[book 1]
[chapter 1: I 1]
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب جالينوس فى الاسطقسات على رأى ابقراط
قال:
مخ ۹
إنه لما كان الاسطقس أقل جزء مما هو له اسطقس، وكان الجزء الذى هو أقل الأجزاء فيما يظهر للحس ليس هو الجزء الذى هو أقل الأجزاء بالحقيقة، لأن كثيرا من الأجزاء لصغرها تخفى عن الحس، فقد بان لنا أن مسبار الاسطقسات التى هى بالطبع والحقيقة لكل واحد من الأجسام ليس هو الحس.
مخ ۱۰
ومن ذلك أنك إن آثرت أن تأخذ زنجارا، وتوتيا، ومرتكا، وزاجا، فتسحقها جميعا سحقا ناعما حتى تصير كالغبار، ثم تروم اختبارها بحسك، ظننت أنها كلها شىء واحد.
وإن أنت لم تقتصر على هذه الأربعة حتى تخلط معها ما هو أكثر بكثير على هذا المثال الذى وصفت، خيل إليك أن هذه أيضا شىء واحد، على أنها ليست بشىء واحد.
ولذلك لما قصد أبقراط البحث عن استقصات طبيعة الإنسان، استهان بالاسطقسات التى هى أبسط الاسطقسات وأقدمها عند الحس، وبحث عن الاسطقسات التى هى بالحقيقة، والطبع أولية، بسيطة.
وذلك أن منفعة المعرفة بهذه ليست بدون منفعة المعرفة بالاسطقسات التى هى فى الحس أولية، بسيطة، كما سأبين فى كتاب غير هذا.
مخ ۱۱
وقد يجوز أن نوافق من قال إن هذه المحسوسة هى اسطقسات فى ظاهر الأمر، فأما من قال: إنها بالحقيقة اسطقسات، فليس يجوز أن نوافقه. وذلك أن الاسطقس بالحقيقة ليس هو الجزء الذى يخيل إليك فى ظاهر أمره أنه بسيط، مفرد، أول، لكنه الجزء الذى هو فى الطبع كذلك.
وذلك أتا إن قلنا: إن الاسطقس فى الطبع إنما هو الجزء الذى يظهر لكل واحد أنه أقل الأجزاء، وأبسطها، كانت الاسطقسات فيما يظهر للعقبان وللرجل المشهور بحدة البصر المسمى لنخوس، ولغيرهما من الذى هو فى غاية حدة البصر من الناس، أو من الحيوان الذى لا نطق له غير الاسطقسات فيما يظهر لكل واحد منا. فليس ينبغى إذا أن نقصد لطلب هذه، لكن ينبغى أن يكون قصدنا الاستقصات التى هى فى الطبع أولية، مفردة، لا يمكن فيها أن تتجزأ إلى غيرها، متى أردنا أن نظفر من طبيعة الإنسان، أو من غيره من سائر الموجودات بمعرفة حقيقية، ثابتة.
[chapter 2: I 2]
فقد ينبغى أن ننظر كيف السبيل إلى استخراج ذلك ووجوده.
مخ ۱۲
فأما أنا فلست أرى أن إلى ذلك سبيلا إلا السبيل التى سلكها بقراط.
وهو أنه ينبغى أن يكون أول ما نبتدئ به أن ننظر هل الشىء الذى منه قوام الأشياء استقس واحد فى صورته، أو الاستقصات كثيرة، مختلفة، غير متشابهة.
ثم ننظر بعد ذلك، إن وجدنا الاستقصات كثيرة، مختلفة كم هى، وأى الأشياء هى، وكيف أحوالها فى أنفسها، وفى اشتراكها بعضها مع بعض.
وقد بين بقراط أنه ليس قوام بدن الإنسان، وسائر الأجسام من اسطقس واحد، أولى، بهذا القول الذى أنا مقتصه.
مخ ۱۳
فإنى قد رأيت أن الأجود أن اقتص قوله بلفظه، ثم أفسره، وأشرحه.
