو نعيم في حلية الأولياء: ٦/ ٣٢٢. كما أخرجه العلائي في بغية الملتمس: ٦٨، ٦٩ مفصولا كل فقرة بإسناد.
(٥) تهذيب الكمال للمزّي: ٢٧/ ١١٠.
(٦) أخرجه ابن عبد البر في الانتقاء: ٦٥ - ٦٦.
(٧) تهذيب الأسماء واللغات: ٢/ ٧٥ - ٧٦.
1 / 15
وثانيتها: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم، وثالثتها: اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية، ورابعتها: تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن، وخامستها: تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعده» (١).
وقال أيضا: «فإلى فقه مالك المنتهى، فعامة آرائه مسدّدة، ولو لم يكن له إلا حسم مادة الحيل ومراعاة المقاصد لكفاه. ومذهبه قد ملأ المغرب والأندلس، وكثيرا من بلاد مصر، وبعض الشام، واليمن والسّودان، وبالبصرة وبغداد والكوفة، وبعض خراسان» (٢).
فهذه شذرات من فضائل هذا الحبر، ولمعات من ترجمة الإمام البحر، الذي أطبقت الأمة على تقديمه وإجلاله، وعلى الاقتداء به في علمه وخلاله؛ أجعلها طليعة هذا الكتاب المختص بتراجم الفقهاء من أصحابه وأتباعه الذين ارتضوا مذهبه، وانتهجوا قواعده.
وأقتصر في هذه الحلقة الأولى من الجمهرة على التراجم التي عقدها القاضي عياض في كتابه الحفيل النفيس (ترتيب المدارك) (٣)، دون الطبقة الحادية عشرة التي لا توجد في نسخ هذا الكتاب، والتي تفرد بنقلها عنه استقلالا محمد بن حماده السّبتي في مختصر ترتيب المدارك، مع إفرادي تراجم أوردها القاضي عياض تبعا - كذكره بعض آل المترجم معه -، وذلك إذا ترجح لي كونهم من الفقهاء المالكية، وبهذا يبلغ مجموع تراجم هذه الحلقة (١٤٧٧) ترجمة.
_________
(١) تذكرة الحفاظ: ١/ ٢١٢.
(٢) سير أعلام النبلاء: ٨/ ٩٢.
(٣) سيأتي الكلام عن هذا الكتاب - إن شاء الله تعالى - في أول المقدمة.
1 / 16
وقد باشرت هذا العمل بقراءة كتاب ترتيب المدارك كله، واختصاره على الوجه من غير تصرف بالنصوص المنقولة، وانتقاء عيون ما تضمنته تراجمه، مقتصرا على المهم في هذا المقام دون ما سواه.
وجعلت ترتيب عناصر الترجمة على النحو التالي:-
إيراد الاسم الرباعي للمترجم، مع الرفع في النسب عند الحاجة كأن ينسب المترجم إلى جده الأعلى. ثم أذكر الكنية، وأتبعها بالنسبة إلى القبيلة، مع تمييز الموالي من ذوي الأصلاب، ثم أثبت النسبة إلى البلد، ثم إلى الصنائع والوظائف والعلوم والأحوال. وأردف ذلك كله باللقب، مع الإشارة إلى اشتهار الرجل بكنيته أو لقبه إن كان كذلك.
ثم أسمي ثلاثة من شيوخ المترجم - مبتدئا بالإمام مالك بن أنس إن كان منهم -، وأتبعهم بثلاثة من تلامذته.
وأعقب ذلك بذكر أهم مؤلفاته بحيث لا تتجاوز غالبا الأربعة.
ثم أورد أقوال العلماء في مكانة المترجم في الفقه والعلم، ثم أبيّن منزلته في الجرح والتعديل لا سيما إن كان من أهل الرواية.
وأشير بعد ذلك إلى المؤلفات المفردة في ترجمته ومناقبه إن وجدت.
وأختم العناصر بذكر الولادات ثم الوفيات، محددا فيهما المكان والزمان، مع إيراد الاختلاف وتقديم الراجح على المرجوح، وذكر عمر المترجم إن صرّح به ولم يكن مخالفا لتاريخ الولادة والوفاة.
ولا أقتصر في إثبات تلك العناصر على ما في ترجمة الرجل، وإنما أرجع معها إلى تراجم تتعلق به كتراجم أقاربه، كما أجمع بين عناصر الترجمة المكررة في أكثر من موضع.
1 / 17
ولم أكتف في هذا كله بما في ترتيب المدارك - وإن كان هو الأصل المعوّل عليه -، وإنما رجعت إلى مصادر كثيرة جدا، متقدمة كانت أو متأخرة - لكن من غير التزام ولا تنبيه -، فاقتبست منها فوائد أجملها القاضي عياض أو أغفلها أو خالفها وهما، وبالأخص ما يتعلق بأصل الترجمة من الاسم وتوابعه والولادات والوفيات. وقد أختار في ولادات ووفيات المشارقة والأندلسيين - على سبيل المثال - غير قول القاضي عياض اعتمادا على ما ذكره فيهم أهل بلدهم، لأن علماء كل بلد أعلم من غيرهم برجال قطرهم.
