Issues of Religious Education in Islamic Society
من قضايا التربية الدينية في المجتمع الإسلامي
خپرندوی
دار المعرفة الجامعية
د ایډیشن شمېره
الأولى ١٤١٩هـ/ ١٩٩٨م
ژانرونه
مقدمة
...
تطبيق المنهج الإسلامي في التربية؟ والسؤال الخامس: ما الجهات المسئولة عن تطبيق هذا المنهج؟
ومع جملة عرض القضايا والمناقشات في سائر الفصول، لم يغفل البحث إلقاء الضوء على واقع التربية الإسلامي في حياتنا الحاضرة، والإشارة إلى المعوقات التي تعترض سبيلها، والشبهات التي يجب دحضها، وكشف اللثام عنها.
وفي نهاية البحث تأتي الخاتمة التي تضم النتائج التي توصَّلَ إليها الباحث من خلال عرضه لقضايا التربية الدينية الإسلامية، وأهمها أن التربية الدينية طريق السيادة في الدنيا، وسبيل السعادة في الآخرة.
1 / 2
الفصل الأول: مفهوم التربية الدينية في الإسلام
معنى التربية:
التربية لفظ مشتق من الفعل رَببَ.
وربَّ الولدَ: ربَّاه وليهُ وتعهده بما يغذيه وينميه، فهو رابٍّ، والولدُ مربوب، وربيب.
وتَربيه ورباه تربيةً بمعنى أحسن القيام عليه وَوَليهُ حتى يفارق الطفولية، كان ابنه أو لم يكن١، والربُّ: الإله المعبود، والمالك والسيد، والقيِّمُ والمدبِّر٢.
والربَّاني: الكامل في العلم والعبادة، وقيل: هو من الربِّ بمعنى التربية، وكانوا يربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها٣.
قال الإمام فخر الدين الرازي٤:
"والمربي على قسمين؛ إحداهما: أن يربي شيئًَا ليربح على المربي، والثاني: أن يربيه ليربح المربَّى.
وتربية كل الخلق على القِسم الأول؛ لأنهم يربون غيرهم ليربحوا
_________
١ انظر لسان العرب لابن منظور، ص١٥٤٧، مادة: ربب.
٢ انظر، معجم الوجيز ص٢٥٠، مادة: ربب، طبعه دار المعارف، مادة: ربب.
٣ انظر ابن منظور، لسان العرب، مادة: ربب، ص١٥٤٨، طبعة دار المعارف.
٤ انظر، فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، المجلد الأول، العدد٣، ص٢٨٢، الناشر، دار الغد العربي، سنة ١٩٩١القاهرة.
1 / 3
عليه إما ثوابًا أوثناءً، والقسم الثاني: هو الحق ﷾، كما قال: "خلقتكم لتربحوا عليّ لا أربح عليكم" فهو تعالى يربي ويحسن، وهو خلاف سائر المربين، وبخلاف سائر المحسنين.
فالتربية هي عملية التنشئة والرعاية والتوجيه من جانب الكبير تجاه الصغير، والعالم حيال المتعلم.
ولقد تناول الإسلامي كل شئون الفرد بالتوجيه والإرشاد والتهذيب والتعليم، فلم يدع في حياته شيئًا إلّا وقد أفاده فيه بما يصلحه، كذلك بالنسبة لحياة المجتمع لم يدع فيها أمرًا إلّا وجعل له نظامًا وهديًا؛ بحيث يضمن للناس السعادة دائمًا، والأمان في حاضر أيامهم ومستقبلها.
ولما كان الدين من عند الله من لدن آدم حتى رسولنا الكريم -صلى الله عليه سلم، فقد وضع للناس الموازين القسط التي تلائم عصورهم وطبائعهم، ولما كان الدين الإسلاميّ هو الدين الخاتم؛ لأنه لا نبي بعد محمد -صلى الله عليه سلم، فقد جعله الله مهيمنًا على كل الأديان قبله، وجعل القرآن مهيمنًا على كل الكتب قبله، ووصفه بأنه دائمًا يهدي إلى الحق وإلى سبيل الرشاد؛ فقالك -عزَّ وعَلَا: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ ١.
