قال جالينوس قد علمنا ابقراط فى كتاب الكسر وكتاب الخلع أمر هذه العلل كلها بأتم القول وإنما ذكرها هنا جملة منها كما فعل ذلك فى أشياء أخر كثيرة ذكرها فى هذا الكتاب وهذه الجملة التى ذكرها هاهنا هى فى نفسها مفردة على حدة مستغلقة لإيجازها إلا أنها بينة بيانا جيدا لمن قد تقدم فقرأ ذينك الكتابين ونحن أيضا إذ كنا قد تقدمنا ففسرنا ذينك الكتابين إنما نحتاج هاهنا إلى كلام يسير ليكون إذ كارا بما قلناه هناك فإن جعل إنسان أول كتاب يقرأه من هذه الثلاثة هذا الكتاب المسمى قاطيطريون فينبغى لمؤدبه الذى يقرأه عليه أن يقول له جميع ما قاله ابقراط فى كتاب الكسر وفى كتال الخلع ما يضح به المعنى فى هذا الموضع وأما أنا إذ كنت إنما قصدت للتفسير وكان هذا مما فسرته فليس تحويله من ذينك الكتابين إلى هذا الكتاب بصواب ولكنى أذكر به فأقول إن ابقراط أراد بقوله ما يزلق المفاصل التى تنخلع وأراد بقوله ما يلتوى العلل التى تعرض فيها مثل ان يكون المفصل لا علة به وما يحيط به من الأجسام العصبانية قد تمددت وأكثر ما يكون ذلك فيمن يريد أن ينفذ — قال حنين وجدنا فى نسخة أخرى يونانية فيمن يقال إنه ينفذ فى موضع خال — وأما قوله ما يفارق فأراد به العظام التى تماس أحدها الآخر بالطبع من غير مفصل يعمها إلا أنها قد تباعدت واحدا عن الآخر بسبب آفة أصابتها وقد ذكر هو أيضا فى كتاب الكسر وفى كتاب الخلع العظام التى قد فارق أحدها الآخر وعددها بأسماءها فذكر من عظام الساعد الزند الأعلى والزند الأسفل وذكر فى طرف اللحى الأسفل العظام التى هو مؤلف منها وذكر فى القدم العظام القريبة من العقب وأما انفلات العظام كما وصفت هو من أمر العظم الصغير المسمى رأس الكتف فيكون إذا انهتك وتمزقت الأجسام التى تربط تلك العظام واحدا بالآخر فيتنحى بهذا السبب عظم عن عظم حتى يبعد عنه جدا وقد كان قبل ذلك مربوطا معه وأما قوله ما يندق فأراد به العلة التى يسميها الأطباء القريبو العهد انقصافا وقد ذكر ذلك هو فى كتاب الكسر عند آخره لما وصف الآفات الحادثة فى المرفق حيث قال انه يقصف وصار هذا القول منه سببا دعا من كان بعده إلى أن يسموا بهذا الاسم أعنى انقصاف كل كسر يكون بالقرب من موضع المفصل نافذا فى ثخن العظم كله حتى ينقد العظم ويفارق واحد جزئيه الآخر وقد يسمى الأطباء الذين هم أقرب عهدا من أولئك ما هذا سبيله من الكسر كسر قصب يندق وأما قوله وما يتخبل فبينه وبين ما يلتوى من الفرق أن التخبل كأنه شىء يماس المفصل نفسه فيلويه شيئا يسيرا ويزيله عن موضعه وقد يكون أيضا فى عظم واحد وخاصة فى الساق من الصبيان وحينئذ نربط نحن ذلك العظم برباط نضع معه عن جانبيه أشياء مستقيمة مستوية نضمه بالرباط الواقع عليها ذلك بأن نتخذ لها ألواحا رقاقا من الخشب المسمى باليونانية قيلورا — قال حنين 〈...