وكثيرا ما أرجع نصوص ترتيب المدارك المنقولة إلى أصولها، حتى أثبتها من مصدرها الأول على الوجه الكامل، بل طالما نسبت نصوصا اقتبسها القاضي عياض ولم ينسبها إلى أصحابها موهما أنها له، وربما نسب بعضها إلى مؤلّف وهي في الحقيقة مما نقله عن غيره.
وسبب عدم اكتمال عناصر جملة من التراجم قلة المعلومات فيها في كتاب القاضي عياض، وكذلك فيما اخترت الرجوع إليه من مصادر.
وقد افتتحت تراجم رجال الكتب الستة بذكر رموزهم المعروفة التي استعملها المزّي في تهذيب الكمال، ولما اخترت في ترتيب هذا الكتاب نظام حروف المعجم المشرقية بدل الطبقات الموزعة على البلدان التي رتب القاضي عياض كتابه عليها، التزمت في نهاية كل ترجمة بذكر طبقة المترجم وبلده بين معقوفين، وإن ذكر في أكثر من طبقة، بالأصالة تارة وبالإلحاق مع أقاربه تارة أخرى، أو كان التّكرار على سبيل الوهم: ألمعت إلى ذلك أيضا من غير إعادة للترجمة، وأميز من ألحقه القاضي عياض بإحدى التراجم برمز (ق)، إشارة إلى أنه ملحق وليس بمفرد. وقد وضعت خطا تحت صفة الطبقة إن كان
1 / 18
صاحبها ممن لقي الإمام مالك بن أنس، حتى تتميز الطبقة الأولى من أصحاب مالك - على سبيل المثال - عن الطبقة الأولى من أتباعه.
وحرصت في هذا العمل على الإحالة على أقارب المترجم، سواء فعله القاضي عياض أو لم يفعله، فتجد في ترجمة الابن والأخ - على سبيل المثال - الإشارة إلى ترجمة أبيه وأخيه المتقدمة أو المتأخرة، ولم ألتزم ذلك عند ذكر الآباء، لأن الأصل عدم نسبة الأعلى إلى الأدنى.
وبعد الانتهاء من إيراد الأسماء المترجمة التي استغرقت غالب الكتاب، عمدت إلى ذكر الأبناء ثم الكنى ثم الأنساب، مقتصرا فيها على من لم أقف على اسمه منهم، وأما من وقفت عليه فقد ألحقته بالأسماء.
واهتممت في عملي هذا بضبط ما وقفت على ضبطه من غريب أسماء الأعلام والبلدان وغيرهما.
ولم أحفل بالتحشية على النص إلا عند الحاجة روما للتخفيف. وعامة الحواشي ليست إلا ذكرا لمصادر التراجم، وقد جعلت هذه المصادر على ثلاثة أنحاء، أولها المصادر المفردة في الفقهاء المالكية، ثم المصادر التي اقتطعت قسما خاصا لهؤلاء الفقهاء، ثم المصادر العامة الأخرى وهي كثيرة ومتنوعة كما يلاحظ من أدنى تصفح للكتاب، وتلك المصادر بأنواعها تكاد تكون مستوعبة، وكل نوع مرتب على السّياق التاريخي. وربما أحلت إلى مصادر لم تترجم لمن ذكرتها فيه، لكنها اشتملت على فوائد تعين على معرفة الرجل، هذا عند عدم توافر المصادر المترجمة.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن طبعتي المدارك المشهورتين ليستا بحجة، ففيهما من التصحيف والتحريف والأوهام الشيء الكثير. وأما ما وقفت عليه
1 / 19
من نسخ خطية ومختصرات فبينها اختلاف واسع، سببه ترك المؤلف لكتابه في مسوّدته بخطه المتداخل المهمل، مع عدم إسماعه له، كما سيأتي في المقدمة إن شاء الله تعالى.
وقد حملني هذا على مقابلة كثير من النصوص بأصولها، إلى جانب النظر الدائم في فروق النسخ والمختصرات والطبعات لاختيار الأرجح، وتبين لي من خلال هذا النظر المتكرر أن أكثر الأخطاء التي يمكن أن تؤخذ على الكتاب وردت على الصواب ولو في نسخة واحدة أو مختصر واحد، مما يدل على أن الوهم في أكثر الأحيان ليس من القاضي عياض.
ولتيسير الاستفادة من هذا العمل وضعت في نهايته فهرسين، أولهما للتراجم، والآخر للمصادر والمراجع. كما قدمت بين يدي هذا الكتاب بمقدمة مسهبة عن المصنفات المفردة في تراجم الفقهاء المالكية (من أول القرن السادس إلى آخر القرن الحادي عشر) ابتدأتها بكتاب القاضي عياض.
