عادة ما يلجأ الباحثون عند تناولهم شأنا من شئون الجماعة البشرية، التي بدأنا بالاصطلاح على تسميتها في العنوان ب «بني إسرائيل»، إلى استخدام أحد اصطلاحات ثلاثة، هي على الترتيب حسب شيوع الاستخدام: العبرانيين، اليهود، الإسرائيليين. ولتدقيق المصطلح ودلالته، نجد أن اصطلاح العبريين أو العبرانيين، يقصد به تمييز تلك الجماعة، بحيث يشير الاصطلاح إليها كشعب بعينه، وبحيث تبدو كما لو كانت تتسم بسمات جنسية محددة بتاريخ مترابط وواضح، ويرتبط بأرض ومواطن بعينها، له ظروفه البيئية والجغرافية التي تتناغم في النهاية مع السمات التي طبعت ذلك الشعب، اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وفكريا. وهو قصد يذهب إلى وضع الجماعة الإسرائيلية في وضع يسمح بالإيحاء بدلالات، تتساوى مع الدلالات التي تفهم من استخدامنا مصطلحات مثل «المصريين، البابليين، الكنعانيين، الحيثيين ... إلخ».
لكن، بينما نجد اصطلاحات اسمية مثل المصريين أو البابليين، لا مجال للخلط بشأنها، ويمكن للمؤرخ وللباحث استخدامها باطمئنان، حيث تشير إلى شعب بذاته، يسكن أرضا بعينها، تفاعل مع بيئته خلال مسار تطوري، انتهى إلى وسمه بسمات صريحة المعالم، يبدو فيها أثر الجدل بين الإنسان وبين تاريخه وبيئته وطبيعة أرضه، وبحيث انتهى ذلك الجدل إلى نشوء كيان سياسي له سماته المميزة، مما يمكن الباحث من رسم صورة شبه متكاملة لتاريخ ذلك الشعب، من خلال وثائق، ومدونات، وآثار، وسجلات عينيه، ومعتقدات وأساطير. مع قراءة ذلك كله مرتبطا بالظرف البيئي والتطور الاجتماعي، الذي يكسب الشعب في النهاية نكهته الخاصة، وسماته المميزة. لكن استخدام مصطلح عبري، للدلالة على الجماعة الإسرائيلية لا يؤدي بحال إلى أي من تلك المعاني؛ بحيث يسمح بكثير من الخلط والخبط وسوء الغرض إن بحسن نية أم بقصد؛ نظرا لاتساع المصطلح عن حجم المدلول، فلا يطابقه ، وتتحول معه الجماعة الإسرائيلية إلى كتلة رجراجة داخل المصطلح دون ثبات. ويعود ذلك إلى عيوب أساسية في تاريخ تلك الجماعة البشرية، يجد معها الباحث عسرا شديدا في استخدام تعبير شعب، للدلالة على تلك الجماعة، دون السقوط في خطأ علمي فادح.
كما نجد عيوبا من لون آخر في نسيج تلك المجموعة البشرية، وفي المراحل التي مرت بها وظروفها، إبان تكونها التاريخي، لا تسمح بإعطاء المدلول الذي يمكن الاطمئنان إليه، كما في حال التعامل مع مصطلح «مصريين» أو «بابليين» على سبيل المثال. ورغم أن الباحث قد يجد أوجها للقصور في تاريخ أي من تلك الشعوب، نتيجة مبالغة هنا، أو اختفاء للمدون - في حقبة بعينها - هناك فإن الاستعانة بعمليات القياس والنقد والمقارنة بين النصوص المتعددة، إزاء الحدث الواحد والتحليل ومحاكمة الوثائق على سياقها الداخلي والسياق التاريخي، يمكن الوصول بالمسألة إلى الوجه الأقرب إلى صدق ما حدث بالفعل. إضافة إلى ما يمكن القيام به من مقارنات، إزاء الحدث الواحد، بين نص يتحدث عنه في مدونات مصر، وبين نص آخر يتحدث عنه في وثائق الرافدين. لكننا مع الجماعة الإسرائيلية لن نجد بين أيدينا مثل تلك المادة الخام الأساسية، لنعمل فيها أدوات البحث؛ فلا وثائق، ولا آثار، ولا سجلات عينية؛ لا شيء بالمرة سوى وثيقة واحدة هي الكتاب المقدس (العهد القديم).
