وبالطبع لم تكن شواهد التداخل بين روايات مختلفة تم جمعها، أمرا واضحا في قصة الخلق وحدها؛ فهناك دلائل أخرى في روايات أخرى تشير إلى هذا الأمر بسفور؛ ففي قصة نوح نجد رواية تقول إن الله قد أمر نوحا أن يأخذ معه في الفلك من كل زوجين اثنين «ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل، تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكرا وأنثى» (تكوين، 6: 19)، بينما نجد رواية أخرى ترتفع بهذا الرقم فتقول: «من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة ذكرا وأنثى» (تكوين، 7: 2). ثم في موضع نجد نوحا يستكشف أحوال الطوفان «وأرسل الغراب فخرج مترددا حتى نشفت المياه عن الأرض» (تكوين، 8: 7)، بينما المستمر في القراءة يجد المياه لم تنشف بعد، فيرسل الحمامة، ثم بعد فترة «في الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفت الأرض» (تكوين، 8: 14). والقصة النوحية مليئة بمثل تلك التناقضات التي لا تغيب على فراسة قارئ مهتم، وهي ذات التناقضات التي تغص بها بقية أسفار التوراة بلا استثناء؛ فهناك كمثال تعليلات قدمتها التوراة لتفسير بعض التسميات، كتعليلها لتسمية مدينة «بئر سبع» بهذا الاسم؛ فالتسمية في رواية تقول إنها سميت كذلك نسبة إلى سبع نعاج قدمها النبي إبراهيم لأبيمالك ملك مدينة جرار الفلسطينية، كرمز لميثاق عدم اعتداء بينهما، وهو الوارد في «تكوين، 21: 28-31». لكن في رواية أخرى نجد التسمية تعود إلى إسحاق بن إبراهيم الذي حفر له عبيده بئر ماء «فدعاها شعبه، لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم» (تكوين، 26: 33). وذات التناقض نجده في تعليل تسمية مدينة «بيت إيل»؛ فهو في رواية ينسب إلى يعقوب بن إسحاق عندما نام فأتاه الله في المنام فقام متيقنا أن هذا المكان مسكن الله فسماه بيت الإله أو بيت إيل «ودعا اسم ذلك المكان بيت إيل، ولكن اسم المدينة أولا كان لوز» (تكوين، 28: 19)، وفي رواية أخرى تنسب التسمية إلى يعقوب أيضا لكن في قصة أخرى ومناسبة أخرى حيث حدثه الله «ودعا يعقوب اسم المكان الذي فيه تكلم الله معه بيت إيل» (تكوين، 35: 15). هذا بينما نعلم من التوراة ذاتها «أن المدينة كانت تحمل اسم بيت إيل قبل يعقوب وقبل أبيه إسحاق وقبل جده إبراهيم»؛ حيث نعلم أن إبراهيم هبط أرض فلسطين غريبا «ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته، وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق» (تكوين، 12: 8).
وفي قصة يوسف نجد يهوذا أحد الأسباط وهو هو صاحب اقتراح بيع يوسف للإسماعيليين بعشرين مثقالا (تكوين، 37: 26-28)، بينما في موضع آخر نجد رءوبين أخاهم يقترح إلقاءه في الجب (تكوين، 37: 21، 22، 24)، ثم تجد نفسك هنا في متاهة: هل ألقوه أم باعوه؟ ومن الذي أنقذه أو اشتراه؟ تجار إسماعيليون أم مديانيون؟ التضارب هنا يصل قمته فلا تخرج بطائل.
وعليه فلا مناص من الاعتراف بأن التوراة، مجموعة جمة من التآليف التي اشترك في وضعها مجموعة مؤلفين، اختلفوا، ولم يلتقوا أبدا لتصفية ما بينهم من خلافات، وأن هذه المجموعة من التآليف تعنى بمسائل دينية ودنيوية وسياسية وأدبية وتاريخية. أما الذي يجب الإشارة إليه وعدم إهماله فهو شهادة العهد القديم نفسه في كثير من الإشارات الواضحة إلى أسفار يحيلنا إليها، فلا نجدها ضمن المقدس المجموع، مما يدلل بسفور على ضياع كثير من الكتب والأسفار ونموذجا لذلك، وهنا سنحاول الحصر، وسنأتي بالنصوص التوراتية التي تحيلنا لمزيد التفصيل في أسفار أخرى، بينما هذه الأسفار غير موجودة على الإطلاق.
