Jamaliyat Al-Mufrada Al-Qur'aniyya
جماليات المفردة القرآنية
خپرندوی
دار المكتبى
د ایډیشن شمېره
الثانية
د چاپ کال
١٤١٩ هـ - ١٩٩٩م
د خپرونکي ځای
دمشق
ژانرونه
شكر واهداء
أشكر الله ﷿ أن قدّر لي العمل في خدمة القرآن الكريم والسنة الشريفة، كما أشكر جميع أساتذتي في كلية الآداب الذين دأبوا في تشجيعي على البحث العلمي وأرجو أن أكون عند حسن ظن أساتذتي، وأن يتقبل الله عني هذا العمل.
وأهدي هذا البحث إلى أستاذي الفاضل الدكتور نور الدين عتر الذي سدّد خطاي وأضاء لي سبيل العلم، وزرع في أعماقي حب البحث العلمي والتفاني فيه، وأرجو من الله تعالى أن يجزيه الخير الكثير.
1 / 1
التقريظ بقلم الأستاذ الدكتور نور الدين عتر
بسم الله الرّحمن الرّحيم رئيس قسم علوم القرآن والسنة في جامعة دمشق الأستاذ في كليات الشريعة والآداب بجامعتي دمشق وحلب الحمد لله الذي أنزل القرآن، معجزة باقية على مدى الزمان، وأفضل الصلاة والسلام على سيدنا محمد المؤيد بأعظم الدلائل والبينات وعلى آله وصحبه والتابعين لهم باحسان.
أما بعد:
فإن القرآن الكريم قد اختص بأنه معجزة بالغة تتحدى كل إنسان في كل زمان ومكان، أيا كانت ثقافته وأدبه، وقد أفادتنا الدراسات المتعددة التي قام بها أئمة البيان على مر العصور أن إعجاز القرآن لا يقتصر على مقياس فني معين في عصر من العصور، وأن أي عصر مهما تقدم في الدراسة الأدبية لا يحيط بإعجاز القرآن، بل إن القرآن معجز وفق أي مقياس فني أدبي صحيح وذوق جمالي سليم في كل عصر وزمان.
ومن هنا يزداد إدراك القارئ لأهمية هذه الرسالة «جماليات المفردة القرآنية» التي أعدّها تلميذنا النبيه الأستاذ أحمد ياسوف معيدنا في كلية الآداب بجامعة حلب، لما أنه وفّى دراسة بحثه في ضوء الدراسات القديمة، كما وفى بسدّ حاجة القارئ وثقافة العصر من دراسات الأدب المعاصر.
وقد استكمل الباحث دراسته، وأحاط بالموضوع في ضوء خطة شاملة جوانب الدراسة، فتناول فيها دراسة الجوانب الجمالية للمفردة القرآنية بصورة
1 / 3
عامة، ثم درس إسهام المفردة القرآنية في الجمال البصري، ثم أتبعه بجمال المفردة السمعي، ثم أكمل الجوانب ببحث الظلال التي تضفيها المفردة على المعنى .. إلى آخر ما هناك من دراسات فنية جمعت بين القديم والحديث، بالإضافة إلى فنون البلاغة واللغة والإعراب، وغير ذلك مما يحتاج إلى مزيد من الصبر والثبات لتقديم دراسة مبتكرة تفيد من دراسات القدامى ومن نظريات المحدثين.
وهذا مسرد مراجع الرسالة يضع أمامنا ذخيرة من المصادر الواسعة والمتنوعة قديمة وحديثة: في التفسير، والحديث، وعلوم القرآن، واللغة، والبلاغة، وفقه اللغة، والإعراب، والتجويد، ودراسات القرآن، وعلم الجمال، والتنظير الفني والأدبي، والنقد الأدبي، وعلم النفس، وعلم التربية، بالإضافة إلى التاريخ، وتاريخ الأدب، وأصوله، أي ما يزيد على خمسة عشر علما وفنا رجع إليها الباحث، وأعمل ذهنه في أدواتها واستخدامها، لكي يقدم لنا هذا الكتاب، مما يدل ولا شك على تمكن وعلى مقدرة عالية في الدراسة والبحث.
وقد خرج الكتاب بنتائج هامة في الدراسات القرآنية، في مقدمتها قضية على غاية الخطورة والأهمية، وهي أن المفردة لها مكانتها في إعجاز القرآن، ولها جوانبها المتعددة الثرية، وأن إعجاز القرآن ليس قاصرا على مفهوم عصر معين للجمال أو مقياس عصر ما في سمو الأدب، بل هو معجز وفق أي ذوق سليم وأي مقياس فني جمالي صحيح، يتجدد عبر العصور، فهو معجزة بيانية لا تنتهي على مدى الأعوام ولا على مدى الأزمان، تدعو الناس إلى تأمل جمالها المعجز، لتسير بهم من طريقه إلى الإيمان.
1 / 4
المقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد فإن دراسة جمال المفردة القرآنية تعدّ عناية فائقة بجزئيات النصوص القرآنية وتدبّرها وتأملها واستنباط المنهج الفني الذي يسري في نسقها، وجوانب الجمال الذي تتسم به.
