إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم
إذهاب الحزن وشفاء الصدر السقيم
خپرندوی
دار الإيمان
د ایډیشن شمېره
-
د خپرونکي ځای
القاهرة
ژانرونه
الإهداء
إلى: سيدي رسول الله ﷺ ... صاحب خبر السماء ﷺ ... نفسي له الفداء ...
أنفاسك الطاهرة ... طالما أقرأت الكتاب المجيد ... فكان من يديك- يا سيدي- كلّ برّ أمين مبين رشيد ... فخلف من بعدهم- يا سيدي- خلف ورثوا الكتاب ... يأخذون عرض هذا الأدنى ... طمعا في السراب ... وبلي القران في صدور أقوام كما تبلى الثياب ... وانطلق الملأ منهم ينتجون: إن سيرهم على حرف الكتاب لفي ضلال مبين ... فحرفوه، ورموا به في غيابات الجب، وكانوا فاعلين ... وهم يصعدون ...
يصعدون- يا سيدي- ولا يلوون على أحد ... واشتري بايات الله ثمن قليل ...
وحشرج الصدر لذلك بعويل الأسوار، وسمعت اهات نداء الحق خلف أسوار العويل ... وملأ من المؤمنين للحق كارهون ... يجادلون في الحق بعدما تبين، وهم ينظرون ... وأحلوا الخسر؛ إذ حطموا باستكبارهم التواصي بحق وصبر، وهم لا يشعرون ... وصار ما سوى الكتاب المجيد عندهم هو العجاب ... فمسنا حين من الدهر تاهت عنا فيه حقيقة المتاب ... وأفل عنا كل نور صالح، وتركتنا شفقة عبد لله ناصح، ولغبنا بعوج ماديات المصالح، ونأت خلفنا هدايات عليّ حكيم ...
فذهبت الريح ... وبكى الغار ... وأنّ أحد وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ... ألم تدعهم في أخراهم ... وأخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ...
فكان نداؤك- يا حبيبي- يشق الأزمان للولهى، ويغيث أمة من اضطرام الفتنة حيرى: «هذا الكتاب ... فتمسكوا به فإنكم لن تضلوا بعده أبدا»، فسارع إلى الخيرات كلّ ممسّك بالكتاب يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ... يبتغي الحق مظانه، وعلى شدة القروح انقلبوا بنعمة من الله وفضل ... لم يمسسهم سوء ... فإذا
1 / 3
سعيهم محمّد محمود أحمد ... بما علمتهم من الكتاب المجيد ... حتى كادوا يكونون عليه- لهفا وشوقا- لبدا ... ينتظرون ورود الحوض، وشروق شمسك أمامه ... كأن وجهك ورقة مصحف علّمته ... وما زالوا- يا حبيبي- يخرون للأذقان ... يبكون ابتغاء شربة هنيئة لا تظمأ بعدها قلوب لهفى طالما ظمئت إلى يدك الشريفة- أبدا ...
يرددون مع الحبيب الجليل ابن أم عبد- إذ أمرتهم بالتمسك بعهده-:
«اللهم أسالك إيمانا لا يرتد ... ونعيما لا ينفد ... ومرافقة نبينا محمد ﷺ في أعلى جنان الخلد ...
1 / 4
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدّمة
الحمد لله على الائه ... هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ... لقد جاءت رسل ربنا بالحق، ومقال الصدق، صلى اللة عليهم اجمعين ... اللهم صلّ على محمد صلاة أزدلف بها إلى مغفرتك، وسلم عليه تسليما يحشرني في زمرة أوليائه ... الهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير، وقائد الخير، ورسول الرحمة ... الهم ابعثه مقاما محمودا يغبطه به الأولون والاخرون، وعلى اله وأصحابه الكرام الطيبين، الأخيار الطاهرين.
اللهم إني أعوذ بك أن أقول بحقّ أطلب به غير طاعتك، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك ... أعوذ بك أن أستعين بشيء من معاصيك على ضرّ نزل بي ... أعوذ بك أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك في مقام الخزي ... اجعلى ممن ابتدأته بفضلك ... وأعقبته بودك، ورأفتك، ورحمتك.
