الاستقامة الجزء الثاني المصحح
باب
الجملة ولزومها والحجة في ذلك
...الجملة المجمع عليها المسماة وهي شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، وأن جميع ما جاء به محمد رسوله صلى الله عليه وسلم عن الله ، فهو الحق المبين .
فان هذه الجملة كلها بلفظها و تسميتها ، لا تقوم فيها الحجة من خاطر القلب ، ولا من خاطر البال ، لأنها أسماء ، والأسماء لا تقوم من حجج العقول ، هذا ما لا نعلم فيه اختلافا أن الأسماء لا تقوم بها الحجة من حجة العقول ، ولكن تقوم من حجج العقول معرفة الصفات ، وتدرك بالعقول ، فما أدرك بالعقول من المكلفات للمتعبد فغير معذور بتضييع ما كلفه ، فما هو قادر عليه بمشاهدته له ، وغير مكلف ما لا تحتمله طاقته إن شاهده ، مما لا يعرف ولا يبين إلا بالمذكورات ، ولا يكلف علم ما لا يعرف إلا بالمذكورات ، حتى يذكر معه ذلك المذكور .
وكذلك ما لا يعقل إلا بالمنظورات ، فغير مكلف علم ذلك ، حتى يشاهد ذلك بمنظور ، فليس في العقل موضع دلالة على الفرق بين الأسماء ، إلا أن تكون الأسماء تدل على معنى ، فيعقل العقل المعنى الذي به ثبت الاسم ، وعليه وله كان ذلك ، وله عرف وبه عرف ، إذا عرف العقل معنى ما أريد بالاسم ، ليس أنه يثبت عليه معرفة الأسماء ، لأن العقل لا يجوز أن
مخ ۵
-5- يحتمل تمييز ما بين موسى و محمد ، وعيسى وداود وسليمان -صلى الله عليهم وسلم أجمعين - ولا غيرهم من الأسماء ، فيعقل هذه الأسماء أو شيئا منها ، إلا أن يبلغ إليه علم ذلك ، حجة سماع أو ما يشبهه ، من نظر عين للاسم المكتوب ، ولا يدرك بالعيان أيضا معرفة الأسماء ، وإنما يدرك معرفة الأسماء بالمسموعات ، والمنظورات المشبهة للمسموعات ، وهو نظر في كتاب يقوم مقام الكلام والسماع ، وما أشبه هذا .
فصل
وكذلك ليس يقوم في حجة العقل ، فرق ما بين أسماء الله -تبارك وتعالى - ، المتسمي بها بنفس الاسم غير المراد بالاسم من الصفة ، فيعقل العقل معرفة الله - تبارك وتعالى - بهذا الاسم ، إلا لمعنى الإلهية لا لمعنى الاسم المسمى ، إلا بذكر يذكر حتى يعرفه بسماع ، أو ما يقوم مقام السماع ، وإن خطر بالبال معرفة اسم الله -تبارك وتعالى - بهذا الاسم ، فعرف معنى الاسم أنه الإلهية ، وأن الإله هو المالك لما سواه ، ثبت في حجة العقل معرفة الاسم ، لمعرفة المراد بالاسم ، لا بنفس الاسم ، وكذلك الرحمن الرحيم ، لا يصح ذلك ولا يقوم بالاسم نفسه حجة من حجة العقل ، إلا بمعرفة المراد بالاسم من صفته ، وما هو موصوف به ، فإنه إذا عرف معنى ذلك ، قامت الحجة بذلك من طريق حجة العقل من الصفات ، لا من الأسماء ، وكذلك ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وهو اسم كما قلنا عن الله -تبارك وتعالى- ، وهو اسم كما قلنا فهو الحق ، لا تقوم بهذا الحجة من طريق العقل ، إلا من طريق معرفة ذلك والمراد به ، على ما يدرك معرفة ذلك بالعقل ، من ثبوت صفة الله -تبارك وتعالى - في ذلك ، على معاني ما يدرك ذلك بحجة العقل من الصفات ، في الصفات لا من الأسماء ، فإنما يدرك معرفة الجملة التي هي الجملة ، من حجة العقل ، على معنى معرفة المراد بها والصفة لها ، لا من طريق معرفتها بغير معرفة صفتها ، وإنما تقوم الحجة بها من طريق السمع ، ومن ذلك أنهم قالوا : ولا نعلم بينهم اختلافا ، أن المنقطع في جزيرة من جزائر البحر ، وبأرض فلاة ، لا تتصل به الأخبار ،
مخ ۶
-6- فتتناهى إليه الأخبار ، بما يذكر معه معرفة الجملة التي قد لزمت كلفتها بإجماعهم ، على معنى إطلاق لزومها على مخصوص ذلك ، من تفسير من لزمه ذلك فيها ، وأن هذا المنقطع الذي لا تبلغه الأخبار ، أنه معذور عن الإقرار بهذه الجملة ، على وجه ما لزمت غيره من المتصلين بالأخبار ، فكفى بهذا حجة ، أنه إذا نزل بمنزلة يقدم فيها اتصال الأخبار ، أنه زائل عنه الإقرار بهذه الجملة ، على معنى ما هي لازمة ، من اتصلت به الأخبار ، فصح أن التعبد بها لا يصح على معنى ما هي مسماة به ، من طريق حجة العقل ، وإنما هي بالأخبار ، فكذلك لو كان في موضع تتصل به الأخبار ، إلا أنه لم يبلغه خبر هذه الجملة ولا ذكرت له ولا سمع بها ، فالمعنى فيه واحد ، لأنه غير متعبد فيها بحال يفوت ويبطل ، وليس هي مما تقوم به الحجة في العقول ، فيكون بالخاطر تقوم بها الحجة إلا بالمعنى فيها ، والصفة التي ذكرناها ، فإذا جاز أن تأتي عليه ساعة من عمره ، معذورا بذلك في دين الله ، جاز له في ذلك الساعة والساعتين ، واليوم واليومين ، والشهر والشهرين ، والسنة والسنتين و المائة ، وما لم ينكر ذلك أو يجهل معاني ما يلزمه معرفته من صفته من صفة ذلك ، أو يبلغ إليه خبر ذلك ويسمع به ، فيكون الإقرار به والمعرفة له بالتسمية ، التي لا يجهل عند أهل المعرفة بها من أهل الدين ، إذا بلغ من ذلك إلى ما بلغوا من سماع ذلك وذكره .