وقد وجدت للدارسين- قدامى ومعاصرين- جهدا مبذولا في جمال المفردة القرآنية، وذلك في كتب الإعجاز والتفسير البياني، ولم يفرد الباحثون كتابا يجمع هذه النظرات الفنية ويناقشها، ويوضّح سمات هذا الجمال وعناصره، ولهذا أردت أن أجمع هذه النظرات من فصول كتبهم وتفسيرهم، وأبين ميزات هذا الجمال وأسسه، والمعيار الذي اعتمده الدارسون، وأوازن بين جهود القدامى وجهود المعاصرين، وقد وجدت أن المعاصرين يقتبسون غالبا من القديم، ولم يدرسوا نظرة الباحث القديم في جمال المفردة، كما أنهم خصّصوا الفصل أو الفقرة الصغيرة لجمال المفردة، وربّما يشمل الفصل الصغير كل جوانب جمالها في القرآن.
ولقد حاولت أن أستقصي جمالية المفردة القرآنية في كتب البلاغة القرآنية والتفسير البياني خاصة، في العصور القديمة والعصر الحاضر، وقد تمخّض عن هذا الاستقصاء وجود صعوبات كبيرة، وذلك لأن مادة البحث لا تقتصر على كتب التفسير- على ضخامتها-، بل تشمل كتب الإعجاز، وهذا ما تطلب البحث في جزئيات فصول البلاغة القرآنية، فلا يوجد عنوان محدد نلجأ إليه، ونقتبس مادة البحث منه، ولم ندرس المادة في فصول جمال المفردة، بل سعينا إلى توضيح شأن المفردة في الصورة والنغم، فأوضحنا إسهامها في جميع فنون البلاغة القرآنية، كالتشبيه والكناية والاستعارة والإيجاز وغير هذا.
1 / 5
كما أننا تلمّسنا هذا الجمال في كتب اختصت بالبلاغة العربية، وبحثنا فيها عن لمحات الدارسين لدى الاستشهاد بالقرآن الكريم، ويضاف إلى هذا شمول البحث لجهود الدارسين منذ العصور الإسلامية الأولى، وهذا ما جعلنا نرجع إلى معظم المصادر في الشاهد الواحد، لإجراء موازنة في كثير من الأحيان، ولتوضيح إضافات اللاحقين على السابقين، واختلاف منحى كلّ دارس عن غيره.
وتمثّلت الصعوبة كذلك في الرجوع إلى كتب ذات اختصاصات مختلفة، كان لها إشارات جيدة إلى بلاغة القرآن، وكتب الجاحظ خير مثال على هذا، وقد ألمّ العلماء المسلمون بفنون البلاغة على الرغم من اختلاف اختصاصاتهم، إذ كان القرآن الكريم الركيزة الثابتة في تكوين ثقافتهم، فلا يخلو واحدهم من الإلمام بفن القرآن الكريم، وإن كان دارسا للتوحيد، أو العلوم الطبيعية أو غير هذا.
وموضوع هذا البحث ليس تقليدا مطروقا، بل فيه تجديد وابتكار، لأنه يقدّم دراسة فنية لنظرات الباحثين، ويقيمها وفق مبادئ الفن، ويحدد المعايير التي اعتمدها الباحثون من خلال مفهوم الجمال الفني. وبما أنني اتبعت المنهج التاريخي في دراسة كل جانب من جمال المفردة القرآنية، فكان لا بد من رصد هذه الجمالية في أوائل كتب الإعجاز مثل رسالة «البيان في إعجاز القرآن» للخطّابي، ورسالة «النّكت في إعجاز القرآن» للرّمّاني، إضافة إلى نظرات الجاحظ في كتابيه: «البيان والتبيين» و«الحيوان»، وكذلك اعتمدت على الباقلّاني صاحب «إعجاز القرآن»، وابن سنان في «سرّ الفصاحة»، وضياء الدين بن الأثير في «المثل السائر»، وسرت وفق هذا السرد التاريخي، لأتبين معالم جمالية المفردة في «بديع القرآن» لابن أبي الاصبع، و«الطراز» ليحيى العلوي، ووقعت على تأملات رفيعة في كتب تتحدث عن علوم القرآن مثل «البرهان» للزركشي و«الإتقان» للسيوطي.
أما كتب التفسير، فقد اقتصرت على التفاسير التي عنيت بالجوانب البلاغية في القرآن، فكان «الكشاف» للزمخشري أهمّ مصدر لي، وكذلك تفسير النّسفي
1 / 6
«مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، ثم تفسير العلّامة أبي السّعود المسمّى «إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم».
أما المصادر الحديثة، فقد كان كتاب أحمد بدوي «من بلاغة القرآن» في مقدمة الكتب في معرفة نظرات المعاصرين، وكذلك سيّد قطب في تفسيره «في ظلال القرآن»، وكتابيه: «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة»، وهناك كوكبة من المعاصرين أفدت من كتبهم، مثل «إعجاز القرآن» للرافعي، خصوصا في مجال موسيقا القرآن، و«إعجاز القرآن» لعبد الكريم الخطيب، و«بيّنات المعجزة» لحسن ضياء الدين عتر، وكتاب «من روائع القرآن» لمحمد سعيد رمضان البوطي وغيرهم.
واستعنت لتقييم نظرات الدارسين ببعض المراجع في النقد الأدبي، وعلم الجمال، وبعض المباحث اللغوية، خصوصا في مجال فقه اللغة، وقدّمت لي هذه المراجع مادة وفيرة تواكب نظرة الدارسين، ولا سيما القدامى منهم، وسمو تذوقهم للبيان القرآني.
وإن هذا البحث يمثّل محاولة لرصد تأملات الدارسين في مفردات القرآن، وأرجو أن يكون هذا الرصد شاملا لتأملات كل الدارسين، وأن يكون عادلا، بحيث لا يجحف بكلّ من القدامى والمعاصرين.