وإن كتابًا هذا شأنه، يجب أن يُقْبِل كل إنسان على تدبر ما فيه وفهم مراميه؛ لأنه دائمًا يهدي للتي هي أقوم، فهو يضم كل أصول التربية، وكانت حياة النبي ﷺ بعد البعثة شرحًا لهذا القرآن، وتفصيلًا له، وتبيينًا لأحكامه، ولذلك كان على اكلبشرية أن توجِّه الشكر كل الشكر إلى العناية الإلهية التي لم تخلقهم عبثًا، ولهذا نجد أن المولى -عزَّ وعلَا في سورة الفاتحة، بدأ بالحمد لذاته، ثم بلفظ الربوبية بعده، فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وكما نعلم أن من معاني الربّ: السيد، المالك، الصاحب، المربي".
_________
١ سورة الإسراء الآية ٩.
1 / 4
تربية الله لعباده ١:
وتربية الله تعالى مخالفة لتربية غيره، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: أنه يربي عبيده لا لغرض نفسه بل لغرضهم، وغيره يربون لغرض غيرهم.
الثاني: أن غيره إذا ربَّى فبقدر تلك التربية يظهرالنقصان في خزائنه وفي ماله، وهو تعالى متعالٍ عن النقصان والضرر، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ ٢.
الثالث: أن غيره من المحسنين إذا ألح الفقير عليهم أبغضه وحرمه ومنعه، والحق تعالى بخلاف ذلك، كما قال ﵊: "إن الله تعالى يحب الملحين في الدعاء".
الرابع: أن غيره من المحسنين مالم يطلب منه الإحسان لم يعط، أما الحق تعالى فإنه يعطي قبل السؤال، ترى أنه رباك حال ما كنت جنينًا في رحم الأم، ورحال ما كنت جاهلًا غير عاقل، لا تحس أن تسأل، ووقاك وأحسن إليك مع أنك ما سألته، وما كان لك عقل ولا هداية.
_________
١ انظر فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، العدد٣، ص٢٨٢.
٢ سورة الحجر الآية:٢١.
1 / 5
الخامس: أن غيره من المحسنين ينقطع إحسانه إما بسبب الفقر أو الغيبة أو الموت، والحق تعالى لا ينقطع إحسانه البتة.
السادس: أن غيره من المحسنين يختص إحسانه بقوم دون قوم، ولا يمكنه التعميم، أما الحق تعالى فقد وصل تربيته وإحسانه إلى الكلِّ، كما قال: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ ١ فثبت أنه تعالى رب العالمين، ومحسن إلى الخلائق أجمعين، فلهذا قال تعالى في حق نفسه: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٢.
ثم إن الذي يحمد ويمدح ويعظم في الدنيا إنما يكون كذلك لأحد وجوه أربعة: إما لكونه كاملًا "في ذاته وفي صفاته، منزهًا عن جميع النقائص والآفات، وإن لم يكن منه إحسان إليك، وإما لكونه محسنًا إليك ومنعمًا عليك، وإما لأنك ترجو وصول إحسانه إليك في المستقبل من الزمان، وإما لأجل أنك تكون خائفًا من قهره وقدرته وكمال سطوته، فهذه الحالات هي الجهات الموجبة للتعظيم، فكأنه ﷾ يقول: إن كنتم ممن يعظِّمون الكمال الذاتي فاحمدني فإني إله العالمين، وهو المراد من قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وإن كنتم ممن تعظِّمون الإحسان فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظِّمون للطمع في المستقبل فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون الخوف فأنا مالك يوم الدين"٣.
_________
١ سورة الأعراف: الآية ١٥٦.
٢ مفاتيح الغيب، ج٣، ص٢٨٣.
٣ المصدر السابق نفسه.
