بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
وَهُوَ حسبي وَعَلِيهِ أتوكل
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم القَاضِي صدر الدّين عَليّ بن الْعِزّ الْحَنَفِيّ ﵀
أما بعد فَإِنِّي وقفت على رِسَالَة لبَعض الْحَنَفِيَّة رجح فِيهَا تَقْلِيد مَذْهَب أبي حنيفَة ﵀ وحض على ذَلِك وَوجدت فِيهَا مَوَاضِع مشكلة فَأَحْبَبْت أَن أنبه عَلَيْهَا خوفًا من التَّفَرُّق الْمنْهِي عَنهُ وَاتِّبَاع الْهوى المردي امتثالا لقَوْله تَعَالَى ﴿واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا﴾ آل عمرَان ١٠٣ وَقَوله تَعَالَى ﴿إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء﴾ الْأَنْعَام ١٥٩ وَقَوله تَعَالَى ﴿شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا وَالَّذِي أَوْحَينَا إِلَيْك وَمَا وصينا بِهِ إِبْرَاهِيم ومُوسَى وَعِيسَى أَن أقِيمُوا الدّين وَلَا تتفرقوا فِيهِ﴾ الشورى ١٣ وَقَوله تَعَالَى ﴿وَإِن هَذِه أمتكُم أمة وَاحِدَة وَأَنا ربكُم فاتقون فتقطعوا أَمرهم بَينهم زبرا كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ﴾ الْمُؤْمِنُونَ ٥٣ زبرا أَي كتبا وَقَوله تَعَالَى ﴿وَمَا تفَرقُوا إِلَّا من بعد مَا جَاءَهُم الْعلم بغيا بَينهم﴾ الشورى ١٤ وَقَوله تَعَالَى ﴿وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله﴾
1 / 21
الْآيَة (ص ٢٦) وَلقَوْل النَّبِي ﷺ فِي حَدِيث الْعِرْبَاض بن سَارِيَة ﵁ (فَإِنَّهُ من يَعش بعدِي فسيرى اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة) رَوَاهُ ابو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن صَحِيح وأمثال ذَلِك فِي الْكتاب وَالسّنة كَثِيرَة فِي النَّهْي عَن التَّفَرُّق وَاتِّبَاع الْهوى
أَقُول هَذَا وأعتقد أَن أَبَا حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى إِمَام جليل من كبار أَئِمَّة الْمُسلمين ﵃ أَجْمَعِينَ
مِنْهَا قَوْله فِي أول الْخطْبَة م: الْحَمد لله الَّذِي هدَانَا إِلَى اتِّبَاع الْملَّة الحنيفية وأرشدنا إِلَى سلوك طَريقَة الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة
ش: فَإِنَّهُ إِن كَانَ يُرِيد بطريقة الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة اتِّبَاع الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس الصَّحِيح فَلَيْسَ ذَلِك مُخْتَصًّا بالعلماء الْحَنَفِيَّة بل سَائِر عُلَمَاء الْمُسلمين على هَذِه الطَّرِيقَة وَإِنَّمَا خَالف فِي اعْتِبَار الْقيَاس أهل الظَّاهِر وَإِن كَانَ يُرِيد بذلك تقليدهم للْإِمَام أبي حنيفَة فَفِيهِ تَفْصِيل فَإِن من قلد إِمَامًا معينا فِيمَا وَقع لَهُ وَلم يتَبَيَّن لَهُ فِيهِ الدَّلِيل فَذَلِك سَائِغ بل وَاجِب
1 / 22
عَلَيْهِ عِنْد الضَّرُورَة إِذا وَقعت لَهُ كائنة لَا يعلم حكم الله فِيهَا وبلغه قَوْله فِيهَا وَلم يعلم لَهُ فِيهَا مُخَالفا وَإِن قَلّدهُ فِيمَا تبين لَهُ فِيهِ الدَّلِيل مُوَافق لَهُ فَلَيْسَ ذَلِك بتقليد لَهُ بل يكون فِي ذَلِك مُتبعا للدليل إِلَّا أَن يَنْوِي تَقْلِيد الإِمَام دون مُتَابعَة الدَّلِيل إِذْ الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ
وَإِن قَلّدهُ فِيمَا تبين لَهُ فِيهِ أَن الدَّلِيل مُخَالف لَهُ أَو قدر على النّظر فِي الدَّلِيل وفهمه وَلم يفعل فَهَذَا هُوَ التَّقْلِيد المذموم فَإِن صَاحبه دَاخل فِي زمرة الَّذين قَالُوا ﴿إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون﴾ الزخرف ٢٣ وَالَّذين قَالَ الله عَنْهُم ﴿وَإِذا قيل لَهُم اتبعُوا مَا أنزل الله قَالُوا بل نتبع مَا ألفينا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ الْبَقَرَة ١٧٧ وَسَيَأْتِي لهَذَا الْمَعْنى زِيَادَة بَيَان إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِنْهَا قَوْله م: وَجَعَلَنِي مِمَّن عرف مَرَاتِب أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها
ش