كذلك كل ما كان من الأسماء من تفسير الجملة ، التي هي من أسماء الله وصفاته ، بعد الإقرار بالجملة بالتسمية ، أو قبل ذلك ، فلا يلزمه من حجة العقل في ذلك معرفة الأسماء ، إلا أن يعرف معنى الأسماء من صفة الله ، فإنه حينئذ يلزمه ذلك من حجة العقل ، و إلا فلا يهلك في ذلك إلا بالسماع والعبارات ، للأخبار الواردة عليه ، من معرفة أسماء الله - تبارك وتعالى - في صفاته ، فالصفات في هذا غير الأسماء المسماة ، إلا أن تقوم في العقل معرفة الصفة ، التي بها يثبت الاسم ، وبها يثبت الاسم في المعقولات ، فإذا ثبت ذلك في العقل ، الوارد عليه خاطر القلب بالاسم ، كان عليه معرفة الاسم ،
مخ ۷
-7- والصفة من خاطر القلب ، ولو لم يسمع بذلك ، ولم يعاين نظر ذلك من كتاب ، ولا سمع فيه خطابا ولا دعي إليه .
فصل : فإن قال قائل : أيكون أحد معكم مسلما مؤمنا ، وهو لم يقر بهذه الجملة ، ولا بشيء منها ، ولا يخرج من الشرك إلا بها وبالإقرار بها ؟
كذلك قال : أهل القبلة أجمع ، لا نعلم بينهم اختلافا.
قلنا له : نعم يكون مسلما مؤمنا ما لم يكفر، ومطيعا ما لم يعص، ومقرا ما لم ينكر ، يأخذ الله عليه الميثاق ، وقبوله عن الله الميثاق في أصل ما تعبده الله به في دينه ، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أهل زمانه ، ما لم ينسخ ذلك الدين على لسان نبي آخر من الأنبياء ، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وشريعته ، ناسخ لشرائع جميع النبيين ، وهو ثابت إلى يوم القيامة ، فكل مولود ولد بعد أن قامت حجة الله - تبارك وتعالى - على العباد ، بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، فله تلك الحجة عند الله -تعارك وتعالى- ، وله ذلك العهد عند الله وذلك الميثاق ، وعليه مثله ، ولا عذر له في مخالفة تلك الحجة ، بوجه يكون مخالفا لها ، ولا ينقض ذلك العهد وذلك الميثاق الذي ثبت في دين الله لعباده عليه ، فكل مولود من الثقلين من المتعبدين بالطاعة والمعصية ، ممن تقوم عليه الحجة لله بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبدينه الذي بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، فهو مولود على تلك الفطرة ، وله ذلك العهد على الله ، وذلك الميثاق ، وعليه ذلك العهد لله ، وذلك الميثاق ، إلى يوم القمامة ، من جميع المولودين وجميع من لم يبلغ الحلم و يدخل في المعصية ، فإذا بلغ كان على ذلك العهد وذلك الميثاق ، إلى أن ينقضه بشيء يكون ناقضا له ، من جهل شيء مما لا يسعه جهله ، بعد قيام الحجة عليه ، بعلم ذلك بوجه يكون مطيقا لعمله ، أو بترك شيء مما ألزمه ذلك العهد وذلك الميثاق ، لله العمل به ، أو بركوب شيء ألزمه ذلك العهد وذلك الميثاق ، ترك ذلك لله في دينه ، الذي قد لزمه ، فهو أبدا على هذا إلى يوم القيامة ، ولو مات على ذلك قبل أن يخطر بباله
مخ ۸
-8- شيء من علم ما لا يسعه جهله ، ولم يلزمه تأدية شيء من طاعة الله ، مما تقوم به الحجة إلا بالعبارات والسماع ، ولا ركب لله محرما قط ، بعد قيام الحجة عليه بمعرفته من السماع ، إذا كان لا يطيق علم ذلك ، ولا يقدر عليه ، ولا يقدر على التماس ذلك بطاقته ، إذا أتى من جميع ذلك الميثاق والعهد ، بما تحتمله طاقته ، ولم يضيع شيئا تحتمل طاقته ألا يضيعه ولم يركب شيئا تحتمل طاقته الانتهاء عنه ، وتقوم عليه الحجة بذلك ، بما لا تحتمله طاقته ألا يركبه ، وهذا مما يطول فيه الكلام ، وقد مضى في هذا الكتاب من تفسير هذا ، ما أرجو أنه يأتي على ما فيه الكفاية ، وبعضه مفسر وكل شيء مذكور في موضعه .
فصل
ولا يجوز أن يكون في دين الله - تبارك وتعالى - ، أن يكون على العباد الميثاق والعهد ، بجميع ما لزم في دينه ، محلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، أن لا يخالفوه ولا ينقضوه ، وهو عليهم ثابت كما ثبتا في شريعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأنه قد قامت عليهم بذلك الحجة ، ولا يعذرون بمخالفته ، ولا يكون لهم الحجة بما هو حجة لهم في دين الله - تبارك وتعالى - على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم شريعة دينه ، فان ادعى هذا مدع ، فقد ادعى غير الحق ، ولا تجوز له دعواه هذه في حكم الكتاب ، ولا حكم السنة ، ولا الإجماع ، ولا حجة العقل ، وكل ما كان في دين الله حجة ، فهو لجميع عباده حجة ، ما لم ينقض أحد منهم الميثاق الذي ثبت به الحجة ، وكل ما كان في دين الله حجة على عباده ، في شريعة دين الله ، ودين نبيه ، وبما أخذ عليهم به الميثاق ، فهو حجه على جميع عباده ، ولا يجوز لهم مخالفة دلك ولا نقضه ، وكلما نقضوه أو خالفوه ، ازدادت حجج الله عليهم بالسخط منه والغضب ، لإثبات الوعيد عليهم في أحكام دينه ، في الدنيا والآخرة ، جهلوا ذلك أو علموه ، وكذلك لهم الحجة في جميع ما كان في دين الله حجة ، في شريعة دين الله ، ودين نبيه ، علموا الحجة أو جهلوها ، فهي حجة لهم حتى يحالفوا ذلك ، بنقض ذلك العهد والميثاق ، الذي ثبت لهم في دين الله ، على لسان نبيه .
