أأنت عالم فن أم فنان عالم؟ هل هدفك أن تخلق جمالا لا تجده، أم أنت قاضي حياة تنقد، وتصدر حكما لا تعلنه وتبقيه لآخر جلسة قد تنتهي أعمارنا قبل نهايتها؟ بينما أنت ماض في تأمل المتقاضين تراقب الدنيا بأكثر من عين، ولك أكثر من فؤاد، وللحزن عندك رنة فرح، وللأفراح عندك مرارة الأحزان، والحياة سرك، كالمقطف المقلوب يتشقلب تحته الناس، ويولدون، وأحيانا ترتفع صرخة: فلان مات، صرخة واحدة فقط؛ إذ البلياتشو يخرج بعدها ليطلق ضحكة، ضحكة واحدة فقط، يعود بعدها كل ما في السرك إلى ما كان عليه؟!
يحيى حقي هنا لا يريد أن يحكي لنا. هو يحكي عنا. ويتأملنا، وكل أملي ألا يكون يتأملنا من خلف منظار ما؛ فهو نفسه يصف - بروعة - شعور من يضع النظارات، فيقول: «ستبدو لك الأشياء كأنما انتزعت من عالمها واقتلعت من جذورها وفقدت عصارتها، وأصبحت مصاصا تشاهده كزائر متحف للنماذج المصنوعة تقليدا مكبرا أو مصغرا لما خلق الله.»
إني خائف أن يكون الأمر كذلك، خائف أن يكون يحيى حقي قد بدأ يرانا على ما نحن عليه، على حقيقتنا؛ فحتى لو كانت لنظرته كل صلابة الحقيقة ونفاذها، فالإنسان لم يبتكر الفن إلا ليقيم الحقيقة الثانية، إلا ليضع البعد الآخر للواقع؛ إذ لو كان للواقع بعده الواحد المحدود الذي نراه لما احتمله الناس ولاستعذبوا الموت من زمن. فإذا كان الواقع هو الحقيقة الموجودة رغم أنف الإنسان، فالفن هو الحقيقة التي يوجدها الإنسان بنفسه ليصبح بها أقوى من الحقيقة الموجودة برغمه!
يا فناننا الكبير، إني لفرط حبي لك والإعجاب بك، أختلف هذه المرة معك.
خواطر
كلما سمعت صوت الشاعر أحمد خميس يذيع في التليفزيون إعلانات «أومو» ويقول أومو، ينظف أسرع، أزداد إدراكا لخطورة الأزمة التي يمر بها الشعر عندنا. الشاعر أيام زمان كان مفخرة القوم والقبيلة، لا يكاد ينطق الشعر حتى تقيم عشيرته الأفراح والاحتفالات، ويأتي الناس ليقدموا لها التهاني، وربما لهذا كان الشاعر يجيد أكثر وأكثر؛ فقد كان يحس أنه لا يعبر عن نفسه فقط، وإنما يعبر عن قومه وتراث قومه وانتصاراته.
لا بد أننا تطورنا تطورا كبيرا، حتى أصبح الشاعر عندنا يعبر عن محاسن أومو، ويفعل هذا وهو محسود؛ فلا بد أن شعراء كثيرين يتمنون أن يصبحوا في مكانة أحمد خميس، ويحسب ما ينطقون به باعتبار الدقيقة بجنيه أو أكثر. لا بد أننا تطورنا حتى أصبحت حاجتنا للشعر، مساء الخير أيها التطور، مساء الخير أيها المنظف أسرع.
في انتظار الانفجار
قبيل الظهر وقفت مع أكثر من مائة مواطن أمام إحدى القهاوي البلدية نسخط على الأصوات المضغوطة الصادرة عن جهاز الراديو المصنوع قبل الحرب، ونتساءل كما يفعل الصائمون ساعة المغرب في رمضان: ترى هل انفجر الديناميت؟
كان بعضهم يؤكد أنه انفجر ويقسم أنه سمعه بأذنيه، والغالبية تحدق في ساعاتها وتصر على أن الانفجار لم يتم بعد، ونحاول كلنا أن نظفر بالحقيقة من الراديو فنجده آخر ما يصلح لإخبارنا بالحقيقة؛ فصاحب القهوة، احتفالا منه بالمناسبة، قد فتحه على آخره فبدا صوته كأصوات «الهتيفة» في المظاهرات حين تنبح وتتحشرج ولا يعود يميز بين كلماتها شيء على الإطلاق.
ناپیژندل شوی مخ