1 / 6
ووجوه تربية الله للعبد كثيرة غير متناهية، ونحن نذكر منها أمثلة:
المثال الأول: لما وقعت قطرة النطفة من صلب الأب إلى رحم الأم، فانظر كيف أنها صارت علقة أولًا، ثم مضغة ثانيًا، ثم تولَّدت منها أعضاء مختلفة؛ مثل: العظام والغضاريف والرباطات الأوتار والأوردة والشرايين، ثم اتصل البعض بالبعض، ثم حصل في كل واحد منها نوعٌ خاصٌّ من أنواع القوى، فحصلت القوة الباصرة في العين، والسامعة في الأذن، والناطقة في اللسان، فسبحان من أسمع بعظم، وبصَّرَ بشحم، وأنطق بلحم، وكل ذلك يدل على تربية الله تعالى للعبد"١.
المثال الثاني: أن الحبة الواحدة إذا وقعت في الأرض فإذا وصلت نداوة الأرض إليها انتفخت لا تشق من شيء من الجوانب إلّا من أعلاها وأسفلها، مع أن الانتفاخ حاصل من جميع الجوانب؛ أما الشق الأعلى فيخرج منه الجزء الصاعد من الشجرة؛ وأما الشق الأسفل فيخرج منه الجزء الغائض في الأرض، وهو عروق الشجرة، فأما الجزء الصاعد فبعد صعوده يحصل له ساق، ثم ينفصل من ذلك الساق أغصان كثيرة، ثم يظهر على تلك الأغصان الأنوار أولًا، ثم الثمار ثانيًا، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكثافة واللطافة وهي القشور اللبوب ثم الأدهان، وأما الجزء الغائص من الشجرة فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها؛ وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، مع غاية لطافتها فإنها تغوص في الأرض الصلبة الخشنة٢.
_________
١ المصدر السابق، ص٢٨٤.
٢ المصدر السابق نفسه.
1 / 7
"وأودع الله فيها قوى جاذبة تجذب الأجزاء اللطيفة من الطين إلى نفسها١، والحكمة في كل هذه التدبيرات تحصيل ما يحتاج العبيد إليه من الغذاء والإدام والفواكه والأشربة والأدوية، كما قال تعالى: ﴿أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا﴾ [عبس: ٢٥، ٢٦] ٢.
المثال الثالث: أنه وضع الأفلاك والكواكب بحيث صارت أسبابًا لحصول مصالح العباد، فخلق الليل ليكون سببًا للراحة والسكون، وخلق النهار ليكون سببًا للمعاش والحركة ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [يونس: ٥] ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الأنعام: ٩٧] واقرأ قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ إلى آخر آيات [النبأ: ٦، ٧]، واعلم أنك إذا تأملت في عجائب أحوال المعادن والنبات والحيوان، وآثار حكمة الرحمن في خلق الإنسان، قضى صريح عقلك بأن أسباب تربية الله كثيرة، ودلائل رحمته لائحة ظاهرة، وعند ذلك يظهر لك قطرة من بحار أسرار قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٣.
ولقد أضاف الله سبحانه الحمد إلى نفسه، فقال تعالى: ﴿الحمد لله﴾، ثم أضاف نفسه إلى العالمين، والتقدير: "إني أحب الحمد فنسبته إلى
_________
١ وهو ما يسمى بالخاصة الشعرية.
٢ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، العدد٣ ص٢٨٤.
٣ فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، التفسير الكبير، ج١/ ٣/ ٢٨٤.
1 / 8
نفسي بكونه ملكًا، ثم لما ذكرت نفسي عرفت نفسي بكوني ربًّا للعالمين، ومن عرف ذاتًا بصفة فإنه يحاول ذكر أحسن الصفات وأكملها، وذلك يدل على أنه كونه ربًّا للعالمين أكمل الصفات، والأمر كذلك؛ لأن أكمل المراتب أن يكون تامًّا، وفوق التمام، فقولنا الله، يدل على كونه واجب الوجود لذاته في ذاته وبذاته، وهو التمام، وقوله: رب العالمين، معناه أن وجود كل ما سواه فائض عن تربيته وإحسانه وجوده، وهو المراد من قولنا: إنه فوق التمام.
والله سبحانه يملك عبادًا غيرك، كما قال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: ٣١]، وأنت ليس لك ربٌّ سواه، ثم إنه يربيك كأنه ليس له عبد سواك، وأنت تخدمه كأن لك ربًّا غيره، فما أحسن هذه التربية، أليس أنه يحفظ في النهار عن الآفات من غير عوض، وبالليل عن المخافات من غير عوض؟ واعلم أن الحراس يحرسون الملك كل ليلة، فهل يحرسونه عن لدغ الحشرات؟ وهل يحرسونه عن أن تنزل به البليات؟ أما الحق تعالى فإنه يحرسه من الآفات، ويصونه من المخافات؛ بعد أن كان قد زج أول الليل في أنواع المحظورات وأقسام المحرمات والمنكرات، فما أكبر هذه التربية وما أحسنها، أليس من التربية أنه ﷺ قال: "الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب"، فلهذا المعنى قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ [الأنبياء: ٤٢]، ما ذاك إلّا الملك الجبار، والواحد القهار، ومقلب القلوب والأبصار، والمطلع على الضمائر والأسرار"١.
_________
١ المرجع السابق، ج١ العدد ٣/ ٢٨٥.
1 / 9
ولقد شرَّف الله ﷾ الإنسان وأكرمه بأن خلق له العقل كي يميز به بين الأشياء، ويدرك به النافع من الضار؛ فهو الوسيلة التي يستعان به على قبول التربية والانتفاع بها، وهو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة.
من تربية الله للناس أنه خلقهم على الفطرة:
وروي عنه ﷺ أنه قال: "أول ما خلق الله العقل، فقال له أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر، ثم قال الله ﷿: "وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقًا أكرم عليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي وبك أثبت، وبك أعاقب"١.
والدين يحتاج إلى عقل وبصيرة؛ إذ لا يمكن تقبل المسائل أو رفضها إلّا عن طريقه، ولذلك قال ﷺ:
"يا أيها الناس إن لكلِّ شيء مطية، ومطية المرء العقل، وأحسنكم دلالة ومعرفة بالحجة أفضلكم عقلًا"٢.
كما جعل القلب مستودع العلوم كلها؛ إذ هو مصدر الإلهام ومنبع الكشف، وفي الحديث أنه -صلى عليه وسلم- قال: "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك وأفتوك"٣. والدين الذي هو التربية يحتاج إلى كلا العقل والقلب، وقد فطرهما الله كليهما على الحق.
قال ﷾:
_________
١ الغزالي، إحياء علوم الدين، ج١/ ٨٩، طبعة مصطفى البابي الحلبي، سنة ١٣٦٨هـ- ١٩٣٩م.
٢ المصدر السابق والصفحة.
٣ المصدر السابق: ج١/ ٧٧.
1 / 10
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ سورة الروم ٣٠-٣٢. قال ابن كثير في التفسير: "فسدد وجهك واستمرّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره كما تَقَدَّم عند قوله تعالى: ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى﴾ ١.
وفي الحديث القدسي: "َإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمْ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ "، حيث طرأ على بعضهم الأديان الفاسدة كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وكقوله تعالى: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ ٢، قال بعضهم: معناه لا تبدلوا خلق الله فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها فيكون خبرًا بمعنى الطلب، وقال آخرون: هو خبر، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة على الجبلة المستقيمة، لا يولد أحد إلّا على ذلك، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك وابن زيد في قوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ أي: لدين الله، وقال البخاري في قوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾ لدين الله، خلق الأولين، دين الأولين، الدين والفطرة الإسلام"٣.
_________
١ الأعراف: ١٧٢.
٢- الروم: ٣٠.
٣ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج٣/ ٤٣٢، من تفسير سورة الروم بتصرف. نشر مكتبة الدعوة الإسلامية. شباب الأزهر ١٤٠٠هـ / ١٩٨٠م.
