فقال القسيس: «نسأل الله أن يمحق الظالمين جميعا، على أني ما زلت أوجس خيفة على أبي الذهب من علي بك نفسه؛ لأن مجيء هذا إلى الشيخ ضاهر حليفه في عكا إنما هو للاستنجاد به وبالأسطول الروسي المتحالف معهما، وأكبر الظن أنهما سيسارعان إلى نجدته ومعاونته على استرداد حكم مصر من يد أبي الذهب، وهذا لن يقوى على دفعهم مجتمعين.»
فقال حسن: «نسأل الله أن يبيد دولة المماليك جميعا؛ فإن التاريخ لم يشهد حكاما في مثل جبروتهم وظلمهم.»
فأمن القسيس على دعائه وقال: «إنه لا يهد أركان الممالك كالظلم والانغماس في اللهو والفجور، ولعل حكم علي بك كان أقل جورا وفسادا من حكم أسلافه الذين سبقوه من المماليك.»
فتنهد حسن وقال: «كان هذا صحيحا في أول أمره، لكنه ما لبث قليلا حتى فاق بظلمه كل من سبقوه، فكم خرب من بيوت كانت عامرة! وكم سفك من دماء، وانتهك من حرمات!» ثم غلبته عواطفه فأخذ في البكاء حزنا على ما أصابه وأسرته من ظلم علي بك.
فأخذ القسيس يعزيه ويحاول الترفيه عنه إلى أن قال له: «لعلك راغب في السفر إلى عكا، وقد علمت اليوم من قريب لي أنه ذاهب إليها بعد يومين في صحبة وفد من اللبنانيين بعث به الأمير يوسف شهاب إلى الشيخ ضاهر، فإذا شئت فإني أوصي قريبي هذا بأن يهيئ لك مكانا معهم.»
فهم حسن بيد القسيس وقبلها شاكرا. وفي اليوم التالي مضى به القسيس إلى قريبه السالف الذكر، وأوصاه به خيرا، فهيأ له هذا جوادا وزادا، وألحقه بقافلة الوفد اللبناني، فسارا فيها آمنا حتى وصل إلى عكا بعد العصر بقليل. •••
ما كاد حسن يدخل المدينة من الباب الشرقي حتى استوقفه حارس الباب وأخذ يتفرس فيه، ثم سأله عن اسمه وإلى أين هو ذاهب، فارتبك حسن ولم يدر كيف يجيب، فقال له الحارس : «إن لدي أمرا بحجزك وإرسالك إلى مولانا الشيخ ضاهر في القلعة.»
فأجفل حسن وملئ قلبه رعبا وفزعا؛ لعلمه بتحالف الشيخ ضاهر مع علي بك، ثم تجلد قليلا وقال للحارس: «إني غريب عن هذه المدينة، وليس فيها من يعرفني أو أعرفه، فلعل شخصا غيري هو المطلوب.»
فقال الحارس وهو يشير إليه بالجلوس بجانبه قرب الباب: «كلا، بل أنت الشخص المطلوب نفسه، ولا شك عندي في ذلك؛ إذ تنطبق على هيئتك جميع الصفات التي ذكروها لي.»
فلم يبق لدى حسن أدنى شك في أن أمره قد انكشف، وأن الأمر بالقبض عليه ليس سوى تمهيد لتسليمه إلى علي بك، فلم يتمالك عن البكاء حزنا وأسفا على سوء حظه الذي أوقعه في يد ذلك الظالم من جديد.
ناپیژندل شوی مخ