أقلعت الحملة الروسية من ميناء عكا في جو هادئ جميل، فمضت سفنها تشق عباب البحر باسطة أشرعتها، ووقف السيد عبد الرحمن في زيه المغربي على ظهر السفينة التي ركب فيها يتأمل الساحل السوري حينا، والأفق الممتد على مدى النظر من الجهة الأخرى حينا، ثم يطلق لفكره العنان فيتخيل أنه وصل إلى داره في القاهرة ولقي ولده وزوجته فلم يعرفاه أول الأمر؛ لتنكره في ذلك الزي الغريب، ثم ما كادا يعرفانه حتى غمرهما السرور مثله، وراحوا جميعا يبكون من فرط فرحتهم باللقاء بعد طول الغياب.
على أنه كان لا يلبث أن يتذكر تأخرهما عن موافاته في عكا، فتتقاذفه الهواجس، ويكاد قلبه يثب من صدره خشية أن يكونا قد أصيبا بسوء، ثم تنهل الدموع من عينيه على غير إرادته فيسارع إلى مسحها بمنديله، مستعينا على بلوغ غايته بالتزام الكتمان.
وبعد خمسة أيام، كانت سفن الأسطول تسير خلالها مجتمعة حينا ومتفرقة حينا آخر، لاحت سواحل مصر من بعيد. فوقف السيد عبد الرحمن على حافة السفينة التي هو فيها يتشوق إليها وقلبه شديد الخفقان، وود لو أن جناحين يطير بهما إلى القاهرة لرؤية ولده وزوجته. وخطر بباله أنهما قد يكونان في هذا الوقت في طريقهما إلى عكا حيث تواعدوا على اللقاء، فندم على تعجله الرجوع إلى مصر، لكنه تجلد وصبر حتى يصل ويقف على الحقيقة.
وحانت منه التفاتة إلى السفينة القريبة من السفينة التي يركب فيها، فوجد على ظهرها جنودا من الأرناءوط - الألبانيين - وقد عرفهم بأزيائهم التي يرتدي مثلها مواطنوهم في مصر، وهي مؤلفة من القباء (القفطان) الأبيض القصير، ويسمونه «التنورة»، وسيقانهم مكسوة بالجلد، وعلى أكتافهم عباءات قصيرة، وفوق رءوسهم طرابيش طويلة مثنية إلى الخلف وتتدلى منها «أزرار» طويلة.
فعجب من وجود هؤلاء بين الأسطول الروسي، ثم علم من الترجمان القبرصي أن الأسطول يضم حوالي أربعة آلاف منهم، جيء بهم لاستخدامهم في الحرب البرية إذا اقتضى الأمر ذلك.
وبعد قليل وصلت السفن إلى ميناء دمياط وقد طوى البحارة أشرعتها استعدادا لرسوها هناك. وشاهد السيد عبد الرحمن أفواجا من الدمياطيين على الساحل يتطلعون إلى السفن الغريبة القادمة في دهشة واضطراب. ثم ما كادت السفن تلقي مراسيها، حتى جاء كتخدا سردار المدينة (وكيل المحافظ) لتحية أميرال الأسطول، بالنيابة عن علي بك، وإبداء الاستعداد لمده بما يحتاج إليه من المؤن والماء وغيرهما من المعدات. وعقب انصراف الكتخدا، ذهب السيد عبد الرحمن إلى الأميرال فقبل يديه مودعا مستأذنا في النزول إلى البر، فأذن له ومنحه مكافأة أخرى، كما منحه مثلها كثيرون من ضباط الأسطول وجنوده.
الفصل السادس
الست نفيسة المملوكية
أخذ أعوان علي بك حسنا من القلعة على مشهد من أمه وهم يضربونه ويسبونه، وساروا به إلى مصر العتيقة لإغراقه في النيل هناك؛ تنفيذا لأمر مولاهم، فلم تطق المسكينة صبرا على رؤية وحيدها يساق إلى ذلك المصير الرهيب، وأغمي عليها بعد أن قطعت شعرها وشقت ثوبها وجرحت خديها وعينيها من شدة اللطم والعويل، فحملها بعض الجنود ومضوا بها إلى قصر علي بك عند بركة الأزبكية، حيث سلموها لقيمة القصر، وأبلغوها أمر علي بك بأن تلحق بالجواري الخادمات.
وكانت تلك البركة حينذاك تشغل مكان حديقة الأزبكية وما يحف بها من الأبنية الآن، فكان يحدها من الشرق حارة النصارى، ومن الغرب بساتين وغياض - هي التي صارت حي الإسماعيلية فيما بعد - ومن الجنوب منطقة المقس؛ حيث يقع الآن حي التوفيقية وما بعده، ومن الشمال منطقة العشماوي؛ حيث محافظة القاهرة، وهناك كان يقوم قصر علي بك الكبير.
ناپیژندل شوی مخ