قال جالينوس إن أكثر الناس إنما يونون فى إغفالهم أمر فضائل النفس ومصالحها من الجهل بها. فلو كانوا إنما يونون أيضا فى توانيهم فى أمر حفظ صحة أبدانهم من جهل بها أو استقلال لقدرها، لكان عجبى منهم أقل. ولكنى وجدتهم قد بلغ من تعظيمهم لها أن قوما من الخطباء ألفوا قصائد فى شكر الله والدعاء. ففضلوا النعمة فى الصحة على جميع النعم، وقدموا طلبها على جميع ما يطلب، فلم يذمهم الناس على ذلك، بل حمدوهم وقبلوا قصائدهم، وجعلوها مما يقرءونه فى هياكلهم: وتقرأها من كان قبلنا فى هيكل اسقلبيوس. فاشتد عجبى منهم، إذ كان هذا قدرها عندهم، ثم قد بلغ من توانيهم فيها وإغفالهم لها، أنهم لا يطلبون علم الصناعة التى يستعيدونها بها، ولا يحسنون أن يميزوا بين الأفضل من المتعاطين لها وبين الأخس. وقد كان المتعلمون لهذه الصناعة فى القديم، قبل أن يغلب على الناس ما قد غلب عليهم من إيثار الرفه، هم أفاضل الملوك وأولاد المتألهين من أصلابهم والمنسوبين إليهم، لاستحقاقهم ذلك بالفضيلة البارعة فيهم. وكانوا أولئك يؤدبون أولادهم بها، ولم يكن فى ذلك الزمان أحد من الملوك يرى أن تعاطيه هذه الصناعة، وهى مهنة افلن واسقلبيوس، قبيحا. وأما الآن فحطت مرتبتها إلى العبيد وأخساء الناس. وصار الملوك يستحيون من تعلمها. وهم فى ذلك إلى هذه الغاية يستشفون بالطب الإلهى. فليس تجد أمة من الأمم، ولا بلدا من البلدان، إلا وفيه مواضع يطلب فيها الشفاء بالطب الإلهى، بعضها مسماة باسم اسقلبيوس وبعضها مسماة باسم افلن. وليس يوجد فى زماننا هذا أحد من أهل اليسار يرى تعلم هذه الصناعة: لكن جميعهم يستنكفون منها. ولا تجدهم أيضا، مع كراهتهم لتعلمها، يرون على أنفسهم أن يميزوا بين الأفضل والأخس من أطبائهم. لكن منهم قوما يرومون البحث عن الطبيب الذى يرجى عنده غنى حين يرهقهم المرض. ومنهم من لا يبحث عن ذلك، لكنه يستسلم فى يدى من قد أنس به من الأطباء، كأن مبلغ علم جميع من تعاطى هذه الصناعة مبلغ واحد. ومنهم قوم يكون منتهى فكرهم فى هذا أن يظنوا أن المتعاطين لهذه الصناعة قد يتفاضلون. إلا أنهم إنما يميز بينهم، ويمتحن الأفضل منهم بأشياء خارجة عن أعمال الطب بعيدة منها. فيظنون أن الأيسر من الأطباء أفضل من المقل الأفقر، والمقبول عند الكثير من عظماء أهل المدن وأغنيائهم أفضل ممن لم يكن كذلك. ثم لا ينظرون فى سبب خصوصية الطبيب المقبول عند من ذكرنا، وتقديمه على غيره. هل كان إيثاره إياه وتقديمه له على علم بتمييز ما بين الأفضل والأخس من الأطباء، واختبار منه لذلك الطبيب؟ أو إنما كان باغترار من قول قائل مدحه عنده، من خادم أو وزير؟ أو شفع فيه عنده شافع فقبله من غير أن يمتحنه؟ وأكثر أهل دهرنا يعتمدون فى محنة الطبيب على غيرهم: ويحيدون عنها بأنفسهم، وذلك أنهم يشعرون ويحسون من أنفسهم بأنه ليس عندهم علم ولا معرفة يمكنهم بها تمييز هذا وأشباهه. وهم فى ذلك، إذ كانوا على ما هم عليه من الجهل، مصيبون.
مخ ۴۴