: فَإِن هَذَا يُنَاقض مَقْصُوده بِهَذِهِ الرسَالَة فَإِن من عرف مَرَاتِب أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها يكون من أهل الإجتهاد فَلَا يسوغ لَهُ تَقْلِيد إِمَام معِين وَلَا الْأَمر بذلك إِلَّا أَن يُرِيد أَنه عرف صناعَة الإستدلال بالأدلة الشَّرْعِيَّة أصُول الْفِقْه وَلم يعرف الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة نَفسهَا الَّتِي هِيَ الْكتاب وَالسّنة وَمَا أَظُنهُ يرضى لنَفسِهِ بِهَذِهِ الْمنزلَة بل الظَّاهِر أَن مُرَاده أَنه يعرف الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة ومراتبها وَكَيْفِيَّة دلالتها وَحِينَئِذٍ فَلَا يسوغ لَهُ التَّقْلِيد لإِمَام معِين وَلَا غير معِين إِلَّا فِيمَا خفى عَنهُ وَلَا الْأَمر بتقليد إِمَام معِين من الْأَئِمَّة
وَهُوَ فِي هَذِه الرسَالَة يَدْعُو إِلَى تَقْلِيد الإِمَام أبي حنيفَة ﵀ دون غبره وَيُقِيم الدَّلِيل على ذَلِك وَهَذَا تنَاقض بَين وَلَيْسَ هَذَا من طَريقَة
1 / 23
الْعلمَاء الْحَنَفِيَّة بل ابو يُوسُف وَمُحَمّد وَغَيرهمَا من أَصْحَاب أبي حنيفَة خالفوا ابا حنيفَة فِيمَا ظهر لَهُم فِيهِ الدَّلِيل على خلاف قَوْله وَلم يخرجُوا بذلك عَن كَونهم من أَصْحَابه بل الَّذِي ذكره غير وَاحِد من أهل الْعلم إِذا كَانَ لَهُ نوع تميز يتبع أَي الْقَوْلَيْنِ أرجح عِنْده وأقربه إِلَى الدَّلِيل بِحَسب تميزه فَإِنَّهُ خير لَهُ من الْخَيْر الْمُطلق فَكيف من يعرف أَدِلَّة الشَّرْع وَكَيْفِيَّة دلالتها وَلم يقل أحد من الْعلمَاء أَنه يجب أَو يشرع الْتِزَام قَول شخص معِين فِي كل مَا يُوجِبهُ ويحرمه ويبيحه عَن رَسُول الله ﷺ بل قد قَالَ الشَّافِعِي ﵀ أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله ﷺ لَا يحل لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد
وَمِنْهَا قَوْله م: وجبلني على التعصب لمجتهد كَانَ من قورن شهد النَّبِي ﷺ بخيرها وعدالتها
ش: فَإِن فِي هَذَا الْكَلَام نظرا من وَجْهَيْن
أَحدهمَا دَعْوَاهُ أَنه جبل على الْوَصْف الَّذِي ذكره وَهَذَا الْوَصْف وَهُوَ التعصب لمجتهد معِين مكتسب وَلَيْسَ فِي الطَّبْع السَّلِيم مَا يَقْتَضِي
1 / 24
التعصب لهَذَا الْعَالم دون هَذَا الْعَالم وَإِنَّمَا يَأْتِي ذَلِك غَالِبا من هوى النَّفس فَيكون حِينَئِذٍ قد جبل على خلق ذميم وَلَو ادّعى أَنه جبل على اتِّبَاع الْحق وَقَول هَذَا الإِمَام الْمعِين هُوَ الْحق لكَانَتْ الْمُقدمَة الأولى مسلمة وَالثَّانيَِة مَحل النزاع فَإِن كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة قَالَ الله تَعَالَى ﴿فأقم وَجهك للدّين حَنِيفا فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا﴾ الْآيَة الرّوم ٣٠ فَفِي الْفطر مركوز معرفَة حسن اتِّبَاع الْحق لَا أَن اتِّبَاع هَذَا الْعَالم مُتَعَيّن دون هَذَا الْعَالم إِلَّا أَن يَدعِي أَن هَذَا الْعَالم مَعْصُوم عَن الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده دون غَيره وَلَا يَدعِي هَذَا عَاقل فَإِنَّهُ يكون قد أنزلهُ منزلَة الرَّسُول صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه فَإِن الْغَضَب والتعصب لوَاحِد معِين من الْأَئِمَّة وصف مَذْمُوم من جنس فعل الرافضة وَهُوَ من أَفعَال الْجَاهِلِيَّة كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَسنَن النَّسَائِيّ عَن جُنْدُب بن عبد الله البَجلِيّ ﵁ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ (من قتل تَحت راية عمية يَدْعُو عصبية وينصر عصبية فَقتلته جَاهِلِيَّة)
وروى أَبُو دَاوُد عَن جُبَير بن مطعم ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ (لَيْسَ منا من دَعَا إِلَى عصبية وَلَيْسَ منا من قَالَ بعصبية وَلَيْسَ منا من مَاتَ على عصبية)
1 / 25
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث جَابر ﵁ حِين قَالَ الْأَنْصَار يَا للْأَنْصَار وَقَالَ بالمهاجرون فَخرج رَسُول الله ﷺ فَقَالَ مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة وَفِي رِوَايَة مُنْتِنَة الحَدِيث