وا〉 انه خشب العرعر — أو خشب آخر له من القوة مثل هذا ولينه وقد أجاد و〈أحسن〉 ابقراط غاية الإحسان أنه زاد فى ذكر التخبل أنه يميل إلى جانب وذلك أن هذا إن كتب كما يكتبه قوم بمنزلة ما عليه الأعضاء التى قد زمنت وإن كنت كما يكتبه قوم آخر بمنزلة ما عليه الأعضاء المائلة إلى جانب فهو على جميع ......... باليونانية 〈دروفاقاس〉 وهى التى ليس يقال لواحدها زفت لكن 〈دروفيكس〉 وأنت مخير أن تسميها كيف شئت فإنى أنا لم أقصد لأعلم الفتيان صحة لغة الاطيقين بل إنما قصدى لتعليم أشياء من أعمال الطب أنفع ما يكون وأنا أشير عليك أن تستعمل دواء المزفتين على حسب تلك الأغراض التى وصفتها لك قبل فإن رأيته فى أول مرة تستعمله قد صار به العضو حسن الانتفاج أحمر اللون فينبغى أن تقطعه على المكان وإن لم تره فعل ذلك فينبغى أن تطيله مرة ثانية وثالثة وفى بعض الناس ينبغى أن يطلى فى كل يوم وفى بعضهم يوما ويوما لا ويوما ويومين لا وذلك بحسب ما ترى أن الموضع العليل يحتاج إليه وربما تركت مرارا كثيرة أن أدخل فى عداد الأغراض التى نقصد إليها هاهنا أن العضو يصير حارا إذا دلك وإذا طلى بالزفت لأن هذا شىء يفهم لا محالة مع قولى إنه يصير أحمر اللون لأنه إنما يصير إلى الحمرة وإلى الحرارة فى وقت واحد بعينه فهذا سبيل لم أزل أسلكه دائما فى مداواة الهزال الحادث على غير المجرى الطبيعى فكنت لا أحتاج معه إلى الرباط إلا فى الندرة فإن احتجت إليه يوما ما كنت أربطه على ما وصف ابقراط فى كتابه لأنى جعلت ذهنى فى قوله وتفقدت ألفاظه حيث قال بالرباط المخالف فإنه إنما أراد بقوله مخالف أن يكون بخلاف رباط الكسر وأن رباط الكسر يبتدئ من العضو العليل ويرتقى إلى الأعضاء الصحيحة ويكون أشد لزومه وضغطه فى موضع العلة فالرباط إذا المخالف لهذا ينبغى أن يكون فى أول مرة إذا وقعت الخرق على البدن مخالفا لرباط الكسر وذلك بأن تكون الخرق لا يوضع مبدأها على موضع العلة كما من عادتنا أن نفعل فى القروح وفى الكسر وفى الأثار الحادثة عن دم يحتقن تحت الجلد وفى الفسخ والرض وفى سائر العلل التى ذكرناها قبل هذا بقليل ونتحرى بعد ذلك أن لا نغمز على الموضع العليل فضل غمز بل نرخى الرباط فى هذا ونغمزه ونشده فى الموضع الذى منه ابتدأ الرباط وهو الموضع السليم ثم لا نزال كلما أمعنا أرخينا الرباط فى الموضع السليم حتى نصير إلى الموضع العليل فإذا بلغ الرباط إلى موضع العلة جعلنا لفنا للخرق على ذلك الموضع أرخى ما يكون وفى الشتاء أربطه وألفه على العضو العليل أيضا ليدفأ ويسخن والأمر فى أنه يكون رخوا ليس معه من الشدة والغمز شىء ولو أقل ما يكون معلوم وأما فى الصيف فإنى أربط الموضع السليم رباطا يعصر ما فيه من الدم إلى الموضع الذى يحتاج أن يغتذى وأما الموضع الذى أريد مداواته فليس أربطه لأنى أتخوف أن أسخنه بالرباط بأكثر مما ينبغى فأحلل ما فيه من الدم فأما إذا كانت اليد أو الرجل قد دقت وقضفت بأجمعها فإنى أربط اليد والرجل الأخرى التى بحذاءها وأجعل مبدأ الرباط من أسفل وارتقى إلى فوق وأبلغ بالرباط فى الرجل إلى الأربية وفى اليد إلى الإبط والكتف لأن العروق المنقسمة من العرق الأعظم منها ما ينقسم فى أسافل البدن عند عظم العجز أقساما تصير إلى الرجلين على مثال واحد لتغذوها ومنها ما ينقسم فى أعالى البدن عند الترقوة أقساما تصير إل اليدين على مثال واحد لتغذوها فمتى منع وحصر الدم الجارى إلى اليد أو الرجل الواحدة من أن يجرى إليها در وجرى فى العرق الآخر الذى يأتى اليد أو الرجل الأخرى ومن أجل ذلك ليس ينبغى أن