وبعد: فكم عللت الفؤاد العليل بإشراق غده ان أن كان يتطلع لهفا وشوقا إلى معرفة المنهجية النبوية الصافية في تعليم اللفظ القراني ... فمتى غده إن لم يكن الان؟ والاخرة على الأبواب ... ومعرفة كهذه تفتح أبواب الإيمان واليقين والعمل والإخبات ففيها لكل ذلك مغتسل بارد وشراب ... وقد كانت رسالة العالمية العليا (الدكتوراه) محاوله أولية في سبيل تحقيق ذلك، إلا أن طولها، وعمق أبواب كثيرة من مسائلها دعا عددا من الأحباب النصحة لكتاب الله وللمسلمين إلى طلب اختصارها عسى أن يعم النفع بها لعامة المسلمين بعد أن كان موقوفا على
1 / 5
المختصين والباحثين ... فكان هذا الكتاب ... ملتمسا من الله ﷿ خير ختام وحسن ماب.
المنهجية النبوية في تعليم اللفظ القراني ... لماذا؟
١- لأن حاجة علماء الإقراء والتجويد ماسة وضرورية إلى منهج محدد يوضح لهم كيفية إقراء النبي ﷺ اللفظ القراني، ليكون أساسا تقعيديا يعتمدون عليه في تأصيل عمليات الإقراء، وركنا واضحا يتخذونه سبيلا تطبيقيا في تعليم اللفظ القراني وتعلمه.
٢- ليستبين المقياس المطلق لصحة المنهجية التعليمية للفظ القراني، وبالتالي يتم تصحيح بعض الأخطاء الشائعة في المنهجيات التعليمية السائدة كالغلو في حفظ الألفاظ دون مصاحبة ذلك لمنهجية في تعلم المعاني، والتخلق بالخلق القراني ... فتكون هذه الدراسة محاولة في سبيل إعادة المنهجية النبوية إلى واقع الأمة، وتمثل أساسا لتقويم واقع الإقراء وتسديده في العصر الحاضر.
٣- ليأوى معلم القران ومتعلمه من المسلمين عامة إلى ظلال وارفة عيشا مع قضايا علم القراءة والتجويد في صورتها الصافية، وسيرتها الأولى ... حيث كان الموجه القران الكريم، والسنة النبوية قبل حدوث الأقوال وتعددها- على فضلها- ... عسى أن ينشر الله له فيها من رحمته، ويهيئ له من أمره مرفقا إذا دلف إلى جنانها في عصر أحزاننا المستديمة على حد قول القائل:
دخلت، وقلبي قد طار مني ... ولكنه عاد لمّا دخلت
دخلت الرحاب، وأسلمت نفسي ... إلى تلف الوجد حتى سلمت
وكان المقام العظيم العظيم ... عليه يخيم نور وصمت
فطوف بي من جلال القران ... ذهول فهمت، وهمت، وهمت
1 / 6
٤- لسد الثغرة القائمة في مؤلفات علوم القران الكريم؛ إذ لا يوجد- فيما أعلم- كتاب جامع يتضمن دراسة وصفية لتعليم النبي ﷺ القران الكريم لأصحابه رضى الله عنهم، ويؤصل لقواعد علم التجويد، وإن سدت كتب فضائل القران ومقدمات التفاسير جزا عظيما وهاما من ذلك.
الأهداف التفصيلية للكتاب:
١- التأصيل الشرعي الدقيق لمناهج القراء، وقواعد التجويد حيث تخلو الكتب المؤلفة في هذا العلم- غالبا- من ذلك.
٢- الوصول إلى نتائج مبينة في بعض قضايا اللفظ القراني الشائكة كمسألة التواتر القراني ... والتكبير عند خواتم القران ... عدد الحفاظ في عهد النبي ﷺ ...
صورة حفظ القران مسألة عامة شائعة ... التأكيد على حفظ كبار الصحابة ﵃ للقران كله في حياة النبي ﷺ ... العرضة الأخيرة ... حل إشكالات في الفهم لبعض الروايات والنصوص التعليمية ... الكلام عن القراءة التفسيرية ... نظرية القراءة بالمعنى ... أسلوب إدارة النبي ﷺ للجامعة النبوية القرانية ... تخرج الاف الحفاظ للقران الكريم على أيدي أئمة الإقراء من أصحابه ﵃.
٣- إظهار الأداة الواقعية التي تؤدي إلى الاطمئنان على دقة نقل ألفاظ القران الكريم، وعدم طروء أي تطور مخالف لما كان عليه الأمر قديما في نقلها إلا ما كان عائدا إلى خدمة الأصل التوقيفي ... فتتجلى عند ذاك واقعية الحقيقة الإيمانية (العقدية) الخالدة (حقيقة الحفظ الإلهي للقران الكريم) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (الحجر: ٩)، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ (البقرة: ٢)، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (السجدة: ٢)، من خلال وصف ذلك في العهد النبوي، وعرض حقائق التلاوة بطريقة فيها تنوع جديد.