مخ ۹
-9- ولا يجوز أن تختلف الأحكام في هذا ، من أجل البقاع ولا من أجل المواليد ، ولا من أجل الآباء ولا الأمصار ، والمولود في الروم والزنج والهند ، و يأجوج و مأجوج ، وجميع الأمصار في جميع البر والبحار ، في حكم دين الله ، سواء على كل منهم من حجج الله ما احتملته طاقته ، إذا بلغت إليه قدرته ، ولزمته كلفته ، فإذا ضيعه بعد ذلك كان ناقضا لذلك العهد والميثاق ، الذي ثبت له في دين الله - تبارك وتعالى - ، و إلا فهو على ذلك الميثاق ، ولن يضره علم غيره ، إذا بلغ سنه وصح عقله ، تعبد بحكم نفسه وهو على عهد الله وميثاقه له ما لأهل العهد ، وعليه ما على أهل العهد والميثاق من الثواب ، والإيمان والإسلام و الرضى ، حتى ينقض عهد الله وميثاقه ، بوجه من الوجوه التي يكون بها ناقضا لعهد الله وميثاقه ، الذي ثبت له وعليه ، فإذا نقض العبد عهد الله وميثاقه ، الذي قد ثبت على العباد له ولهم عليه ، فلا عذر لناقض العهد والميثاق ، إذا نقضه بعد القدرة منه على أن لا ينقضه فنقضه ، كان ناقضا للعهد ، علم بذلك أو جهل ، فلا عذر له بجهل ذلك ، ومتى لم ينقض ذلك العهد وذلك الميثاق ، فهو على العهد والميثاق أبدا مستحق ما يستحقه ، من لم ينقض العهد والميثاق من الإثم أو الثواب و الرضى والمحبة ، علم ذلك أو جهله ، وليس على العبد أن يعلم أنه لم ينقض العهد والميثاق ، وأنه قد أطاع ما لم يبلغ علم ذلك إليه ، بوجه يطيق علم ذلك ، وله الحجة في تلك الطاعة إذا أطاع بها ، ولو جهل أنه مطيع بها ، كما كان غيره معذورا بالمعصية إذا عصى بها ، ونقض بها العهد أو تلك المعصية أو لم يعلم .
فصل : وكما لم يكن له الحجة في المعصية إذا عصى ، و لو لم يعلم أنه عصى للعهد والميثاق المأخوذ عليه أن لا يعصى ، كذلك ليس عليه أن يعلم أنه أطاع ، إلى أن يبلغ إليه علم ذلك ، وتحتمله طاقته ، ويكون مطيقا لذلك ، ولو جهله ما وسعه ، ولم يحتمل ذلك أن يسعه طاقته .
فصل : ومن العجب العجيب أن يجوز أن يهلك العبد بالمعصية لله
مخ ۱۰
-10- - تبارك وتعالى - للميثاق الثابت عليه ، ولو جهل ذلك والأصل الذي بني عليه ، ولا تثبت له هو السلامة والإيمان والطاعة ، والنقض والمعصية منه حادثان بعد أن لم يكونا ، ولا يسعه جهل ذلك ، ولا يجوز أن يكون مطيعا بموافقة الطاعة ، مؤمنا بموافقة الإيمان ، ولو جهل ذلك ، أفتكون حجة الكفر أولى من حجة الإيمان ، وحجة المعصية في دين الله أولى من حجة الطاعة ، وحجة نقض العهد والميثاق أولى من حجة الوفاء بالعهد والميثاق ؟ إن هذا لهو الزور ، والكذب على الله وعلى رسوله وعلى دينه . فإما أن يكون من أطاع فلا طاعة منه حتى يعلم أنه أطاع ، ومن عصى فلا معصية منه حتى يعلم أنه عصى ، وإما أن يكون من أطاع فهو مطيع علم أو لم يعلم ، ومن عصى فهو عاص علم أولم يعلم .
فصل : فإن قال قائل : فلا يكون عاصيا بمعصية الله ، حتى يعلم أنه عاص ، فقد أتى بما لا يوافقه عليه أحد ، ومن عصى فهو عاص ، علم ذلك أو جهله ، على هذا أجمع المسلمون .
وكذلك من أطاع فقد أطاع ، علم بالطاعة أو لم يعلم ، إذا وافق الطاعة بوجهها وكمالها ، وجهل علم ذلك أنها طاعة ، فذلك مما يسع جهله أبدا ، ما لم يبلغ إليه علم ذلك ، أو يعرف المراد به مما لا يسعه جهله .
وإن قال : يكون هالكا بالمعصية إذا عصى ، علم أو لم يعلم ، ولا يكون سالما بالطاعة إذا أطاع ، حتى يعلم أنه أطاع ؟
قلنا له : قد اختلف عندك حكم الطاعة والمعصية ، فكانت عندك أحكام المعصية أولى وأوجب من أحكام الطاعة ، والمراد من المطيع أن يطيع ، والمراد من العاصي ألا يعص ، فقد عصى العاصي حيث أريد منه ألا يعصى ، فقلت إنه هالك ، وأطاع المطيع بما أريد منه أن يطيع ، فقلت إنه لا ينفعه وهو هالك ، وسواء أطاع أو لم يطع فهو عندك هالك حتى يعلم أنه
مخ ۱۱
-11- أطاع ، فمن أين لك هذا القول ؟ إن أحكام الطاعة أضيق من أحكام المعصية . فإن قال ذلك أتى بما لا تحتمله العقول .
