13
وعلى ذلك فالتغير المطلوب لا بد أن يكون أولا: شيئا ممكنا، ولا بد ثانيا: أن يكون مما نستطيع بقدرتنا الخاصة تحقيقه. لكن قد يعترض على ذلك بأننا قد لا نحتاج في بعض المواقف الإرادية إلى تغيير الوجود؛ لأن الوجود الحاضر المستمر قد يكون هو نفسه أن يستمر على هذا النحو، وبالتالي فلن يكون هناك تغيير مع أن هناك إرادة. لكن ذلك خطأ، لأن الحاضر لو كان سيستمر من تلقاء نفسه فلن يكون للإرادة معنى - وبالتالي فلو أنني قلت: «إني أريد» هذا الحاضر المستمر نفسه، فلن يكون لهذا القول معنى، ما لم يكن يعني أنه بدون فعل الإرادة فإن هذا الوجود الحاضر سوف ينتقل إلى وجه آخر مخالف لما هو عليه، وإذا كان ذلك كذلك فإنني في منعي تغيير الحاضر أكون قد تسببت في تغيير ما. (12) (3) لا يكفي للموقف الإرادي أن تكون عندي فكرة عن تغيير ما، ولا يكفي أن يحدث هذا التغير في الموجود، وإنما لا بد أن يحدث التغير كما هو موصوف في مضمون الفكرة. ويجمل بنا هنا أن نلفت النظر إلى أن فكرة التغير أو التغير ذاته، نادرا ما يتحدان، هذا إذا اتحدا على الإطلاق؛ فالتغير عادة يتضمن شيئا أكثر بكثير من فكرته. والواقع أن التغير معقد للغاية لدرجة يصعب معها تحديد ما يشمله تحديدا دقيقا. فلو أنني أردت أن أذهب إلى المكتبة لكي أقرأ فيها كتابا، فمن الواضح أن الفعل الذي سأقوم به سوف يشتمل على عدد غير معين من الحركات التي لم أكن أقصدها بطريقة مباشرة. وعلى ذلك فنحن حين نقول إن التغير لا بد أن يحدث كما هو موصوف في مضمون الفكرة، فإننا مع ذلك نسمح بزيادة كبيرة تعرف بالتداعي اللازم لمضمون الفكرة، ومثل هذه الزيادة لا بد أن ينظر إليها على أنها مرادة هي الأخرى، إذ على الرغم من أنها ليست جزءا جوهريا من الفكرة، فإنها لا تكون مرادة: افرض - مثلا - أن صيادا أراد أن يصطاد بعض الطيور، لكنه حين أطلق الرصاص قتل شخصا تصادف مروره لحظة إطلاق النار، إن هذه الواقعة الأخيرة، لا هي التغير المقصود، ولا هي تداعيه اللازم؛ ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون مرادة. (13) (14) وفضلا عن ذلك فإن التغير الذي يحدث طبقا لمضمون الفكرة لا بد أن يكون نهاية لعملية كانت بذاتها فكرة التغير الموجودة في الانتباه. وهذا التغير لا يكون إرادة إلا حين يتحقق بنشاط الفرد المنتبه، بحيث يكون الفرد إيجابيا، أعني سببا كافيا لإحداث العملية، وعلى ذلك فإننا في حالة إحداث تغير معين يكون لدينا من ناحية: فرد منتبه إلى فكرة تغير، ويكون لدينا من ناحية أخرى: تحقق هذا التغير نفسه، والانتقال بين هذين الجانبين هو الذي يكون الفعل، وهذا الانتقال نفسه هو الذي سبق أن اعترفنا بفشلنا في تحليله، لكن من الواضح تماما أنه ليس مجرد تلاحق سببي.
افرض أن لدي فكرة عن شخص، نسيت اسمه، لكني أريد أن أتذكره، إنني في هذه الحالة لدي فكرة الشيء المطلوب، لكن ليس لدي وجوده، فحالتي الجسمية الراهنة تخالف المضمون المطلوب، ولإحداث النتيجة التي أريدها فإنني أقلب هذه الفكرة الموجودة في ذهني، بحيث تستدعي الأوضاع التي ترتبط بها شيئا فشيئا، حتى يحضر الاسم الذي كنت أبحث عنه، وهذه النتيجة وصلت إليها عن طريق الفكرة الأولى الأصلية التي كانت بداية لعملية نهايتها النتيجة المطلوبة. وهذه العملية أحداثها الفرد المنتبه إلى فكرة أصلية، لكن لو أن الاسم عرض لذهني دون أن يكون مطلوبا، فلن يكون هناك إرادة في هذه الحالة لأنه ليست هناك فكرة تحققت عند وقوع الاسم؛ ومن ثم فإن ورود الاسم إلى ذهني سوف يكون حادثة وليس فعلا إراديا، سيكون حادثة دون فاعل أحدثها. ولنكرر ما سبق أن قلناه من أنه في حالة الإرادة لا بد أن يكون هناك شيء مطلوب، بحيث يكون الحصول عليه مؤديا إلى تغير في تسلسل الظواهر، وبحيث يكون ظهوره إلى الواقع نتيجة للفكرة نفسها التي كانت موضوعا لانتباه الفرد، الذي كان لهذا السبب فردا نشطا وفعالا. ومن ثم فإن تداعي الأفكار لا يكون إرادة، ما لم تكن نهاية السلسلة تعتمد على وجود فعلي كان مقصودا في بدايتها، وما لم تبدأ العملية من الفكرة الأصلية.