يكون الرباط الذى نربطه الرجل السليمة بشديد ولكن بمقدار ما لا يضغطه ضغطا يؤلم ويوجع وأما الرجل العليلة فينبغى أن تكون إما مكشوفة وإما مغطاة بشىء من صوف يبلغ إلى الفخذ وذلك عندما يكون الهواء المحيط باردا فإذا لم يكن باردا فالأنفع للعضو أن يكون مكشوفا وأن يدلك دائما ويكون الدلك أولا بمناديل ثم من بعد ذلك بأدوية حارة متى كان عسير القبول للحرارة وأما إذا كان يسخن سريعا فحسبه أن يدلك بزيت وحده وقد خلط معه من الشمع شىء فإنه إذا كان كذلك كان أبقى وأقل تحليلا وعلى هذا القياس تفعل هذه الخصال كلها فى اليدين أيضا فإن اليد السليمة ينبغى أن تربط أيضا كما ربط الرجل واليد العليلة ينبغى أن تسخن دائما بالحركة والدلك فإذا لم يكن العليل فى غاية الجهل فينبغى أن تسائله وتستعلم منه هل يحس بعد بالحرارة فى العضو الذى يعالج قائمة على حالها أم يحسها قد سكنت سكونا ظاهرا فإن قال أنها قد سكنت فينبغى فى ذلك الوقت أن تعاود استعمال الأشياء التى تسخن العضو وتقويه وهى أربعة أجناس أحدها الدلك بالمناديل والآخر صب الماء الحار والثالث الدلك بدواء حار أو بزيت والرابع طلى الدواء المسمى دروفقيس البسيط فإن رأيت أن العضو الذى تعالجه قد برد برودة كثيرة فليكن هذا الدواء مؤلفا من أدوية كثيرة فيقع فيه قفر اليهود وشىء من كبريت لم يقرب النار وعاقر قرحا وهذا الطريق أنا أعلم علم الحق به وأتيقنه أن الأعضاء التى قد هزلت ودقت ينبغى أن تعالج به فإنى قد عالجت به كثيرا من الناس فبرؤوا فأما كلام ابقراط فإنى لست أثق من نفسى أن أحكم فى تفسيره بالشرح البين حكم يقين لعلمى بأن كل تفسير يشرح به قول غامض فهو يبلغ إلى حد الإقناع فأما علم يقين يوثق به فليس يكون معه وجل المفسرين لهذا الكتاب إنما فسروا هذا القول الذى أريد شرحه على هذه النسخة كيما إذا ذابت من الظاهر بأكثر مما هزلت وسائر ما بعد ذلك ومعنى هذه النسخة معنى سوء فأنا لا أشرح القول عليها لكن أشرحه على ما يكتبه قوم بزيادة شىء يصح به المعنى فتصير جملة القول على هذا كيما تكون تلك التى قد هزلت وذابت من فقد ما يجرى إليها وسائر ما بعد ذلك ومعنى ابقراط فى قوله تلك التى قد هزلت وذابت أى الأعضاء التى قد نهكت ودقت بسبب عدمها للحركة وفقدها الغذاء ومعناه فى قوله ما يجرى إليها من الدم إنما هو أنه ينبغى أن تداوى هذه بإجراء الدم إليها وتوفيره عليها ومن البين أن ذلك إنما يكون بأن يأتى الأعضاء العليلة دم أكثر مما كانت ستحتاج إليه لو أنها كانت باقية على حالها الطبيعية وإذا كان ما يصل إليه من الدم ما له هذه الحال عرض من ذلك أن يميل الهزال إلى الخصب والتزيد بعد أن يربط الموضع برباط مخالف للذى كان يربط به قبل ذلك وقد بينا قبل هذا بقليل مخالفته التى يجب ضرروة أن تكون قوته تابعة لها مخالفة لقوة الرباط الأول وإذ كان الرباط الأول إنما كان يدفع الدم من العضو العليل وهذا الرباط الذى أراده هاهنا موصل إليه من الدم أكثر مما كان يصل إليه لو كان على مجرى طبيعته وذلك أنه ما دام كان يجرى على مجرى طبيعته قد كان يكتفى بالدم الذى هو حاصل فيه فكان لذلك لا يحتاج إلى أن يجرى إليه من الدم أكثر من المقدار الذى يستغرقه