أما أكثر الكتب تحديا حتى ليهوه نفسه، ويموج بالنزوع الإلحادي الصريح فهو كتاب أو سفر أيوب. والكتاب من حيث اللغة والأفكار يعود إلى مرحلة ما بعد الأسر وأبدا ليس قبل القرن الخامس قبل الميلاد.
والكتاب بعد تشذيبه على يد الكهنة يحكى أن الواشي/شاطان/الشيطان أرشد يهوه إلى فكرة هي أن إيمان عبده أيوب وتقواه إنما لكي يزداد ثراء وصحة ونعمة؛ فهو إيمان غير خال من الغرض، وهنا يسمح يهوه للشيطان بتجربة عبده الوفي بامتحانه قياسا لإيمانه، فينزل الشيطان بالعبد التقي أيوب مصائب هائلة فيخسر ثروته ويموت أبناؤه ويصاب هو بالقرح في جسده. لكن الكهنة الذين تدخلوا في النص أكدوا أن أيوب كان طوال الوقت راضيا وأوجز موقفه بالقول: «يهوه أعطى ويهوه أخذ فليكن اسم يهوه مباركا» (أيوب، 1: 12).
لكن ذلك لم يطغ على النغمة الساخطة الواضحة لعدم عدالة يهوه مع أيوب الذي لم يذنب، ويرى أيوب كل الشعب يتعذب والظلم سائد ويهوه يسمح بذلك. وهنا يأخذ أصدقاء أيوب دور المدافع عن الله في مشهد درامي، بينما يأخذ أيوب دور الناقد المهاجم في نقاش فلسفي، اتهم فيه أيوب مجادلية بأنهم «ملفقي الكذب» و«أطباء باطلين»؛ فالإله يميت الطيب التقي كما يميت الشرير (9: 22) بل ويؤازر الأشرار ويحيطهم برعايته (21: 30) والكافر يعيش حياة طويلة ثريا مطمئنا ويترك ذرية كثيرة (وكان ذلك من علامات رضى يهوه).
وعلى لسان أيوب يقول هؤلاء الأشرار المنعمون «من هو القديم حتى نعبده وماذا ننتفع إذا التمسناه؟» (أيوب، 21: 15)، هذا بينما الأتقياء يعانون الذل والجوع ويموتون على يد الأشرار «من الوجع الناس يئنون ونفس الجرحى تستغيث والله لا ينتبه إلى الظلم» (أيوب، 24: 12)، ولا يوافق أيوب على أن يهوه سينتقم من أبناء الشرير «الله يخزن إثمه لبنيه؟! ليجاز نفسه» (أيوب، 21: 19-21).
هكذا نلحظ أن «كاتب سفر أيوب لم يكن يعلم بظهور العقيدة الأخروية» في أفق الديانة اليهودية، ولم يكن موضوع الحياة الآخرة والثواب والعقاب قد ظهر بعد، بل إن أصدقاءه الذين أخذوا دور الدفاع عن يهوه لم يخطر ذلك ببالهم؛ فهم جميعا يعتقدون أن الموت هو نهاية كل شيء؛ نهاية السعادة ونهاية الأحزان «أما الرجل فيموت ويبلى الإنسان، يسلم الروح، فأين هو الإنسان؟ يضطجع ولا يقوم، لا يستيقظون حتى لا تبقى السموات، ولا ينتبهون من نومهم» (14: 10-12).
وتتعالى النغمة فإذا كان الله هو القدير وهو المقدر لكل شيء، فهو إذن مصدر كل الأفعال؛ لأنه «عنده العز والفهم، له المضل والمضل» (أيوب، 2: 16) «ويعلم سلفا ما سيحدث، ويعلم نتيجة امتحانه لعباده فلماذا يمتحنهم بالبلاء؟»
وينتهي الكتاب الحقيقي لأيوب بكلمات صارمة تؤكد أن أيوب كان محقا «فكف الرجال الثلاثة عن مجاوبة أيوب لكونه كان بارا في عيني نفسه» (أيوب، 32: 1). لكن لتبدأ مداخلات أخرى من شخص تقليدي يستكمل السفر لصالح يهوه، فيقول إن يهوه جاء بنفسه ليؤازر المدافعين الثلاثة ويلقي خطبة طويلة ضد إلحاد أيوب (الإصحاحات من 38 إلى 41)، وأنه ليس بحاجة لتبرير سلوكه مع عباده ولا يحق لعبد الاعتراض (أيوب، 39: 32)، وهنا يعترف أيوب بهزيمة منطقه أمام منطق الإله ويعلن توبته، وينتهي الكتاب بأن أيوب بعد رجوعه إلى الله وندمه عن فلسفته الهرطقية كافأ أيوب بعودة ثروته وولادة أبناء جدد له وأنه أمد في عمره حتى عاش 140 سنة (الإصحاح، 42)، «وهكذا انتصرت قوة يهوه الغشوم على منطق وحق أيوب».
هكذا ثم تشذيب كتاب أيوب في الأعداد (27: 8-10؛ و13: 23) على يد أيوب مزيف، ليعلن أن الشرير ينتظره عقاب شديد من الله رغم كل إدانة أيوب الحقيقي طوال الكتاب لربه «الذي لا يميز ولا يقدر»، وهو ما يوضح أيضا أن العددين (21: 16؛ و21: 22) إضافات لاحقة؛ بحيث تم تقديم شكوك أيوب في عدالة يهوه كضعف مؤقت اعترى أيوب المعذب لكنه تجاوز ذلك بالتوبة فغفر له يهوه.
وهناك كتاب آخر لا يقل تنديدا بيهوه ونقدا مريرا للعقيدة اليهودية هو كتاب الجامعة، والجامعة لقب عبري في الأصل «كولهيت» أي المبشر أو الداعية، وقد نعت بهذا النعت سليمان بن داود، وبذلك تمت نسبة الكتاب إلى سليمان في الزمن الماضي البعيد وهكذا أمكن لمؤلف الكتاب الاجتراء بنسبة كلامه إلى أشهر ملوك إسرائيل القديمة طرا. لكن التحليل النقدي للكتاب يثبت أنه يقع ضمن آخر أدبيات العهد القديم، ولم يكتب على الإطلاق قبل القرن الثالث قبل الميلاد، وأفكاره تكاد تتطابق مع أفكار كتاب أيوب؛ حتى إنه يكرر نفس المقاطع حرفيا (الجامعة، 5: 14؛ وأيوب، 1: 21؛ والجامعة، 6: 3-5؛ وأيوب، 3: 11-13 ... إلخ). ويعلن المؤلف موقفه صريحا يقول:
يوجد باطل يجري على الأرض، أن يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار، ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين، فقلت إن هذا أيضا باطل. (جامعة، 8: 14)
ناپیژندل شوی مخ