أما اصطلاح «يهود»، فهو لا يشير إلى جنس بعينه، أو شعب بذاته، أو مكان محدد، أو لكيان سياسي بخصوصيته ونظامه، قدر ما يشير إلى تصنيف طائفي، يتأسس على العقيدة والملة التي اجتمع عليها البشر، الذين شكلوا الجماعة الإسرائيلية، وتعود التسمية «يهود» إلى رب هؤلاء المعبود فيما بعد العهد الموسوي باسم «يهوه»، ثم إلى أحد الأسباط من أبناء يعقوب، والمدعو «يهوذا»، الذي سمي به قسم منفصل عن دولة سليمان حمل اسم «مملكة يهوذا». والاصطلاح واضح القصور؛ حيث لم يظهر الإله يهوه إلا مع ظهور النبي موسى عليه السلام، والنبي موسى هو أحد أحفاد سبط لاوي أو ليفي بن يعقوب المعروف بإسرائيل، حوالي عام 1250ق.م، مع إسقاط كل المراحل السابقة في تاريخ تلك الجماعة. هذا ناهيك عن كونه لا يفي إطلاقا بدلالته الصادقة، على الشراذم المؤتلفة اليوم في دولة إسرائيل، والتي لا تجمعها لا لغة مشتركة ولا تاريخ واحد، ولا جنس، ولا موطن، ولا يجمعها شيء سوى الملة والطائفة، والمبدأ العنصري الذي يقوم عليه ذلك الكيان، وإعمالا لذلك فإن اصطلاح «يهود» لا يحمل دلالة صادقة على الجماعة الإسرائيلية المقصودة في الكتاب المقدس.
ومن هنا، فقد ملنا إلى استخدام اصطلاح «بني إسرائيل» الذي يشير إلى الجماعة القديمة، صاحبة ذلك التاريخ المقدس، رغم ما قد يلحق ذلك الاصطلاح بدوره من عيوب، وهو اصطلاح يعود في منشئه إلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، في قصة مقدسة ومشهورة تقول إن يعقوب التقى ربا يعرف بالاسم «إيل»، وكان رب إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وظل ربا لتلك الجماعة حتى ظهور النبي موسى وربه «يهوه». وتحكي القصة النزال الجسدي بين يعقوب وإيل، وكادت المصارعة تحسم لصالح يعقوب، لولا أن كشف إيل عن شخصيته الإلهية ليعقوب؛ حيث أمره بتبديل اسمه من يعقوب إلى إسرائيل، وهو نحت لفظي مركب من ملصقين، بترجمة بعض الباحثين تجميلا، وربما مجاملة لشعب الرب، بالترجمة «جندي الرب»، بينما صدق التسمية لدينا هي «صراع-إيل» أي مصارع الرب، أو الذي صرع الرب وهزمه، ولو كان صدق التسمية هو «جندي الرب» لكان الأصل العبري هو «صبت-إيل» وليس «أسر = إيل» «صرع = إيل» (انظر: الكتاب المقدس، سفر 22: 32-29).
وقد ملنا إلى استخدام اصطلاح بني إسرائيل، رغم كونه لا يشمل سلف الجماعة قبل يعقوب «إسحاق وإبراهيم»، لكنه على أية حال الأقرب إليهم زمانا؛ فيعقوب حفيد إبراهيم مباشرة، هذا بالإضافة لكونه تابعا في العقيدة للإله «إيل»، بينما يرتبط يعقوب نفسه من جهة أخرى، بالأسباط بني إسرائيل وهم بنوه، الذين جاء من نسلهم موسى عليه السلام صاحب الإله الجديد «يهوه». (7) أدوار التاريخ الإسرائيلي
من المتفق عليه بين الباحثين المهتمين بدراسة تاريخ الجماعة الإسرائيلية اللجوء إلى تقسيم هذا التاريخ إلى مراحل أو أدوار، في محاولة لتجاوز الصعاب والعقبات التي ربما تعرض لونا من الاستحالة، في حال معالجته كتاريخ متصل. وهي الصعاب الناتجة عن العيوب الأساسية في مسيرة هذا التاريخ، والتي أشرنا إليها. وقد اختلف تقسيم تاريخ بني إسرائيل بيد المؤرخين حسب الرؤية، والمنهج، والمدرسة، والأيديولوجيا في أغلب الأحيان. وللإيجاز سنعمد إلى الرؤى المطروحة والمعلومة لدى القارئ العربي، وأوسعها انتشارا: تقسيم «فيليب حتي» لهذا التاريخ إلى دورين رئيسيين، يعتمدان خط الهجرات للجماعة الإسرائيلية