1 / 11
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه"، ثم يقول: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ " رواه مسلم١. قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا يونس، عن الحسن، عن الأسود بن سريع قال: أتيت رسول الله ﷺ، وغزوت معه، فأصبت ظفرًا، فقاتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ، فقال رجل: يا رسول الله، أما هم أبناء المشركين؟ فقال: "لا، إنما خياركم أبناء المشركين -ثم قال: لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية، وقال: "كل نسمة تولد على الفطرة، حتى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهودانه أو ينصرانها"، رواه النسائي في كتاب السير. وعن جابر، عن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا". وعن ابن عباس ﵄، أن رسول الله -صلى الله عليه سلم- سئل عن أولاد المشركين فقال: "الله أعلم بما كانوا عاملين إذ خلقهم"، أخرجاه في الصحيحين عن ابن عباس مرفوعًا بذلك، وقد قال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا عفّان، حدثنا حماد -يعني: ابن سلمة، أنبأنا عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: أتى عليَّ زمان وأنا أقول: أولاد المسلمين مع المسلمين، وأولاد المشركين مع المشركين، حتى حدثنى فلان عن فلان أن رسول الله
_________
١ مسلم بن الحجاج القشيري، صحيح مسلم، كتاب القدر، ج٢، ص٤٥٨، طبعة عيسى الحلبي، دار إحياء الكتب العربية.
1 / 12
الله ﷺ سُئِلَ عن أولاد المشركين فقال: "ألله أعلم بما كانوا عاملين"، قال: فلقيت الرجل فأخبرني، فأمسكت عن قولي.
وعن قتادة، عن مطرف، عن عياض بن حمار، أن رسول الله ﷺ خطب ذات يوم فقال في خطبته: "إن ربي ﷿ أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطانا" ١.
ويقول ابن كثير في أثناء تفسير سورة الروم، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾، أي: التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ ٢، وقوله تعالى: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْه﴾، قال ابن زيد وابن جريح، أي: راجعين إليه ﴿وَاتَّقُوهُ﴾، أي: خافوه وراقبوه، ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾، وهي الطاعة العظيمة، ﴿وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ٣ أي: بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدن بها سواه، وعن يزيد بن أبي مريم قال: مرَّ عمر ﵁ بمعاذ بن جبل فقالك عمر: ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ: ثلاث؛ وهن المنجيات: الإخلاص؛ وهي الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة؛ وهي الملة والطاعة، وهي العصمة، فقال عمر:
_________
١ راجع، ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، في تفسير سورة الروم، ج٣، ص٤٣٢.
٢ سورة الروم:٣٠.
٣ سورة الروم الآية:٣١.
1 / 13
صدقت، وقوله تعالى: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ ١ أي: لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم، أي: بدَّلُوه وغيَّروه، وآمنوا ببعضٍ وكفروا ببعض، وقرأ بعضهم: فارقوا دينهم، أي: تركوه وراء ظهورهم، وهؤلاء كاليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإسلام، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ﴾ ٢ الآية. فأهل الأديان هنا اختلفوا فيما بينهم على آراء ومثل باطلة.
وكلة فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضًا اختلفوا فيما بينهم على نِحَلٍ كلها ضلالة إلّا واحدةً؛ هم أهل السنة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين من قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في مستدركه أنه سُئِلَ ﷺ عن الفرقة الناجية منهم فقال: "من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي" ٣.
_________
١ سورة الروم الآية ٣٢.
٢ الأنعام ١٥٩.
٣ ابن كثير، تفسير القرآن العظيم ج٣/ ٤٣٣.
1 / 14
علم التربية والتعليم علم بدأه رسول الله ﷺ
...
علم التربية والتعليم علمٌ بدأه رسول الله -صلى الله عليه سلم:
التربية لفظ يقترن بالتعليم؛ لأنه مشتمل عليه؛ فالتربية والتعليم معنيان متلازمان لا يكادان ينفصلان، كما أنهما ينطبقان على عالم الإنسان وعالم الحيوان، فالطيور تربي صغارها، وتكلأ أولادها منذ ولادتهم حتى إذا قويت أعضاؤهم علَّمَتها الطيران، وكيف تقتات لنفسها، فاستغنت بعد ذلك عن الأبوين، وكذلك الوحوش تكلأ أولادها منذ ولادتها، وتعتني بها، وتجلب لها الطعام، حتى إذا قويت أعضاؤها خرجت بها إلى رحابة الحياة تعلمها كيف تقتات وتحصل على فرائسها، فتستغني بذلك عن رعاية الأبوين.