وقد وقع البحث في أربعة فصول، مهّد لها بمدخل حول مفهوم الجميل ووسائل تذوقه عند المسلمين، وذلك لنثبت أنّ للمسلمين نظرات واقعيّة في الجميل، وما يقترن به من مفاهيم جمالية، فعرضنا لرأي كلّ من الجاحظ وأبي حيان التوحيدي والغزالي، فقد أكّد هؤلاء أن وسائل تذوق الجميل هي السمع والبصر، وأنهما منفذان إلى القلب، والحق أن القرآن الكريم كثيرا ما يربط بين القلب أو الفؤاد أو العقل والسمع والبصر كقوله ﷿: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا «١». وبيّنت في هذا التمهيد ارتباط الجميل الموضوعي بالنافع في منظور المسلمين.
تناول الفصل الأول مفهوم المفردة في الأدب، والجوانب الجمالية فيها،
_________
(١) سورة الإسراء، الآية: ٣٦.
1 / 7
وعرضت لآراء بعض النقاد المعاصرين، لتكون هذه الآراء كشفا فنيا لوجهة نظر البحث والدارسين، وهنا لا تقدّم تعاريف جافة صارمة، بل يسعى البحث إلى توضيح وظيفة المفردة في النص الأدبي وفق لبوسها الجديد، وعرضت المسألة تجاوزها لحياد المعجم، وخصوصية دلالتها في القرآن، ثم عرضت لعلاقة المفردة بالنظم، وما يتوهم من تناقض بينهما، وأكدت أهمية الطرفين: المفردة والنظم في بنية الآية، وبيّنت الحجج التي ردّ بها على غلوّ الجرجاني إذ نبذ هذا الغلوّ بآراء جديدة تسعفها تطبيقات من القرآن، وكان لا بد أيضا من نفي الترادف في القرآن، لتأكيد تمكّن المفردة القرآنية من المقام عن غيرها، وقد بدأت الفقرة بتوضيح مصطلح الترادف، واقتبست بعضا من أقوال من يؤيد الترادف مثل ابن السّكّيت، وأقوال من يؤيد الفروق مثل أبي هلال العسكري وأبي منصور الثعالبي، وكانت هناك إضاءات للتنظير بالعودة إلى النص القرآني للبرهنة على دقة الفروق، وتوصلت إلى إمكانية وجود الترادف في اللغة، ونفيه من السياق القرآني.
وختم الفصل بفقرة حول الأثر الموسيقى للقرآن، فعرضت للآيات التي تدعو إلى تذوق موسيقا حروفه ونسقه، وشفع هذا بما ورد في السّنّة النبوية الشريفة، ثم بينت مظاهر تعلق الرعيل الأول بالنسق الموسيقى، ثم بيّنت مسألة تشبيه القرآن بالشعر ومعارضة القرآن، وخصوصية الفن القرآني.
وتناول الفصل الثاني إسهام المفردة القرآنية في الصورة البصرية، فقد أكدت أهميتها في الصورة، ودرست في الفقرة الأولى إسهام المفردة القرآنية في تجسيم المجردات والمعنويات عن طريق مصطلح الاستعارة أو التشبيه، وبدأت الفقرة بتعريف التجسيم لغة واصطلاحا، ثم عرضت لجهود القدامى والمعاصرين، وتبين لي أن
القدامى أدركوا هذه الجمالية، وأهمية المفردة على أنّها العامل الأساسي الذي يضفي على المعاني صفات محسوسة تتجلّى للبصر، وفي الفقرة الثانية عرضت لمفردات الطبيعة التي ساعدت على جمال التصوير، وبدئت الفقرة بتوضيح مفهوم الطبيعة في القرآن، والانسجام بينها وبين الإنسان، على أنها مخلوق مسخّر له، وانقسمت الطبيعة إلى جمادات كالشجر والحجر، وإلى طبيعة متحركة حيوانية كالجراد والعنكبوت، وبينت مدى تفهم
1 / 8
الدارسين لملاءمة هذه المفردات لإخراج الصورة الفنية، ومدى تذوقهم للإشعاع النفسي المتوخّى في هذه المفردات، وقد أضفت شواهد متممة لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الثالثة بحثت في إسهام المفردة القرآنية في تشخيص المعاني والمجرّدات، وقد تقدم الفكرة تعريف التشخيص لغة واصطلاحا، ووجدت أن القدامى قدّموا جهدا وفيرا لاهتمامهم الكبير بانتقال المفردة من مجال إلى آخر، وقد عرضوا تأملاتهم الفنية مؤكدين أهمية الكلمة المشخّصة وفق مصطلح الاستعارة أو المجاز، وأدركوا أن إضفاء الصفات الآدمية على الجمادات والمعنويات وبثّ الحركة فيها يعطي تأثيرا كبيرا في المتلقي، ودرست في الفقرة الرابعة تصوير المفردات للحركة، وهي حركة سريعة قوية كالزلزلة، وحركة بطيئة، وكانت هذه المفردات تعبّر عن مضمون الموقف، وقد وجدت أن الزمخشري خاصة تملى هذه الجمالية بذوق فريد، وأردفت الفقرة بلمحة عن تجسيم الحركة بوساطة التشكيل الصوتي للمفردة، وهذا ما دعي بالأونوماتوبيا التي تحدثت عنها بالتفصيل في الفصل الثالث.