فإن ثبت على ذلك ، قيل له : أفرأيت إن لم يعص ، أفعليه أن يعلم أنه لم يعص ، إذ كان بتركه للمعصية طاعة ، فيما أخذ عليه من الميثاق ، فإذا ترك المعصية كان ذلك منه طاعة أو لا يكون منه طاعة ، فيما تعبده الله به ؟
فإن قال : يكون منه طاعة ، وعليه أن يعلم أن المعصية معصية ، ويتركها بعلم .
قيل له : فليس يسعه معك دون العلم بالأشياء كلها من دين الله في وقت واحد ، فهذا ما لا يجوز ، وليس المدار والحاصل إلا على ما قد قلنا إنه سالم ، بالميثاق الذي أخذ له وعليه في دين الله ، ما لم يعص الله وهو مؤمن مسلم بذلك أبدا ، ولو لم يقر بالجملة ولا بشيء منها بلسانه ولا بقلبه ، فهو مقر بها في جملة العهد والميثاق ، الني ثبت له وعليه في دين الله -تبارك وتعالى- ، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما لم تقم عليه الحجة بها ، أو بشيء منها بسماع أو نظر أو خاطر ، يوجب علم معانيها ومعاني التسمية لها .
وسواء ذلك عندنا في أية بقعة كان من البقاع ، ما لم يبلغه علم ذلك والخبر به ومعرفته ، ولو كان ذلك في مكة والمدينة أو غيرهما ، من أمصار أهل الإقرار ، فإذا سمع بذكر ذلك وخبره ، أو جرى عليه ذلك مرسوم في كتاب ، أو خطر بباله من ذلك ، ما تقوم عليه الحجة بمعرفة صفة ذلك والمراد به ، فقد لزمه علم ذلك والتصديق به وله ، وضاق عليه الشك فيه والريب ، فإن كان قد خرج من حال الإقرار ، بالميثاق الذي كان مجزيا له إلى حد الإنكار بوجه من الوجوه ، وكان منكرا بوجه من الوجوه ، فلا يسعه دون أن يقر من ذلك بما أنكره من لسانه ، ويصدق من ذلك بما كذبه بلسانه وبقلبه ، ويعلم من ذلك ما قد شك فيه بقلبه ، ويرجع من حال الخروج من الإنكار بلسانه ، إلى
مخ ۱۲
-12- الإقرار بلسانه ، ولا يجزيه إلا ذلك ، وهو معنى الحكم في الذنوب ، السريرة بالسريرة و العلانية بالعلانية ، لان كان لم يأت عليه حال يكون منكرا ، ولم يزل على حال الإقرار ولو لم يبلغه خبر الجملة ولا صفتها ، حتى مضى عليه سنون كثيرة على ذلك ، فهو مسلم وعليه أن لا يشك في الجملة ، ولا في شيء منها ، ولا من تفسيرها ، إذا بلغ إليه علم ذلك وخبره ، أو خطر ذلك بباله ، على وجه ما ثبت عليه علم ذلك في الخاطر ، وإنما عليه علم ذلك والإقرار بمعرفته ، ويحقق علم ذلك بلا شك ولا ريب فيه ، ولو لم يقر بذلك بلسانه ، ولم يكن قبل ذلك قد نقض ذلك الميثاق الذي له ، بوجه يكون منكرا أو جاحدا ، فليس عليه بذلك إقرار باللسان ، لأن الإقرار باللسان لا يكون إلا على عقب الإنكار باللسان ، و إلا فهو على جملة الإقرار في الدينونة ، وإنما أريد تصديق ذلك وعلمه ، والإقرار به منه ، فإن علم ذلك وصدقه ، ولم يشك فيه وعلمه ، فقد أتى بما يجزئه من ذلك ، ما لم ينكر منكرا قبل ذلك ، فيجب عليه الإقرار باللسان لمعنى الإنكار باللسان ، ولو أقر بذلك بلسانه ، وشك في ذلك بقلبه ، لم يجزه ذلك ، ولو أقر بذلك بقلبه وعلم ذلك ولم يشك فيه ، كان ذلك مجزيا له عون الإقرار باللسان ، إذا لم يكن قبل ذلك منكرا بلسانه .
وإنما وجبت الدعوة إلى الجملة لأهل الإنكار من جميع المنكرين الجاحدين ، ولم يسعهم دون الإقرار بذلك باللسان ، لأنه خروج منهم مما أنكروا باللسان ، وكذلك إذا كان إنكار المنكر باللسان وذنبه باللسان ، لم تصح له توبة ولا رجعة إلا بالتوبة باللسان ، و الإقرار باللسان ، فإن شك بقلبه في شيء مما يكون به مشركا في اعتقاده ، كان إقراره في الاعتقاد مجزيا له عن الإقرار باللسان ، لأن السريرة بالسريرة و العلانية بالعلانية ، وإنما تأويل قول أهل العلم إذا بلغ سنه وصح عقله ، لم يسعه جهل علم هذه الجملة والإقرار بها ، إنما يخرج ذلك معنا إقرار بالتصديق ، لأن الإقرار يكون بالقلب ، والإنكار يكون بالقلب ، وللقلوب مقال و للألسنة مقال وللقلوب .
مخ ۱۳
-13- إيمان و للألسنة إيمان ، فإيمان القلوب هو أصح الإيمان ، بإقرار القلوب هو أصح الإقرار ، وإنكار القلوب هو أعظم الإنكار ، إلا أن المنكر بقلبه يجزيه الإقرار بقلبه ، و الشاك بقلبه يجزيه اليقين بقلبه ، والمنكر بلسانه لا يجزيه إلا الإقرار بلسانه ، ولا يكون مؤمنا بدون الإقرار بلسانه ، فإذا كان قد بلغ إلى حد الإنكار بلسانه ، أو جاحدا بوجه من الوجوه ، وثبت عليه حكم الإنكار ، لم يجزه إلا الإقرار باللسان ، إذا بلغ إلى ذلك طوله ، ووصل إليه حوله ، وإن منع ذلك بعذر من أسباب العذر أجزأ ذلك بقلبه ، ولو أنكر ذلك بلسانه وآمن به قلبه للعذر الواجب له ، وذلك قول الله - تعالى - (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )(1) فقد صح له الإيمان بالقلب ، ولو أنكر ذلك باللسان ، وجحد ذلك باللسان ، للعذر القائم .