فى غذائه وفيما تحلل منه وأما الآن فإذ كان العضو العليل قد خوى أو فقد الدم فينبغى أن يكون ما يجرى إليه من الدم أكثر من ذلك المقدار كيما لا يجرى أمره على ما كان قبل ذلك من أنه يغتذى فقط لكن يعاود الاغتذاء الذى يزيد به مع أن ما يتحلل منه أيضا فى هذا الوقت يجب ضرورة أن يكون أكثر إذ كان العضو أسخن إسخانات متصلة لأن جميع ما يفعل به فى مداواته هو مما يسخنه أعنى الدلك والحركة والأدوية ورقة الزفت والماء الحار الذى يصب وعسى أن يكون إنما نجده يستعمل هذا الماء لأن الحمام كان على عهده عزيزا وأما أنا فلم أزل أكتفى فى هذا بالأبزن فى الحمام فإنه يبلغ لى ما أحتاج إليه من إسخان الأعضاء التى أداويها بالمقدار القصد وفى إذهاب الإعياء الذى ينالها من البسط والحركة لأن هذه الأعضاء ينبغى أن تحرك بأفعالها التى هى معتادة لها وليس ينبغى أن يفعل بها ذلك فى مرة واحدة دفعة كل يوم بل مرارا كثيرة ونتحرى فى استعمال الحركة أيضا ما نتحرى فى الدلك من أن نداوم عليها حتى تسخن بها الأعضاء ثم نمسك عنها ونترك الأعضاء تستريح وهذا هو الوجه فى تصييرى كلام ابقراط موافقا مطابقا للمداواة الحق التى قد ثبتت وأظهرت أنا قوتها وأثرها بالفعل عند ما عددت وأحصيت أعضاء كثيرة من الناس قد كانت هزلت ودقت من الرباط والسكون الطويل المدة فرددتها إلى معاودة الاعتدال والتزيد وهذا موضع ينبغى لى أن أذكر فيه المعانى التى تأولوها فى هذا الكلام وذهب إليها المفسرون لهذا الكتاب وان أكثرهم على ما وصفت إنما تكلموا بالهذيان فقط وتركوا قول ابقراط بلا تفسير ونفر منهم يسير تعاطوا أن يشرحوا اللفظة بعد اللفظة منه فخالفوا حاصل معنى القول كله على هذا السبيل زعموا أن ابقراط يأمرنا أن نجعل أول شىء نبتدئ به فى مداواة الهزال الرباط كيما تكون الأعضاء التى قد ذابت أى قد هزلت تتغير وتنقلب إلى خلاف حالها بأكثر مما كانت قبل ذلك تدق وتقضف وذلك زعموا لأن من العلل عللا كثيرة تكون مداواتها على هذا الوجه ثم يتمثلون فى ذلك بقوم يعرض لهم الغثيان وتقلب النفس فيداوون بدواء يقيئ وقوم آخر عرض لهم إسهال من أخلاط حادة فدوووا بدواء يسهل وقوم ممن أصابهم السعال دوووا بأدوية تهيج السعال أشد من سعالهم ومنهم طائفة يأتون فى هذا الموضع بقول قاله ابقراط فى كتاب الفصول حيث قال وربما كان صب الماء البارد الكثير المقدار فيمن به تشنج من خلف وقدام إذا لم تكن به قرحة وكان شابا خصيب البدن يرد الحرارة فترجع من قوة والحرارة يتحرى بها هؤلاء فيقولون إن كانت المداواة ليس تكون أبدا بالأشياء المضادة للعلل قد تكون أيضا بأشياء مشابهة لها فابقراط هاهنا يأمرنا أيضا أن نداوى الهزال بأن نبتدئ من ربط العضو برباط يمكن فيه أن يهزله أكثر كيما يكون العضو بسبب ما يجرى ومعناه عندهم أى بسبب أن الذى يجرى إليه يكون يسيرا يذوب ويهزل ثم أنه من بعد ذلك يرخى رباطه فيبتدئ حينئذ فى معاودة الاغتذاء والتزيد ويميل إلى الخصب ولما رأى هؤلاء الذين فسروا هذا القول هذا التفسير أن قول ابقراط برباط مخالف ليس يمكن أن يصح على تفسيرهم أصلا ولا له عندهم تأويل غيروه وكتبوا مكان رباط مخالف حال قنية مخالفة فصارت لهذا القول ثلاث نسخ مختلفة واحدة فيها رباط مخالف والأخرى فيها حال قنية مخالفة والثانية فيها غمز مخالف فإنا قد نجد ذلك فى بعض النسخ وأما الذين يكتبون بحال قنية مخالفة فليس هذا القول عندهم يرجع على الرباط لكن على العضو العليل فيزعمون أن هذا العضو إذا كانت حاله فى قنيته حالا مخالفة للحال التى كان عليها قبل ذلك مال إلى الخصب وهذه الحال زعموا أنها إنما يكتسبها هذا العضو بالرباط الذى يذوبه تذويبا يسيرا كأن الأعضاء التى هزلت ونحلت بفقدها الغذاء لم يكن السبب فيما نالها من ذلك مثل هذا الرباط فتحتاج لذلك أن نجربه فى هذا الوقت بل هذا إذا كان الرباط الذى يسميه قوم رباط الكسر ويخصونه بهذا الاسم وهو رباط عام للكسر ولعلل أخر كثيرة كما بينا قبل من العلل التى دخل فيها أثر الدم المحتقن تحت الجلد والهتك والفسخ قد تهزل به الأعضاء وتدق (وأى) معنى يكون لقول هؤلاء انه بهذا الرباط بعينه تكتسب الأعضاء التى قد عدمت الغذاء فتجلب ابتداء معاودة الاغتذاء وكيف يفهم هذا وقد دعا بعضهم إلى أن جعلوا نسخة الكلام على هذا كيما إذا ذابت مما يجرى أكثر مما قضفت من تلقاء أنفسها وسائر ما يتلو ذلك وظنوا أنهم إذا قالوا ان الأعضاء قضفت من تلقاء أنفسها وان هذه المداواة التى يعلمناها ابقراط هاهنا ليست مداواة عامية تشتمل على جميع أنواع الهزال بل إنما هى مداواة الهزال الحادث من تلقاء نفسه أفلتوا وتخلصوا من قبح القول وشناعته فأفحشوا القول الكلى العام وحصروه فى أمر ضيق جدا يسير جدا وذلك أن الأعضاء التى تصير إلى الهزال والقضافة من سبب آخر قليلة جدا وأما سائر الأعضاء كلها فإنما تصير إلى مثل هذه الحال بسبب الرباط الطويل المدة وبسبب سكون الأعضاء العليلة وأن يكون ابقراط ذكر هاهنا هذه الأعضاء هو أولى وأشبه من أن يكون ذكر غيرها إذ كانت هذه أخص بتلك التى ذكرها قبل وأقرب إليها والذى كان فى ذكره إلى هذه الغاية إنما كان الكسر وغيره من بعض العلل المحتاجة على ربط كل واحد من الأعضاء التى تحدث فيها برباط شبيه برباط الآخر فهذه العلل خاصة هى التى تتصل بها وتعقبها قضافة الأعضاء ونهوكها فلذلك قد أصاب فى ذكره لنا وتعليمه إيانا كيف السبيل فى مداواة القضافة والنهوك وأكثر شىء يجد الإنسان السبيل إلى مذمته من أمر القوم الذين يظنون أن ابقراط يستعمل الرباط المنهك هو ما أصف لك أقول إن الذى قصد له ابقراط هاهنا إنما هو أن يعود إلى الأعضاء التى قد نهكت ودقت فيغذوها وهذا شىء لا يمكن أن يكون دون أن تقوى قوتها ويصل إليها من الشىء الذى يغتذى به مقدار غزير وهذا الرباط الذى يظن هؤلاء القوم أن ابقراط يستعمله هو رباط يقطع جرية الدم ووروده ويضعف القوة والرباط الذى أقول أنا إن ابقراط أراد بقوله رباط مخالف الرباط الذى يحدث عنه القضافة ليس يفعل ولا واحدة من هاتين الخصلتين لأنه رباط ينبغى أن يكون ابتداؤه من المواضع السليمة لا من المواضع المؤوفة ويكون وقوعه عليها من مسافة بعيدة ثم أنه إذا غمز على المواضع فى ابتدائه غمزا شديدا بمقدار لا يؤلم ولا يوجع بتة ألما ووجعا يمكن أن يحدث عنه ورم أمعن حتى يصير إلى موضع العلة ولا يزال فى إمعانه يسلس ويقل شدته أول فأول وهاهنا ... أخرى هى مما