1 / 7
٤- رام المؤلف أن يبين أن النبي ﷺ كان- في أداء البلاغ المبين للفظ القراني- كرئيس جامعة عصرية تضم تحتها عددا من الكليات، ومجموعة متخصصة من هيئة التدريس يبرز بعضهم ككبار المدرسين، ويمكن تشبيه بعضهم بالمعلم الأول في عصرنا ... وأما الطلاب فأعداد غفيرة تشكل الأمة بأسرها، ومنهم المتفرغون لتعلم القران الكريم كالسبعين الذين قتلوا في بئر معونة، كما حاول أن يبين مفردات المنهج الذي يجب على جميعهم أن يتعلموه «الواجب العيني»، ثم يرتقي بعضهم إلى الدراسات العليا ليحيطوا بنسبة أكثر وأدق من المعرفة القرانية لهذا المنهج التعليمي «الفرض الكفائي» ...
٥- فصّل الكتاب كيفية تعليم الناس اللفظ القراني وفق منهجية التلقي، وكيف كانت تتم عملية التلقين والتلقي على الرغم من كثرة العدد، مع ضرورة تطبيق اللفظ القراني، ومعرفة معانيه.
لماذا اختار الكتاب مصطلح (أصحاب) ولم يختر مصطلح (تلاميذ) ؟
لأن هذا هو المصطلح النبوي لتلاميذ النبي ﷺ ... والاصطلاح على المتعلم بأنه (تلميذ) نشأ متأخرا «١»، والأصحاب مأخوذ من الصحبة التي «تعني المصاحبة والمرافقة والمجالسة على حب الله تعالى وحب رسوله ﷺ، والصحابة هم أصحاب محمد ﷺ الذين صاحبوه وجالسوه وسمعوا منه وأخذوا عنه هدي الإسلام وسننه، فنصروه وعزّروه وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد قام المنهج النبوي على تأسيس الصلة والصحبة والجندية كلها على المتابعة بالمحبة والصدق والإخلاص» «٢»، ولا شك أن الظلال النفسية لمصطلح صاحب لها
_________
(١) انظر: لسان العرب (٣/ ٤٧٨) ومما ذكره أن التلاميذ هم الخدم والأتباع واحدهم تلميذ.
(٢) أحمد علي الإمام (دكتور): الصحبة والصحابة (ص ٦)، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
1 / 8
أثرها الراقي بصورة أعلى بكثير من الظلال التي يثيرها مصطلح تلميذ خاصة في المرحلة الثانوية والجامعية، وقد طلب البعض عدم استعمال مصطلح تلميذ لطلاب العلم في هاتين المرحلتين.
حول الروايات الواردة في الكتاب:
يلتزم الكاتب إيراد الروايات المقبولة دون غيرها في صلب البحث، وقد يورد غيرها مما لم يشتد ضعفه على سبيل الاستشهاد- إن كانت تلك الروايا صالحة للاعتبار- وذلك ينسجم مع ما قاله الإمام أحمد- ﵀: «الأحاديث الضعيفة قد يحتاج إليها في وقت، والمنكر أبدا منكر» «١»، وكل ذلك بحسب ما يلائم كل قضية من درجة في التوثيق. وقد يذكر الكاتب تخريج الهيثمي في مجمع الزوائد وحكمه على الرواية، مع أنه إنما يحكم على السند الذي أمامه وليس على الحديث، ولذا فقد يضعّف بعض الأحاديث مع أنها مقواة من جهات أخرى، فأرجو ألا يغتر بذلك.
معوقات في مواجهة البحث:
١- شح المادة العلمية التفصيلية لهذا البحث، وما ذاك إلا لصيرورة مفردات مناهج التعليم للفظ القراني بدهيات لا يستغنى عنها، فصار الجانب العملي فيها مغنيا عن النقل العلمي، كما أن هذا اقتضى التنقيب البالغ عن النصوص المطلوبة في كل كتاب علمي يمكن الاطلاع عليه ... وهو ما جعل العبء مضاعفا.