وهذا قوله بلفظه:
وأما أنا فأقول إنه لو كان الإنسان شيئا واحدا لما كان يألم أصلا. وذلك أنه لو كان شيئا واحد، لما كان بالذى يوجد شىء يؤلمه.
وأنا أقول إن أبقراط فى هذا القول قد قصد لملاك الأمر فى البرهان على أنه لا يمكن أن يكون الاسقطس فى صورته وقوته واحدا، فوصفه بأبلغ قول وأحسنه وأوجزه.
وإنما قصد قصد إبطال ما يدعى من أمر الاسطقس الواحد فى الصورة، والقوة، وترك ذكر ما ادعى فى الاسطقس الذى هو واحد فى العدد.
لأن القول بأن الموجود كله واحد فى العدد قول فى غاية الشناعة، والقبح، ولا يقول به إلا من لا يعنى بشىء مما يظهر حسا. وذلك من أمره بين، واضح.
وأما القول بأن جميع الأشياء الموجودة شىء واحد فى الصورة، والقوة، فقد يجد القائل السبيل إلى القول به، كما قال بذلك أفيقورس، وديمقراطيس فيما أدعياه من الأجزاء التى لا تتجزأ.
مخ ۱۴
ومن أشياع هذين، وأهل طبقتهما أيضا القوم الذين ادعوا أن الاستقصات هى أجرام فى غاية القلة، لا يكون أقل منها، أو أجزاء لا تتصل، أو أجرام لا أجزاء لها.
فقصد أبقراط قصد جميع هؤلاء، فنقض أقاويلهم بقول عام مشترك، بين به أنه ليس قوام الأشياء من اسطقس هو شىء واحد فى صورته، وقوته.
وألغى ذكر من ادعى أن الموجود كله واحد فى العدد أيضا، فلم يذكرهم ذكرا أصلا، لأنه رأى أنهم فى حد المجانين الذين هم فى غاية الجنون.
فلننظر فى القياس الذى استعمله فى بيان ما قصد له من ذلك، ومناقضته لمن ادعى أن قوام الأشياء من اسطقس واحد فى الطبع، هل جرى على طريق الصواب شاءوا أن يسموا ذلك الاسطقس جرما لا يتجزأ، أو جرما لا يتصل، أو جرما لا يكون أقل منه، أو جرما لا أجزاء له.
وذلك أنا إن نقضنا الأمر العام المشترك بين أهل هذه الفرق كلها، لم نحتج إلى القصد إلى الاختلاف بينهم.
والأمر العام المشترك بين جميعهم أنهم وصفوا أن قوام الأشياء كلها من اسطقس واحد، أولى، معرى من الكيفيات، لا بياض له بالطبع، ولا سواد، ولا لون أصلا، ولا حلاوة، ولا مرارة، ولا حرارة، ولا برودة، ولا شىء أصلا من غير ذلك من الكيفيات.
مخ ۱۵
فقد قال ديمقراطيس: إن بالاصطلاح يقال اللون، وبالاصطلاح يقال الحلو، وبالاصطلاح يقال المر. وأما الشىء بالحقيقة فإنما هو الجرم الذى لا يتجزأ، والخلاء.
وهو يظن أن جميع الكيفيات المحسوسة إنما تكون من اجتماع الأجزاء التى لا يتجزأ عند من يحسها، وليس شىء من الأشياء هو فى طبعه أبيض، ولا أسود، ولا أحمر، ولا أصفر، ولا مر، ولا حلو.
فإن هذا معناه فى قوله «بالاصطلاح» كأنه قال: فيما يخيل إلينا، وعند حس الذى يحسها، لا فى نفس طبائع الأمور، وهو الأمر الذى سماه الشىء بالحقيقة، حتى تكون جملة معناه فى قوله هذا المعنى الذى أنا واصفه.
وهو أنه قد يظن الناس بشىء من الأشياء أنه أبيض، وبشىء أنه أسود، وبشىء أنه مر، وبشىء أنه حلو، وسائر ما أشبه ذلك، والشىء بالحقيقة إنما هو الواحد، وعدمه.
