وتلك هي بالضبط المشكلة الاشتراكية كما يراها المثقفون الاشتراكيون في كل مكان من العالم. فإذا كان قيام الثورة الاشتراكية مشكلة العالم في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي، فالسمة الرئيسية لعصرنا الحاضر هي قيام الديمقراطية الاشتراكية، لا كشعار، وإنما كحقيقة واقعة.
وبالطبع ليس هذا سهلا أبدا؛ فدونه عقبات كثيرة أولها العقليات التي دأبت على التطبيق الاشتراكي في ظل نظم مركزية صارمة. إن تقبل هذه العقليات الأسلوب الديمقراطي الشعبي الاشتراكي قبولا سليما ومن تلقاء نفسها مسألة تبدو بعيدة التحقيق، فما الحل؟ وما هي الحلول البولندية للمشكلة؟
أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة والكثير غيرها في حاجة إلى لقاء آخر.
لا تناقض بين الخبز والحرية
ترددت في الآونة الأخيرة كلمة «مراكز قوة»، ولا بد لي أن أعترف أني عانيت بعض الشيء لكي أفهم المعنى الحقيقي المقصود بالكلمة، وأخيرا أدركت أنها لا بد تعني تكون مراكز قوة مناوئة لقيادتنا السياسية أو مناوئة للأهداف التي يسعى مجتمعنا لتحقيقها، بطريقة لا بد من القضاء على هذه المراكز وتصفيتها، بل لقد استطعت أن أقرن في ذهني بين كلمة الرئيس: إن جمال عبد الناصر لا يستطيع أحيانا أن يقول للشيء كن فيكون، وبين مراكز القوة هذه وتصفيتها؛ إذ أحيانا تتمتع بعض هذه المراكز بحصانات من نوع ما، أو تنمو إلى درجة أن القضاء عليها يصيب دعائم الحكم باهتزازات غير مأمونة العواقب، إلى آخر هذه التفسيرات.
ولكني في الحقيقة نظرت إلى الموضوع من زاوية أخرى. إن القضاء على مركز من مراكز القوة يلزمه دائما ضرورة التقصي الشديد ثم إحكام في التدبير ثم قبض واعتقال، ثم محاكمة وضجة وأحكام بمعنى أصح. إن القضاء على مركز من هذه المراكز يلزمه دائما «عملية جراحية» كبرى، والجسم - أي جسم - ليس مهيأ بحيث يحتمل العملية الجراحية الكبرى في أي لحظة، وأحيانا نضطر اضطرارا لتأجيل العملية حتى تنضج حالة جسم الإنسان للقيام بها، هذا التأجيل خطير في حد ذاته لأنه قد يؤدي إلى استحالة إجرائها مثلا، أو إلى تمكن هذا المركز من الجسم بحيث يستحيل استئصاله.
المشكلة إذن ليست مشكلة استئصال المركز وإنما لا بد لكي نكون علميين وثوريين أن ندرس لماذا تنشأ هذه المراكز أصلا، ولماذا تنمو وتستشري إلى الدرجة التي تتطلب إجراءات كبرى للقضاء عليها. إن هناك سببا واحدا لنشوء مراكز قوة مناوئة للقيادة ولأهدافنا، هذا السبب هو غيبة النقد والنقد الذاتي، وتمتع بعض المراكز والأشخاص والهيئات بحصانة لا تسمح بنقدها. في ظل هذا الجو المظلم تنمو مراكز القوة وتستشري بعيدا عن أعين الرأي العام ورقابته، بعيدا عن أعين القيادة والثورة. ولا يطالب الطامعون في هذه المراكز بأكثر من إلغاء النقد أو تحديده لكي يضمنوا باستمرار بقاء الجو المناسب لتضخمهم وتمكنهم من حياتنا ومقاديرنا.
من أجل هذا ارتفعت الشعارات تطالب بإطلاق حرية النقد؛ فإنها حرية لن تستخدم بالقطع ضد الثورة أو القيادة أو القيم. إنها حرية يطالب بها الشعب لاستخدامها ضد الانحرافات وهي لا تزال في المهد، حرية نقد أي إنسان وأية هيئة بحيث لا يتمتع أحد بحصانة تتيح له أن يتضخم ويستشري على حساب المبادئ والقيم. إنها ليست كلمة جوفاء لا معنى لها «الحرية». إنها كلمة محددة في ذهن الشعب تماما ولا يقصد من متطلباته كلمة يلهو بها أو يستعملها للزينة، إنما يطالب باستمرار بحقه أن يحمل سلاحا يضرب به الانحراف ويرصده قبل أن يكبر ويصبح لا بد من عملية جراحية كبرى لإزالته.
إنها حقا ثورة الشعب العامل، قواها الرئيسية العمال والفلاحون، ولكن المثقفون هم أداة جماهير الشعب العامل للنقد من ناحية ولتصوير الحياة الفكرية والثقافية والفنية لهذه الجماهير من ناحية أخرى؛ فالإنسان قبل أن يكون كائنا آكلا شاربا متناسلا، هو أولا وقبل كل شيء كائن مفكر وإلا لاستوى هو والحيوان، ولأصبح ضمان طعامه وشرابه هو نوع من ضمان غذاء الجسد وحده، وحرمانه من الثقافة والفكر هو حرمانه من الحرية؛ فالثقافة هي الحرية والتفكير. إننا نعترف أننا شعب لا نزال يكافح لكي يضمن لكل مواطن فيه لقمة العيش، ولكن أن يعمل المواطن ويأكل شيء لا يمكن أن يتعارض مع حقه في أن يقول رأيه فيما يعجبه وما لا يعجبه، حتى في نوع الطعام الذي يأكله، وحقه في أن ينقد الظروف والأحوال التي تهيئ له طعامه وشرابه وعمله، وحقه في أن يفكر في تطوير طعامه هذا وشرابه، وهذه كلها عمليات لا يمكن أن تتم إلا بالحرية وحدها؛ ولهذا كان شعار الثورة الاشتراكية في أي مكان وكل مكان هو: الخبز والحرية، ومنذ بدء الحضارة وهذا الشعار قائم لم ينطفئ، منذ أن جاء الإنجيل وقال: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل قبل الإنجيل بكثير، منذ أرسطو وأفلاطون والفلاح المصري الفصيح والإنسان يدرك ويطالب باستمرار بالزاد لجسده وروحه معا.
أجل، لقد عبر الرئيس عبد الناصر عن مفهوم ثورتنا للحرية باعتبارها ذات شقين؛ الحرية الاجتماعية وهي حق المواطن أن يعمل، والحرية السياسية وهي حقه في اختيار من يحكمه وفي نقد الطريقة التي يحكم بها.
ناپیژندل شوی مخ