وكذلك إن عدم الكلام بعاهة في اللسان ، وقد كان جاحدا قبل ذلك فرجع إلى تصديق ما أنكر بقلبه ، أجزأه ذلك دون اللسان ، للعذر الذي نزل به في حكم الإيمان ، وإنما يصح معنا هذا القول في أهل الإنكار ، ألا ترى أنه يقول إذا أقر بهذا ، خرج من الشرك بجملته ، ودخل في الإيمان بجملته ، و إلا فلا يخرج من الشرك ، ألا ترى أنه إنما ذلك على من وجب عليه اسم الشرك .
وأما من وجب له اسم الإيمان ، في أصل ما أخذ له وعليه من العهد والميثاق ، فلا يلحقه معنا حكم الأثر ، ولا حكم القول والخبر ، ولو كان ذلك كذلك ما صح له إقرار ولا أحكام الإقرار ، ولو كان في دار الإقرار حتى يعلم منه ذلك بلسانه ، ولكان في حال ما يجهل منه ذلك بعد بلوغ سنه ، وصحة عقله في حال الشرك ، لا تجوز منه مناكحة ولا موارثة ولا أكل ذبيحته ، حتى يعلم منه ما يخرج به من الإنكار إلى الإقرار ، ومن الشرك إلى الإيمان ، وهذا ما لا يجوز في أصل الحق في إجماع الأمة ، بل الأمة بأسرها إلا ما شاء
-14-
__________
(1) - جزء الآية (06 ا) من سورة النحل.
مخ ۱۴
الله ، مما يغيب عنا أمره على الإجماع على هذا في حكم الظاهر ، من وجوب الإقرار لجميع أهل الإقرار ، وذلك في الأحكام الظاهرة ، ما لم يثبت منه ما يجب به الإنكار في الأحكام الظاهرة ، كذلك مثله في أحكام السريرة ، ما لم يخالف ذلك في أحكام السريرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك في أهل أمصار الشرك ، مخالفا لأحكام الله في التعبد في عباده ، ولكن إنما ثبت ذلك في أهل الإنكار ، وفي دور أهل الإنكار إذا ثبت عليهم حكم الإنكار ، ولو كانوا في السريرة على الاقتدار لثبوت حكم الظاهر عليهم بحكم الدار ، لا بحكم التعبد في الأسرار ، وهذا ما لا يجوز معنا فيه الاختلاف ، ولا نعلمه إلا وهو مجمع عليه من قول المسلمين .
فصل : فإن قال قائل : فإنا لم نسمع بهذا الذي ذكرتموه من السعة في علم الجملة ، إلا لمن انقطع عن الأرض المتصلة بأرض أهل الإقرار ، مثل جزيرة في بحر من البحار ، أو فلاة في قفرة من القفار ، أو في أرض غالب على أهلها الإنكار ، ولا يدرك فيها معرفة الإقرار بهذه الجملة ولا صحة الأخبار .
فصل : قلنا له : ليس المعنى ما لم يبلغه علم ذلك ولا خبره ولا ذكره ، كان معذورا عندنا عن علم ذلك ، أو البقعة الحال فيها والنازل بها.
فإن قال : البقعة الحال بها والنازل بها .
قلنا له : فإنه إذا أتاه خبر ذلك في تلك البقعة من زنديق من الزنادقة ، أقام عليه تلك الحجة ، أو من مشرك أو صبي أو معتوه ، أو أتاه كتاب في فم طائر حتى ألقاه إليه ، فقرأه فإذا فيه خبر هذه الجملة التي ذكرناها ، ما القول فيه عند ذلك ، وهو في البقعة التي عذرناه فيها ، بجهل ذلك بالإجماع منا لعدم الخبر ، فما القول فيه بعد هذا الذي قد علمه ، وهو في هذه البقعة ؟
فصل : فإن قال : فإنه تقوم عليه الحجة بذلك ، ويلزمه الإقرار
مخ ۱۵
-15- بمعرفة ذلك على وجه ما يجب عليه من علم ذلك ، ويتحول عن حال العذر إلى حال الضيق، ويلزمه علم ذلك والإقرار بمعرفته .
قلنا له : فلن ينفعه البقعة ولا الدار التي كان فيها ، إذ خصه حكم الإقرار ولو كان في أرض أهل الإقرار ، أو وحده في بحر من البحار ، أو فلاة من أو قفر من القفار ، ويلزمه علم ذلك بكتاب من فم طائر ألقاه إليه ، وأقام لله الحجة عليه ، أو رأى ذلك مرسوما في أثر في رق أو حجر ، كان عليه علم ذلك ومعرفته ولا يسعه جهل ذلك .
فماذا تقول فيمن لم يبلغه خبر هذا ، ولا خطر بباله ولا سمع بذكره ، بعد أن بلغ ولا قبل أن يبلغ ، وهو في مكة المكرمة أو المدينة المنورة ، ولم يضيع لله فرضا ، ولا ركب لله محرما ومضى على ذلك ؟
فإن قال : يلزمه علم ذلك على حال لأنه في أرض الاتصال .
فصل : قلنا له : وما المراد منك بأرض الاتصال ؟ وقد علم في أرض الاتصال وأرض الإقرار في حاله ذلك معرفة الإقرار ويقول إن البقاع يتحول فيها الأحكام إذا لزمت وثبتت فيها الأحكام إذا عدمت فلم لم تعذره بحال البقعة التي قد اجتمعا عليها أنها موضع عذر لمن نزلها عن علم هذه الجملة والإقرار بها فلما خص ذلك أحدا من أهلها ألزمته ذلك الخصوص الحكم له دون غيره من أهل البقعة حتى يعلم كعلمه فعلى حد قولك الضعيف ومذهبك العنيف أنه حين ما بلغ ذلك إلى ذلك الإنسان في ذلك المكان فقد لزمت الحجة جميع من كان في البقعة والمكان ببلوغ الخبر إلى ذلك الإنسان إذا كان الحكم بالبعض يعم الجميع الحكم الخاص للبعض دون البعض قبل بلوغ ذلك إليه وقيام الحجة به عليه.