فإن هذا أيضا مما قد قاله ديمقراطيس، فسمى الأجرام التى لا تتجزأ شيئا واحدا، لأنها كلها عنده فى صورة واحدة. وسمى الخلاء عدم الواحد، لأنه ولا واحد من الموجود.
مخ ۱۶
والأجرام التى لا تتجزأ كلها عنده أجسام صغار، عديمة الكيفيات. والخلاء عنده مكان ما تتحرك فيه تلك الأجسام كلها إلى أسفل الدهر كله. فإما أن يشبك بعضها ببعض بضرب من الاشتباك، وإما أن يصدم بعضها بعضها فينبو بعضها عن بعض، فيفارق بعضها بعضا، أو يجامع بعضها بعضا أيضا عند تلك الملاقيات. وبهذا تحدث أبداننا، وسائر الأجسام كلها، وما فيها من الآثار، ومن الحواس.
ويدعون أن تلك الأجسام الأول غير محتملة للتأثير.
فبعضهم قال: إنها من الصلابة بحال لا يمكن معها أن تنكسر، كالذى ادعى آل فيقورس.
وبعضهم قال: إنها من الصغر بحال لا يمكن معها أن تتجزأ، كالذى أدعى آل ديودورس، ولوقيبس.
مخ ۱۷
وقالوا: إنه لا يمكن فيها أيضا أن تستحيل بضرب من هذه الاستحالات التى يعرقها ويقر بها جميع الناس، لوجود إياها بالمشاهدة، والحواس، حتى لا يسخن شىء منها، ولا يبرد، وكذلك أيضا لا يجف، ولا يرطب. وأحرى — إذ كانت كذلك — ألا تبيض ولا تسود، ولا تتغير أصلا ضربا من التغير فى شىء من الكيفيات.
فقد أحسن أبقراط فى قوله، لما قصد لإبطال قولهم، إن الإنسان لو كانت هذه طبيعته، لما كان يألم فى حال من الأحوال. لأن الشىء الذى من شأنه أن يألم، فقد ينبغى أن تكون فيه هاتان الخلتان لا محالة موجودتين، أعنى أن يكون مستحيلا، وأن يكون حساسا.
وذلك أنه إن كان لا يقبل فى حال من الأحوال استحالة أصلا، بقى على حاله التى لم يزل عليها منذ أول أمره. وليس يبقى على حاله ما يألم.
وإن كان يستحيل أيضا كالحجارة، والخشب حتى يسخن، ويبرد، ويتجزأ، ثم لم تكن فيه غريزة حس، لم يحس بالحال التى تحدث له، كما لا تحس الحجارة.
مخ ۱۸
وقد عدمت الاستقصات التى يدعيها أولئك الأمرين جميعا. وذلك أنه ليس شىء من الأجرام التى لا تتجزأ يمكن فيه أن يستحيل، ولا أن يحس.
فلو كنا من أجرام لا تتجزأ، أو من طبيعة أخرى مقردة، شبيهة بتلك الأجرام، لما كنا بالذى يألم. وقد نألم.
فقد بان إذن من ذلك أنا لسنا من جوهر واحد، بسيط، مفرد.
فهذه هى جملة قوله.
والأمر فيه بين عند جميع من تقدم فارتاض فى علم المنطق أنه يوجب ما قلنا.
لكنه لما كان من يدعى هذه الاستقصات، وأمثالها، لم يروضوا أفكارهم، وهم مع ذلك من المحك، واللجاجة بحال يظنون معها أن انتقالهم إلى الأمر الأجود أعظم البلاء، وأردؤه.
مخ ۱۹
فقد ينبغى أن نصف لهم هذا القول العام بمثالات جزئية، فأقول: إن إنسانا لو أخذ إبرة دقيقة، أدق ما يكون، وثقب بها الجلد من حيوان ما، لكان ذلك الحيوان لا محالة — لما ثقب جلده — سيتألم.
وليس تخلو تلك الإبرة من أن تكون لقيت واحدا من الأجرام التى لا تتجزأ، أو جزءين، أو أكثر من ذلك.