وَعَن أبي بن كَعْب ﵁ قَالَ قَالَ رَسُول الله ﷺ من سمعتموه يدعوا بدعوة الْجَاهِلِيَّة فاعضوه بِهن أَبِيه وَلَا تكنوا) وَفِي لفظ
من سمعتموه يتعزى بعزاء الْجَاهِلِيَّة فأعضوه بِهن أَبِيه وَلَا تكنوا فَسمع أبي رجلا يَقُول يَا لفُلَان فَقَالَ أعضض أير أَبِيك فَقَالُوا يَا ابا الْمُنْذر مَا كنت فحاشا فَقَالَ بِهَذَا أمرنَا رَسُول الله ﷺ رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ وَقَالَ ﷺ (عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن يَد الله على الْجَمَاعَة)
الثَّانِي: إستدلاله على تَقْدِيمه لَهُ على غَيره بِكَوْنِهِ من خير الْقُرُون فَإِن هَذَا لَا يلْزم تَقْدِيم هَذَا الإِمَام وَحده على غَيره مِمَّن كَانَ فِي زَمَانه وَقَبله بل وَلَا على من بعده فَإِن تَفْضِيل الْجُمْلَة على الْجُمْلَة لَا يَقْتَضِي تَفْضِيل كل فَرد على كل فَرد بل قد يتنازع الْعلمَاء هَل فِي غير الصَّحَابَة من هُوَ خير من
1 / 26
بَعضهم على قَوْلَيْنِ ذكرهمَا القَاضِي عِيَاض وَغَيره وَالْأَكْثَر على تَفْضِيل كل فَرد وَلَكِن من بعد الصَّحَابَة لَيْسَ مثلهم فقد كَانَ فيهم مثل الْحجَّاج بن يُوسُف وَفضل الْأَفْرَاد إِنَّمَا هُوَ بالتقوى كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ﴿إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم﴾ الحجرات ١٣ وَقَالَ النَّبِي ﷺ (لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لعجمي على عَرَبِيّ وَلَا لأسود على أَبيض وَلَا لأبيض على أسود إِلَّا بالتقوى) (النَّاس كلهم بَنو آدم وآدَم من تُرَاب)
وَلَو قابله مالكي الْمَذْهَب بِمثل مثل قَوْله وَادّعى أَن الإِمَام مَالك بن أنس أولى بالاتباع من أبي حنيفَة رحمهمَا الله تَعَالَى فَإِن مذْهبه مَذْهَب أهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة أصح مَذَاهِب أهل الْمَدَائِن فَإِنَّهُم كَانُوا يتأسون بآثار رَسُول الله ﷺ أَكثر من سَائِر الْأَمْصَار وَكَانَ غَيرهم من أهل الْأَمْصَار دونهم فِي الْعلم بِالسنةِ النَّبَوِيَّة واتباعها حَتَّى أَنهم يفتقرون إِلَى نوع من سياسة الْمُلُوك وآراء الْعلمَاء ومقاصد الْعباد أَكثر من افتقار أهل الْمَدِينَة وَلِهَذَا لم يذهب أحد من عُلَمَاء الْمُسلمين إِلَى أَن إِجْمَاع أهل مَدِينَة من الْمَدَائِن
1 / 27
حجَّة يجب اتباعها لَا فِي تِلْكَ الْأَعْصَار وَلَا بعْدهَا غير الْمَدِينَة الشَّرِيفَة فَإِنَّهُ قد اخْتلفت فِي إِجْمَاع أَهلهَا إِلَّا استدلاله بذلك على تَقْدِيم مَذْهَب مَالك نَظِير اسْتِدْلَال على تَقْدِيم مَذْهَب أبي حنيفَة وَمن مثل هَذَا الإستدلال نَشأ الإفتراق فِي هَذِه الْأمة فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
وَمِنْهَا قَوْله م: والصلوة وَالسَّلَام على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي الْأُمِّي الْمَبْعُوث إِلَى النَّاس كَافَّة بشيرا وَنَذِيرا وداعيا إِلَى الله باذنه وسراجا منيرا وعَلى آله وَأَصْحَابه وعترته الَّذين أذهب الله عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا أما بعد فَإِن الزَّمَان لما انْتهى إِلَى وَقت تضعضع فِيهِ أَرْكَان رباع الْعُلُوم وتقعقع فِيهِ بُنيان بقاع الْمَعْلُوم وخلت غاياتها عَن أُسَامَة أبي الشبلين حَتَّى ضج فِيهَا ثعالبة أَبُو الْحصين وشاع الحَدِيث والطعن على مَذْهَب الأقدمين وذاع ادِّعَاء أَن ابا حنيفَة الَّذِي هُوَ أقدم الْمُجْتَهدين لم يعلم أَحَادِيث البُخَارِيّ وَخَالف سيد الْمُرْسلين وَكَانَ ذَلِك موهما لوهن مذْهبه عِنْد ضعفاء الْيَقِين أَشَارَ إِلَيّ بعض الإخوان الَّذين هم بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان للعين وَالْعين للْإنْسَان أَن اكْتُبْ رِسَالَة تقَوِّي اعْتِقَاد ضعفة الْحَنَفِيَّة فِي مَذْهَب إمَامهمْ وتعرف مَا للنَّاس عَلَيْهِ فِي غَالب الْبلدَانِ من الِاحْتِيَاج إِلَى مذْهبه من خَلفهم وإمامهم فكتبتها مُشْتَمِلَة على مُقَدّمَة ومقصد وخاتمة الْمُقدمَة فِي بَيَان سَبَب تَرْجِيح تَقْلِيده على غَيره
