فاستحسن علي الرأي، وأخذ يعد ما يلزم لسفره، واشترى طبقا كبيرا من خشب جعل عليه بعض أنواع المأكولات، وتزيا بزي الباعة وانخرط في سلك الحملة، وساروا يريدون الصالحية. •••
بقي حسن في ضيافة حارس باب عكا، في انتظار عود الشيخ ضاهر. وفي صبيحة اليوم الثالث وصلت البشائر بقدومه مع علي بك ورجالهما، فخرج الناس بالطبول للاحتفال بملاقاة القادمين، وجلس حسن إلى نافذة مطلة على السهل خارج القلعة لعله يشاهد الاحتفال؛ فإذا بالغبار يتكاثف عن بعد، ثم انقشع عن خيالة يتقدمهم اثنان عرف أنهما الشيخ ضاهر وعلي بك؛ لما في لباسهما من الزخرف وما أحدق بهما من الحاشية، وكل منهما على جواده كأنه أسد، ثم تذكر أنه محجور عليه بأمر الشيخ ضاهر وربما حكم عليه بالقتل أو الحبس، فانقبضت نفسه، ولكنه اشتغل بمشاهدة الموكب وهو يدخل القلعة. فدخل أولا الأميران وحاشيتهما على خيولهم، ثم تقاطر الناس أفواجا، وفيهم الرجال والنساء والأولاد في الزي المصري، فتذكر والدته وهاجت أشجانه واشتد اشتياقه إليها، وأخذ ينظر إلى النساء لعله يستأنس بمنظرهن لمشابهتهن لها بالزي. وفيما هو يتأملهن وقع نظره على واحدة منهن تشبهها قامة ومشية، فخفق قلبه لها واستأنس بها، وجعل يمعن نظره فيها، وكانت كلما اقتربت من الباب ازداد استئناسه بها حتى ترجح لديه أنها هي بعينها، فازداد خفقان قلبه وطارت عيناه شعاعا تطلعا إليها، وود لو أنها ترفع نظرها إليه لعله يتحقق ظنه ويعرفها من وراء الإزار واليشمك، ولكنها كانت مطرقة كئيبة وإلى جانبها رجل عرف أنه من خدم السيد المحروقي، فأخذ يتردد بين الشك واليقين حتى دخلا الباب، فحدثته نفسه أن ينزل لملاقاتهما، وهم بذلك ثم خاف أن يمنعه الحراس، ولكنهم كانوا في شغل بملاقاة القادمين، فنزل حتى أتى الباب وأمعن نظره في المرأة والرجل، أما الرجل فحالما رآه عرفه لكنه لم يتحققه جيدا لما هو فيه من اللباس المغربي.
فتقدم إليه حسن وأمعن نظره فيه وفي المرأة حتى كاد يتحقق أنها والدته، أما هي فحالما وقع نظرها عليه رمت نفسها عليه وصاحت «ولدي.» وأغمي عليها، فهم بها وأمسك يدها وأخذ يخفف عنها ويقبل يديها ويدعوها باسمها، حتى أفاقت فضمته إليها وجعلت تقبله وتشكر الله على مشاهدتها إياه، والناس وقوف قد أدهشهم ذلك المنظر، خصوصا الحارس لما رأى من بكائهما ولهفتهما، ثم دخل بهما إلى غرفته وهما متعانقان والدموع تتساقط على خديهما، فلما جلسا أخذت سالمة تسأل حسنا عن أمر أبيه، فذكر لها أنه لا يعلم مقره، وقد جاء للبحث عنه ظنا منه أنه في عكا، وأخبرها أنه محجور عليه هناك لسبب لا يعلمه. فسألت الحارس عن سبب ذلك القبض، فقال: «لا أعلم يا سيدتي، ولكني أمرت من أحد رجال سيدي الشيخ ضاهر أن أقبض عليه.» فتذكر حسن صديقه عماد الدين فقال في نفسه: «لعلي إن وجدته أنتفع به في هذه المسألة.»
وكان حسن لا يعلم عن مكان عماد الدين شيئا بعد أن غادره في بيروت، فسأل البواب عنه فقال هذا: «ومن أين لك معرفته؟»
قال: «هو صديقي، عرفته منذ أشهر، فهل هو في المدينة؟»
قال: «نعم هو هنا، وقد أوصاني هو أيضا وشدد الوصية في القبض عليك.»
فانبسط وجه حسن ونهض واقفا من الفرح وقال: «إذن فالقبض علي لخير والحمد لله؛ لأن الرجل صديق وبيننا عهود وثيقة تقضي بمساعدة أحدنا الآخر.»
ثم التفت إلى البواب قائلا: «وأين عماد الدين الآن؟»
قال: «لا بد من أنه قدم مع القادمين، وعما قليل أسأل عنه وأستقدمه إليك.»
وبعد قليل، مضى الحارس فغاب قليلا ثم عاد ومعه عماد الدين، فما وقع نظر هذا على حسن حتى هم به وعانقه وأخذ يقبله ودموع الفرح تتساقط على خديه، ثم حانت منه التفاتة إلى أم حسن وهي جالسة هناك، فسأله عمن تكون، فقال: «هي والدتي، ولم يبق إلا أن يكتب الله لنا الاجتماع بأبي.»
ناپیژندل شوی مخ