فلننزل: أولا أنها لقيت جرما واحدا من تلك الأجرام التى لا تتجزأ، وقد كان كل واحد من تلك الأجرام التى لا تتجزأ بحال لا يمكن معها أن تثقب، ولا تحس. فيجب من ذلك أن لا تؤثر فيه الإبرة شيئا. ولا لو أثرت فيه، كان يحس ذلك الأثر. فإن الألم إنما يكون من اجتماع هاتين الخلتين، أعنى أن يقبل القابل من المؤثر أثرا، وأن يحس الأثر فيه.
وليس يمكن فى الأجرام التى لا تتجزأ واحدة من الخلتين. فليس بألم الحيوان إذا لقيت الإبرة منه جرما واحدا من الأجرام التى لا تتجزأ.
فلننزل إذن أن الإبرة لم تلق جرما واحدا من الأجرام التى لا تتجزأ، لكنها لقيت جرمين.
وما قلته قبل فى الواحد، فقد يمكن الآن أن أقوله فى الأثنين.
مخ ۲۰
وذلك أنه إن كان ولا واحد من الجرمين يمكن أن تثقبه الإبرة، ولا لو أمكن أن تثقبه، فثقبته، كان فى طبيعته أن يحس الثقب، فإنهما يوجدان عديمين للحس، والوجع.
وذلك أنه كما لا ينفع فى حدوث الحس لقاء الإبرة لعظمين، أو لغضروفين، أو لشعرتين، أو لغير ذلك من الأعضاء التى لا حس لها، لأن الشعرتين من عدم الحس على مثل ما عليه منه الشعرة الواحدة .
كذلك لا ينفع فى حدوث الحس لقاؤها لجرمين من الأجرام التى لا تتجزأ، إذ كان ولا واحد من الجرمين حساسا.
وإن لقيت الإبرة ثلاثة من الأجرام التى لا تتجزأ، أو أربة، كان الحكم فيها كالحكم فى الحجارة، والحصى، والشعر.
فليس ينتفع بكثرتها لا فى حدوث الحس، ولا فى حدوث الألم.
وذلك أنه ليس شىء مما تركيبه من أجزاء لا تقبل التأثير، ولا من أجزاء عديمة الحس يصير حساسا، ولا قابلا للأثر.
ولو كان المركب بجملة يحس، ويقبل التأثير، وليس شىء من أجزائه التى هو مركب منها يقبل التأثير ولا يحس، لكان هذا سيكون عجبا.
مخ ۲۱
والسبيل إلى وجود ما يطلب من هذا وشبهه يكون من وجهين: أحدهما: التجربة، والآخر: القياس.
وليس يوجد ولا بواحد من الوجهين فى حال من الأحوال شىء حساس، قابل للتأثير، مركب من أشياء لا حس فيها، ولا قبول للتأثير.
لأنك لو آثرت أن تجمعع حجارة كثيرة من الصنام، أو غيره مما هو فى غاية البعد من القبول للتأثير، ثم تروم ثقب ما جمعت منها، لم يتثقب فى حال من الأحوال الشىء المركب منها، ولم تحس.
فإن جئنا إلى التجربة رأينا أنه لم يوجد قط فى هذا الدهر كله إلى هذه الغاية شىء هذه حاله.
وقد قلت قبيل إن فى القياس أيضا لا يصح هذا. وإن قبل عقل من العقول أنه ليس شىء من أقل قليل من أجزاء اللحم الذى يناله الوجع عندما ينثقب يألم ولا ينثقب، فإن ذلك لعجب.
مخ ۲۲
وأنا أقول: إنه لو كانت فى جميع الأجرام التى لا تتجزأ غريزة حسن، لكنها لا تحتمل أن تنثقب، ولا تقبل التأثير أصلا، وكان حدوث اللحم منها إنما هو من اشتباكها ببعضها ببعض، لما كان ينتفع بذلك من حالها فى حدوث الألم عند إدخال الإبرة فى اللحم.
