وأنا مفتتح قولى بقول قاله أبقراط، فإن هذا الرجل قد كان يعد فيما مضى فى عداد الأفاضل من المتألهين، وإن لم يكن له فى زماننا ذاك القدر. وجملة القول الذى قاله إنه ينبغى على المتطبب أن يكون شأنه أن يتقدم فيستدل على ما يكون من أمر المرضى قبل أن يكون. وأما نسق لفظه فهو هذا «إن الطبيب إذا تقدم فعلم وسبق فأخبر المرضى بالشىء الحاضر مما بهم، وما مضى وما يستأنف، وعبر عن المريض بكل ما قصر عن صفته، وثق منه بخبرة وبصيرة فى أمر المرضى، ودعا ذلك منه المرضى إلى سكون أنفسهم وإلى الاستسلام فى يديه. وكان علاجه لهم على أفضل الوجوه، إذ كان يتقدم فيعلم من العلل الحاضرة ما سيكون من أمرهم.»
وليس يشك أحد فى أن الذى يعلم أمور المرضى على ما ينبغى فهو أولى الناس بأن يثق به المرضى، ليس لمعرفته بأمورهم فقط، لكن لأنه مع ذلك أيضا حرى بأن يستعد للشىء المزمع بأن يحدث بهم قبل وقت حدوثه بزمان طويل. وكما أن الحاذق بتدبير السفن فى البحر عندنا ليس الذى يجهد نفسه فى تدبير السفينة إذا عرض للبحر اضطراب، وذلك أنه لا يؤمن عليه أن يغلبه شدة قوة الريح وحركة البحر. لكن الحاذق عندنا هو القادر على أن يعلم كون تلك الحركة قبل وقت حدوثها بمدة طويلة بالمخايل الدالة عليها. فإن وجد مرسى قريبا، بادر فأرسى فيه. وإن منعه من ذلك عظم اللجة، احتال بكل حيلة لإحراز سفينته وحياطتها من الآفات وهو فى مهلة، قبل أن يقع الهول والاضطراب. كذلك أفضل الأطباء من علم بما سيحدث بالمريض، فاستعد له قبل ذلك بمدة طويلة وتأهب وهيأ ما يحتاج إليه لشىء شىء مما يحدث.
مخ ۴۸