اسلام شريکان
الإسلام شريكا: دراسات عن الإسلام والمسلمين
ژانرونه
ثم يأتي اللقاء الواعد مع طالب الهندسة هاني الراعي (وربما يرمز للمؤلف نفسه في شبابه) الذي يحملها إلى المستشفى فور إصابتها بجراح في إحدى مظاهرات الطلبة. ويضم الحب الفتاة الشيعية والفتى الماروني تحت جناحه، فتطل الطائفية بوجهها القبيح وتحرم عليهما الارتباط المقدس الذي يمكن أن يحققا فيه ذاتهما ويلمسا جوهر وجودهما. وفي النهاية ينكسر حلم الحب بسبب الظروف الخارجية من ناحية، وعجز الحبيب عن التحرر من التقاليد الموروثة من ناحية أخرى، وذلك بمجرد أن تعترف له - لتكون صادقة مع نفسها ومعه - بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي التقدمي رمزي رعد.
وتدخل خيوط العلاقات بين الشخصيات في نسيج الموقف التاريخي للبنان بين عامي 1968 و1969م، ففي هذه الفترة الزمنية بدأت حركة المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين من الأرض اللبنانية، كما أخذت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة ترغم لبنان على الانخراط في صراع الشرق الأوسط وتؤجج جمرات الاختلاف في وجهات النظر - في صفوف الطلاب بوجه خاص - بين مؤيد لحركة المقاومة ومعارض لها. ويبدأ هذا الاختلاف بالاحتجاج على النسبة المحددة لأبناء كل طائفة للقبول بالجامعات، ثم تتسع دائرته فتشمل الزواج المدني الذي ييسر عقد الزواج «المحرم» بين أبناء الطوائف الدينية، كما تشتعل قبل كل شيء حول الموقف الواجب اتخاذه من الفدائيين الفلسطينيين الذين يعرضون سكان القرى في الجنوب للمخاطر باستفزازهم لإسرائيل العدوانية بحكم طبيعتها وتاريخها، كما يصطدمون في كثير من الأحيان مع السلطات اللبنانية والجيش اللبناني. وتتفاوت الآراء حول هوية الفدائي، فهناك «الفدائي الفدائي» الذي يكافح في فلسطين و«يبيع روحه» فداء لها، وهناك «نصف الفدائي» الذي يطلق عدة أعيرة نارية عند الحدود ثم يسرع بالعودة إلى معسكره ليلوذ به، وهناك الفدائي الذي ليس بفدائي، وإنما يتبختر في الشوارع ببذلة الفدائيين والبندقية السوفييتية الصنع تتدلى من كتفه (ص227).
ويعبر توفيق يوسف عواد عن موقف من الفلسطينيين يتسم بالتفهم والحكمة؛ إذ كيف ينتظر من الفلسطينيين أن يحافظوا على القوانين بينما اغتصاب وطنهم ضد كل القوانين، ولم تفلح كل القرارات الشرعية الدولية في إعادته إليهم؟ إن مجرد وجود الفلسطينيين في لبنان هو في رأيه الذي يحفز اللبنانيين على تطوير وعيهم بمشكلاتهم واتخاذ القرارات الحاسمة في شئونهم العامة والخاصة. ويوضح عواد رأيه بطريقة فنية عندما يراوح بين سرده للمناقشات الطلابية التي يصرح فيها هاني بأن التوتر بين اللبنانيين والفلسطينيين يرجع إلى أن الزواج المزعوم بينهما هو «زواج نفاق»، وبين الأفكار التي تراود حبيبته تميمة في أثناء الاستماع لما يقول فتناجي نفسها قائلة: «إن زواجنا لن يكون زواج نفاق.» وتواصل حديث النفس التي تحثها على أن تعترف لهاني بحقيقة علاقتها السابقة مع الصحافي. وهنا يستخدم عواد استعارة غريبة ذات دلالة عميقة على هدفه من كتابة روايته؛ فقد كان العنوان الأصلي للرواية وقت إعداد تجارب طبعها هو «أرواح للإيجار»، وهو يوضح ما يعنيه بهذه الاستعارة عندما يتهم معظم شخصيات الرواية على لسان الصحافي التقدمي بأنهم قد أجروا أرواحهم (ص264)، وكان من المفروض أن يبيعوها لو كانوا صادقين. فالحب ليس تأجيرا للروح، بل هو بيع نهائي لها في سبيل المحبوب. باع روميو روحه في سبيل جولييت، كما باعت روحها في سبيله. كذلك الملهمون بحق والمؤمنون بصدق، إنهم لا يؤجرون أرواحهم وإنما يبيعونها. والسيد المسيح - عليه السلام - هو إمام جميع الذين باعوا أرواحهم، أي ضحوا بها في تفان خالص مطلق. والفدائيون أيضا يصدق عليهم هذا الوصف، بشرط أن يوقعوا على عقد البيع بدمائهم من أجل الوطن السليب. ولعل مؤلف الرواية قد كتب هذا كله بينما تتردد في سمعه وعقله الآية الكريمة:
ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (البقرة: 207) أو الآية الكريمة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم (التوبة: 111).