يطعن به على تفسير هؤلاء وهى أن ربط الرجل الصحيحة مع الرجل العليلة لا معنى له بحسب تفسيرهم وذلك أنهم زعموا أن ابقراط إنما يستعمل الرباط هاهنا ليذوب به الأعضاء التى قد دقت ونهكت ذوبانا يسيرا وهذا شىء معا أن رباط الرجل الأخرى لا ينتفع به فيه قد يضر أيضا لأن الدم الذى كان يصل إليها قبل الرباط يندفع ويصير كله فى وقت الرباط إلى الرجل العليلة والمثالات التى تمثلوا بها مثالات سوء والأمر فى رداءتها واضح وذلك أنه ليس منها واحد يشبه المعنى الذى قصد ابقراط ليخبرنا به ويعلمناه وذلك أن المعنى والرأى الذى عليه مبنى الأمر فى أصحاب الغثيان وتقلب النفس قائم صحيح أنا إنما نداويهم بدواء القىء لأنا نريد أن نخرج عن المعدة فى دفعة واحدة جميع الرطوبة التى عنها يحدث ذلك الغثيان والتهوع إذ كانت رطوبة الأمر فيها معلوم أنها متشبثة بجرم المعدة تشبثا يعسر تخلصها منه وكذلك متى كانت تتحلب وتنصب إلى المعدة رطوبات حادة تجرى إليها أولا فأولا فتزعجها وتحركها على الخروج فلاستفراغ هذه الرطوبات معنى قائم يصح فى القياس كما أن الرطوبة التى تحدث سعالا كثيرا يستنظف وينقى منها الصدر دفعة بالأدوية تهيج سعالا أشد من ذلك وليس من هذه الخصال واحدة هى الخصلة التى زعموا أن ابقراط أرادها نظيرتها ولا شبيهة بها أعنى قولهم انه قد ينبغى لنا أن نزيد المواضع التى قد دقت وقضفت هزالا ونهوكا بتشديدنا له بالرباط ليصير بذلك إلى معاودة الاغتذاء فإن الرباط الذى نقضف به المواضع قضافة يسيرة ليس مما يمكن فيه أن تقوى به قوة الأعضاء ولا أن يصل به إليها شىء تغتذى به فأما ذكرهم للتشنج من خلف ومن قدام فهو فى غاية البهيمية وغاية البعد عن الصواب لأن هذا مما يدلون به على أنفسهم أنها ممن لا أدب له ولا خبر بحذق ابقراط وطريقه الذى يبنى عليه أمره فى الطب إذ كان ابقراط يقول ان الضد شفاء لما هو ضده وكنت أنا قد بينت فى كتاب حيلة البرء أن الأمر على ما قال إلا أن بعض الناس لما لم يفهموا قوله ولم يعرفوا ما قوته ومعناه أخذوا فى مناقضته فعرض لهم العارض العام الذى يعرض لجميع من يعجل فى الرد والمناقضة ممن يلتمس الوقيعة فيما لا خبر له به فلم يتعلمه قط فقول ابقراط ما قاله فى التشنج من خلف وقدام ليس هو ما ينتقض به قوله ان الضد شفاء بل إنما يصح ويثبت به وقد قال ابقراط فى هذا الفصل نفسه قول صراح ان الماء البارد يرد الحرارة فترجع موفورة والحرارة بها يتحرى هؤلاء فهذه الحرارة التى تشفى الأمراض الباردة نحن نستدعيها مرة بالدلك ومرة بدواء يسخن أو بالرياضة أو باستعمال صب الماء الحار بمقدار كثير وخاصة ما الحمات ما كان منها فيه قوة الكبريت والقار ومرارا كثيرة على ما وصفت قد نستدعى هذه الحرارة بأن نطلى على العضو الذى نريد إسخانه زفتا وربما استدعيناها بصب الماء البارد إلا أن سائر تلك الأشياء الأخر كلها لما كانت إنما تسخن بقوتها صارت نافعة دائما للأعضاء والعلل المحتاجة إلى الإسخان فأما الماء البارد فإنه بحسب ما يوجبه طبعه إنما يبرد البدن فهو بهذا السبب إنما يقع له أن يكون استعماله فى هذه العلل نافعا فى الندرة إذا تهيأ أن يكون البدن الذى يصب عليه حرارته الغريزية قوية ليس إلا