195

فإن قيل: فإنا نجد من يعتقد في كثير من المجانين أنهم يخبرون عن الغيب .

قيل له: هؤلاء يعتقدون أن الجن هم الذين ينطقون على ألسنتهم ، وأن الجن يعلمون ذلك ، فليس في العقلاء من يضيف الإخبار عن الغيب إلا إلى العالم به ، على بعض الوجوه .

وقد رأيت من سخفاء الفلاسفة من يذهب إلى أن الانسان إذا احتمل ربما أخبر عن الغيب . ومن يقول ذلك ، يذهب إلى أن النفس عالمة ، فإذا احتمل خلصت النفس ، وجرى مجرى النائم الذي يرى ما يكون مما لم يكن بعد في نومه . وهذا وإن كان هذيانا لا يؤبه له ، وكان ما يراه النائم على خلاف ما ذهبوا إليه ، فإنا ذكرناه لنبين أنه لا أحد من العقلاء يعتقد أن المخبر عن الغيب إذا كثر[ت] أخباره ، واستمرت على وجه يكون صدقا ، يجوز أن يكون غير عالم ، فإذا ثبتت هذه الجملة ، نقول: إن الانسان قد ثبت أنه عالم بعلم يتجدد له ، والعلم لا يخلو من أن يكون ضروريا أو مكتسبا .

وقد علمنا أنه لا طريق يمكن للإنسان أن يكتسب به العلم بالغيوب ، لأن العلوم تكتسب بالنظر في الأدلة ، ولا أدلة على الغيوب ، فلم يبق إلا أن من علم الغيوب يعلمه بعلم يضطره الله إليه ، أو بخبر يأتيه من قبله عز وجل ، وأيهما كان معجزا . لأنه متعذر على جميع الخلق الاتيان به ، إلا من خصه الله عز وجل به ، كفلق البحر ، وقلب العصا حية ، وإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص .

مخ ۲۴۹