٢- غموض الترتيب في المادة المجموعة لعدم النسج على مثال سابق في خصوص الموضوع، كما أن جلالة الموضوع، وهيبته؛ إذ إن حقيقته محاولة العيش بين الرسول ﷺ والقران الكريم والصحابة ﵃ مع أشرف وظيفة بعث بها
_________
(١) أحمد علي الإمام (دكتور): الصحبة والصحابة (ص ٦)، منشورات مجمع الفقه الإسلامي، الخرطوم.
1 / 9
الرسول ﷺ هي تعليم الكتاب ... وهذا قد يؤود الباحث فيتنكب الصواب في ثنايا الاضطراب ... وذا أثر نفسي لا ينكره الباحث.
منهج الاختصار للبحث:
١- قرئ أصل هذا الكتاب عدة مرات أخر من أوله إلى اخره حتى يتم حذف ما يمكن حذفه، وتعديل ما يجب تعديله بحيث يتناسب مع الحيز المقترح له من عدد الصفحات.
٢- حذفت الاراء الفقهية المختلفة، واكتفي ببيان الراجح فقط عند وجود الاختلاف في المسألة ... ومن أراد الاستزادة فعليه بالأصل.
٣- اكتفي بأهم النصوص القرانية والحديثية التي توضح فكرة الموضوع، واقتصر على واحد منها عندما يسوغ ذلك، كما اكتفي في غالب الأحيان بموضع الشاهد من النص القراني أو النبوي، وحذف تفصيل الكلام على تخريج الأحاديث، وكلام الشراح حولها إلا ما لابد منه في نظر الكاتب.
٤- حذفت العبارات التي يمكن بدونها فهم الفكرة الأصلية، وكان وجودها زيادة إيضاح وبيان، وامتد هذا التصرف إلى النصوص المنقولة عن أهل العلم.
٥- حذفت الاعتراضات على الفكرة أو المعنى الراجح والأجوبة على ذلك غالبا.
٦- دمجت عدد من المطالب والمباحث، وحذف بعضها لكن الكاتب أبقى على الهيكل العام (الفصول) كما هو.
٧- تم حذف كثير من تفاصيل براهين النظريات التي مال إليها الباحث في الفصل الخامس، كما حذف موضوع التواتر القرائي بأكمله من هذا الفصل مما لا أظن الباحث يستطيع الاكتفاء بما هو موجود في هذا المختصر، فأنصح بالرجوع إلى الأصل في هذا الموضوع الكبير.
1 / 10
٨- حذفت معلومات المرجع من أول موضع ورد فيه غالبا، واكتفى بمختصره، حيث يغني فهرس المراجع عن ذلك، كما تم حذف تراجم الأعلام، وتفاصيل التعريفات اللغوية.
٩- تركت ما فيه ذكر لأخبار القراء من الصحابة والتابعين مما يزيّن القارئ به مجالسه وحلقته.
فإن اعترض على هذه الطريقة في الاختصار ... فأنا أسلم بذلك، وليكن هذا كتاب جديد يكون مدخلا للأصل.
الهيكل العام للبحث «خطة البحث»:
يتكون البحث من مقدمة وخمسة فصول، وقد اختار الباحث أن يسير سيرا متدرجا بالنسبة لتعليم قراءة القران الكريم، ابتداء بما قبل القراءة وحتى ختامها ...
ولما كان البحث دائرا حول شخصية النبي ﷺ التعليمية في الإطار الخاص وهو تعليم ألفاظ القران الكريم لا التعليم لكل ما يتعلم فقد انعقد الفصل الأول لأجل ذلك فكان حول شخصية النبي ﷺ التعليمية من الناحية العامة إشارة إليها، ومن الناحية الخاصة المتعلقة بتعليم اللفظ القراني.
ولما كان البحث دائرا حول تعليم ألفاظ القران الكريم فقد لزم من هذا بيان أصول هذا التعليم في منهجية النبي ﷺ من الناحية الإدارية والمنهجية وعقد الفصل الثاني لأجل ذلك.
ولما كان محور البحث متركزا في كيفية تعليم تلاوة الألفاظ القرانية فقد عقد الفصل الثالث لإيضاح ذلك بالتفصيل، وبيان منهجية النبي ﷺ في تعليم الترتيل «التجويد» .
1 / 11
ولما كان حفظ «جمع» القران يمثل الغاية من هذا التعليم فقد انعقد الفصل الرابع لبيان جمع القران كتابة وعن ظهر قلب، واستتبع هذا الكلام عن جامعي القران الكريم من الصحابة على يد النبي ﷺ «المخرجات التعليمية» .