لذلك يقال في كتاب حروب الرب: «واهب في سوفة وأودية أرنون» (العدد، 21: 14). (هنا سفر حروب الرب وهو غير موجود.) «فدامت الشمس ووقف القمر حتى انتقم الشعب من أعدائه أليس هذا مكتوبا في سفر ياشر ، فوقفت الشمس في كبد السماء ولم تعجل للغروب نحو يوم كامل» (يشوع، 10: 13). (هنا سفر ياشر، وهو مفقود بدوره.) «فكلم صموئيل الشعب بقضاء المملكة وكتبه في السفر ووضعه أمام الرب» (صموئيل الأول، 10: 25). (وهنا سفر قوانين المملكة، وهو غير موجود.) «وأمور داود الملك الأولى والأخيرة، هي مكتوبة في سفر أخبار صموئيل الرائي، وأخبار ناثان النبي، وأخبار جاد الرائي» (أخبار أيام أول، 29: 29). (وهنا ثلاثة أسفار هي أخبار صموئيل الرائي وناثان النبي وجاد الرائي، وهي بدورها لا يعلم شيء عنها.) «وبقية أمور سليمان الأولى والأخيرة، إما هي مكتوبة في أخبار ناثان النبي، وفي نبوءة أخيا الشيلوني، وفي رؤى يعدو الرائي» (أخبار أيام ثاني، 9: 29). (وهنا إشارة إلى سفرين آخرين مفقودين هما سفر أخيا الشيلوني، وسفر يعدو الرائي.) «وبقية أمور يهوشافط الأولى والأخيرة، ها هي مكتوبة في أخبار ياهو بن حناني، المذكور في سفر ملوك إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 20: 34). (وهنا سفر آخر مفقود هو سفر أخبار ياهو بن حناني.) «وبقية أمور عزيا الأولى كتبها إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 26: 23). (والإشارة هنا إلى سفر من إشعيا المعروف؛ فالسفر المفقود هنا لإشعيا النبي، وقد دونه عن الملك الإسرائيلي عزيا.) «وبقية أمور حزقيا ومراحمه، ها هي مكتوبة في رؤيا إشعيا بن آموص النبي» (أخبار أيام ثاني، 32: 32). «وكذلك فإن أخبار الملك الإسرائيلي حزقيا بدورها ليست مدونة في سفر إشعيا المعروف؛ وعليه فهناك سفر دونه إشعيا عن أخبار هذا الملك فقد بدوره، ما كان هو ذات السفر المفقود الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة مباشرة.» «ورثى أرميا يوشيا، وكان جميع المغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم، وجعلوها فريضة إسرائيل» (أخبار أيام ثاني، 35: 25). «وهنا إشارة لمراث كتبها النبي أرميا على الملك الإسرائيلي يوشيا، الذي قتل على يد الفرعون المصري نخاو، وأن تلك المراثي كانت ترتل كطقس فرضي على بني إسرائيل في صلواتهم، أو في تاريخ المناسبة السنوي، وهي غير موجودة في أرميا أو مراثيه الموجودة بالعهد القديم الموجود بين أيدينا، مما يشير إلى كونها شكلت سفرا بذاتها فقد بدوره.» «وكان بنو لاوي رءوس الآباء مكتوبين في سفر أخبار الأيام إلى أيام يوحانان بن الياشيب» (نحميا، 12: 23). (وبالبحث في السفر الموجود بالعهد القديم والمعروف بأخبار الأيام الأول، والسفر المعروف بأخبار الأيام الثاني، لم نجد تلك الإشارات حتى يوحانان بن الياشيب، مما يقطع بوجود سفر أخبار أيام ثالث هو المقصود بتلك الإشارة، وهو غير موجود بالعهد القديم، مما يشير إلى ضياعه بدوره.)
وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن هناك ستة عشر أو سبعة عشر كتابا قد ضاعت من العهد القديم، وربما يصل الرقم إلى عشرين إذا أخذنا بإشارات إلى ثلاثة كتب مفقودة تنسب إلى الملك سليمان، هذا عدا ما ضاع ولم تشر إليه أسفار العهد القديم، ولم نعلم بأمره. وكان ضياع تلك الأسفار وغيرها أمرا محتوما، اقتضته ظروف المنطقة والحروب التي خاضها الإسرائيليون، والتي تعرض أثناءها هيكلهم للتدمير والتلف أكثر من مرة. هذا إضافة للمدة الطويلة التي تطلبها تدوين ذلك المقدس الهائل، والتي امتدت زمنا طويلا، وكان هذا بحد ذاته مدعاة لنقص شديد تعرض له ذلك الكتاب، الذي يلقي بظله على أي بحث ديني أو تاريخي فيه. ناهيك عن خضوع الأسفار لمؤثرات مختلفة وعديدة باختلاف الأزمان والأحداث التي عملت فيها حذفا أو زيادة، حتى إنك تجد اليوم نزاعا داخل المؤسسات اللاهوتية ذاتها، حول مدى أصالة سفري الجامعة ونشيد الأنشاد، وهل هما مقدسان يهوديان، أم دخيلان من ديانات أخرى. (2) تدوين العهد القديم وترجمته
انتهى التطور الأخير لأعمال مدرسة يوليوس فلهاوزن الألمانية حول الكتاب المقدس (1844-1918م)، إلى الكشف عن وثائق أربعة مختلفة يتكون منها المقدس اليهودي التوراتي (العهد القديم)، هي على الترتيب: (1)
مصدر يهوي
Jaheist : ويرمز له اختصارا بالرمز
J
وقد أخذت التسمية من اسم الإله يهوه
ناپیژندل شوی مخ