ش: وفيهَا مبَاحث فَقَوله ذاع ادِّعَاء فَإِن فِي هَذَا الْكَلَام مُقَابلَة الْفَاسِد بالفاسد وَالْوَاجِب رد الْبَاطِل بِحَق وَلَا يجوز رد الْبَاطِل بِالْبَاطِلِ فَإِن الْبَاطِل لَا يرد الْبَاطِل وَإِنَّمَا يردهُ الْحق قَالَ الله تَعَالَى ﴿بل نقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق﴾ الْأَنْبِيَاء ٢١
وَالْوَاجِب أَن يُقَال لمن قَالَ إِن ابا حنيفَة خَالف سيد الْمُرْسلين هَذَا القَوْل كذب وبهتان وَسَب لهَذَا الإِمَام الْجَلِيل يسْتَحق قَائِله الردع والزجر عَن هَذِه الْمقَالة الْبَاطِلَة إِن أَرَادَ بِهِ أَنه خَالفه عَن قَصده وَإِن أَرَادَ بِهِ أَنه خَالفه عَن تَأْوِيل أَو ذمّ القَوْل وَلم يذكر قَائِله فَهُوَ هَين كَمَا يُوجد فِي كَلَام
1 / 28
الْمُخْتَلِفين فِي مسَائِل الِاجْتِهَاد من كَلَام البُخَارِيّ ﵀ وَقَالَ بعض النَّاس كَذَا وَقَالَ فِي بعض الْمَوَاضِع فَخَالف الرَّسُول وَلم يسم الْمُخَالف من هُوَ وَذكر فِي الشَّرْط أَن مُحَمَّد بن الْحسن استبعد قَول أبي حنيفَة ﵀ فِي عدم لُزُوم الْوَقْف وَسَماهُ تحكما من غير حجَّة وَالْمُصَنّف فِي هَذِه الرسَالَة فِي الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة عشر قد نسب إِلَى الشَّافِعِي مُخَالفَة قَول الله ﴿والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء﴾ الْبَقَرَة ٢٢٨
لَا تنه عَن خلق وَتَأْتِي مثله
وَالْقَوْل قد يكون مُخَالفا للنَّص وقائله مَعْذُور فَإِن الْمُخَالفَة بِتَأْوِيل لم يسلم مِنْهَا أحد من أهل الْعلم وَذَلِكَ التَّأْوِيل وَإِن كَانَ فَاسِدا فصاحبه مغْفُور لَهُ لحصوله عَن اجْتِهَاده فَإِن الْمُجْتَهد إِذا اجْتهد وَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ أجر على اجْتِهَاده وَأجر على إِصَابَته الْحق وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر على اجْتِهَاده وَخَطأَهُ مغْفُور لَهُ
فمخالفة النَّص إِذا كَانَت عَن قصد فَهِيَ كفر وَإِن كَانَت عَن إجتهاد فَهِيَ من الْخَطَأ المغفور
1 / 29
فَلَا يجوز أَن يُقَال عَن أبي حنيفَة وَلَا عَمَّن دونه من أهل الْعلم فِيمَا يُوجد من أَقْوَاله مُخَالفا للنَّص أَنه خَالف الرَّسُول قصدا بل إِمَّا أَن يُقَال إِن النَّص لم يبلغهُ أَو لم يظْهر لَهُ دَلِيل على ذَلِك الحكم أَو عَارضه عِنْده دَلِيل آخر أَو غير ذَلِك من الْأَعْذَار ﵏ وَرَضي عَنْهُم أَجْمَعِينَ
وَقد انحرف فِي شَأْن أبي حنيفَة ﵀ طَائِفَتَانِ فطائفة قد غلبت فِي تَقْلِيده فَلم تتْرك لَهُ قولا وأنزلوه منزلَة الرَّسُول ﷺ وَإِن أورد عَلَيْهِم نَص مُخَالف قَوْله تأولوه على غير تَأْوِيله ليدفعوه عَنْهُم وَلم يكن أَصْحَابه مَعَه كَذَلِك بل رجعُوا عَن كثير مِمَّا كَانُوا قلدوه فِيهِ لما ظهر لَهُم فِيهِ الدَّلِيل على خلاف قَوْله وَطَائِفَة تنقصته وَادعت أَنه أَخذ بِالرَّأْيِ وَترك النَّص هُوَ وَأَصْحَابه وسموهم أَصْحَاب الرَّأْي وهم مَا بَين مُسْتَقل فِي ذَلِك من الطَّرفَيْنِ ومستكثر فتراهم مَا بَين قَادِح تَارَة بِحَق وَتارَة بباطل وَالله يغْفر لنا وَلَهُم
وَأما الْمَعْنى الْفَاسِد الَّذِي قوبل بِهِ هَذَا القَوْل الْبَاطِل فَهُوَ دَعْوَى أَن أَبَا حنيفَة أقدم الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ إِن أَرَادَ أقدم الْمُجْتَهدين من هَذِه الْأمة فَهَذَا بَاطِل قطعا فكم قبله من مجتهدي الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَإِن أَرَادَ أقدم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة الْمَشْهُورين وَهَذَا هُوَ مُرَاده فالإمام مَالك كَانَ معاصرا لَهُ فَإِن مولد أبي حنيفَة ﵀ سنة ثَمَانِينَ من الْهِجْرَة ووفاته سنة خمسين
1 / 30