أما التربية والتعليم في عالم الإنسان فشيء عظيم، له قواعد معينة، وأصول مرعية، تنبثق من طبيعة المجتمع وعقيدته ووثقافته.
والمجتمع الإسلامي يُعَدُّ أرقى المجتمعات الإنسانية في مجال التربية والتعليم، وللمسلمين -كما نعلم- فضل كبير في نشر العلوم إلى مختلف بقاع العالم أيام الفتوحات الإسلامية، وكان لهم قصب السبق في طرق التربية والتعليم، وفي المنهج العلمي في التفكير، وذلك في الاقتصاد والاجتماع والفلك والطبيعة والكيماء والرياضة والطب والتشريح، حتى في التفكير والطيران، ومؤلفاتهم تشهد بذلك.
والتربية والتعليم كعلمٍ نشأ مع بزوغ فجر الإسلام، وصارت له مدرسة في مدينة الرسول الكريم ﷺ، هذه المدرسة التي أنشأها الرسول الكريم للتربية والتعليم، كان كتابها القرآن، وهو الوحي المتلو، وبيانها ما جاء به عن النبي من قولٍ أو فعلٍ أو تقرير، فكل حركاته ﷺ وسكناته، إنما هي بيانٌ عمليٌّ لهذا الكتاب المقرر على المسلمين، وقد شرحه لهم عمليًّا رسول الله ﷺ.
ونستطيع أن نقول: إن التربية والتعليم علمٌ بدأه رسول الله ﷺ في المدينة، مصداقًا لقوله -عزَّ وعَلَا: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
1 / 15
وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ سورة الجمعة آية ٢.
فكان ﷺ يربيهم على القرآن، يشرح لهم معنى الآية، ويجيبهم عن كل ما يصعب عليهم فهمه.
سأله بعض صحابته قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟
قال: "كان في عماءٍ ما تحته هواء، وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء" ١.
قال يزيد بن هارون: العماء، أي: ليس معه شيء.
وكان اليهود يسألونه عن أشياء في كتبهم وهم يعلمونها، ولكنهم كانوا بها يختبرون النبي ﷺ.
قال ابن عباس: أقبلت يهود إلى النبي ﷺ: فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا عن الرعد ما هو؟
قال: "ملك من الملائكة، موكَّلٌ بالسحاب، معه مخاريق -آلة تضرب بها الملائكة السحاب- من نار، يسوق بها السحاب حيث شاء الله"
فقالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟!
قال: "زجره السحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر".
قالو: صدقت، فأخبرنا عما حرَّم إسرائيل على نفسه؟
قال: "اشتكى عرق النسا، فلم يجد شيئًا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها، فلذلك حرّمها".
_________
١ الترمذي، الجامع الصحيح، ج٥/ ٢٨٨، طبعة الحلبي، الطبعة الثانية ١٣٩٥هـ/ ١٩٧٥م، بتحقيق إبراهيم عطوة عوض.
1 / 16
قالوا: صدقت١ ...
وكان القرآن ينزل على النبي ﷺ يعالج أمور المسلمين ويوجههم ويحملهم إلى الهداية والرشاد.
ورى ابن عباس أنه كانت امرأ تصلي خلف رسول الله ﷺ حسناء من أحسن الناس، فكان بعض القوم يتقدَّم حتى يكون في الصف الأول لئلَّا يراها، ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر، فإذا ركع نظر من تحت إبطيه، فأنزل الله ﴿وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ﴾ ٢ وروي عن زيد بن أرقم ﵁ أنه قال:
"كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أُبَيِّ سلول يقول لأصحابه: "لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا" و"لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل" فذكرت ذلك لعمي، فذكر ذلك عمي للنبي ﷺ، فدعاني النبي ﷺ فحدثته، فأرسل رسول الله ﷺ إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني ﷺ وصدقه، فأصابني شيء لم يصبني قط مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردت إلّا أن كذبك رسول الله ﷺ ومقتك، فأنزل الله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُون﴾ فبعث إليَّ رسول الله ثم قال: "إنا الله صدقك"٣.