فإن قال: لا يلزم ذلك من أهل البقعة علم ذلك الواصل إلى واحد
مخ ۱۶
-16- منهم ، حتى يعلمهم بذلك الذي قد بلغه ، فإذا أخبرهم بذلك وبلغهم ، كان ذلك حجة عليهم .
...فصل : قيل له : فإن في ذلك المكان من الأرض ثلاثة أنفس فعلم اثنان بذلك ولم يعلم الواحد ، أيسعه ذلك أم لا حتى يعلم ؟
فإن قال : يسعه .
قيل له . فإن كان في ذلك المكان عشرة أنفس ، فعلم بذلك تسعة ، ولم يعلم واحد ؟
فإن قال : لا حجة عليه حتى يعلم .
قيل له : فكانوا ألف رجل قي ذلك المكان ، فعلم بذلك تسعمائة وتسعة وتسعون ، ولم يعلم واحد ؟
فإن قال : لا يلزمه ولا يجوز له إلا هذا .
قيل له : فما مرادك في إلزام من كان في الأمصار ما لم يلزمه من علم الإقرار ، وأما الحجة في الأمصار غير الجزائر في البحار والفيافي والقفار ، أليس إنما هو عدم الأخبار ووجود الأخبار وأن كلا من المتعبدين قي ذلك مأخوذ بما لزمه ، وساقط عنه ما عدمه ، ولا يجوز في حكم الإسلام إلا هكذا ؟
فإن قال : هكذا جاء الأثر ، وليس لنا ولا لكم إلا اتباع الآثار ، وليس لنا أن نخالف الآثار ، ولا نحدث من عند أنفسنا أشياء تخالف الآثار .
قلنا له : ما اتبعنا في هذا إلا الآثار ، وإنما هذا هو معنى الآثار ، مع أهل العلم والأبصار ، والعلماء بالأحاديث والأخبار ، وليس من قلد الرجال والآثار دينه ، على غير صحة تأويل بعالم ، ولا ناج عن الهلكة ولا سالم ، ولو كان ذلك كذلك ، كان من تأول الكتاب والسنة بظاهر الأمر منهما سالما ،
مخ ۱۷
-17- وسلمت الأمة بأسرها بتأويل الكتاب بالكتاب ، والسنة بالكتاب والسنة بالسنة ، والآثار بالآثار والسنة بالآثار ، ولكن لا يجوز ذلك إلا على معنى تأويل الحق في الخاص والعام ، والمجمل والمفصل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، ولا يجوز إلا هكذا .
فصل : وإنما أصل ما عذر به العبد عن التقيد في الجملة ، عدم خبرها وعلمها لا غير ذلك ولا يجوز غير ذلك ، ففي أي بقعة علمها وبلغه حكمها ، لزمت الحجة فيها بما يجب عليه في ذلك ، وفي أي بقعة عدم خبرها وعلمها ، وجب له من العذر ما لمعدمها في أي بقعة ، ولا يجوز غير هذا .
فإن قال قائل : فعلى المتصل بالأرض أن يطلب علم ذلك ويسأل عنه ، حتى لا يأتي عليه حال يجهله ، وهو في بقعة يدرك معرفة ذلك فيها .
قلنا له : لأي علة يلزمه ذلك ، وهو دائن في الأصل بجميع دين الله ، فيما أخذ عليه من الميثاق والعهد ، وله في ذلك ما عليه ، فهو مقر بالجملة ما لم ينكرها ، وعالم بها ما لم يجهلها ، بعد قيام الحجة عليه بعلمها وبلوغ ذلك إليه ، ومؤدي في أحواله كلها ما لزمه في جملته ، في دين الله - تبارك وتعالى - عليه ، من الصلاة والزكاة والحج والعمرة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فما الذي يضيق عليه من هذا ، وهو على جملة الإقرار ، حتى يأتي عليه علم يخصه كما خص غيره ، ممن كان معذورا .
فصل : فإن أن هذا الجاهل بجهله وتماديه في باطله.
قيل له : فحيث ألزمت هذا المعدم لعلم الجملة بسماع أو ذكر ، أو فكرة تؤديه إلى ذلك ، فمما يلزمه أن يسأل عن شيء معروف أو مجهول ، وهو لا يعرفه بذكره ، ولا خطر له ذلك ببال ، أن هذا لهو العمى والضلال ، إذ يلزمه أن يسأل عما لا يعرف ولا يعقل ، ولا أدركته معرفته بنظر ولا سماع ولا فكرة ، فعن ماذا يسأل ؟
-18- فإن قال : عن الجملة ، كما جاء الأثر.
مخ ۱۸
قيل له : يكفي العاقل من بعض هذا الذي قد ظهر منك ، وقد كفى خصمك مؤنتك إن شاء الله ، فلو كان المتعبد يعرف معنى الجملة حتى يصفها ، لكان علم ذلك يلزمه من غير سؤال يهلكه بجهل ذلك ، إذا بلغه علمه وسمع به على حال ، ولم ينفس في ذلك في سؤال ، فكان عليه علم ذلك معا كلمح البصر ، ولو لم يكن في حضرته أخذ من البشر ، إذا خصه ذلك وعلمه بخبر أو قراءة من رسم كتاب أو أثر ، أو غير له ذلك جميع من كان ممن غير ، ولو امتحنه الله بذلك بلسان طائر ، عقل عن لسانه ذلك ، أومن بهيمة من البهائم ، أومن نعمة من النعم ، لا يعرف من نطق بها ولا من تكلم بها ، فهذا كله حجة عليه ، إذ قد بلغ علم ذلك وخبره إليه ، فكيف تقول أن عليه السؤال ، فعن ماذا يسأل ، وكيف يبلغ من لا يتولاهم شيئا ، ولا يعيره أن يسأل عنه ، فكيف يسأل عنه ؟
فصل : فإن قال : يسأل عن دينه .