وَمِائَة ومولد مَالك ﵀ سنة ثَلَاث وَتِسْعين ووفاته سنة تسع وَسبعين وَمِائَة فتعاصرا سبعا وَخمسين سنة وَلم يثبت أَن أَحدهمَا تأهل للِاجْتِهَاد قبل صَاحبه وعَلى تَقْدِير ثُبُوته لَا يلْزم مِنْهُ جَوَاز التَّقْلِيد لوَاحِد مِنْهُمَا دون الآخر فضلا عَن الْوُجُوب بل الْوَاجِب فِي مسَائِل النزاع الرَّد إِلَى الله وَالرَّسُول قَالَ الله ﷾ ﴿فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول﴾ النِّسَاء ٥٩ وَالرَّدّ إِلَى الله إِلَى كِتَابه وَالرَّدّ إِلَى الرَّسُول الرَّد إِلَيْهِ فِي حَيَاته وَإِلَى سنته بعد وَفَاته
وَأهل التَّقْلِيد لَا يَفْعَلُونَ ذَلِك بل يَأْخُذ أحدهم بِمَا يجد فِي كتب أَصْحَاب ذَلِك الإِمَام الَّذِي قَلّدهُ وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من خَالفه كَائِنا من كَانَ وَنَصّ ذَلِك الإِمَام والكتب عِنْده بِمَنْزِلَة نَص الشَّارِع وَكَثِيرًا مَا يكون ذَلِك النَّص من كَلَام بعض الْأَصْحَاب فِي الْفَتَاوَى وَلم يكن لذَلِك الإِمَام فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة قَول مَنْقُول
وَيلْزم الْقَائِل بترجيح الْمُجْتَهد الأقدم أَن يرجح قَول زيد (رض) وَعمر (رض) وَغَيرهمَا من الصَّحَابَة أَو قَول سعيد بن الْمسيب وَالقَاسِم بن مُحَمَّد أَو غَيرهمَا من التَّابِعين على قَول
1 / 31
إِمَامه وَهَذَا لَا يَفْعَله كثير من المقلدين وَلَا شكّ أَن هَذَا تَرْجِيح لم ينشأ عَن دَلِيل بل هُوَ فَاسد فكم من تلميذ أعلم من شَيْخه وَأفضل مِنْهُ فَهَذَا أَبُو حنيفَة ﵀ شَيْخه حَمَّاد وَلَا يذكر حَمَّاد عِنْد مقلدي أبي حنيفَة ﵀
وَأَيْضًا فقد يُعَارضهُ من يُقَلّد الإِمَام الْمُتَأَخر بِأَن يَقُول الإِمَام الْمُتَأَخر اطلع على أَقْوَال الْأَئِمَّة الْمُتَقَدِّمين وَنظر فِي أدلتهم وَاخْتَارَ الصَّحِيح وَالأَصَح فَيكون تَقْلِيده أولى لجمعه مَا كَانَ مُتَفَرقًا عِنْد الْأَئِمَّة الَّذين كَانُوا قبله وإطلاعه على مَا يطلع عَلَيْهِ كل فَرد مِنْهُم فَظهر سُقُوط الِاسْتِدْلَال بفدم الْمُجْتَهد
وَمِنْهَا قَوْله م: المبحث الأول فِي بَيَان فَضله نقلا وعقلا اما النَّقْل فَهُوَ مَا اشْتهر عَن رَسُول الله ﷺ أَنه قَالَ خير الْقُرُون الَّذين أَنا فيهم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يفشو الْكَذِب فَإِن فِيهِ دلَالَة على خيرية
1 / 32
التَّابِعين وَلم يكن ذَلِك إِلَّا لعلمهم بأحوال الدّين وَأَتْبَاع مَا ورثوا من سيد الْمُرْسلين من علم الْكتاب وَالسّنة وآثار الصَّحَابَة الطاهرين وجدهم فِي الشّعْر شكّ عَمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْقيَاس لحفظهم عَمَّا يُوجب الْجرْح والالتباس وفرط تحرزهم عَن تَغْيِير مَا وجدوه من الْحق وَعَن إِلْحَاق غير الْحق بِالْحَقِّ وَكَانَ أَبُو حنيفَة ﵀ إِمَامًا صَادِقا وفقيها فائقا عَالما بِالْكتاب وَالسّنة سالكا محجة أهل السّنة مُتبعا للنَّبِي ﷺ فِيمَا أَمر وَسنة ذَا أَصْحَاب عُلَمَاء أنقياء لَا من أهل الْبدع وَلَا من أهل الْأَهْوَاء مجتهدين بذلوا وسعهم فِي تَحْقِيق الْحق فِيمَا عزلهم من المسالك جلّ أَو دق وَمن شهد النَّبِي ﷺ بخيره أولى بالتقليد من مُجْتَهد غَيره انْتهى
ش: فَإِن هَذَا الإستدلال غير صَحِيح لِأَن النَّبِي ﷺ بَين الْقُرُون فِي الْجُمْلَة وَقد يكون فِي التَّفْضِيل من غَيره أفضل مِنْهُ كالحجاج فَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال على تَفْضِيل فَرد مِنْهُم على من بعده بِكَوْنِهِ مِنْهُم وَإِنَّمَا يرجح بِالسَّبقِ إِلَى الْإِصَابَة مَعَ التَّسَاوِي فِي الزَّمَان كَمَا يرجح أول من أسلم على من تَأَخّر إِسْلَامه لَا بِالسَّبقِ فِي الْوُجُود قَالَ الله تَعَالَى ﴿إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم﴾ الحجرات ١٣ وَقَالَ ﷺ (مثل أمتِي كَمثل الْمَطَر لَا يدْرِي آخِره خير أم أَوله) أخرجه التِّرْمِذِيّ وَلما كَانَ هَذَا الِاسْتِدْلَال صَحِيحا فَهُوَ مُشْتَرك بَين الْحَنَفِيَّة والمالكية فقد تقدم أَن مَالِكًا عاصر أَبَا حنيفَة ﵀ سبعا وَخمسين سنة وَلم يثبت أَن أَحدهمَا تأهل للِاجْتِهَاد قبل صَاحبه وكل مِنْهُمَا من الْقُرُون المفضلة