وحين ينصب التغير المراد على العالم الخارجي، كإحداث حركة معينة في الأجسام المادية - سواء اقتصرت على جسم الفاعل نفسه، أو امتدت إلى أجسام أخرى - فإن هذا التغير لا بد أن يحدث نتيجة لفكرة عن التغير انتبه إليها الفرد. إذ إن حدوث الحركة التي تفكر فيها ليس تسلسلا طبيعيا للظواهر الموجودة أمامي وإلا لكانت الظواهر عبارة عن «أحداث» ولا يقدم وجود الفعل. والفرد حين ينتبه إلى التغير المطلوب، وهو إحداث الحركة لا يكون فقط سابقا على هذه الحركة لكنه يكون فاعلها وسببها الكافي ومحدثها. يقول وليم جيمس: «إن أي تمثل للحركة يوقظ إلى حد ما الحركة الفعلية التي هي موضوع هذا التمثل، وهو يوقظها إلى أقصى درجة إذا لم يعقبه عن مثل هذا العمل تمثل مضاد يوجد في الذهن مع التمثل السابق في آن واحد.»
14
وهذا حق بشرط أن نفهم قوله عن استيقاظ الحركة بتمثلها على أنه فعل يقوم به فاعل يحدث الحركة التي نتحدث عنها، وليس المقصود مجرد التداعي بين الجانب السيكولوجي والجانب الفيزيقي.
وعلى ذلك فإذا افترضنا أن الإرادة تعتمد على تتابع الحركة وتسلسلها دون وجود فاعل يمارس الفعل، لكان معنى ذلك أن أي سلوك حركي سيكون حالة من حالات الإرادة، خذ مثلا التنويم المغناطيسي، نجد أن الفكرة المفروضة على الشخص النائم يعقبها حركات معينة لكن ذلك ليس إرادة، لأن تحقق الفكرة لا يتضمن للتغير عن طبيعة الفاعل، ولكي يعبر الفاعل عن طبيعته لا بد أن يكون خالقا نشطا المتغير. ومن هنا فإنه ليس من الضروري في حالة الإرادة أن تعقب الحركة الفكرة فحسب، لكن من الضروري أن تعقبها لأنني أقرر أنه يجب أن يحدث ذلك، أي إن معيار الإرادة هو مدى سيطرة الفاعل على الفكرة، فإذا لم يسيطر عليها، أو إذا لم يكن في قدرته أن يخلق - أو يوقف - الحركة المناسبة التي تحقق الفكرة، فإن معنى ذلك أن مؤثرات خارجية قد تدخلت، وأن الفاعل - بالتالي - ليس هو السبب الكافي للفعل. ولقد عبر «برادلي» عن ذلك تعبيرا جميلا بقوله: «إذا لم يكن لي حيلة في هذا الأمر، فلا يمكن أن أريد.»
15
فالفعل لا يمكن أن يكون فعلا من أفعال الإرادة، ما لم يكن في قدرة الفاعل ألا يفعله. وبعبارة أخرى: في حالة الإرادة لا بد أن يكون هناك أكثر من خط واحد ممكن للفعل، لا بد أن يكون هناك على الأقل بديلان؛ أن أفعل الفعل، أو ألا أفعله، فالخط الواحد للفعل لا يمكن أن يكون مرادا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. ومن ثم فالفعل المنعكس - سواء أكان بسيطا أم مركبا - ليس فعلا مرادا، وكذلك أفعال العادة التي تتبع مجرى مألوفا لا روية فيه ولا اختيار، لكن ذلك لا يعني إنكار الإرادة على سلسلة الأفعال الأولى التي كونت هذه العادة.
وفي عملية الروية التي تسبق الفعل، تراني أتأمل نفسي في الوضع الذي سأكونه لو أنني نفذت هذا الفعل وجعلته جزءا من تاريخ حياتي الواقعية، ثم أتأمل نفسي - من ناحية أخرى - في حالة تركي إياه بلا تنفيذ. وبعبارة أخرى: إنني أربط نفسي - فكريا - بخط معين من الفعل، ثم أرى ما إذا كان يتناسب مع شخصيتي ككل متكامل. يقول أفلنج: «فيما يمكن أن نسميه بالإرادة الحق ... هناك وعي الذات بنزوعها للارتباط بممكنين عينيين وهما: النزوع للارتباط بالحادثة «أ» أو الحادثة «ب».»
ناپیژندل شوی مخ