ولأن القران قد اختص من بين سائر الكتب السماوية بنزوله على لغة العرب ومن ثم امتناع ترجمته حرفيا، مع الإذن بقراءته على سبعة أحرف ... فقد انعقد الفصل الخامس لبيان كيفية تعليم النبي ﷺ ذلك، واستتبع هذا ربط ذلك بحقيقة التواتر القراني واثاره التي تدل على عدم مس القران الكريم كما أنزله الله تعالى بزيادة أو نقصان، وبيان الحقائق التي تجلي بعض الاستشكالات التي أوردت على المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم.
وعلى هذا انحصرت تبويبات البحث بعد المقدمة في التالي:
الفصل الأول: شخصية النبي ﷺ التعليمية: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد ﷺ.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه.
الفصل الثاني: أصول تعليم النبي ﷺ أصحابه ألفاظ القران: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه ﷺ كيفية تعلمه لكلام الله القراني.
المبحث الثاني: وسائل تعليم ألفاظ القران الكريم كما وضعها النبي ﷺ.
المبحث الثالث: وسائل النشر التعليمية لألفاظ القران الكريم في عموم المجتمع المسلم كما قام بها النبي ﷺ.
المبحث الرابع: القواعد التربوية المصاحبة لعملية الإقراء «من حيث اللفظ» .
1 / 12
الفصل الثالث: جماع منهجية النبي ﷺ في تحفيظ الألفاظ وترتيلها: وفيه ستة مباحث وهي:
المبحث الأول: تعليمه ﷺ أساسيات الدرس القراني «منهج الحلقات القرانية» .
المبحث الثاني: تعليمه ﷺ ماهية التجويد وحكمه.
المبحث الثالث: تعليمه ﷺ أهمية التجويد وضوابطه الشرعية.
المبحث الرابع: تعليمه ﷺ ترتيل ألفاظ القران الكريم.
المبحث الخامس: تعليمه ﷺ مراتب الأداء الأعلى من التجويد.
المبحث السادس: تعليمه ﷺ الملحقات بأحكام التجويد.
الفصل الرابع: تعليمه ﷺ جمع القران الكريم حفظا وكتابة «المخرجات التعليمية»: وفيه أربعة مباحث:
المبحث الأول: أثر عامل السن في أسلوب تعليمه «منهجية النبي ﷺ في تعليم الصغار» .
المبحث الثاني: تعليمه ﷺ ألقاب حامل القران وصفاته.
المبحث الثالث: أصحاب «تلاميذ» النبي ﷺ من أئمة الإقراء «المخرجات التعليمية» .
المبحث الرابع: تعليمه ﷺ جمع القران.
الفصل الخامس: تعليمه ﷺ قراءة القران على أحرفه المنزلة: وفيه ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تعليمه ﷺ القراءة بما تيسر من الأحرف السبعة.
المبحث الثاني: تعليمه ﷺ أن القراءة سنة يأخذها الاخر عن الأول.
1 / 13
المبحث الثالث: المنهجية الشرعية لتناقل القران الكريم «التواتر في نقل ألفاظ القران» .
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ.
وهذا أوان انطلاق القلم في البحث سائرا بسم الله مجراه ومرساه، وحسبنا الله ونعم الوكيل، على الله ربنا توكلنا.
الدكتور عبد السلام مقبل المجيدي
1 / 14
الفصل الأول: شخصية النبي ﷺ التعليمية «الرسول المعلم»:
وفيه ثلاثة مباحث:
يتناول هذا الفصل شخصية النبي ﷺ التعليمية بما يعطي لمعلم القران الكريم الدلالات الاتية:
١- الاعتزاز بهذه الوظيفة، واستشعار أنها فعل النبي ﷺ وهديه، وسمته ...
فهي أفضل الأعمال.
٢- استشعار الاهتمام الشديد الذي أولاه الشرع لتلاوة القران وتعليمه بما يعين الفرد والمجتمع على استيعاب مدى الأهمية الشرعية ومن ثم الواقعية لهذين العملين في الحياة، وذلك لأن جميع وظائف النبي ﷺ تفصيلا تعود إلى تلاوة الكتاب المجيد، وتعليمه ... وبناء على ذلك يبين الفصل الأخير حكم تعلم ألفاظ القران الكريم وتعليمه، ولتحقيق الغاية من هذا الفصل فقد انقسم منطقيا إلى ثلاثة مباحث هي:
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد ﷺ.