وقد قال ابقراط نفسه ان الماء البارد دائما ربما يكون فى البدن الخصيب ولم يقل أيضا انه نافع لهذا البدن فى كل الأوقات لكن فى وسط الصيف ومن تراه لا يعلم ومن لم يقل حين ذكر أمر الاستحمام بالماء البارد فى كتابه أن الاستحمام بالماء البارد يفعل أحد أمرين إما أن يضر بالتبريد وإما أن يعود به الحرارة من عمق البدن وهى أكثر مما كانت فذلك أنه إن كان البدن كثير الحرارة عرض له عند صب الماء عليه أن تكون حرارته لا تنهزم من برودة الماء ولا تقهرها البرودة فإذا استحصف وتكاثف الجلد واحتقن ما كان يتحلل منه تزيدت الحرارة وإن كانت حرارة البدن أقل من أن تحتمل ما يلقاها من برودة الماء وأن تثبت لها وصلت قوة ذلك الماء البارد إلى عمق البدن فحدثت به من ذلك علل باردة وعسى أن يكون قولى ما قلت من هذا فى هذا الموضع فضلا إذ كنت قد بينت فى موضع آخر على ما وصفت أن الأشياء التى تشفى شفاء أولا فينبغى لا محالة أن تكون ضدا لما تشفيه والأمر فى قولنا ان الشىء يشفى شفاء أولا معلوم أنا إنما نريد بذلك ما كان يشفى من غير واسط بينه وبين ما يشفيه هو خلاف هذا لأنه إنما يشفى بالعرض لا بنفسه وإذ كان الأمر على هذا فالقوم الذين ذكروا القىء والإسهال والأدوية المهيجة للسعال وصب الماء البارد إنما كان منهم هذيانا إذ كانت هذه أشياء قد تكون مرارا كثيرة صوابا وليس تشبه هذا القول الذى نحن فى شرحه فى قليل ولا كثير لأن الذى يحتاج إليه فى هذا القول إنما هو أن يبين كيف صار الرباط الذى ينهك نهكا معتدلا يحدث لقوة الأعضاء صحة تقوى بها ويجلب إلى الأعضاء من الدم مقدارا أكثر فما داموا لا يقدرون أن يبينوا هذا فإثباتهم فى كتبهم المثالات التى تمثلوا بها إنما كان باطلا مع أن المثال ليس يقوم به برهان يعرفه الإنسان معرفة يقين وقد بينت ذلك فى المقالة التى ذكرت فيها أمر المثال ومع هذا أيضا إنما ينتفع بالمثال ان يكون الإنسان إذا خاطب من لا يفهم أتاه بمثال يفهم به ما يريد إفهامه إياه وهاهنا قوم يظنون أنا إنما نستعمل المثالات لنصحح ونحقق بها ما يحتاج إلى التثبيت وخاصة من كان منهم شبيها فى مذهبه بأصحاب الريطوريقى وهؤلاء فى ظنهم هذا على غلط ومباينة للحق كله وكذلك القوم الذين يدعون أن فلاطن يجعل أكثر براهينه باستقراء الأمور الجزئية فإنا نحن قد بينا أن فلاطن أيضا إنما كان يستعمل استقراء الأمور الجزئية ليوضح بذلك ما يريد فمن أحب أن يعرف قوة استقراء الأمور الجزئية وقوة المثال باستقصاء فلينظر فيما ذكرناه من أمر كل واحد من هذين فى غير هذا الكتاب وأما أنا أعود إلى ما قصدت له وأسئل جميع من ينظر فى كتابى هذا أن يستوفى قراءة جميع ما قلته إلى هذه الغاية بعناية وفهم ثم آخذ فى تفسير القول الذى يتلو القول المتقدم فإنه يكون شاهدا لصحة هذا التفسير الذى فرغت منه وكيما يكون جميع هذا القول واضحا ليس أنسخه كله فى موضع واحد بل أقطعه أجزاء وأفسر كل جزء منه على حدة
قال ابقراط والأجود أن تتحرى فى الموضع الأرفع بمنزلة ما هو أرفع من الساق وفى الفخذ وفى الرجل الأخرى أن تربطها معا كيما تكون أكثر مماسة ويكون هدوءها على مثال واحد وحبسها من الغذاء وقبولها إياه على مثال واحد
مخ ۸۲