_________
١ الترمذي، الجامع الصحيح، ج٥/ ٢٩٦، والآية من سورة الحجر برقم ٢٤.
٢ الترمذي، الجامع الصحيح ج٥/ ٢٩٤ طبعة الحلبي، والآية من سورة الحجر برقم ٢٤.
٣ رواه الترمذي في الجامع الصحيح ج٥ ص٤١٥، كتاب تفسير القرآن.
1 / 17
علم التربية والتعليم في المدرسة المحمدية ١:
هكذا كانت التربية والتعليم علمًا نما مع تربية الرسول ﷺ لأصحابه، ونضج معه وبه، واهتمَّ به القرآن الكريم اهتمامًا بالغًا في قصصه، ثم ترعرع وأخذ قالب تنظيم وترتيب أكثر في عهد التابعين ومن بعدهم، ثم ألّف فيه العلماء بشكلٍ مستفيضٍ في نهاية القرن الثاني الهجري، فقد أشار القرآن الكريم إلى طريق الامتحان والاختبار في قصة آدم ﵇؛ حيث أجرى امتحانًا بينه وبين الملائكة، فقال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ ٢.
وقد أشار هذه الآيات أيضًا إلى أن من سُئِلَ ولم يعلم جوابه بقوله: لا أدري، والله أعلم، قال القرطبي: من سُئِلَ عن شيء لم يعمله، فالواجب عليه أن يقول: الله أعلم، لا أدري، اقتداءً بالملائكة والأنبياء، والفضلاء من العلماء، قال مالك بن أنس: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده "لا أدري"، حتى يكون أصلًا في أيديهم، فإذا سُئِلَ أحدهم عَمَّا لا يدري قال: لا أدري، وذكر الهيثم بن جميل قال: شهدت مالك بن أنس سُئِلَ عن ثمانِ وأربعين
_________
١ من هنا إلى آخر ص٢٨ من هذا البحث، منقول من كلام الأستاذ علي محيي الدين على القره داغي، من مقالةٍ له في التعريف برسالة "أيها الولد" لحجة الإسلام أبي حامد الغزالي، من ص٢٧-٣١، نشر دار الاعتصام سنة ١٩٨٣.
٢ سورة البقرة الآية ٣١، ٣٢، وراجع تفسير القرطبي "١/ ٢٧٩"، طبعة دار الكتاب المصرية، عام ١٩٨٦م.
1 / 18
مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري١.
كذلك أشار القرآن الكريم إلى أدب المتعلِّم مع المعلِّم؛ من التسليم والصمت والصبر، في قصة موسى وخضر ﵉، فقد رحل موسى -وهو نبي من أنبياء الله ﵈ في طلب العلم إلى شاطئ البحر تاركًا قومه، في سبيل التعلُّم من عبدٍ من عباد الله تعالى، ثم لما رآه استأذنه في أن يصاحبه للعلم، غير أن خضر ﵇ اشترط عليه شروطًا وقبلها موسى ﵇؛ حيث يقول القرآن الكريم حاكيًا كلام خضر لموسى ... ﴿إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾، ثم كان مشفقًا عليه فبيَّنَ أن عدم استطاعته يعود إلى عدم إحاطته بعلم هذه الأشياء فقال: ﴿كَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾، فقال موسى: ﴿قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾، فقد استجاب موسى لكلامه وزاد أدبًا آخر، وهو أنه لا يعصيه في أمره، بل يستجيب إليه بكل ما أوتي من وسائل، ثم عاد خضر ليبين له الطريق الأسلم والأنجح في التعليم وهو الاقتناع الكامل بمنهج المعلِّم وسلامته، والتسليم الكامل إليه، والصمت الحقيقي حتى ينتهي الأستاذ من أعماله، ثم يقوم بشرحها له، فقال خضر: ﴿قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾، ثم مضيا على ساحل البحر بعد أن اتفقا على هذه الآداب، حتى إذا ركبا سفينةً فقام خضر بخرق السفينة وتعييبها، وهنا عارضه موسى ﵇ فقال: ﴿أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا﴾، أي: منكرًا، فقد كان مع سيدنا
_________
١ تفسير القرطبي ط: دار الكتب المصرية سنة ١٩٨٦م "١/ ٢٨٥-٢٨٦".