المبحث الثاني: وظيفة التلاوة.
المبحث الثالث: حكم تعلم القران الكريم وتعليمه.
ولما كان المبحث الأول كالتقدمة للثاني والثالث كالتتمة كان الثاني أطول منهما.
1 / 15
المبحث الأول: طبيعة الوظيفة الرسالية لسيدنا محمد ﷺ:
وفيه ثلاثة مطالب:
يناقش هذا المبحث وظيفة النبي ﷺ العامة، ويحلل الدلالات اللفظية لوصفها المصطلحي، وماهية مرتكزاتها تفصيلا ... ويرجع ذلك إلى ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي ﷺ
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوصف الإجمالي للوظيفة النبوية.
المطلب الثالث: تفصيل الوظيفة الرسالية للنبي ﷺ.
المطلب الأول: الوظيفة العامة للنبي ﷺ:
يمكن إيجاز وظيفة النبي ﷺ في أن الله ﷻ إنما بعثه معلما كما قال ﷺ: «إن الله لم يبعثني معنتا، ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما ميسرا» «١»، وجعل وظيفته الكاملة القيام ب (البلاغ المبين) كما قال ﷿: فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (المائدة: ٩٢) وهذا الأسلوب يفيد حصر الوظيفة على البلاغ، وقصر المهمة على أن يكون البلاغ مبينا، وحصرت مهمته ﷺ في ذلك ليعلم طبيعتها أهل المشرق والمغرب ممن اهتدى، أو اثر الردى ... فقد بين الله ﷻ لنبيه ﷺ أن المعاندين إن «جادلوك بالأقاويل المزورة، والمغالطات فأسند أمرك إلى ما كلفت من الإيمان والتبليغ»» .
_________
(١) صحيح مسلم (٢/ ١١٠) .
(٢) الجامع لأحكام القران (٤/ ٤٥) عند تأويل قوله: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ ... (ال عمران: ٢٠) .
1 / 16
تحديد نطاق وظيفة الرسول ﷺ:
وإذا كان ما سبق هو إخبار للمخاطبين يبين مهمة الرسول ﷺ ويحصرها؛ فقد أكّد هذا الحصر بخطاب الله تعالى للرسول ﷺ ذاته مباشرة بما يبين له نطاق مهمته ووظيفته ﷺ قوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: ٨٢)، وعمم الأمر خطابا للرسول ﷺ وغيره زيادة في الإيضاح والتأكيد في قوله ﷾: وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (العنكبوت: ١٨)، وهذه هي وظيفة الرسل عامة كما قال ﷻ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (النحل: ٣٥)، وقد أخذ هذا التحديد النظري طابعا تطبيقيا في إيضاح الرسل وظيفتهم لأقوامهم كما في قوله ﷾ على لسان نوح وهود- ﵉ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: ٦٢، ٦٨)، وعلى لسان صالح ﵇: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي (الأعراف: ٧٩)، وشعيب ﵇: لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي (الأعراف: ٩٣)، ورسل صاحب يس: وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ «١» (يس: ١٧) .
تعليم النبي ﷺ أصحابه ﵃ حدود مهمته:
وقد علم النبي ﷺ أصحابه نطاق مهمته الرسالية، لما يترتب على ذلك من ضرورات منهجية ترجع إلى حفظ أصول الدين وقواعده، وتتلخص في عنصر واحد: أن يكونوا شهودا على ذلك في الدنيا والاخرة:
أما في الدنيا فحتى لا يفتري عليه أحد بكتمان، أو نقصان، ويعلم الثقلان أن ما بلغه هو الدين الكامل.
_________
(١) هذه إشارات، ويستعان لمزيد من التحليل ب: المعجم المفهرس لمعاني القران العظيم (١/ ٢٢٥) .
1 / 17
وأما في الاخرة فحتى يشهدوا له عند الله ﷻ.
