اعلم أن الكلام في القديم والمحدث - عافاك الله - من أصعب الأمور عند جلة الفلاسفة وقدمائها، ولو قلت إن أكثرهم مات بحسرته لكنت صادقا؛ فأرباب هذا العلم هم أشد الناس تعظيما لعلمهم هذا وصيانة له وحفظا عن غير مستحقه ؛ وإن يكن تحصيله سهلا عليهم يسيرا لديهم؛ لأنهم يدركون الحقيقة بالشهود المباشر، ويفيضون بها فيضا، فلا يحتاجون في ذلك إلى إعمال فكر في إقامة الدليل على ما قد أدركوا، ولا إلى استعمال لفظ في التعبير عما قد أدركوا؛
22
غير أنهم وإن كانوا كذلك في شهودهم للحق وإدراكهم له ، فإن علمهم لا ينتقل إلى سواهم إلا إذا كان هؤلاء في منزلة قريبة من منزلتهم؛ فليس الناس في إدراك الحق سواء، بل منهم من يحتاج لواسطة، ومنهم من يتصل بالحق صلة مباشرة لا واسطة بينه وبينه.
وإذا أدركنا «القديم» استطعنا أن ندرك خصائص المحدث بالاستدلال؛ لأن القديم والمحدث ضدان، والعلم بأحد الضدين هو علم بالضد الآخر؛ فطريق الفكر هو من القديم إلى المحدث، ندرك الأول إدراكا مباشرا ثم نستدل الثاني منه، وليس العكس كما ظن «جهلة المتكلمين» في هذا الباب؛ إذ استدلوا على الغائب (القديم) بالشاهد (المحدث) على بعد ما بينهما؛ فكأنهما استشهدوا بالجزء على وجود الكل برغم ما في هذا المنطق من فساد.
23
إن أخص صفة «للقديم» هو الوجود الذي يستغنى به عن الفاعل، أي أنه وجود بغير موجد؛ وذلك لأنه موجود وجودا أزليا؛ ولو كان موجودا بفعل فاعل لكان هذا الفاعل أسبق منه وجودا، وأي كائن يتقدمه غيره في الوجود يكون محدثا وغير أزلي؛ لكنه إذا كان الوجود صفة من صفات القديم، فهو كذلك صفة من صفات المحدثات؛ بل إن وجود المحدثات ليس عرضا، بل هو وجود بالضرورة أيضا؛ وذلك لأن الآثار تكون شبيهة بمؤثرها، وإذا كان الأمر كذلك، وجب الوجود للمحدث عن وجود القديم، والفرق بين الوجودين هو أن وجود القديم يستغني عن الفاعل، ويكون علة لوجود غيره، وأما وجود المحدث فهو يحتاج إلى فاعل يكون علة لغيره.
ومن خواص القديم أيضا أن تكون جميع المحدثات من فعله وأثره؛ إذ لا بد لجميعها من انتهاء إليه ورجوع إلى كونه علة لها - إما قريبة وإما بعيدة - فليس للقديم سوى هاتين الخاصتين، وهما في الحقيقة واحدة؛ وذلك أن الوجود له هو الصفة التي بها أوجد آثاره، أي أن وجوده تضمن أن يكون علة لوجود المحدثات.
ولما حدثت الطبيعة عن الجوهر الأول - وهو العلة الأولى - حدث عنها شيئان ضدان: هما الحركة والسكون؛ أما الحركة فهي من الطبيعة محيطها، وأما السكون فهو منها المركز؛ لهذا كان بين الحركة والسكون ما بين المحيط والمركز من تباعد وتضاد؛ ولهذا التباين بينهما تباينت صفاتهما؛ فللمحيط الصفاء والخير والحسن والجمال والنور والبهاء، ومن ثم فهو أقرب جوانب الطبيعة إلى الله، والفرق بينهما هو أن الجوهر القديم لم يكن محتاجا إلى الحركة، وأما الكائنات التي هي في محيط الطبيعة فمحتاجة إلى الحركة؛ وإنما تحركت حركتها لمنفعة الإنسان، الذي خلق بطبعه مفتقرا إلى اجتلاب المنافع ودفع المضار؛ ففي الإنسان شهوة ترغب في شيء وتنفر من شيء.
على أن الإنسان يسير بشهوته في أحد طريقين: فإما هي شهوة يشتاق بها أشياء خسيسة، وإما هي شهوة يتطلع بها إلى ما هو صاف رفيع؛ ولكي يجعل الجوهر القديم طريقا مفتوحا أمام شهوة الإنسان أن تتجه إلى الصفاء والخير، فقد جعل في الأفلاك شوقا، حتى يمكن الاتصال بين المتجانسين، وأعني بهما الشوق عند الإنسان والشوق عند الأفلاك، ليتصل الشوق بالشوق، ويغلب أحدهما الآخر؛ لأن في أحدهما حركة وفي الآخر سكونا، والحركة تغلب السكون.
وإذا وصل الإنسان نفسه بالأعلى، بلغ من العلم غايته، «فوحق سيدي إنه لغاية العلم، ولو شئت لبسطته فيما لا آخر له من الكلام؛ ولكن هذه الكتب - يا أخي - معجزات سيدي، وليس - وحقه العظيم - يظفر بما فيها من العلم إلا أخونا؛ فأما من سواه من إخواننا الذين لم ندخر هذا من أجلهم ولا صنفناه لهم، فإنما يظفر منها بما ظهر من علومنا فيها، وصنائعنا التي صنعناها وأودعناها إياها؛ وأما غير هؤلاء من الأضداد والسفلة والأرذال والسفهاء المظلمي النفوس الأقذار العقول فما يزيدهم الله بها إلا عمى وضلالة وجهلا وبلادة ...»
ناپیژندل شوی مخ