وقصارى القول: إن هذه الحلقة من الجمهرة قدمت كتاب ترتيب المدارك للقاضي عياض بصورة جديدة: مختصرة ومهذبة وموثقة، مع الاستدراك على نصوصه والإضافة عليها عند الحاجة، فضلا عن ترتيبه على نظام المعجم. وذلك من أجل تقريب تراجم أعلام الفقه المالكي وتيسيرها على الوجه المحرر أو ما يشبهه.
وما كان في هذه الحلقة من صواب فمن توفيق الله وحده، فهو ولي كل نعمة، وله الحمد كله. وأما الخطأ والتقصير فمرده إلى قلة الزاد وضيق الوقت، والله يعفو ويغفر، وهو التواب الرحيم.
1 / 20
وفي الختام أتوجه بالشكر الجزيل إلى العالم الجليل والسّري النبيل فضيلة شيخنا الأستاذ الدكتور أحمد محمد نور سيف مدير عام دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث بدبي على توجيهي للكتابة في هذا الموضوع النافع، وتيسيره الوسائل المعينة على إنجازه، فجزاه الله تعالى الجزاء الأوفى، وجمع له خيري الآخرة والأولى، ووفقه دائما لما يحب سبحانه ويرضى.
ثم أتقدم بالشكر الجميل إلى الأخوين الفاضلين اللذين قاما في المدة الأولى من هذا العمل بمعاونتي في التفتيش عن مصادر لرجال هذه الحلقة من الجمهرة، وهما: الشيخ محمد العربي بوضياف، والشيخ محمد عيادة الكبيسي. وهذا الشكر موصول أيضا إلى الأخ الفاضل الشيخ محمد عبد الله التمين الذي قام بقراءة هذا العمل قراءة حرة بعد صفه الأول على الحاسوب، فنبه على ما اعترى هذا الصف من سقط وتحريف ووهم.
ثم أقدم الشكر الوافر إلى الأخ الفاضل السيد محمد عبد العزيز المهدي الذي قام في المدة الثانية من هذا العمل بمعاونتي في التفتيش عن مصادر لتلك التراجم أيضا، وإعداد الفهارس. ثم عمل على تصحيح تجارب الطبع المختلفة. فجزى الله الجميع خير الجزاء.
وأنوّه في هذا المقام بدار البحوث العامرة، التي تعمل دائبة على تقديم الأعمال العلمية المؤصّلة المحققة، ونشر الكتب الماتعة المختارة، وإصدار المجلة البحثية المتزنة المحكّمة، وإقامة الندوات والمؤتمرات الجامعة النافعة، وإنشاء
1 / 21
المدرسة الإسلامية المنهجية المؤهّلة، وغير ذلك من أنشطتها المرضية، وأعمالها المأتية، حتى زاحمت بذلك - مع قرب عهدها - معاهد البحث العتيقة، ودور العلم العريقة، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
وأسأل الله جل وعلا أن يجعل هذه الحلقة من الجمهرة عملا مقبولا، وجهدا مأجورا، وبدءا موصولا. وأن يبارك فيها، وينفع بها، ويمكّن لها. إنه ﷾ خير مسئول، وأكرم مأمول.
وصلى الله وسلم وبارك وأنعم، على قدوة الأنام، وعلم الأعلام، معلم الناس الخير سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، ومن أحبهم واقتبس هديهم إلى يوم الدين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قاله وكتبه
قاسم علي سعد
مكة المكرمة أصيل يوم الجمعة
١٤ - من جمادى الآخرة سنة ١٤٢٣ هـ
1 / 22
المقدّمة
المصنّفات المفردة فى تراجم الفقهاء المالكيّة
من أول القرن السّادس إلى آخر القرن الحادي عشر
1 / 23
المصنفات المفردة في تراجم الفقهاء المالكية من أول القرن السادس إلى آخر القرن الحادي عشر
التعريف بهذه المقدمة:
أسهم علماء الأمة بدراسة تاريخ الفقه الإسلامي من جميع جوانبه، وكانت لهم عناية متميزة برجال الفقه وحملته، الذين بذلوا جهدهم، واستفرغوا وسعهم في حفظ الشريعة الغراء، فأفردوا فيهم التصانيف المترجمة التي استوعبت أخبارهم وتواريخهم، وعدّدت آثارهم وتصانيفهم، وميزت درجاتهم ومراتبهم، وأظهرت نوادر من فقههم وحسن طرائقهم، حتى صار المتفقه بهم على بصيرة وهدى من أمره.
وكان للفقهاء المالكية في هذا المضمار نصيب جليل، وقسط وافر، إذ انبرى قوم من العلماء لجمع تراجمهم، وإظهار سيرهم، فأثمر هذا الجهد المشكور كتبا واسعة، وأسفارا حافلة، أشهرها وواسطة عقدها: ترتيب المدارك للقاضي عياض، الذي استهللت به هذا البحث، معرّفا به وبصاحبه الإمام، وبالكتب المؤلفة عليه إلى نهاية القرن الحادي عشر، ثم تحولت كذلك إلى الديباج المذهب وغيره من كتب هذا الفن متقيدا بالمدة التي اشترطتها.
والله تعالى ولي التوفيق.
1 / 25