من أجل ذلك بين لهم ﷺ غير ما تقدم- أن الله ﷿ أوجب عليه البلاغ لكل ما أوحى إليه من ربه ﷿، وإن لم يفعل فما قام بوظيفته التي أرسل من أجلها، كما قال ﷾: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: ٦٧)، كما قال الزهري في فقه هذه الاية:
«من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم» «١»، ... فكل شيء سكت عنه ﷺ فهو مما لم يؤمر بتبليغه- إن كان ثم شيء يبلّغ-، وقد علم الصحابة ﵃ بأنه لو كان ثم شيء يستحق البلاغ لأمر بتبليغه فعن عبد الله بن مسعود ﵁ قال: صلّى رسول الله ﷺ قال إبراهيم: زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا:
صلّيت كذا وكذا. قال: فثنى رجليه، واستقبل القبلة، فسجد سجدتين ثمّ سلّم، ثمّ أقبل علينا بوجهه، فقال: «إنّه لو حدث في الصّلاة شيء أنبأتكم به» «٢» .
استشهاده ﷺ الخلق على قيامه بالبلاغ: وقد شهّد أمته على إبلاغه الرسالة، واستنطقهم بذلك في أعظم المجامع، كما في خطبته في حجة الوداع، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال في خطبة حجة الوداع: «أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت. فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ويقول: اللهم اشهد» «٣» .
_________
(١) صحيح البخاري (٦/ ٢٧٣٨) .
(٢) البخاري (١/ ١٥٦)، مسلم (١/ ٤٠٠)، مرجعان سابقان.
(٣) وورد مثل ذلك عن أبي بكرة عند البخاري (١/ ٥٢)، ومسلم (٣/ ١٣٠٥)، وعن ابن عباس عند البخاري (٢/ ٦١٩)، وقد جاء مثل ذلك أيضا عن عدد من الصحابة في أكثر من موطن.. انظر: الأصل.
1 / 18
وشهد له الصحابة ﵃ بكمال البلاغ في الدنيا: فمنعوا بذلك أوهام المتخرصين أن يكون فرّط أو كتم أو خص بعض الناس بشيء من البيان العام الواجب تبليغه عليه ﷺ، فعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال له: إن ناسا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئا لم يبده رسول الله ﷺ للناس، فقال ابن عباس: ألم تعلم أن الله ﷾ قال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «١»، وعن مسروق عن عائشة قالت: من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب وهو يقول يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «٢» .
مادة البلاغ الأساسية:
ومادة البلاغ الأساسية هي القران الكريم كما قال ﷻ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ (الأنعام: ١٩)، وقال ﷿: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها (الأنعام: ٩٢) أي:
«مكة ومن حولها من أحياء العرب وسائر طوائف بني ادم من عرب وعجم» «٣»، وقال ﷻ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ (هود: ١٧)، وقال ﷾:
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيرًا (الفرقان: ١) .
ولأن مادة البلاغ الأساسية هي القران قال ابن عباس ﵂ في قوله ﷾:
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ (المائدة: ٦٧): «يعني إن كتمت اية مما أنزل
_________
(١) تفسير ابن كثير: (٢/ ٧٨)، وقال عن هذا الحديث: «وهذا إسناد جيد»، وتتمته: «والله ما ورثنا رسول الله ﷺ سوداء في بيضاء» .
(٢) البخاري (٦/ ٢٧٣٩)، مرجع سابق.
(٣) ابن كثير (٢/ ١٥٧)، مرجع سابق.
1 / 19
إليك من ربك لم تبلغ رسالته» «١»، وقال لهم النبي ﷺ: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا (الأنعام: ٩٠)، «أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القران أجرا أي أجرة ولا أريد منكم شيئا» «٢» كما كان يبين أن هذا العلم الذي أوتيه، وأمر بتبليغه خير كثير كما قال ﷺ: «قد علمني الله ﷿ خيرا» «٣»، فتحددت وظيفة البلاغ بإيصال مادته الأساسية إلى هؤلاء الأحزاب باختلاف أمصارهم وأعصارهم.
الإبانة في البلاغ:
ونلحظ أن (الإبانة) صفة ضرورية ملازمة لوظيفة البلاغ، والإبانة نوعان:
١- إبانة لفظية: أي يجب على الرسول ﷺ أن يكون لفظه بالبلاغ مبينا كما في قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (الشعراء: ١٩٥) .
٢- وإبانة معنوية: أي يجب على الرسول ﷺ أن يبين تأويل الكلام الذي أمر بتبليغه كما في قوله ﷾: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (النحل: ٤٤)، فمما «يجب أن يعلم أن النبي ﷺ بين لأصحابه ﵃ معاني القران، كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ يتناول هذا وهذا» «٤» .