وتناول الفصل الثالث الجمال الموسيقى لمفردات القرآن، ودرست في الفقرة الأولى منه مسألة تلاؤم المخارج بدءا من الرماني، ثم عرضت نظرة ابن سنان وابن الأثير، ثم ذكرت رأي بعض المحدثين في هذا الشأن، وتوصلت إلى أن العبرة بطبيعة الصوت نفسه. ودرست في الفقرة الثانية جمالية المدود والحركات في المفردات، وحاولت أن أبين العلاقة الوشيجة بين شكل المفردة والموقف الشعوري، وفي الفقرة الثالثة درست طول المفردات وفق نظرة ابن سنان الذي قبّح طول المفردات، وفنّد هذا بمسلّمات الموسيقا اللغوية وطبيعة مفردات القرآن، وذكرت رأي ابن الأثير، ثم توضيح الرافعي، وانتهيت إلى أن جزئيات الكلمة في القرآن تنفي عيب الطول عنها، وفي الفقرة الرابعة بحثت مفهوم الرقة والمغالطة التي وقع فيها بعض الدارسين لتفسير الرّقة، وهنا استعين بطبيعة الأصوات اللغوية في فقه اللغة، وقورنت الرقة بالجزالة، ثم بينت أن الموضوع هو الذي يحدّد قوة الألفاظ وشدّتها أو رقتها، وربطت الصفة النّغمية للحرف بالموقف الشعوري، ودرست في الفقرة الخامسة مظاهر تجسيم الصوت للمعاني، أو ما يدعى «الأونوماتوبيا»، وقدمت لهذه الفقرة تنظيرا لغويا
1 / 9
بمنزلة تأصيل عربي لهذه الفكرة خصوصا في «الخصائص» لابن جني، وتوصلت إلى أن القدامى ربطوا النظرة بمعيار لغوي واضح، وأن بعض المحدثين اعتمد التوهم والمبالغة، وقد جنحت في بعض الأمكنة إلى تفسير محاكاة الصوت للمعنى والصور بمعطيات فقه اللغة وعلم التجويد لمعرفة صفات الحروف.
وتناول الفصل الرابع الظلال النفسية التي توصّل إليها الدارسون في توضيح العلاقة بين المفردة والموضوع أو الفكرة، ودرست في الفقرة الأولى جهود الدارسين في دلائل صيغة المفردة، حيث ذكر البيان القرآني صيغا لمفردات تمتلك معاني لا تكون في صيغ أخرى، وهنا كانت للقدامى جولات رائعة لعلوّ فصاحتهم، وكثرة اهتماهم باللغويات، وهذا مهّد لهم لتبيين الجوانب الفنية في هذا المضمار، فقد أدركوا العلاقة بين التشكيل الداخلي ومعالم الموضوع، وفي الفقرة الثانية درست الجوانب التهذيبية السامية في اختيار مفردات القرآن، ودرست في القسم الأول من الفقرة التهذيب في اختيار مفردات تعبر عن المرأة وعلاقتها بالرجل، ثم درست في القسم الثاني التهذيب في الأمور العامة التي دل فيها القرآن على سمو خطابه، وهذا الإيماء الرفيع نجده في تأملات الدارسين تحت عنوان الكناية أو المجاز أو التلميح، وفي الفقرة الثالثة بينت وجه الإيجاز في المفردة، وأطلقت عليه اسم اختزان المفردة للمعاني الكثيرة، وبدأت الفقرة بإشارة الجاحظ، ثم وضحت الاختزان في صيغة المفردة، فالاختزان في جانب التهذيب، وختمت الفقرة بإضافة بعض الشواهد وتحليلها تأكيدا لنظرة الدارسين. وفي الفقرة الرابعة عرضت لجهود الدارسين في اختيار المفردة للموضوع، أي مناسبة المقام، وتضمنت الفقرة بعض الأفكار، مثل ملاءمة الغريب للموقف، والمنهج الذاتي والمنهج الموضوعي عند الدارسين، وفكرة مناسبة المقام من خلال الفروق اللغوية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي الذي سار على نهجه الكثيرون، وكذلك قدّم لي الكشاف مادّة وفيرة، وختمت الفقرة بظلال الدلالة الخاصة لبعض المفردات القرآنية، إذ أضفى القرآن على بعض المفردات دلالة خاصة نتيجة صدورها عن الخالق ﷿، وهذا مستفاد من إشارة للباقلاني. وفي الفقرة الخامسة بحثت في تمكن
1 / 10
الفاصلة، وهي الكلمة الأخيرة من الآية، وبدئت الفقرة بتعريفها لغة واصطلاحا، فتضمنت الفقرة فكرة ملاءمة الفاصلة لما قبلها من خلال مصطلحات القدامى، مثل الإيغال والتصدير والتوشيح، وفكرة استقلالها بمعنى جديد، وأهميته في الآية، وهنا يبرز جهد الخطيب الإسكافي، وابن أبي الاصبع خاصة، وانتهى البحث بخاتمة تلخص النتائج التي توصّل إليها.
لقد كان الترتيب التاريخي عونا لي في توضيح تطور التذوق الفني لدى الدارسين، وقد عمدت في بعض الأحيان إلى إجراء موازنة بين علمين في شاهد قرآني واحد، لأبيّن تفاوت النظرات والمؤثرات في هذا التفاوت، وكذلك حرصت على أن تكون النماذج المقتبسة وافية، وألا يكون البحث انتقاصا من كلّ من القدامى والمعاصرين في مسلكهم، وأرجو أن أكون موفقا في جمع شتات جمال المفردة القرآنية، وتحديد المعيار، وتبيين عناصر هذا الجمال في كتب الإعجاز والتفسير، كما أرجو أن يكون هذا البحث جهدا مقبولا في خدمة القرآن الكريم والله من وراء القصد.