هكذا أجرت «تميمة» روحها - كما يرى حبيبها رمزي - للمثل العليا على طريقة المثقفين، بينما أجر هو روحه لكلمات وكلمات وكلمات. إننا جميعا - على حد قوله - نؤجر أرواحنا لشيء ما. وهو يمضي مع الصورة الفنية فيحصي مجموعة من الحيوانات البشعة التي ترمز لرذائل بشعة وكلها في رأيه قد أجرت أرواحها لأشياء تافهة أو لقوى شريرة، وربما كان التفاني المطلق لإنسان محبوب، والالتزام غير المشروط بقضية عادلة؛ هي الرسالة التي يوجهها المؤلف لقراء روايته. وربما كان الفدائيون، أو بعضهم على الأقل، هم في تقديره النماذج الرفيعة للتفاني والالتزام والتضحية، وهم الذين يحققون رسالته الأخلاقية البعيدة عن أي برنامج سياسي أو أيديولوجي. (21) وتتجلى هذه المعاني الموحية في النهاية التي ختم بها المؤلف روايته. فقد أحست «تميمة» بأن أسوار الحصار تطوقها من كل ناحية: شقيقها الفاسد جابر يحاول قتلها لإنقاذ شرف العائلة - الذي سبق أن لوثه أكثر من مرة - بعد أن سمع عن تجاربها مع الرجال. ولكنه يخطئها ويقتل أعز صديقة لها، وهي الممرضة المسيحية ماري التي آوتها في بيتها. ومن جهة أخرى لا يدرك «هاني» أن تميمة التي باحت له بسر علاقتها القديمة مع الصحافي رمزي قد قدمت له أصدق دليل على ثقتها فيه وحبها له، ولهذا يلطمها على وجهها لطمة قاسية. ولا تنتظر تميمة حتى يهدأ غضبه، ولا تترك نفسها نهبا لأي أمل في أن يعتذر لها، بل تصمم على الخروج النهائي من حياته. وتمضي تميمة في سبيلها، بينما يصعد الإسرائيليون عدوانهم الغادر المتكرر على الجنوب اللبناني. وتزحف أنهار حشود اللاجئين نحو الشمال، وتزلزل المظاهرات العارمة أرض بيروت، لكن إلى أين تمضي تميمة؟
لقد تعرفت في أثناء عملها في نقابة عمال الميناء على عدد من الفلسطينيين الطيبين البسطاء. وها هو أحدهم يسقط شهيدا في عز شبابه، فيسرع أبوه ليشغل مكانه في صفوف الفدائيين. وتلحق به تميمة لتنضم إليهم، وتكتشف أن مكانها الآن مع الذين يتحدون كل القوانين. وتصمم على أن تصارع جميع الأعراف والمعايير التي باسمها حرمها المجتمع من حقها في الحياة، وقتل صديقتها الوفية، وحطم حبها الوحيد (ص289). تأكد لها أن كفاح الفدائيين هو نموذج الثورة الشاملة على المجتمع الجامد المتعفن، وأن الثورة الاجتماعية المتجددة تبدأ بالثورة على النفس (أنسمع هنا أيضا صدى الآية الكريمة:
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ؟) ولما كانت الشخصيات الفلسطينية التي يقدمها المؤلف شخصيات نقية بسيطة من العمال لا من المثقفين والمنظرين، فإنه يجري الكلمات المعبرة عن الاحتجاج على القوانين والتمرد على الأعراف والتقاليد على لسان تميمة المثقفة الحائرة المحبطة، وإن كان يبعدها كما يبعد نفسه عن اليأس والقنوط؛ إذ يجعلها تقول في النهاية إنها لا تستطيع في الحقيقة أن تتصور أن تكون هذه هي النهاية (ص290).