1 / 33
ورسخوا ذَلِك بِأَن قَالُوا مَذْهَب مَالك مَذْهَب أهل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة دَار الْهِجْرَة وَدَار النُّصْرَة الَّتِي من الله فِيهَا لرَسُوله ﷺ الاسلام وشرائعه وإليها هَاجر الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الله وَرَسُوله وَبهَا كَانَ للْأَنْصَار وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم أصح الْمذَاهب أهل الْمَدَائِن الاسلامية وَلَا شكّ أَن مَالِكًا ﵀ كَانَ من تَابِعِيّ التَّابِعين من الْقُرُون المفضلة وفلي هَذِه الْقُرُون الَّتِي أثنى عَلَيْهَا رَسُول الله ﷺ وَمذهب أهل الْمَدِينَة أصح مَذَاهِب أهل الْمَدَائِن إِذْ آثَار النُّبُوَّة فِيهَا بَاقِيَة لم تَتَغَيَّر كَمَا تقدم التَّنْبِيه على بعض ذَلِك من قَوْلهم وَهُوَ فِي الْقُوَّة كَمَا ترى يحكون عَن الشَّافِعِي ﵀ أَنه قَالَ لَهُ مُحَمَّد بن الْحسن أَيهمَا أعلم صَاحبكُم أَو صاحبنا يَعْنِي أَبَا حنيفَة ومالكا رحمهمَا الله قلت على الْإِنْصَاف قَالَ نعم قلت فأنشدك الله من أعلم بِالْقُرْآنِ صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قلت أنْشدك الله من أعلم بِالسنةِ صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قلت فأنشدك الله من أعلم بأقاويل أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ صاحبنا أَو صَاحبكُم قَالَ اللَّهُمَّ صَاحبكُم قَالَ الشَّافِعِي ﵀ فَلم يبْق إِلَّا الْقيَاس وَالْقِيَاس لَا يكون إِلَّا على هَذِه الْأَشْيَاء فعلى أَي شَيْء تقيس ويستدلون أَيْضا من الْمَنْقُول بِمَا هُوَ أخص من هَذَا الحَدِيث وَهُوَ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن النَّبِي ﷺ أَنه قَالَ (يُوشك أَن يضْرب النَّاس أكباد الْإِبِل فِي طلب الْعلم فَلَا يَجدونَ عَالما أعلم من عَالم
1 / 34
الْمَدِينَة) وَقد روى عَن غير وَاحِد كَابْن جريج وَابْن عُيَيْنَة وَغَيرهم أَنهم قَالُوا هُوَ مَالك وَالَّذين نازعوا فِي ذَلِك لَهُم مأخذان أَحدهمَا الطعْن فِي الحَدِيث فَزعم بَعضهم أَن فِيهِ انْقِطَاعًا وَالثَّانِي أَنه أَرَادَ غير مَالك كالعمري الزَّاهِد وَقد أجابوا عَن ذَلِك بِأَنَّهُ لم يكن فِي عصر مَالك أحد ضرب النَّاس أكباد الْإِبِل إِلَيْهِ أَكثر من مَالك فِي ذَلِك الْعَصْر فَإِنَّهُ ﵀ تَأَخّر مَوته عَنْهُم وَلَا رَحل إِلَى أحد من عُلَمَاء الْمَدِينَة مَا رَحل إِلَى مَالك ﵀ لَا قبله وَلَا بعده وَمَعَ هَذَا فقد عرض عَلَيْهِ الرشيد وَغَيره أَن يحمل النَّاس على موطأه فَامْتنعَ من ذَلِك وَقَالَ إِن أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ تفَرقُوا فِي الْأَمْصَار وَإِنَّمَا جمعت علم أهل بلدي أَو كَمَا قَالَ ﵀
وَمِنْهَا قَوْله م: وَأما الْعقل فلتقدمه واختصاصه بتدوين علم الْفِقْه وإشخاصه فَإِنَّهُ صور الْمسَائِل وَأجَاب عَنْهَا وأوضح الْأَسْبَاب والعلل وَبنى عَلَيْهَا وَقد حكى أَن بعض الشَّافِعِيَّة فِي زمن الْمُزنِيّ كَانَ يغض من أبي حنيفَة ﵀ فَبلغ ذَلِك الْمُزنِيّ فَقَالَ لَهُ مَالك وامرءا سلم لَهُ الْعلمَاء ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم وَهُوَ لَا يسلم لَهُم ربعه فَقَالَ الرجل كَيفَ ذَلِك يَا إِمَام فَقَالَ الْعلم نصفه سُؤال وَنصفه جَوَاب فَأَما النّصْف الأول فقد اخْتصَّ بِهِ أَبُو حنيفَة ﵀ لم يُشَارِكهُ فِيهِ أحد وَأما النّصْف الآخر فَهُوَ يَقُول كُله لَهُ لِأَنَّهُ أصَاب فِي اجْتِهَاده وَغَيره يَقُول الْمُجْتَهد يخطىء
1 / 35