قلنا له : وعلى الجاهل بالشيء ، المعذور عنه ، أن يسأل عنه ، وله الإقامة عليه ، أو لا تسعه الإقامة عليه ؟
فإن قال : لا تسعه الإقامة عليه ، وهو هالك بجهله .
قلنا له : فقد كلفته ما لا يطيق ، والله -تبارك وتعالى -لم يكلف العباد من دينه ما لا يطيقونه ، إنما كلفهم ما أطاقوه من جميع الأشياء كلها ، من العلم والعمل والترك ، فإن كان تسعه الإقامة على ذلك فلا سؤال عليه فيه ، وإن كان لا تسعه الإقامة عليه ، فقد كلف ما لا يطيقه ، مع أنه إذا أعطيت القياد في قولك هذا ، إذ قلت إذا لم يعرف الجملة ليسأل عنها ، فعليه أن يسأل عن دينه .
مخ ۱۹
-19- فإذا سالك أحد عن دينه على المبتدى ، ما يكون جوابك له ، إذا سالك عن دينه ؟
فإن قال : فإن دينه الإسلام وأدلة على الجملة التي ثبت له بها الإسلام .
قلنا له : ليسس الإسلام دين كل سائل عن دينه ، ولكل سؤال جواب ، وليس يلزمنا أن نجيب كل من سال عن دينه ممن لا نعرفه ، أن دينه الإسلام ، وإنما الإسلام دين أهل الإسلام ، ولو سال السائل عن الدين ، لزمنا أن نجيبه أن الدين هو الإسلام ، وأما دينه فلا يلزمنا له جواب ، لأنا لا نعرفه ولا نعرف دينه ، وإذا أجبناه بان دينه الإسلام كنا قد أثبتنا له ما لا نعلم ، أهو ثابت له أم لا ، وهذا أيضا من تخليطك قليل ، لأن جهلك عظيم جليل .
فصل : ولا بد لهذا الجاهل إما أن يلزمه فوق طاقته ، فيكون قد خرج من المعقول ، وإما أن يرجع إلى الحق فليس له إلا ما يقول ، وثبت له خصمه على ما قد بينا من ذلك إن شاء الله .
فصل : والأصل في هذه الجملة على القسم فيها ، أنها على حالين : إما أن يسع جهلها على كل من بلغه خبرها وشانها وذكرها ، في أية بقعة من البقاع من الجزائر في البحار والفيافي والقفار ، وأهل الشرك والإنكار ، وغير ذلك من الأمصار ، من أمصار أهل الإسلام والإقرار ، فمن خصه ذلك لزمه كله التعبد به دون غيره ، ممن هو في بقعته وموضعه أو مدينته ، ويسع جهل دذلك من لم يبلغه بيان ذلك ولا خبره ولا ذكره ، في جميع هذه البقاع ، ولا فرق في ذلك في الدين ، وهذا الحق الني لا يجوز سواه ، وإما أن لا يسع جهل ذلك من بلغه ذلك ومن لم يبلغه ، فلا معنى في عذر من انقطع في ذلك عن الأخبار ، في البحار والقفار ، يجوز غير هذا في دين الله - تبارك وتعالى - ، وهذا باطل من القول ، وفيه التكليف فوق الطاقة ، وذلك باطل من صفة الله في دينه ، أن يكلف العباد فوق الطاقة في شيء من دينه .
مخ ۲۰
-20- فصل : وحال ثالث أن يكون الحاكم فيها بحكم البقاع ، فمن كان في بقعة لزمه حكم أهلها من ذلك ، وهذا باطل أيضا ، لأنه قد يكون في البقعة ، التي أهلها على الإنكار والجهل للإقرار ، فيخصه ذلك في نفسه ، فباطل أن يضع عنه حكم ما لزمه ، أهل بقعته وأهل بلده وموضعه فهذا باطل ، وكذلك قد يكون في البقعة التي قد بلغ أهلها إلى علم ذلك ، وعافاه الله هو من علم ذلك ، وقيام الحجة عليه ، فلا يجوز أن يكون يكلف علم غيره ، ولا يحط عنه علمه لجهل غيره ، وهذا باطل لا يحتمل إلا ما قلناه ، هن خاص ذلك وعامه ، ولا معنى للبقاع ، غير أنه لا بد للخصم أن يثبت عليه الإقرار بأحد هذه الأصول ، فيما زعم أن الأصل عليه بني له وعليه ، حتى يقطع حجته إن شاء الله .
فصل : فإن قال : فما الفرق فيمن هو متصل بأرض أهل الإقرار ، ومن هو منقطع عن أرض أهل الإقرار في الجملة وغير الجهلة ؟
فصل : قلنا له : لا فرق في الدين ، بين أحد ممن تعبده الله بكلفة التعبد في البقاع ، ولا من أجل البقاع ، ولا من أجل الاتصال ، ولا من أجل الانفصال ، وكل من خصه حكم ، لزمه ذلك في أي البقاع كان ، وكل من عافاه الله من حكم وضعه عنه ، وعذره فيه في أي البقاع كان ، ولا سلامة في البقاع لمن قامت عليه حجة الله في شيء من دينه ، ولا هلكة في البقاع على من عذره بشيء من دينه ، لعدمه ذلك الذي تعبده به ، وهذا هو الأصل الذي عليه مدار الأمور ، وإنما قال أهل العلم بالسلامة للمنقطع عن أرض أهل الإقرار ، في جهل الجملة ، لأن ذلك أحكامه معهم أحكام عدم معرفة ذلك ، فلما أن كان ظاهر أمر المنقطع عدم علم الجملة ، حكم له بظاهر أمره ، وعموم أمره ، حتى يخص أحدا من أهل الانقطاع ، حكم علم ذلك ، فإذا خصم علم ذلك زال عذره ، وحكم العموم للموضوع عنه ، وقالوا في جملة من كان بأرض أهل الإقرار ، أن عليه علم ذلك ، لعموم علم ذلك لأهل الإقرار
مخ ۲۱
-21- والأمصار ، حتى يخص أحدا من أهل الأمصار والإقرار ، حكم عدم ذلك ، فإذا خصه ذلك لم يلزمه حكم العموم عند وجوب المخصوص له ، ولزم كلا حكمه في ذات نفسه ، ولم يلزمه حكم غيره من العالمين لما جهله ، والقادرين على ما عجز عنه .