وحتى نكون أكثر دقة، فإن تعبير «لا شيء بالمرة» لون من المجاز الصادق؛ فهناك بالفعل إشارات متأخرة في وثائق متناثرة في أشلاء مبعثرة بين دول المنطقة، لكنها لا تصنع تاريخا بحال، ولا تؤكد في التاريخ الإسرائيلي شيئا بالقطع اليقيني أو تنفيه. أما في المراحل الأقدم والتي تعود إلى بداية ذلك التاريخ ولقرون طويلة بعده، حتى ظهور تلك الإشارات المبعثرة، فالأمر معلق بالمقدس وحده. علما أن ذلك التاريخ الذي لا وجود له إلا بالكتاب المقدس، وهو عمدة تاريخ إسرائيل، ويمثل أخطر الأحداث التي تقيم جماعة إسرائيل التاريخ كله عليها، ويشمل أهم البنى لمقدسهم وتاريخهم على الإطلاق، ومثالا لذلك علاقة الجماعة الإسرائيلية بمصر، التي تتمثل في لحظة حاسمة وفاصلة وقاطعة في تاريخهم، وتحكي عبر المقدس عن هبوطهم من كنعان (فلسطين) إلى مصر، زمن النبي «يوسف » عليه السلام، وخروجهم منها بعد قرون في عهد النبي «موسى» عليه السلام، وسط أحداث هائلة سواء في كيفها أو في نتائجها. وما صحب ذلك الهول من هلاك كامل لجيش مصر، أعظم إمبراطوريات ذلك الزمان قاطبة، مع ما لحق الديار المصرية نفسها من دمار وهلاك بفعل رب إسرائيل (يهوه)، وأسهبت في شرحه الرواية المقدسة. ومع ذلك فإنك لا تجد في وثائق مصر، على كثرة ما اكتشف منها حتى الآن، وعلى ما في هذه الكثرة من ذكر لدقائق وتفاصيل صغيرة الشأن، كسجلات وعقود البيع والشراء، أو كأوامر ثانوية للفرعون بنقل موظف أو تابع قليل الشأن، أو جزاءات التقصير في العمل، أو الأمر بالسماح لقبيلة بدوية بالانتجاع على الحدود، للعمل في مناجم الفيروز وحفائر سيناء ... إلخ ... فإنك لا تجد بين كل تلك التلال الآثارية والشواهد المدونة أية وثائق تشير إلى بني إسرائيل، اللهم إلا إشارة وحيدة يتيمة، يقول فيها الفرعون «مرنبتاح» بن الفرعون «رعمسيس الثاني»، ضمن لوحة يحكي فيها عن انتصاراته «هلكت إسرائيل ولم يبق لها بذر.»
12
وقد جاءت تلك الإشارة عرضا، ضمن روايته عن سحقه لعدد من الشعوب؛ مثل اللوبيين (الليبيين)، والكوشيين.
13
وحتى لو غفلت مدونات مصر عن ذكر ذلك الحدث الهائل الذي دمرت فيه البلاد، وهلك الزرع والضرع والعباد، وغرق بعده الفرعون وجيشه العرمرم في خضم أمواج البحر، فما بال مدونات الشعوب المعاصرة للحدث لا تذكر ما حدث للجارة الكبرى؟ سواء في بلاد الشام أو الرافدين أو تركيا بلاد الحيثيين؟
هذا كل ما جاء عن تاريخ إسرائيل الطويل العريض في الأثر المصري «هلكت إسرائيل ولم يبق لها بذر!» أما بلاد الرافدين فإنها لا تعرف شيئا البتة عن التاريخ القديم لتلك الجماعة التي ملأت المقدسات صخبا وضجيجا وإن وردت إشارات في الحقب المتأخرة تذكر شيئا يسيرا في شذرات عن مملكة تدعى «مملكة عمري»، والتي يظن أنها مملكة إسرائيل في عهد أحد ملوكها المعروف باسم «عمري»، خلال الربع الأول من الألف الأولى قبل الميلاد. ثم شيئا لا يغني ولا يسمن عن انتصارات الآشوريين على سكان فلسطين وسبيهم لأهلها، ومثله شيئا آخر عن انتصارات الكلدانيين على جنوب فلسطين، أما قبل ذلك فلا شيء على الإطلاق يشير إلى جماعة إسرائيل، ولا للأحداث التي مرت بها، والتي أسهب الكتاب المقدس في تدوينها كعادته، إلى حد الإملال، بل إن الحفريات المحمومة، والهوس الأركيولوجي الذي يمارس الآن في دولة إسرائيل، لم يسفر حتى تاريخه عن شيء يستحق الذكر، أو عن أمر يمكن القطع بشأن نسبته للجماعة الإسرائيلية، أو حتى تصنيفه ابتسارا ضمن مرحلة بعينها من مراحل ذلك التاريخ، الذي تضخم حتى صار ورما ناتئا في تاريخ البشرية.
وحتى لو غضضنا الطرف عن كل المراحل القديمة في ذلك التاريخ، حسبما أوردته المقدسات الإسرائيلية، بحسبانها مراحل بداوة وعدم استقرار، لم تسمح لها ظروفها بترك آثار واضحة يمكن قراءتها، وبدأنا من زمن قيام الدولة، بحسبان التاريخ عادة ما يبدأ مع الاستقرار، وقيام الكيان السياسي والتدوين؛ أي لو بدأنا مع المملكة التي أقامها «شاول وداود وسليمان»، رغم عدم ثبوت التدوين آنذاك (حوالي 1000ق.م) لما وجدنا لأي من تلك الأسماء المضخمة قدسيا وسياسيا وعسكريا، أي ذكر في سجلات أي من دول المنطقة بكاملها ودون استثناء، ذلك رغم ما قيل عن عظمة تلك المملكة واتساعها وجبروتها وعظم شأنها ومنشآتها. مع ما زعم عن الهيكل والقصور والجيش العرمرم، مهما دققت النظر وأعييت الذهن، فلن تجد أية إشارة، لا لمملكة عظيمة ولا لمملكة وضيعة، وحتى في حفائر الدويلة الحالية، ولا أثر معماري واحد بقي يتيما كشهادة واحدة على تلك المنشآت التي صدعت بها أسفار المقدسات رءوسنا، بينما نجد ما يقف بلا ضجيج، بدل الشاهد ألفا، في آثار فراعين مصر الذين سفهتهم المقدسات البدوية عموما، وأظهرتهم في المراتب الدنيا من تاريخ الإنسانية؛ فالمملكة التي حدثتنا عنها مقدسات البدو وعن عظمتها لا شيء عنها البتة، لا في أثر على ظهر الأرض، ولا في باطن الأرض، ولا حتى في الورق ! اللهم إلا ورق المقدس وحده، وهو في موازين التاريخ والبحث العلمي، ما لم تخترع له وحدة قياس بعد.
ناپیژندل شوی مخ