وأذكر أني بعدما نشرت تلك الردود التي تكشف الكتاب والدوائر التي تقف من ورائه، فاجأنا السيد الطبيب بالعدد «139» من مجلة القاهرة بمقال يتلبس الزي الوطني والقومي الغيور ضد فليكوفسكي، وهو ما عاد إلى عزفه في مقدمة ترجمته للكتاب التي نشرت بالأمس القريب، لكن ليقدم لنا الآن، والآن بالتحديد، كتابا مليئا بالمتفجرات الموجهة. بالطبع نحن لا نصادر على نشر أي كتاب من أي لون، لكن يبقى ذلك السؤال الأرق الملحاح يهمس: «لماذا نشر مثل هذا العمل الآن تحديدا، خاصة وأنه الكتاب الوحيد الذي ترجمه السيد الطبيب، فلماذا هذا الاختيار من بين ملايين الكتب التي تحتاجها مكتبتنا العربية فعلا؟»
مرة أخرى - إذا أخذنا بسوء الظن - فسيكون ما أزعج صاحبنا الترجمان ليس موضوع الترجمة، بل ردنا نحن غير المتوقع على فيلوفسكي الذي تصوره من النوع الذي لا يقهر، فهل يسعد صاحبنا الطبيب القيام بدور حارس الشرف للكتاب الصهيوني؟
أما إذا كانت الإجابة تأخذ بحسن الظن، فإن السيد الطبيب قد كسب رهان المغامرة، عندما اضطرنا للرد عليه، ليشكل ردنا دعاية مجانية لسيادته، وللكتاب، وبالطبع للدار الناشرة التي تجرأت على نشر هذا الكتاب أخيرا، بعدما رفضته كل دور النشر الأخرى.
حتى لا يضيع العقل مع الأرض
(1) الرد على خطاب شامير في مدريد
1
يعنينا هنا أن نؤكد، أن كلمة «شامير» التي ألقاها على المؤتمرين بمدريد في 31 / 10 / 1991م، تشكل نموذجا - لا شك - مثاليا تماما للخطاب الصهيوني عامة بمنطقه ومحاوره الأساسية؛ فرغم الظروف التي ألقيت فيها كلمة إسرائيل، في ظل ضعف عربي عام وشامل، مهما سار العربان متبخترين، وتحت مظلة من السيطرة الأمريكية شبه الكاملة، ومع الاقتدار الإسرائيلي المتفوق على كافة المستويات، والذي لا يجادل فيه إلا مكابر، فإن كلمة شامير كانت على ذات الخط، وذات الدرجة، وذات القدر، الذي كان الخطاب الصهيوني يراعيه دوما، ودون أن يحيد عنه أنملة بشكل ذكي. وليس جديدا أنها تلقى في ظرف عالمي يتحدث عن نظام جديد، يقول للدنيا إنه يسعى لإرساء قواعد السلام والأمن والمحبة على الكوكب الأرضي، وبخاصة في أشد مناطق العالم سخونة، حتى لو ثوى الجمر مؤقتا تحت رماد ظاهري، تصنعه أنظمة تابعة. كما لم يغب عن بال الخطاب أنه يتحدث إلى العالم كله، وأمام كل الشبكات الإعلامية الدولية؛ فوضع بحسبانه مشاعر الجماهير العريضة على تنوعها واختلاف توجهاتها، فجاءت صياغة الخطاب واضعة باعتبارها أنها كما لو كانت تخاطب كل فرد على حدة؛ ومن ثم فإننا نفترض أن الخطاب قد أحاط تماما بكل الأغراض المطلوبة منه، واستخدم كل الممكنات من أساليب متاحة تتناسب مع المقام، وعمد إلى كل طرق الإقناع وعرض قضيته كاملة تامة شاملة مانعة بهدف كسب أكبر تأييد جماهيري ممكن؛ حيث إنه حاصل سلفا على تأييد النظام الجديد؛ وعليه فإننا سنتعامل مع كلمة شامير في مدريد كمعبر صادق عن الخطاب الصهيوني، وسنحاول قراءة طبيعة هذا الخطاب ومكوناته وأغراضه ومناهجه.