أحمد ياسوف
1 / 11
مدخل في مفهوم الجميل عند العلماء المسلمين
إن مسألة الجمال وإدراكه قضية فطرية، فطر الله الخلق عليها، وخلق صفة الجمال وصفة القبح، غير أن الفكر الإنساني تعرّض لهذه القضية بالدراسة، وكانت الفلسفة اليونانية قد عنيت بدراسة الجمال أو فن الجمال، وكان لهذه الدراسة اتجاهان: مثالي ومادي، ثم جاء المسلمون، وقدّموا أفكارا جديدة في هذا المضمار.
ويجدر بنا هنا التوقف عند نظرات علماء مسلمين، لنبيّن وجهة نظرهم واهتمامهم بالمفاهيم الجمالية، لتكون هذه النظرات تمهيدا لفهم الجمال في المفردة القرآنية، فقد قدم المسلمون جهدا واضحا إلى الفكر الإنساني، ولم يكونوا بمعزل عن الحضارات بكل ما تتضمنه، كما أنهم أبدوا فاعلية كبرى في الفكر، يشهد لها التاريخ والنظرة العادلة.
فالجاحظ «١» مثلا ارتبط مفهوم الجميل عنده بالنافع، فقد جاء في كتابه «الحيوان» عن حسن النار: «ولولا معرفتهم بقتلها وإتلافها، والألم والحرقة المولّدين عنها لتضاعف الحسن عندهم، وإنّهم ليرونها في الشتاء بغير العين التي يرونها بها في الصيف، ليس ذلك إلا ما حدث من الاستغناء عنها» «٢».
فالمنفعة تزيد من حسن الجميل في نظر الإنسان، والدّفء المولّد عن النار
_________
(١) هو عمرو بن بحر، مولده ووفاته بالبصرة، معتزلي له مصنفات كثيرة في التوحيد وإثبات النبوة. وفضائل المعتزلة، توفي سنة ٢٥٥ هـ أيام خلافة المهدي، من كتبه «الحيوان» و«البيان والتبيين» وله رسائل مطبوعة، انظر الأعلام: للزّركلي:
٢/ ٧٢٩.
(٢) الجاحظ، ١٩٥٢، الحيوان، تح: عبد السلام هارون، ط/ ١، مكتبة الخانجي القاهرة، ٤/ ٩٦ - ٩٧.
1 / 13
يزيدها حسنا، وهكذا نجد أنه يربط الجمال- أو الحسن على حدّ تعبيره- بالمنفعة خلافا للمدرسة الغربية المعاصرة، والجميل عنده موضوعي، ينبغ جماله من شكله، وتركيب أعضائه وجزئياته، إذ يقول: «وربّ شيء إنما الأعجوبة فيه إنما هي في صورته وصنعته وتركيب أعضائه وتأليف أجزائه، كالطاوس في تعاريج ريشه وتهاويل ألوانه، وكالزّرافة في عجيب تركيبها ومواضع أعضائها .. أو يكون العجب فيما أعطي في حنجرته من الأغاني العجيبة والأصوات الشّجية المطربة والمخارج الحسنة» «١».
فقضية استيعاب الجميل تعتمد على الحسّ، لأن الجميل هنا موضوعي محسوس، فهو يدل على حاسّة البصر في جمال شكل الطاوس والزّرافة، وعلى حاسة السمع في جمال أصوات الطيور المغرّدة، وكذلك يدلّ على تناسق الشكل الذي ترتاح إليه العين، ولا تختلف مدارس علم الجمال في اختصاص هاتين الحاستين بإدراك الجمال.
ولا يكتفي بالحواس الظاهرة، إنما يعدّها سبيلا إلى مكمن المشاعر أو القلب حسب تعبيره، إذ يقول: «وإذا رفعت القينة عقيرة حلقها تغنّي حدّق إليها الطّرف، وأصغى نحوها السمع، وألقى إليها القلب الملك، فاستبق السمع والبصر أيهما يؤدّي إلى القلب ما أفاد منها قبل صاحبه» «٢».
ولا يقتصر الجمال عنده على المحسوس المرئي أو المسموع، فهناك جمال معنوي مجرّد يتملّاه العقل أو القلب، ونحن نلتمس هذا من خلال حديثه عن القبيح، إذ يقول عنه: «الضيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القضاء، والشّح في الأغنياء» «٣».
وهذا الجمال المعنوي الأخلاقي لا يبتعد عن الشريعة الإسلامية، كالوفاء والعفّة والصدق والكرم والشجاعة، إلا أنه يريد شدة القبح في حالات معينة.
_________
(١) الجاحظ، الحيوان: ٥/ ١٥٠ - ١٥١.
(٢) الجاحظ، ١٩٦٤، رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة ٢/ ١٧٠.
(٣) الجاحظ، البيان والتبيين، دار الكتب العلمية، بيروت، بلا تاريخ: ٣/ ٢٣٣.