إلى فلسطين، والذي تم في هجرتين رئيسيتين، تفصل بينهما مرحلة زمانية. تعود الهجرة الأولى منهما إلى القبيلة الأولى في التاريخ الإسرائيلي (القبيلة الإبراهيمية)، وهي الهجرة التي هبط فيها البطرك إبراهيم وعائلته أرض فلسطين في استيطان أول، أما الهجرة الثانية فكانت في الزعم المقدس مجرد عودة إلى فلسطين، بعد أن اضطرت المجاعة وشظف العيش النبي «يعقوب» وأسباطه أحفاد إبراهيم عليه السلام، إلى هبوط مصر طلبا للقوت. حيث لبثوا هناك زمنا عادوا بعده في هجرة ثانية إلى فلسطين، لكن الهجرة هذه المرة، ضمت عددا هائلا من البشر. وتأسيسا على ذلك أقام «فيليب حتي» تقسيمه لتاريخ بني إسرائيل إلى دورين مثلهما هجرتين إلى فلسطين، لكنه يؤكد أن التاريخ الحقيقي لتلك الجماعة، وظهورهم في التاريخ (كشعب)، إنما يبدأ من الهجرة الثانية؛ أي من خروجهم من مصر بقيادة النبي موسى عليه السلام، حوالي عام 1234-1215ق.م فيما يذهب هو إليه، وأن هذا الخروج أو الهروب أو الهجرة، لم تشمل سوى قبيلة واحدة فقط من جماعة إسرائيل، هي قبيلة راحيل،
16
نسبة إلى راحيل الزوجة الثانية ليعقوب وهي أم يوسف النبي عليه السلام وأخيه بنيامين، والمقصود هنا أن القبيلة التي دخلت مصر وخرجت منها هي نسل راحيل فقط دون بقية الجماعة الإسرائيلية.
وإن المؤرخ «فيليب حتي» وهو يضع ذلك اللغم، يتركه ويستمر في عرض تاريخ الجماعة، لكن بعد أن يشعل فتيله الذي يشير لقارئ لبيب، لديه إلمام كاف بالتاريخ المقدس، إلى تفجر وتشظي الجماعة الإسرائيلية قبل دخول مصر، وإلى احتمال أنها لم تكن يوما جماعة واحدة، إنما حدث لها ائتلاف بعد الخروج بقيادة قبيلة راحيل، وأن الخروج لم يشمل إلا عددا محددا من بني يعقوب (إسرائيل)؛ وعليه فلا مندوحة لعقل ناقد من الاستدلال من رؤية «حتي» على أن جماعة إسرائيل لم تتكون حقيقة إلا بعد الخروج، وبالتدريج لتتشكل من ائتلاف قبلي كان «أصلا متعدد العروق ومختلف المشارب»، ولم يكن من بينها من هو أصيل النسب لإسرائيل سوى أبناء راحيل، وهو أمر يمكن أن يؤدي بإعمال البحث المدقق إلى نتائج هائلة في محتواها، وهو ما نحاول إعمال البحث فيه حاليا، في كتاب لا زال مشروعا قيد البحث بعنوان «النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة».
17
أما عالم الساميات «سبتنيوموسكاتي» فيلجأ في تقسيمه للتاريخ الإسرائيلي إلى أدوار، مستندا إلى رؤية أخرى، ترتبط بمراحل الاستيطان والارتحال الإسرائيلي من مواطن مختلفة ومتباينة إلى مواطن أخرى متباعدة، يبدؤها بالمأثور التوراتي حول إقامة القبيلة الأولى (الإبراهيمية) في جنوب بلاد الرافدين (وهو يسلم بذلك دون مناقشة)، ثم هجرتهم من هناك إلى فلسطين. ثم يثني على الدور الثاني الذي هاجر فيه يعقوب (إسرائيل) وأولاده إلى مصر حيث أقاموا فيها إلى أن انتهى بهم الأمر إلى الاضطهاد، ثم الخروج من مصر إلى سيناء بقيادة موسى النبي عليه السلام . ثم ينتقل إلى الدور الثالث والأخير في تقسيمه، والذي يرتبط بدخولهم أرض فلسطين في سلسلة من الحملات، التي وجهت إلى جنوب فلسطين ووسطها وشمالها، حتى استيطانهم فيها، وينسب تلك الأحداث إلى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، مشيرا إلى حفائر آثارية في جنوب فلسطين، تشهد بتدمير بعض المدن حوالي ذلك الزمن، ويحتسب ذلك دليلا كافيا على حدوث الهجوم الإسرائيلي على فلسطين.
18
ناپیژندل شوی مخ