وذلك أنه كما أنك إذا جمعت اصبعين من أصابعك، فشبكت الواحدة منهما بالأخرى، ثم رمت أن تفرق بينهما، لم يحدث لك وجع من تفرقهما، على أن معهما من الحس ما معهما.
كذلك إن فرقت الإبرة، وباعدت بين جرمين غير متجزئين، ثم لم يجرح ولا واحد منهما. فواجب أن لا يحدث للحيوان عن تلك التفرقة بين ذينك الجرمين ألم أصلا.
وإلا فليرونا جسمين من الأجسام الحساسة، أى جسمين شاءوا، قد جمعا، وشبك أحدهما بالآخر، ثم فرق ما بينهما، فحدث عن التفرقة بينهما وجع. وليس يقدرون أن يرونا ذلك فى العيان.
وإذا نظرنا بطريق القياس، وجدنا أن ذلك من أحوال المحال كله.
مخ ۲۳
فإذا كنا وإن أنزلنا أن للأجرام التى لا تتجزأ حسا، وجب أن يكون تفرقهما من غير ألم، كان نظرنا فى ذلك بالقياس، أو كان بالتجربة، فكم بالحرى لا يمكن فيها أن تقبل الألم، إذا كانت مع ذلك لا تحس.
وذلك لأن حدوث الألم، كما قلت قبل، لا بد فيه من اجتماع هذين الأمرين، أعنى الاستحالة، والحس. وليس مع الأجرام التى لا تتجزأ ولا واحد من هذين الأمرين. فواجب متى أنزلنا الأمر على أن فيها أحد أمرين أن تبقى بعد على حالها من الامتناع من قبول الألم.
وذلك أنك إن أنزلت أنها لا تقبل التأثير، لكنها تحس، لم ينلها الألم لأنها لا تقبل التأثير.
وإن أنزلت أنها تقبل التأثير، لكنها لا تحس، لم ينلها أيضا الألم، لأنها لا تحس. لأن الشىء الذى يناله الألم يحتاج فى حدوث الألم به أن يقبل التأثير، وأن يحس بذلك التأثير.
فقد وجب أنه لا يمكن أن يكون تركيب الشىء الحساس لا من استقسات لا تقبل التأثير، ولا حس فيها، ولا من استقصات لا تقبل التأثير، لكنها تحس.
مخ ۲۴
فإن المركب مما هذه حاله أيضا لا يمكن أن يناله الألم فى حال من الأحوال، من قبل أنه لا يقبل التأثير، لكنه يجوز أن يكون حساسا بالقوة. فأما بالفعل فليس يمكن فى حال من الأحوال أن يحس. مثل ما ترى فى حال بدن الإنسان. وذلك أنه حساس بالقوة. إلا أنه وإن كان كذلك، فليس يحس دون أن يؤثر فيه مؤثر.
فقد وجب أن ينتقض بهذا القول ظن من ظن أن تركيب الأجسام من أجزاء متشابهة لا تتجزأ انتقاضا بينا.
وذلك أنه وإن أدعى مدع منهم فى بعض الاسطقسات التى يدعونها أن معها حسا، وجميعها لا تقبل التأثير، فكيف يحس الحساس، وهو ممتنع من قبول التأثير فى جميع الأحوال؟
فقد بقى أنه ينبغى أن يكون تركيب الجسم الحساس إما من اسطقسات تحس وتقبل التأثير، وإما من اسطقسات تقبل التأثير إلا أنها لا حس فيها.
وسننظر فيما بعد فى أى هذين المعنيين الحق.
فأما حدوث الجسم الذى يألم، ويحس عن استقصات لا حس فيها، ولا تقبل التأثير، أو عن استقصات تحس، لكنها لا تقبل التأثير، فقد بينا أنه غير ممكن.
فأما القولان اللذان تقدما، فيعمهما أن حدوث الجسم الذى يحس ليس هو عن استقصات لا تقبل التأثير.
فيجب من ذلك أن لا يكون تركيب الأجسام من اسطقس واحد فى الصورة، إذ كان لا يجوز أن يكون تركيب الجسم الحساس مما لا يقبل التأثير.