1 / 19
موسى كلَّ الحق في معارضته، مع أنه التزم بأن لا يعترض عليه؛ لأن وظيفته -وهو نبي- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية خالق، وأن كل شرط أحلَّ حرامًا، أو حَرَّمَ حلالًا فهو باطل، وسيدنا موسى لم يعلم بعد بالسر الذي وراء عملية الخرق، ولَمَّا عَلِمَ بحقيقة الأمر اقتنع، وهكذا إلى آخر القصة في سورة الكهف "الآيات ٦٠-٨٢".
وكذلك لو فتشنا عن آداب المتعلم والعالم في القرآن الكريم، لوجدناه مليئًا بها من خلال قصص الأنبياء ﵈ مع أقوامهم.
وأما مدرسة سيدنا ورسولنا محمد -صلى الله عليه سلم- فهي أعجوبة الزمن ومعجزة العالم في التربية والتزكية والتعليم والسمو، حتى شهد الله تعالى بنجاح مدرسته فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ١.
وقد بيَّنَ القرآن الكريم أسباب نجاحه وهي الرحمة والرأفة والعزم والتشاور واللين وبشاشة الوجه، فقال: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ ٢.
فقد وضع الرسول ﷺ الأسس العامة للتعليم، وهو استعمال
_________
١ سورة آل عمران، الآية ١١٠.
٢ سورة آل عمران، الآية ١٥٩.
1 / 20
الرحمة والرفق والتيسير والتبشير، فقد قال لأبي موسى ومعاذٍ لما بعثهما إلى اليمن: "يسَّرَا ولا تعسِّرَا، وعلِّمَا ولا تنفِّرَا" ١، وقال ﷺ: "علموا ولا تعنفوا، فإن المعلِّمَ خيرٌ من المعنِّفِ"٢.
ويكفي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى كتب الصحاح والسنن، حيث تجدها مليئة بطرق التربية والتزكية، فقد خصص جميعهم كتبًا أو أبوابًا خاصّةً للعلم وفضائله، وفضل تعلمه وتعليمه، وأدب ذلك٣.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض الأحاديث والآثار تشير إلى أنه كان في عهد الرسول ﷺ وخلفائه الراشدين، كتاتيب منظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الفقراء والأغنياء على السواء، وأن هناك من اتخذ التعليم مهنةً وصناعةً لها أصولها ومناهجها وآدابها، فكان يقوم بها رجال أكفاء متخصصون في طرائق التعليم، وفي تهذيب الأخلاق، والعناية بتنشئة أطفال المسلمين٤.
وأكثر من ذلك، فقد أثبت لنا الإمام محمد بن سحنون روايات عن
_________
١ رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب - مع فتح الباري "١٠/ ٥٢٤".
٢ رواه الطيالسي في مسنده.
انظر: المقاصد الحسنة، ص"٢٨٩".
٣- راجع: صحيح البخاري، كتاب العلم مع فتح الباري "١/ ١٤٠-٢٣٢"، وصحيح مسلم، كتاب العلم "٤/ ٢٠٥٣-٢٠٦٠"، وسنن أبي داود -مع العون- كتاب العلم "١٠/ ٧٢-١٠٣"، والترمذي -مع التحفة- كتاب العلم "٧/ ٤٠٤- ٤٥٩"، وغيرها.
٤ الدكتور محمود عبد المولى، في القسم الدراسي لكتاب آداب المعلمين، لمحمد بن سحنون ص "٦٢".
1 / 21