1 / 14
وإذا كان الجاحظ يكتفي بالحديث عن الجميل الموضوعي والمعنوي الأخلاقي فإن أبا حيّان التوحيدي «١» يركّز على الجمال المعنوي، ويضع العقل معيارا لفهمه، ويبسط القول على صفات الله قائلا: «وهي من الحسن في غاية لا يجوز أن يكون فيها وفي درجتها شيء من المستحسنات، لأنها هي سبب كل حسن، وهي التي تفيض بالحسن على غيرها «٢».
فالخالق ﷿ هو الجميل المطلق، وهو خالق الجمال النسبي في الكون، فصفات الله هي أصل الحسن في المخلوقات، وأبو حيان يتحدث عن الجميل المعنوي، ويربطه بالخير، ويجعل العقل وحده معيارا في تذوقه واستيعابه، يقول: «إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئا من الأشياء إلا بقرائن وشرائط، وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، إن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم لما فيه من حياة الناس، وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحا لما فيه من تلف الحيوان» «٣».
فالفعل لا يتّصف بالجمال أو القبح، حتى يتضح أثره وفائدته، أو ضرره في المجتمع، أو دلالة الشّرع، وهذا ما رامه بقوله: شرائط وقرائن، وبما أن الجميل هنا معنوي، فتناسب ربطه بالخير، على حين ربط الجاحظ الجميل الحسي بالمنفعة.
ومعيار العقل مستمر في حكمه لا يتغير بتغير الأحوال، فهو يقول:
«ما يستحسنه العقل، فهو أبدى الاستحسان له، وما يستقبحه، فهو أبدى الاستقباح له، ولا يتغير ذلك بتغير الأحوال» «٤».
_________
(١) هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي المتوفى سنة ٤٠٠ هـ، فيلسوف متصوف معتزلي، أحرق كتبه في آخر حياته، ومن كتبه «المقابسات» و«الإمتاع والمؤانسة» و«الصداقة والصديق» و«الهوامل
والشوامل» اتّهم في دينه، انظر الأعلام:
٥/ ١٤٤.
(٢) التوحيدي، أبو حيان، ١٩٥٢، الهوامل والشوامل، تح: أحمد أمين وأحمد صقر ط/ ١، لجنة التأليف والنشر والترجمة»، القاهرة، ص: ٤٣.
(٣) المصدر السابق، ص: ١٤٧.
(٤) المصدر السابق، ص: ٣١٦.
1 / 15
ويفصل أبو حامد الغزالي «١» بين الجميل والنافع، بيد أنه لا يلغي لذّة النافع، إنما يقدّر له لذّته الخاصة به، فهو يقول: «كل جمال محبوب عند مدرك الجمال، وذلك لعين الجمال، لأن إدراك الجمال فيه عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها، ولا تظنّنّ أن حب الصور الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة، فإنّ قضاء الشهوة لذّة أخرى قد تحبّ الصور الجميلة لأجلها، وإدراك نفس الجمال أيضا لذيذ، فيجوز أن يكون محبوبا لذاته، وكيف ينكر ذلك والخضرة والماء الجاري محبوب لا ليشرب الماء، وتؤكل الخضرة، أو ينال منها حظ سوى نفس الرؤية» «٢».
يذكر الغزالي هذا في حديثه عن المحبة، وهنا يتحدث عن حبّ الأشياء المحسوسة، ويذكر حاسّة الرؤية، ويمكننا أن نعدّ كلامه تفسير لقوله ﷿ عن الإبل: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ «٣». إذ ينص البيان القرآني على أن الأشياء ليست جميلة لذاتها بل لمنفعتها للإنسان في الوقت نفسه، وتمتع الإنسان بالصفات الجميلة يؤدي إلى تسبيح الخالق ﷿. فالموقف الجمالي بحسب المنهج القرآني يقول بالغائية، إلا أنه يدعو إلى الترفع عن المنفعة المادية المباشرة، فلا يرتبط بالنافع مباشرة كما في فلسفة سقراط، كما نجد هذا في الحواريات التي نقلها عنه تلميذه أفلاطون.
والإبل مفيدة بلحمها وركوبها، وهنالك هنيهات تأملية سامية يتجلّى للبصر حينها جمال شكل الإبل، وهذا يدعو إلى تسبيح الخالق، فالشعور بالجمال يتكون بعد إشباع الحاجة المادية، فالظمآن لا يشعر بجمال خرير النهر، كما أن الجائع لا يشعر بجمال الثمار، لأن الجميل يعني إثارة وجدانية
_________
(١) هو محمد بن محمد حجّة الإسلام، فيلسوف متصوف له نحو مائتي مصنف، ولد في طوس بخراسان، ورحل إلى نيسابور، ثم بغداد فالحجاز، فبلاد الشام، وتوفي في طوس سنة ٥٠٥ هـ، ونسبه إلى غزالة اسم قرية بخراسان، من كتبه «إحياء علوم الدين» و«تهافت الفلاسفة» و«المنقذ من الضلال» وله كتب بالفارسية. الأعلام: ٣/ ٩٧٢.
(٢) أبو حامد الغزالي، ١٩٨٦، إحياء علوم الدين، ط/ ١، دار الكتب العلمية، بيروت: ٤/ ٣١٦.
(٣) سورة النحل: الآية: ٦.
1 / 16
لمشاعر راقية.