مخ ۲۵
والبرهان على أن الشىء الواحد لا يقبل التأثير قريب، وجيز.
وذلك أنه لو كان الاسطقس واحدا، لما كان يوجد شىء ينتقل إليه ذلك الاسطقس، ولا شىء يؤثر فى ذلك الاسطقس. وذلك أنه إن انتقل، فإنما ينتقل إلى غيره. وإن قبل الأثر، فإنما يقبله من شىء غيره، فكيف يمكن مع هذا أن يبقى واحدا؟
فقد بان أن أبقراط قد أحسن فى القياس الذى استعمله، فأوجب عنه أنه إن كان شىء من الأشياء الموجودة يناله الألم، فليس تركيب الأشياء من اسطقس واحد.
فقال:
وذلك أنه لو كان شيئا واحدا، لما كان بالذى يوجد شىء يؤلمه.
فقد وجب من هذا أن الاستقصات أكثر من واحد.
[chapter 3: I 3]
ولم يتبين بعد كم عددها.
فلنبحث عن هذا فيما بعد.
على أنه خليق أن يكون الأجود أن نقدم أولا القول فى المعنيين اللذين ذكرتهما قبل، فقلت إنه يعمهما أن كل جسم يمكن أن يناله الوجع، فتركيبه عن استقصات قابلة للتأثير، والاستحالة.
مخ ۲۶
وذلك أنه يوجد فى هذا الباب بطريق القسمة جميع الأقاويل التى يمكن أن يقال إنها أربعة : أولا: أن تركيب الأجسام من اسطقسات لا تحس، ولا تقبل التأثير.
والثانى: أن تركيبها عن استقصات حساسة غير قابلة للتأثير.
ويعم هذين القولين أن تركيب الأجسام عن استقصات لا تقبل التأثير.
فلما بيننا أن ذلك غير ممكن أن يكون، صددنا الناظر عن القول بذينك القولين جميعا.
وبقى قولان:
أحدهما: أن تركيب الجسم الذى يحس عن استقصات حساسة، تقبل التأثير.
والثانى: أن تركيبه عن استقصات لا تحس لكنها تقبل التأثير.
وقد يعم هذين القولين أن تركيب الجسم الذى يحس عن استقصات تقبل التأثير.
فلننظر هل أحد هذين القولين محال، أم القولان جميعا ممكنان، إلا أن أحدهما ليس هو ممكن فقط، لكنه مع ذلك حق يقين.
وذلك هو ما بقى علينا أن نبحث عنه.
فأقول:
مخ ۲۸
إنك إن نظرت نظرا شافيا بذهنك، وجدت القولين جميعا ممكنين. وذلك أنك إن آثرت أن تمتحن أجزاء الجسم الحساس أنفسها بالتجربة، وبالقياس، وجدتها كلها حساسة، قابلة للأثر، كما قلنا قبيل فى أمر اللحم.
وإن نظرت فى الاسطقسات الأول التى منها تركيبه، وجدتها قد يمكن أن تكون تلك غير حساسة، الا أن لها أن تعمل، ويؤثر بعضها فى بعض، ويقبل التأثير بعضها من بعض على أنحاء كثيرة، مختلفة، حتى يحدث عنها بكثرة تلك الاستحالات — الحادث منها شىء بعد شىء — جسم حساس.
وذلك أن كل مركب من أشياء شتى، فلا يخلو من أن تكون تلك الأشياء باقية على حالها التى لم تزل عليها دائما. وإذا كان ذلك، لم يحدث عنه صورة محدودة لم تكن فى تلك الأشياء التى منها كان التركيب. أو تكون تلك الأشياء التى منها كان التركيب تستحيل، وتتغير بأنواع شتى من الاستحالة، والتغير. وإذا كان ذلك، فقد يمكن أن يحدث للمركب شىء آخر لم يكن فى الاسطقسات الأول التى منها كان تركيبه مخالفا فى الجنس لكل ما كان فيها.
مخ ۲۹