فإن قال : فما يكون جميع أحوال هذا الذي وصفتموه في جميع صلاته وصومه وزكاته وحجه وعمرته ، وجميع أموره ، قبل أن يبلغه هذا من أمر الجملة ، وقبل أن تقوم عليه الحجة بذلك .
فصل : قلنا له : تكون جميع أحواله في جميع دينه ، الذي تعبده الله به ، حال من قد بلغ إلى علم الجملة ، وأقر بالجملة ، وعلم الجملة في أحكام تفسير الجملة ، والأعمال الواجبة في الجملة ، والمحرمات في الجملة ، وعليه أداء الفرائض التي يخصه حكمها ، ويشر على علمها ، وعليه الانتهاء عن المحارم إذا خصه ذلك ، وقدر على العلم الذي يكون عليه حجة في ترك ذلك ، والانتهاء عنه بما يحسن في عقله ، أو بلغ إلى علمه من عبارة المعبرين له ، وعليه في ذلك السؤال لجميع من قدر عليه إذا خصه ذلك ، من عمل بلازم ، أو ركب من ذلك محرما ، ولا فرق في ذلك بين من هو في الأمصار ، ولا في جزائر البحار ، فالخاص له من جميع الخليقة حكم من أحكام الدين ، فهو له لازم ، والمعذور من جميع الخليقة عن شيء من الدين ، فغير مكلف ما لا يطيقه ، وما خصه العذر فيه بوجه أو بحال ، وعليه في جميع دين الله طاقته وقدرته ، وليس له أن يقصر دون طاقته ، ولا عليه أن يحتمل فوق طاقته في دين الله ، وذلك الميثاق والعهد الذي أخذ له ، وعليه في دين الله علمه أو جهله .
وجميع ما كان في دين الله تقوم به الحجة من طريق حجة العقل ، فذلك مكلف فيه المنقطع وغير المنقطع علم ذلك ،ولا له جهل ذلك ، لان جهل ذلك على معاني ما يعقل من ذلك ، ويعرف المراد به ولا يسعه ذلك ،
مخ ۲۲
- 22 - ولا يكون العبد في حال جهله المنصوص من علم تلك الجملة أبدا مضيعا لفرض ، راكبا لمحرم ، ما لم يركب ذلك بإنكار لها أو لشيء منها ، أو تقوم عليه الحجة بعلمها بسماع أو نظر ، أو صحيح فكرة ، أو خاطر يدله على معاني ذلك ، فإذا كان كذلك ، لزمته كلفة التعبد للعلم لذلك ، و إلا فهو أبدا على سبيل العهد والميثاق ، والإيمان والإسلام والطاعة ، وقد تكون الفرائض الداخلة في الجملة من الفرائض اللازمة التي ينقضي وقتها ، مثل الوضوء للصلاة والصلاة ، والغسل من الجنابة عند حضور الصلاة ، والصوم لشهر رمضان ، أضيق حالا الجاهل لها ، لأنه يخصه فرض ذلك ، ويلزم القيام به بعينه ، إذا قدر على تأدية ذلك بعلم خاطر يحسن في عقله ، أو قدر على طلب علم ذلك من أحد من الخليقة ، ممن هو بحضرته ، أو ممن يقدر على إلقائه ، وإن عدم ذلك كله ، وحسن في عقله حضور عمل في دين خالقه ، أو ما يلزمه لخالقه ومحدثه من طاعته له ، أنه قد حضر له وقت عمل بطاعته ، أداء ذلك بقدرته ومبلغ معرفته ، و إلا فكان عليه اعتقاد السؤال لمن قدر عليه ، ممن نرجو معه دلالة على تأدية ما قد لزمه بعلم خاطره ، وما حسن في عقله ، وإن لم يحسن في عقله ذلك ولا بلغه علم ذلك فهو سالم ، باعتقاد الطاعة لخالقه علم ذلك أو جهله ، واعتقاد السؤال عما جهله من طاعة خالقه بما قدر عليه .
وقد مضى القول في مثل هذا ، إلا أن المنقطع ومن لم يبلغه حكم علم الجملة لم يذكرا بعينهما ، وهما سواء في هذا . ومن بلغته الجملة من المنقطع أو غير المنقطع في دار الإقرار وفي دار الإنكار ، فكل من خصه حكم في جملة أو غيرها ، لم يعذر بترك ذلك ولا بإضاعته ، وكل من خصه عذر في شيء من جملة أو غيرها ، فغير مكلف ذلك لكلفة غيره له ، ولو قامت الحجة على المنقطع عن أرض الإقرار لعبارة جميع دين الله من الفرائض والمحارم بما يبلغ إلى علم ذلك ، ويكون عليه حجة ولم يبلغه علم الجملة ، كان بذلك مأخوذا بحكم ما قد لزمه ، وغير مكلف حكم ما قد خصه العذر فيه . وكذلك ما لو قامت عليه الحجة بعلم شيء من دين الله ، كان ذلك كله سواء ، والمعنى
-23- واحد حكمه ، كالمعاني حكمها كلها كالواحد .
مخ ۲۳
فصل : وكذلك المتصل بأرض الإقرار والنازل في الأمصار ، الحكم في ذلك واحد ، كل ما لزمه وخصه فغير معذور عنه ، وكل ما لزمه وخصه فغير معذور فيه ، فغير مكلف له لكلفة غيره ، وهذه جملة كافية ومعرفة شافية إن شاء الله في جميع هذا ، وتفسيره يطول به الكتاب ، وقد مضى القول بما فيه وفي بعضه مكتفى لمن صح ذهنه وصفا إن شاء الله تعالى.
- 24- باب
مخ ۲۴