ويصيب أصَاب فِي بعض وَأَخْطَأ فِي بعض فقد سلمُوا لَهُ ثَلَاثَة أَربَاع الْعلم كَمَا ترى وَهُوَ لَا يسلم لَهُم ربعه فَتَابَ الرجل عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَلَعَلَّ هَذَا معنى قَول الإِمَام الشَّافِعِي ﵀ النَّاس عِيَال على أبي حنيفَة ﵀ فِي الْفِقْه وتقليد الأقدم فِي الاستنباط أولى لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخذ مَا أَخذ من المآخذ وعض عَلَيْهَا بالنواجذ والأضراس وَغَيره الْتقط مَا من أقلامه سقط وَحَازَ مَا افرط مِنْهُ أَن أفرط وَهَذَا أَمر يعرفهُ ذَوُو التَّحْصِيل فَلَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل وَلَا تَعْلِيل وَكفى استياسا وتنبيها بِمَا أنْشدهُ الحريري فِي مقاماته الَّذِي حَاز قصبات السَّبق فِي مقالاته
(فَلَو قبل مبكاها بَكَيْت صبَابَة ... للسعدى شفيت النَّفس قبل المتندم)
(وَلَكِن بَكت قبلي فهيج لي الْبكاء ... بكاءها فَقلت الْفضل للمتقدم)
انْتهى ش: فَأَما استدلاله بالتقدم فقد تقدم التَّنْبِيه على بعض مَا فِيهِ وَأما استدلاله باختصاصه بتدوين علم الْفِقْه فَمَمْنُوع لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَنه لم يدون بِنَفسِهِ فِي الْفِقْه مصنفا ينْسب إِلَيْهِ وَإِنَّمَا صنف أَصْحَابه بعده على مذْهبه مَا صنفوه
وَالثَّانِي أَنه غير مُخْتَصّ بتصوير الْمسَائِل وَالْجَوَاب عَنْهَا إِن كَانَ هَذَا هُوَ مُرَاده بتدوين علم الْفِقْه فقد فعل هَذَا غَيره من عُلَمَاء الْمُسلمين وعابه بَعضهم وَقَالَ إِن الْوَاجِب ضبط أصُول ذَلِك من الْكتاب وَالسّنة حَتَّى إِذا وَقعت حَادِثَة طلب معرفَة الحكم فِيهَا من مظانه وَالْعُلَمَاء مُخْتَلفُونَ فِي بيع الْكتب الَّتِي فِيهَا الْعلم بِالرَّأْيِ هَل يجوز أم لَا على قَوْلَيْنِ
وَعَن عَليّ ﵁ أَنه كَانَ إِذا أرسل إِلَيْهِ بعض نوابه يسْأَله عَن قَضِيَّة من قضايا الْجد مَعَ الاخوة يَأْمر فِيهَا بِاجْتِهَادِهِ وَيَقُول قطع
1 / 36
الْكتب كَأَنَّهُ ﵁ رأى إِنَّه إِنَّمَا يتَكَلَّم فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ للضَّرُورَة فالضرورة تبيحه كالميتة وَكره أَن يُقَلّد غَيره من غير اجْتِهَاده فَأمر بتقطيع الْكتاب لذَلِك بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مَعَه نَص فَإِنَّهُ يبلغهُ وَيَأْمُر بتبليغه وَلَا يَأْمر بِقطع كِتَابه
وَأما قَوْله إِن تَقْدِيم الأقدم فِي الإستنباط أولى فَإِن ذَلِك غير مُسلم بل قد يكون التلميذ أفضل من شَيْخه كَمَا تقدم
فَيُقَال لَهُ إِن كنت قلدته لكَونه أقدم فِي الإستنباط فقلد شَيْخه لإنه أقدم مِنْهُ وَكَذَلِكَ من هُوَ أقدم حَتَّى يَنْتَهِي الْأَمر إِلَى أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ
فَإِن أَبى قيل لَهُ كَيفَ يجوز تَقْلِيد من هُوَ أَصْغَر وَأَقل علما وَلَا يجوز تَقْلِيد من هُوَ أكبر وَأكْثر علما وَهَذَا تنَاقض بَين
وَإِن قَالَ أَبُو حنيفَة ﵀ جمع علم من قبله إِلَى علمه قيل لَهُ فَمن جَاءَ بعد أبي حنيفَة ﵀ قد جمع علمه إِلَى علمه فيلزمك تَقْلِيده
فَإِن قَالَ نعم فقد جعل صغَار الْعلمَاء أولى بالتقليد من أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ ورضى عَنْهُم وَإِلَّا تنَاقض
وَأما قَوْله فِي الْحِكَايَة الَّتِي تنْسب إِلَى الْمُزنِيّ أَنه قَالَ إِن أَبَا حنيفَة ﵀ سلم لَهُ النَّاس إِلَى فِيهِ أحد فَإِن هَذِه الْحِكَايَة لَا أَظن انها
1 / 37
تصح عَن الْمُزنِيّ لوَجْهَيْنِ
أَحدهمَا أَن قَوْله أَن ابا حنيفَة اخْتصَّ بِالنِّصْفِ الأول الَّذِي هُوَ السُّؤَال لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد لَا يَصح لِأَن الْحَوَادِث لَا زَالَت تتجدد وَيسْأل عَنْهَا وتصور أسئلة وَيُجَاب عَنْهَا قبل أبي حنيفَة ﵀ وَمَعَهُ وَبعده وَلَا يَدعِي الإختصاص وَعدم الْمُشَاركَة فِي ذَلِك إِلَّا متعصب جَاهِل
وَالثَّانِي إِن السُّؤَال لَا يَصح أَن يكون نصف الْعلم وَلَا شَيْئا مِنْهُ وَإِنَّمَا الْعلم الشَّرْعِيّ وَمَعْرِفَة الْأَحْكَام فِي الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة بأدلتها وَلَا يدْخل السُّؤَال بِوَجْه والتشقيق فِي الأسئلة وتوليدها يُدْرِكهُ عوام النَّاس وَإِنَّمَا يخْتَص الْعلمَاء بِمَعْرِفَة الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة بأدلتها وإستنباطها