الاتصال بين الإبانة اللفظية والإبانة المعنوية:
واللفظ والمعنى متصلان اتصالا وثيقا إلا أنه لا يمكن للمعنى الثبات مع اهتزاز لفظه أو تغييره في الكلام المعجز إذ أول أوجه إعجازه تتمثل في إعجازه في لفظه كما لخص الخطابي- رحمه الله تعالى- أركان إعجاز القران في: «اللفظ الحامل،
_________
(١) ابن كثير (٢/ ٧٩)، مرجع سابق.
(٢) ابن كثير (٢/ ١٥٧)، مرجع سابق.
(٣) أحمد (٥/ ٣٦٨)، وقال ابن كثير في تفسيره (٣/ ٤٥٦)، مرجع سابق: «وهذا إسناد صحيح» .
(٤) مقدمة في أصول التفسير (ص ٢٠٨) .
1 / 20
المعنى القائم به، الرباط الناظم لهما» «١»، ولأن إعجاز القران يعتمد على حقيقة واحدة هي أن الله ﷾ قاله، كان لا بد من بلوغ أقصى درجات الإبانة اللفظية في كلام الله ﷻ تمهيدا للإبانة المعنوية؛ ولذا يظهر الاهتمام بألفاظ القران واضحا في القران، ومن ذلك قول الله ﷿: حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ «أي البين الواضح الجلي المعاني والألفاظ؛ لأنه نزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات للتخاطب بين الناس، ولهذا قال تعالى إِنَّا جَعَلْناهُ أي أنزلناه قُرْآنًا عَرَبِيًّا أي بلغة العرب فصيحا واضحا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي تفهمونه وتتدبرونه كما قال ﷿: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «٢» .
وصار الطلب الشرعي لضبط ألفاظ القران الكريم استحضارا واستظهارا وإتقانا للأداء بديهية شرعية في حياة الصحابة ﵃، كما كان تعظيمه، وصونه باستظهار ألفاظه، والعمل على نشره كتابة وحفظا وتعليما من أبرز مقاصد التنزيل الحكيم: أي ليعظم عندهم بألفاظه، فيحافظ عليها، ويتبع معانيها: كما في قوله ﷾: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: ٤) ف «بين شرفه في الملأ الأعلى ليشرفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ...» «٣» وكما قال ﵎: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) (الواقعة: ٧٧- ٨٠) وقال تعالى: كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (عبس: ١١- ١٦) فإذا كانت «الملائكة يعظمون المصاحف المشتملة على القران في الملأ
_________
(١) بيان إعجاز القران (ص ٢٦) .
(٢) ابن كثير (٤/ ١٢٣)، مرجع سابق.
(٣) ابن كثير (٤/ ١٢٣)، مرجع سابق.
1 / 21
الأعلى، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى لأنه نزل عليهم وخطابه متوجه إليهم فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم، والانقياد له بالقبول والتسليم لقوله ﷻ:
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (الزخرف: ٤)» «١» .
وبايات الله التي تبلغ البحار، وما وراء البحار ... كان مستمسك العارفين ...
ولها كان تعظيم السادات من المؤمنين ... يعظمون ايات الله ... وهي حبل النجاة في يوم الهول المبين:
قرت بها عين قاريها فقلت له ... لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم
إن تتلها خيفة من حر نار لظى ... أطفأت نار لظى من وردها الشبم
كأنها الحوض تبيض الوجوه به ... من العصاة وقد جاؤه كالحمم
وكالصراط وكالميزان معدلة ... فالقسط من غيرها في الناس لم يقم
المطلب الثاني: تحليل دلالات الوظيفة الرسالية الإجمالية:
بعد أن استقر أن وظيفة النبي ﷺ هي (البلاغ)، وعلمت مادته فيجب معرفة ماهيته؛ وسر اختيار هذا المصطلح للدلالة عليه.
فأصل البلاغ البلوغ وهو الوصول من بلغ يبلغ بلوغا «٢»، وتظهر من مفاهيم البلاغ الدلالات التالية:
١- أنه يجب وصول المبلّغ به ليتم البلاغ:
فعدم وصوله نقص في التبليغ، إذ بلغ الشيء يبلغ بلوغا وبلاغا: وصل وانتهى، والبلاغ: ما بلغك، وفي التنزيل العزيز: إِلَّا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ
_________
(١) ابن كثير (٤/ ١٢٣)، مرجع سابق.
(٢) تفسير القرطبي (٦/ ٣٢٧) .
1 / 22