على أن هذا الرأي يبطل أن تكون الأسماء من وضع فرد واحد يضعها لاستعماله الخاص، لكنه لا يبطل أن تكون الأسماء من وضع جماعة بعينها، وأنه لا فرق بين اتفاق واتفاق، فلا فرق بين لغة اليونان ولغة الهمج، ما دامت كل منهما اتفاقا يسري بين أبنائها؛ وإن تعدد اللغات في شعوب الأرض لهو وحده دليل كاف على أن اللغة إن لم تكن مقصورة على اصطلاح الفرد الواحد بينه وبين نفسه، فهي اصطلاح تصطلح عليه كل جماعة على حدة.
لكنه إذا كانت أسماء الأشياء مرهونة بأي اتفاق شاءت الجماعة أن تتواضع عليه، فليس الأمر كذلك بالنسبة لحقائق الأشياء ذاتها. نعم إن بروتاجوراس قد ذهب إلى أن حقيقة أي شيء هي أمر نسبي يختلف من شخص إلى شخص حسب طريقة إدراك الشخص المعين للشيء، لكننا نغض النظر الآن عن مثل هذا الرأي، ونقرر أن حقائق الأشياء ثابتة، وليست هي بالأمر المرهون باتفاق الناس واصطلاحهم؛ لكن أليست ضروب الفاعلية الإنسانية هي من بين الأشياء؟ وإن كانت كذلك، ألا يكون لها «طبيعة» خاصة بها و«حقيقة» ثابتة لها؟ إننا إذا أردنا أداء فعل معين يحقق هدفا معينا، لم يكن لنا الاختيار في طريقة أدائه ولا في الأداة التي نستخدمها في فعله؛ بل يتحتم علينا أن نراعي طبيعة الشيء الذي نصب عليه الفعل، كما نراعي نوع الأداة المستخدمة؛ فشق الخشب مثلا له طريقة خاصة وأداة خاصة، وهكذا؛ لكن «الكلام» عن الأشياء، وإطلاق «أسماء» على الأشياء هو ضرب من الفاعلية ولا شك؛ وإذن فليس هو متروكا لنزواتنا وأهوائنا، بل هو ملزم باصطناع طريق خاص وأداة خاصة، فإذا أسمينا شيئا، تحتم علينا أن نراعي طبيعة ذلك الشيء وأن نراعي في الوقت نفسه طبيعة الأداة - أي الاسم الذي نطلقه - حتى تتفق الطبيعتان معا.
إن المادة الخامة التي نصوغ منها الكلمات هي الحروف والمقاطع، فلتكن هذه المادة الخامة ما تكون، ما دامت تمكننا من صياغة الكلمة التي تصلح أداة للشيء الذي تسميه؛ فالأمر هنا شبيه بالنجار يصنع مغزلا لغزال، فعليه وهو ينجر الخشب أن يضع نصب عينيه طبيعة الغزل لكي تجيء الأداة صالحة لها، وله أن يتخذ أي مادة يختار، ما دام هذا الهدف نصب عينيه، وكذلك الأمر في اللغة؛ فواضعها له الحق في اختيار ما شاء من الحروف والمقاطع، ما دام يضع نصب عينيه طبيعة الأشياء التي توضع اللغة لها؛ وهذا يفسر تعدد اللغات، مع اشتراكها جميعا في كونها لغات طبيعية تتفق مع طبائع الأشياء، كما يفسر تفاوت اللغات في قوة الأداء، فأكملها هي أقربها إلى مسايرة الأشياء على طبائعها الحقيقية، وإذن فقد كان أقراطيلوس على صواب في وجهة نظره عن اللغة، وكان هيرموجنيس على خطأ. (3) الحروف وطبائع الأشياء
كان عالمنا الفيلسوف جابر بن حيان على نفس الرأي الذي عبر عنه أقراطيلوس، من أن اللغة مسايرة للطبائع، فهو في ذلك يقول: «انظر إلى الحروف كيف وضعت على الطبائع، وإلى الطبائع كيف وضعت على الحروف، وكيف تنتقل الطبائع إلى الحروف والحروف إلى الطبائع.»
5
والمعنى واضح، فلكل حرف ما يقابله من طبائع الأشياء.
ولا يقف جابر - بالطبع - عند هذه التعميمات التي لا تفيد كثيرا، بل يوغل في التفصيل الذي سنورد بعضه ونهمل بعضه مضطرين لضيق المقام، ونسبق ترتيب الكتاب لنقول في هذا الموضع: إن موجودات الطبيعة هي إما حيوان وإما نبات وإما حجر، وهذه مركبة كلها من العناصر الأولية الأربعة: النار والهواء والماء والأرض، وكل عنصر من هذه العناصر يتألف من اتحاد اثنتين من الكيفيات الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة؛ فمن الحرارة واليبوسة معا تتكون النار، ومن الحرارة والرطوبة معا يتكون الهواء، ومن البرودة واليبوسة معا تتكون الأرض، ومن البرودة والرطوبة معا يتكون الماء؛ فإذا عرفنا أي الحروف دال على هذه الكيفية أو تلك، عرفنا بالتالي الحروف الدالة على العناصر الأربعة، وعرفنا أخيرا الحروف الدالة على مختلف الطبائع. ويقسم جابر الحروف الثمانية والعشرين إلى مجموعات أربع، يجعل كل مجموعة منها مقابلة لإحدى الكيفيات الأربع على الوجه الآتي:
الحرارة:
أ ه ط م ف ش ذ.
البرودة:
ناپیژندل شوی مخ