وَمِنْهَا قَوْله م: المبحث الثَّانِي فِي فضل اجْتِهَاده اعْلَم أَن الْأمة إِذا اخْتلفُوا فِي مَسْأَلَة على قَوْلَيْنِ وَاسْتقر خلافهم على ذَلِك لَا يجوز لأحد بعد ذَلِك أَن يحدث قولا ثَالِثا عِنْد عَامَّة الْعلمَاء وَأما قبل الِاسْتِقْرَار فَهُوَ جَائِز بِلَا خلاف وَأَبُو حنيفَة ﵀ اجْتهد قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب وصادف اجْتِهَاده مَحَله فَكَانَ جَائِزا بِلَا خلاف ثمَّ من اجْتهد بعد ذَلِك فَإِنَّمَا اجْتهد بعد اسْتِقْرَار الْمذَاهب وَذَلِكَ لَا يجوز عِنْد أَكثر الْعلمَاء كَمَا مر وَمَا كَانَ جَائِزا بِلَا خلاف فَهُوَ أفضل مِمَّا كَانَ مُخْتَلفا فِيهِ والمنازع مكابر وَقد صرح أَبُو بكر الرَّازِيّ فِي شرح آثَار الطَّحَاوِيّ بِأَن اجْتِهَاد من بعد أبي حنيفَة ﵀ غير مُعْتَد بِهِ وتقليد الْأَفْضَل أفضل وَإِن لم يكن وَاجِبا فان بعض الْعلمَاء ذهب إِلَى أَن تَقْلِيد الْأَفْضَل أفضل انْتهى
ش: فَإِن الَّذِي ذكره أهل الْأُصُول فِي هَذَا الأَصْل أَن الصَّحَابَة ﵃ إِذا اخْتلفُوا فِي مسئلة على قَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لمن بعدهمْ أَن يَقُول قولا ثَالِثا إِن كَانَ ذَلِك بعد اسْتِقْرَار مذاهبهم فِيمَا قَالُوا وَكَذَلِكَ اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي كل عصر على أَقْوَال رد القَوْل الْحَادِث بعد اسْتِقْرَار الْخلاف على
1 / 38
مَا فِي هَذَا الأَصْل من الْخلاف وعَلى تَقْدِير صِحَّته لَا يلْزم مِنْهُ رد قَول مَالك وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وأمثال هَؤُلَاءِ المعاصرين لأبي حنيفَة إِذا خالفوه فِي مَسْأَلَة فَإِن الْمَذْهَب لم يسْتَقرّ بِزَعْمِهِ وَإِنَّمَا يلْزم مِنْهُ أَن الصَّحَابَة إِذا اتَّفقُوا فِي مَسْأَلَة على حكم أَو اخْتلفُوا فِيهَا على قَوْلَيْنِ أَو أَكثر أَنه لَيْسَ لمن بعدهمْ أَن يحدث فِيهَا قولا آخر
وَهَذَا الأَصْل مُشكل على الْمُقَلّد فِي مسَائِل
مِنْهَا مَسْأَلَة الحكم بالنظير فِي قتل الصَّيْد حَالَة الْإِحْرَام فَإِنَّهُ حكم اتّفقت الصَّحَابَة عَلَيْهِ وَالْقَوْل بِالْقيمَةِ حَادث وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا لمُحَمد
وَمِنْهَا مَسْأَلَة اللوطي فَإِن أَبَا حنيفَة يرى تعزيزه دون حَده وَلم يقل أحد من الصَّحَابَة ﵃ بالاكتفاء بتعزيزه وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة قَتله فَمُقْتَضى هَذَا الأَصْل أَنه لَا يجوز الإكتفاء بتعزيزه لِأَنَّهُ قَول
1 / 39
حَادث بعد إستقرار الْخلاف بَين الصَّحَابَة على أَقْوَال لَيْسَ هُوَ مِنْهَا ونظائر هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ كَثِيرَة فَظهر أَن هَذَا الأَصْل الَّذِي ذكره حجَّة عَلَيْهِ فِي تَقْلِيده لَا لَهُ
وَكم قد خَالف أَبَا حنيفَة أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَزفر وَغَيرهم من أَصْحَابه فِي مسَائِل لَا تكَاد تحصى وَكم قد رجعُوا عَن مَسْأَلَة لما ظهر لَهُم فِيهَا الدَّلِيل على خلاف مَا كَانُوا وافقو فِيهِ وَقد قَالَ ابو يُوسُف لما رَجَعَ عَن قَوْله فِي مِقْدَار الصَّاع وَعَن صَدَقَة الخضروات وَغَيرهَا لَو رأى صَاحِبي مَا رايت لرجع كَمَا رجعت وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ يعلم من أبي حنيفَة ﵀ أَنه إِذا ظهر لَهُ الدَّلِيل رَجَعَ إِلَيْهِ
وَمن ظن أَن أَبَا حنيفَة أَو غَيره من أَئِمَّة الْمُسلمين يتَعَمَّد مُخَالفَة الحَدِيث الصَّحِيح أَو غَيره أَو أَنه إِذا قَالَ بِالْقِيَاسِ ثمَّ ظهر لَهُ النَّص لَا يرجع إِلَيْهِ فقد أَخطَأ عَلَيْهِم بل لَو تبين لَهُ خطأ ذَلِك الْقيَاس لرجع عَنهُ إِلَى مَا هُوَ أصح مِنْهُ وَإِن لم يكن ثمَّ نَص فَكيف إِذا ظهر لَهُ النَّص فاذا سَاغَ هَذَا لأَصْحَاب أبي حنيفَة ﵀ كَيفَ لَا يسوغ لغَيرهم وَالرُّجُوع إِلَى الْحق خير من التَّمَادِي فِي الْبَاطِل فَقَوله وَأَبُو حنيفَة اجْتهد قبل
1 / 40