وفي منظور الغزالي يتمتع الجمال الموضوعي بصفة الجمال عند ما تحضر فيه الصفات اللائقة به كما خلقها الله ﷿، إذ يقول: «كلّ شيء فجماله وحسنه في أن يحضر كماله اللائق به الممكن له، فإذا كانت جميع كمالاته الممكنة حاضرة، فهو في غاية الجمال، وإن كان الحاضر بعضها فله من الحسن والجمال بقدر ما حضر- ولكل شيء كمال يليق به، وقد يليق بغيره ضدّه، فحسن كل شيء في كماله الذي يليق به، فلا يحسن الإنسان بما يحسن به الفرس» «١».
وهذا يذكّرنا بتأليف الأعضاء كما جاء عند الجاحظ، فالجمال متفاوت، لأن هناك نسبا مختلفة في حضور الصفات الجميلة، وهذا يصل بالغزالي إلى أن الكمال لله وحده، إذ يقول: «وأما كل مخلوق فلا يخلو عن نقص وعن نقائص، بل كونه عاجزا مخلوقا مسخّرا هو عين العيب والنقص فالكمال لله ﷿ وحده، وليس لغيره كمال إلا بقدر ما أعطاه الله» «٢».
وهذا أيضا يذكّرنا بفيض الحسن من الخالق على المخلوقات، كما ورد عند أبي حيان التوحيدي.
وبما أن المقصد من ذكر حب الجميل أخلاقي ديني عند الغزالي، فإنه لا ينسى أن يذكر الجمال المعنوي، إذ يقول: «إن الجمال والحسن موجود في غير المحسوسات، إذ يقال: هذا خلق حسن وهذا علم حسن، وهذه سيرة حسنة، وهذه أخلاق حسنة، وشيء من هذه الصفات لا يدرك بالحواس الخمس بل يدرك بنور البصيرة الباطنة» «٣».
فالجميل عند الغزالي مطلق، وهو الخالق ﷿، ومنه يفيض الجمال على الأشياء، وجمال موضوعي محسوس يعتمد على الحواس، وجميل معنوي يعتمد على البصيرة، كحبّ العلماء والعلم والطاعات والأخلاق
_________
(١) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: ٤/ ٣١٦.
(٢) أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين: ٤/ ٣٢٢.
(٣) المصدر نفسه: ٤/ ٣١٦ - ٣١٧.
1 / 17
الحميدة.
لقد تحدّث علماؤنا بوضوح عن المفاهيم الجمالية خلافا لتعقيد الفلاسفة الغربيين وتناقضهم أحيانا، كما نجد هذا في الجمال عند هيغل ومسألة المطلق والروح وأمثال هذه المصطلحات الغامضة، أو تعلق الجمال بالحدس كما هي الحال عند كروتشه.
وقد ذكروا أمثلة من الواقع الملموس تثبت صحة نظرهم، ونخلص مما سلف إلى أن الجميل الموضوعي يعتمد على جزئيات هذا الجميل، وهذا يقترب من مفهوم الجميل في البحث، إذ يعتمد على حاستي البصر والسمع إضافة إلى القلب، وهذا ما تتفق فيه الدراسات الجمالية كلّها.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن اقتران الحب بالجمال في الفلسفة اليونانية لا يمتّ بصلة إلى ما جاء عند الغزالي، لأن الغاية عنده دينية، ليس فيها التجريد الفلسفي وما سمي بالمثل، كما أن حديث المسلمين عن الجمال البصري يتحدّد في الأشكال، وفي الصور المرئية، وليس فيه ترّهات الغرب، وتجسيد المثل أو الفكرة المطلقة، وما يتبع هذا من خطل وتعقيد، وكذلك لا نحب أن نربط بين ما ذكره التوحيديّ والغزالي عن فيض الجمال على المخلوقات بما جاء في نظرية الفيض عند أفلوطين، فنظرة علمائنا تتّسم بالأصالة، لأنها تنبع من أصول العقيدة الإسلامية.
وإذا كانت المذوقات والمشمومات والملموسات أدخل في الالتذاذ الجسدي من المرئيات والسمعيات، فإن الجمال القرآني يثير هذه الأحاسيس أيضا، لأنه فن قولي يتمتّع بطابع زماني لاعتماده الكلمة والنسق الموسيقى، ومكاني بمشاهده المؤثرة في المشاعر، ولأجل الإيغال في التأثير الحسي يحرك كلّ الحواس، حتى إن سماع بعض الكلمات يشبه الإدراك المرئي، فيتخذ بعدا مكانيا.
والجمال القرآني متكامل من حيث الانسجام بين الشكل والمضمون فيه، وهو لا يقدّم شكلا فارغا، بل إن ما فيه مسخّر في نهاية الأمر لرفع مستوى الوعي الجمالي، ومن ثمّ لتحقيق الهداية، ومن يقرأ آياته يدرك أن الشكل
1 / 18
يحتوي المضمون ويتّحد به، وبحيث لا ينفصمان، وما الإعجاز البياني إلا الشكل الراقي لدعوة البشر إلى الحق.
ويمكننا أن نقول إن الجميل في القرآن هو كلّ ما ترتاح إليه النفس بعد مروره بالحواس، وذلك في الطبيعة والحياة الاجتماعية، وفق ما يقتضي الخير والشر من مظاهر وعلاقات إنسانية، وذلك بالإضافة إلى جمال الأفكار والمشاعر الذي ينسكب في الباطن، ويحدث لذة جمالية معنوية وفق طبيعة النفس الإنسانية كما فطرها الخالق ﷿.
