ولاح لسالمة بصيص من الأمل في إنقاذ ابنها من الموتة الشنيعة التي حكم عليه بها علي بك، فهمت بأن تترامى على قدمي الست نفيسة وتتضرع إليها أن تتوسط لتحقق لها هذا الأمل، ولكنها رأتها تنهض من مجلسها وتصفق منادية جاريتها الخاصة (منورة)، فنهضت سالمة ووقفت بين يديها ساكنة حتى جاءت الجارية، وتلقت من سيدتها كلمات أسرت بها إليها، ثم انصرفت حانية رأسها سمعا وطاعة. •••
كانت السيدة نفيسة قد علمت بما أمر به زوجها علي بك من إلحاق سالمة بخدمة القصر وإلقاء ولدها في النيل، فاستنكرت الأمر فيما بينها وبين نفسها. ثم ازداد تأثرها حين علمت بامتناعها عن الطعام والشراب وانقطاعها للبكاء والعويل، فلما قابلتها بعد ذلك ورأت بنفسها ما هي عليه من سقم واكتئاب وزهد في الحياة، حدثتها نفسها بأن ترسل من عندها رسولا إلى الجند الذين كلفوا إغراق ابنها، آمرة إياهم بالعدول عن ذلك، ولكنها رأت الانتظار حتى يعود علي بك إلى القصر وتتوسط لديه في الأمر، مخافة أن يغضب لإقدامها على ذلك دون إذنه، وقد يؤدي به الغضب إلى الانتقام منها بذبحها أو إلقائها في النيل، أو طردها من القصر مطلقة مهانة على أهون تقدير.
ولم يكن لديها شك في أنه يحبها ويؤثرها على كل نسائه وجواريه، ولكنها كانت - مع ذلك - لا تأمن حدة غضبه، وتعلم أنه سريع الانتقام لا يطيق أن يخالف أحد أي أمر يصدره. هذا إلى علمها بأن المماليك جميعا لا يرعون حرمة النساء ولا شيء عندهم أسهل من الطلاق.
على أنها خشيت كذلك أن تتأخر عودته إلى القصر فتضيع فرصة إنقاذ الفتى البريء المظلوم، وتذهب نفس أمه المسكينة حسرات عليه، فنادت خادمتها الخاصة الأمينة (منورة)، وأسرت إليها أن تسارع إلى إرسال من يلحق بالجنود ويبلغهم رغبتها في العفو عن الفتى وإطلاق سراحه ومعاونته على الفرار من مصر إلى سوريا أو غيرها من البلاد المجاورة في الحال.
وفيما هي تتحدث مع سالمة عقب انصراف منورة وتكرر النصح لها بالصبر وألا تيأس من الفرج بعد الشدة، وصل إلى سمعها وقع أقدام تقترب من الغرفة، فأجفلت الست نفيسة وامتقع لون وجهها، وطالعت سالمة في نظراتها وحركاتها معاني القلق والاضطراب والخوف، فأدركت أن القادم علي بك، وأن زوجته الرحيمة الطيبة القلب تخشى غضبه لسماحها لها بدخول غرفتها، فهمت بالخروج تفاديا لشره، لكنها ما كادت تصل إلى باب الغرفة حتى دخل منه علي بك، فلم تتمالك قواها لهول المفاجأة وسقطت على الأرض مغمى عليها.
وعرفها علي بك حين وقعت عينه عليها، فحمي غضبه والتفت إلى زوجته التي خفت إلى ملاقاته محاولة ملاطفته، وقال: «ما هذا يا نفيسة؟ ما الذي جاء بهذه الخائنة إلى هنا وقد أمرت بأن تسند إليها أحقر أنواع الخدمة؟»
فتكلفت الابتسام، وتجلدت لتخفي اضطرابها، وقالت له: «إنها يا مولاي لم تأت إلا بطلب مني؛ إذ سمعت بأنها كادت تقتل نفسها حزنا على ما آل إليه أمرها، وامتنعت عن تناول الطعام، فدعوتها لأخاطبها في ذلك.»
فنظر إليها شزرا، وقال محتدا: «كادت تقتل نفسها؟ ما شاء الله! لعلها اشتاقت إلى ولدها المدلل الجبان حسنا. سأرسلها إليه الآن!»
ثم أشار إلى بعض الجواري أن يخرجن سالمة من الغرفة ويسلمنها إلى بعض حرس القصر ليلقوا بها في النيل، فسارعن إلى تنفيذ الأمر. •••
أفاقت سالمة من إغمائها، فوجدت نفسها محمولة على أيدي بعض جواري القصر الحبشيات والتركيات، وما علمت بما أمر به علي بك حتى صاحت قائلة: «مرحبا بالموت ما أعذبه وأحلاه! ولاسيما أنه سيقربني من ولدي وفلذة كبدي العزيز.»
ناپیژندل شوی مخ