والسؤال الذي يتحتم أن يكون قد دار في عقلها وفي عقول القراء هو هذا السؤال: لماذا تصورت تميمة هذا؟ وجوابه البسيط أن ثورة التغيير مستمرة ولا بد أن تستمر، حتى تفتح الأبواب والنوافذ على أضواء الأمل في لبنان، لبنان الموحد المتحرر من الطائفية والتعصب، وأمة عربية حية ومتقدمة بالعلم والحرية والاستنارة والوحدة والثورة المتجددة ... إن توفيق يوسف عواد - رحمه الله وأرضاه - يقدم لنا في هذه الرواية تحذيرا وبشارة (لاحظ أن بطلة روايته اسمها تميمة ...) تحذير من الطائفية والتفرق والتشرذم، وبشارة بوجود عربي متماسك ومتطور وواثق بنفسه وبعمقه التاريخي والحضاري العريق. والمفارقة المذهلة والمحزنة معا هي أن الأديب الذي أطلق نفير تحذيره قبل اندلاع الحرب الأهلية بسنوات، قد سقط صريعا لهذه الحرب نفسها، وشاء له القدر أن يكون ممن باعوا أرواحهم ولم يؤجروها. (22) وأخيرا نصل إلى «أولاد حارتنا» ... وبحث المستشرق الكبير عن هذه الرواية الفريدة الشائكة تحت عنوان «الله والفتوات والعلم» يرجع إلى سنة 1975م. ولا بد أن أشير هنا وقبل عرض نبذة عن هذا البحث (الذي كتبه صاحبه بقلم المؤرخ وصارت له مع الزمن قيمة تاريخية) إلى أنه، على مبلغ علمي، أول تقييم نقدي يتنبأ بأن الرواية جديرة بأن تضاف إلى الرصيد العقلي والروحي الذي تعتز به البشرية من الأدب العالمي، وأن كاتبها يحقق تلك الفكرة التي كان أمير شعراء الألمان «جوته» (1749-1832م) أول من قال بها، وهي فكرته عن الأدب العالمي الذي رأى في أواخر أيامه، وفي أحد أحاديثه الرائعة مع تلميذه «أكرمان»، أن أوانه قد آن، وأنه لم يعد لما يسمى بالأدب القومي أو الوطني مكان، وأنه هو نفسه قد تعلم كيف ينظر في آداب الشعوب المختلفة ويجد فيها ما يمتعه وينفعه من حق وخير وجمال. ولعل الأجدر بالذكر مما سبق أن «شتيبات» لا يكتفي في بحثه بتحليل الرواية والإشادة بروعتها، وإنما يوحي في خاتمته بأنها ستحظى بأرفع قدر من الإعجاب والتقدير عندما تترجم إلى اللغات الأوروبية الحديثة؛ لأن ترجمتها في رأيه «ستظل أملا نتطلع إليه ونتمناه». وربما لا يكون من قبيل المبالغة - بعد أن ترجمت هذه الرواية وأخواتها إلى معظم اللغات الحية - أن أفسر هذه العبارة والفقرة الأخيرة التي وردت فيها بأنها تنطوي على نبوءة صادقة ونافذة من حجب الغيب - بحصول صاحبها على أرفع جائزة أدبية عالمية، وأنه هو الذي شرف هذه الجائزة قبل أن تشرفه وتشرفنا معه.
ويبدأ البحث بسطور تشيد بواقعية نجيب محفوظ التي تجلت بأوضح صورة في «ثلاثيته» الشهيرة، وبتوقفه عن الكتابة بعد الانتهاء منها وقبل قيام ثورة يوليو 1952م بأشهر قليلة، ثم عودته إلى الكتابة في سنة 1957م بهذه الرواية التي أثارت احتجاج الدوائر المحافظة، ولم يقدر لها حتى اليوم أن تصدر في مصر على شكل كتاب، وإن كانت طبعتها الأولى قد ظهرت ضمن مطبوعات دار الآداب البيروتية في شهر يناير سنة 1967م، ثم لدى الدار نفسها في طبعتها الثانية سنة 1972م.
ناپیژندل شوی مخ