والمدقق في الخطاب يمكنه أن يلحظه وهو يتحرك على عدة محاور، تم ربطها ببعضها في منظومة شديدة الجودة، تم تركيبها معا بتقنية ومهارة عالية؛ فكان المحور الأساسي للحركة جيئة وذهابا، ومركز الحركة، هو التركيز على الاستجابة النفسية للمستمع، فقدم افتراضه المسبق لهذه الجماهير بأنه يخاطب كل واحد منهم كشخص متحضر، بلغ من الحضارة قمتها، وهذا وحده لون من تملق المستمع لكن بحيث يترك في نفسه أثرا مطلوبا، هو أن الخطاب يتعامل معه بكل احترام لأنه شخص متحضر حتى لو لم يكن المستمع يستحق هذا الاحترام، أو يحوز تلك الدرجة الحضارية، لكنها على أية حال الطريقة المثلى لجعل المستمع يتجاوب مع كم الاحترام وكم الحضارة المفترض فيه! وهكذا فقد سلم الخطاب للمستمع أنه رجل متحضر، مسالم ينفر من الحروب، يريد الرفاهة لجميع الأمم وكل الشعوب بلا استثناء، يرفض التعصب بكافة أشكاله وينفر من الاضطهاد على أسس عرقية أو دينية بسبب اللون أو الجنس أو العقيدة. وبإيجاز فالخطاب يفترض في المتلقي ليبرالية ملائكية، ومن هنا كان الكسب الأول المطلوب، على المستوى السيكولوجي، هو أن يقول للمتلقي أنت متحضر، ولهذا نحن نحترمك ونثق في حكمك على ما سنقول.
أما المحور الثاني الذي ترتبط حركته بحركة المحور الأول، فهو الذي يركز على الجانب الحقوقي! وهو لا شك أهم أعمدة التعامل بين المتحضرين ويتم فيه تأكيد الحقوق التاريخية الثابتة لليهود في أرض فلسطين منذ آلاف السنين. وهنا يتداخل المحور الثالث على نفس الميكانيك لينقل الأمر الحقوقي المسلم به حضاريا إلى اليد الإلهية منتقلا بذلك إلى المحور الديني؛ فتلك الحقوق قرارات إلهية، وهبة سماوية، واختيار أحكم الحاكمين الذي فضلهم على العاملين (؟!) وهو القرار الذي يؤمن به إلى جانب اليهود، العالم المسيحي الغربي كله، وذلك باحتساب التوراة صاحبة ذلك القرار الحقوقي القدسي بعهديه (القديم أو التوراة، والعهد الجديد أو الأناجيل) مع البصمة التأكيدية، والقول التوثيقي على الناموس التوراتي بلسان المسيح «ما جئت لأنقض الناموس. ما جئت لأنقض. بل جئت لأكمل.» وهنا وبسرعة يتم إدخال المحورين الحقوقي والتاريخي، مع المحور الايماني الديني على ميكانيك الحركة المحورية الأساسية «النفساني» لتتشابك الحلقات التي تؤدي إلى راحة ضمير المؤمن المسيحي الغربي تماما والمتحضر جدا، إزاء مساهمته بالموافقة على تأمين حياة هؤلاء المؤمنين لتحقيق كلمة الله الصادقة الثابتة، مع ما يفترض في المستمع المتحضر من رغبة في إثبات تحضره، بتأمين كل الحقوق، لكل العقائد والديانات مهما اختلف معها. (1-1) ضمير العالم
ولإحداث الأثر المطلوب من المحور الأساسي «النفساني» فقد ترك الرجل أثرا طيبا فعلا، فكان رقيق الحاشية، عف اللسان، وديعا كالحملان يمد يده إلى جيرانه يستجديهم الصداقة والأمان، رغم أنه الأقدر والأقوى، ولكنه من جانب آخر قام يردد «أن الموضوع ليس موضوع أرض، إنه موضوع وجودنا ذاته.» فأي لون من التنازل يعني دمار شعب إسرائيل المسالم (!) وإزالته من الوجود. وذلك في ضوء المقارنة التي قدمها لتعداد شعب إسرائيل «4 ملايين»، مع من حولهم من عتاة القتلة المتعطشين للدماء وعددهم «170 مليون عربي» مع ضالة مساحة أرض إسرائيل التي تستدعي الشفقة «27 ألف كم» وسط محيط عربي شرس يبلغ «24 مليون كم» والحجة على المستوى النفسي مع تغييب الحقائق الأخرى تبدو غاية في الوجاهة. يبدو فيها شعب إسرائيل بطلا للخير يدافع عن وجوده وسط غابة من الشر، مما يستدعي مشاعر الاشمئزاز من العرب الذين يستأسدون على الدولة الوديعة!
ناپیژندل شوی مخ