والجميل في القرآن كل ما يخاطب المشاعر، وما يتصف بمعنى المؤثّر في أرقى أشكاله، إن في تصوير ما ترتاح إليه العين والأذن، أو في ما ينفّر عنه التصوير من خلال دقّة بارعة لتصوير القبيح، كما في رسم مشاهد الكفار، ولذلك نقول: إن الغائية الأخيرة في الجمال القرآني غائية دينية، هي هداية البشر بالترغيب والترهيب، وإن هذه الغائية تعتمد على فنون اللغة بغناها، وتبثّ فيها روح السموّ، فالقرآن معجزة بيانية.
ولا بدّ هنا من توضيح المقصود من كلمة، «مفردة»، فهي ذلك الكائن الذي يساهم في الفن القولي في أسلوب القرآن، وهو موضوع البحث، ولا ترادف مصطلح الكلمة، لأن الكلمة قد تعني أحيانا كل العمل الأدبي، فهي أداته الفنية، كما أن النغمات أداة الموسيقا، وتعني بالتالي المادة التي ينسج منها النصّ، وهي تشتمل حسب تقسيم النحاة على الاسم والفعل والحرف، إلا أن الحروف تخرج عن نطاق هذا البحث، لأنها أعلق بمسألة النظم أي ما يربط بين المفردات، وقد أفاض الجرجاني في هذا.
فالمفردة تعني الاسم، وتعني الفعل حين يرتبط الاسم بعامل زمني معيّن، ويدلنا المعجم على أن المفردة تلتقي مع الفرد والإفراد والمفرد والفرديّة والجوهرة الفريدة والانفراد، وتدل على العدد واحد، وهذا كله نقيض التثنية والجمع، يقول تعالى على لسان النبي زكريا ﵊: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ «١».
_________
(١) سورة الأنبياء، الآية: ٨٩ وانظر المعجم الوسيط، ٢/ ٦٨٦.
1 / 19
ويمكن القول إن المفردة هي المجموعة الصوتية التي تدلّ على معنى، وهذه المجموعة هي وحدة كلامية تقوم مقام الجزء من الكل في الجملة، وهي الجزء الأوّلي في بناء النظم والوحدة المكوّنة له، فلا يغني أحدهما عن الآخر، كما سيتّضح في طيّات البحث، وهي ليست كائنا معجميا، إذ يتبين لقارئ القرآن أنها تمتاز بدلالة جديدة يضفيها الموضوع على حياد المعجم.
أما المراد ب «جمالية المفردة»، فنقصد به الجمال الموضوعي الذي ينشأ من أجزاء الموضوع الجميل وتركيبه، وهو موضوعي لأنه يستند إلى فن الأدب وطبيعة النفس البشرية، فجمال المفردة في هذا البحث موضوعي لأنه واضح الأسباب ويعتمد على جزئيات المفردات.
أي أن المراد القيمة الفنية للمفردة في سياق البلاغة القرآنية، واستقلالها بأهمية كبيرة في مجال التأثير الوجداني.
فهو جمال حسي بصري يبين أثر الكلمة المفردة في توصيل الصورة الفنية إلى الذهن، ويشمل تجسيم المعنويات وتشخيص الأشياء، وبثّ الحركة والحيوية في الصورة.
وهو جمال حسي سمعي يبيّن جوانب موسيقية في المفردة، من حيث وقع حروفها وصفات هذه الحروف، وملاءمتها للمقام، وما تمتعت به المفردة من مدود وحركات.
كما أنه جمال نفسي للقلب فيه النصيب الأكبر في تلقّيه، وهذا الجمال ينشأ من علاقة المفردة بالموضوع أي علاقة الدال بالمدلول، وتفردها بالموضوع واستيعابها له، واتسامها بالغاية القصوى في التأثير من خلال صيغتها، وظلالها الخاصة في القرآن، وإيجازها للمعاني الكثيرة، ورفعتها في مخاطبة الإنسان، وهكذا نجد أن جمال المفردة القرآنية تصويري وصوتي وفكري معنوي.
ويعني «الجماليّ» في دراسات علم الجمال الظواهر الجميلة والقبيحة، وما يتفرّع عنهما من قيم إنسانية، إن في الحياة، أو في الفن، وقد درجت دراسات فنية على استعمال صيغة «جمالية» التي تجمع على جماليات، فقالوا:
1 / 20
جمالية الفن العربي وجمالية الأسلوب وغير هذا، وهم يريدون الصّفات الجميلة فقط.
أما ما نعنيه في هذا البحث بالجماليات فهي سمات جمال المفردة القرآنية، ولذلك قلنا جماليات لوجود التعدّد، وهو مصطلح يشتمل على الجميل وعلى القبيح من خلال تصوير القرآن له، كأشكال الكافرين وأعمالهم ومظاهر تعذيبهم.
وقد عمدنا إلى استخدام مصطلح- المفردة، ولم تذكر اللفظة، لكي نؤكّد من خلال الاشتقاق انفراد الكلمة الواحدة بالجمال الفني، ولا نرى مانعا من ذكر الألفاظ إلا هذا السبب، وقد استخدم مصطلح «المفردة» في الأدب واللغة وكتب الإعجاز إلى جانب مصطلح الألفاظ.
وقصدنا بكتب التفسير التفسير البياني، أي ما عني بالجوانب البلاغية، وتتبّعنا هذا في التفاسير الكاملة، وفي بعض الكتب المفسرة لبعض السور أو بعض الآيات فكلّ هذا نعدّه كتب تفسير بياني.
1 / 21
الفصل الأول الجوانب الجمالية في المفردة القرآنية
1 / 23