في دفاعه عن الحرية البشرية أنه ليس ثمة تناقض بين علم الله السابق وبين الحرية البشرية طالما سلمنا معه بأن الممكنات هي زيادة للموجودات الفعلية. فالله يعلم منذ الأزل جميع البدائل الممكنة في كل موقف وهو مستعد لمواجهة البديل الذي على وشك أن يوجد نتيجة للحرية البشرية بتلك الطريقة التي لا بد أن تؤدي بالكل إلى الغاية المرسومة أو النهاية السليمة. وهو يوضح لنا ما يقصده بمثال لرجلين يلعبان أمام رقعة شطرنج؛ أحدهما لاعب مبتدئ والآخر خبير تماما في هذه اللعبة. واللاعب الماهر يريد أن يغلب، وعلى الرغم من أنه لا يستطيع أن يتنبأ بدقة بما سيقدم عليه اللاعب المبتدئ في كل حركة، فإنه مع ذلك يعرف جميع الحركات الممكنة في كل موقف فعلي في مجرى سير اللعبة، ويعرف مقدما كيف يواجه كل حركة من هذه الحركات ويقابلها بحركة منه تقوده إلى الاتجاه الذي يجعله في النهاية ينتصر على خصمه. والآن دعنا نفترض أن اللاعب المبتدئ هو الفاعل البشري المتناهي، واللاعب الخبير الماهر هو الله اللامتناهي. ولقد كان الله ينوي منذ الأزل أن يخلق العالم ويقوده نحو غاية معينة. لكنه لم يقرر منذ البداية كل الخطوات المؤدية إلى هذه الغاية. ولا بد أن تكون هناك في نقاط متنوعة من مجرى التطور إمكانيات كثيرة، أي أكثر من إمكان واحد، وأيا ما كان الإمكان الذي يتحول إلى حقيقة واقعة، فإن الله يعرف ما الذي ينبغي عليه أن يفعله عند التشعب التالي حتى يحفظ الأشياء من أن تحيد عن النتيجة النهائية التي رسمها للعالم. وهذه الفكرة لا بد أن تترك الموجودات البشرية الفاعلة حرة في أن تسلك عند كل نقطة خطا ممكنا من الفعل الذي تختاره، كما أنها لا بد أن تسمح في نفس الوقت بالعلم الإلهي السابق للممكنات اللامتناهية وبالطريقة التي يواجه بها المواقف الفعلية. وهكذا فإن الخالق ليس من الضروري أن يعرف تفاصيل جميع الوقائع الفعلية حتى تقع بالفعل، ومعرفة الله بالعالم لا بد أن تكون في أي وقت معرفة بالوقائع من ناحية وبالممكنات من ناحية أخرى، تماما كما هو الشأن في معرفة الإنسان في أية لحظة.
ويمكن الاعتراض على هذه الوجهة من النظر بالقول بأن الله حين يواجه موقفا فعليا بحركة مناسبة تجعل تحقيق الغاية مؤكدا، فإنه لا بد له أن يقود العالم كله إلى مجرى معين يتطلبه هذا الموقف. لكن بقية العالم - أعني بقية العالم بغض النظر عن الفاعل الذي قوبل فعله على هذا النحو بالحركة الإلهية - يشمل موجودات بشرية فاعلة أخرى لها إرادة. يمكن أن يحدث أنه في نفس الوقت الذي يرتب فيه الله لمقابلة الموقف المنبثق بحركة مناسبة - في نفس هذا الوقت يختار إنسانا آخر لفعله بديلا لا يتفق مع الترتيب الإلهي، في هذه الحالة: إما أن يستمر الله في ترتيبه وبذلك يحرم هذا الشخص الأخير من حريته، وإما أن يترك حرية هذا الشخص كما هي ويظل هو نفسه عاجزا عن مواجهة وإحباط فعل الفاعل الأول. (32) خذ ما شئت من محاولات لحل مشكلة العلاقة بين العمل الإلهي الكلي والحرية البشرية، وسوف تجد - يقينا - أنها محاولات فاشلة والسبب ببساطة أنها تحاول ما هو مستحيل استحالة أولية
apriori
ومصدر المغالطة يكمن في الافتراض الذي يناقض نفسه، والذي يقول إن العالم هو في آن واحد؛ واقعة تامة وفعل متطور، في حين أن افتراض أحدهما لا بد أن يعني - بالضرورة - إنكار الآخر، فإذا كان المطلق حقيقة واقعة فلا بد أن يكون النسبي وهما، والعكس صحيح أيضا، فلو كان «وجود
Becoming » فلا بد ألا يكون «صيرورة
Being » وإذا كان «صيرورة» فلا يمكن أن يكون «وجود».
حقا إن كثيرا من عظماء الفلاسفة قد أخذوا بالاعتقاد القائل بأن الوجود أسمى من الصيرورة، وأن الثبات أعلى من التغير. ولا بد أن يكون الواقع
Reality
عند هؤلاء الفلاسفة: الواحد الذي لا يتغير، ولهذا أعلنوا أن الصيرورة غير حقيقية، وهي وهم؛ فالعقل لا بد له أن يبحث وراء الصيرورة عن الواقع الحقيقي الثابت الذي يتحدى التغير، فتلك هي الحقيقة، وهذه الحقيقية هي الصورة أو الماهية أو التصور أو الفكرة.
غير أن وجهة النظر التي يأخذ بها هذا البحث هي أن أي تصور للحقيقة الثابتة ليس إلا تجريدا يقوم به العقل البشري؛ فالواقعية
ناپیژندل شوی مخ