358

Islam Q&A

موقع الإسلام سؤال وجواب

ژانرونه

حديث (نَفَسيْ جهنم)، والرد على من كذبه
[السُّؤَالُ]
ـ[دائمًا ما كنت أستغرب الحديث بأن الطقس إذا كان حارًّا فإن هذا نفَس من أنفاس جهنم، فهل هذا الحديث ضعيف؟ لأنه وفقًا للحقائق التي سمعتها أننا نحصل على فصول السنة من خلال الشمس، وميل الأرض؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولًا:
الحديث المشار إليه حديث صحيح في أعلى درجات الصحة، وقد اتفق على إخراجه الإمامان البخاري ومسلم، رحمهما الله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) رواه البخاري (٣٠٨٧) ومسلم (٦١٧) .
قال الحافظ ابن حجر ﵀:
"والمراد بالزمهرير: شدة البرد، واستشكل وجوده في النار، ولا إشكال؛ لأن المراد بالنار: محلها، وفيها طبقة زمهريرية" انتهى.
" فتح الباري " (٢ / ١٩) .
ثانيًا:
هل كان كلام النار، وشكوتها، بلسان المقال أم بلسان الحال؟ أكثر العلماء -وهو الصواب بلا ريب- على أنه كان بلسان المقال.
قال الحافظ ابن عبد البر ﵀:
"وأما قوله في هذا الحديث: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا.... الحديث): فإن قومًا حملوه على الحقيقة، وأنها أنطقها الذي أنطق كل شيء، واحتجوا بقول الله ﷿: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) النور/٢٤، وبقوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/٤٤، وبقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) سبأ/١٠، أي: سبِّحي معه، وقال: (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ) ص/١٨، وبقوله: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ ٣٠، وما كان من مثل هذا، وهو في القرآن كثير، حملوا ذلك كله على الحقيقة، لا على المجاز، وكذلك قالوا في قوله ﷿: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) الفرقان/ ١٢، و(تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/٨، وما كان مثل هذا كله.
وقال آخرون في قوله ﷿: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) و(تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ): هذا تعظيم لشأنها، ومثل ذلك قوله ﷿: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الكهف/٧٧، فأضاف إليه الإرادة مجازًا، وجعلوا ذلك من باب المجاز، والتمثيل في كل ما تقدم ذكره، على معنى أن هذه الأشياء لو كانت مما تنطق، أو تعقل: لكان هذا نطقها وفعلها.
فمَن حمل قول النار وشكواها على هذا: احتج بما وصفنا، ومن حمل ذلك على الحقيقة: قال: جائز أن يُنطقها الله، كما تنطق الأيدي، والجلود، والأرجل يوم القيامة، وهو الظاهر من قول الله ﷿: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ ٣٠، ومن قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/٤٤، و(قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) النمل/١٨، وقال: قوله ﷿: (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/٨: أي: تتقطع عليهم غيظًا، كما تقول: فلان يتقد عليك غيظًا، وقال ﷿: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا) الفرقان/ ١٢، فأضاف إليها الرؤية، والتغيظ، إضافة حقيقية، وكذلك كل ما في القرآن من مثل ذلك.
ومن هذا الباب عندهم قوله: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) الدخان/٢٩، و(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) مريم/ ٩٠، و(قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت/١١، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) البقرة/٧٤، قالوا: وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا، كما للجمادات تسبيح وليس كتسبيحنا، وللجبال، والشجر سجود وليس كسجودنا.
والاحتجاج لكلا القولين يطول، وليس هذا موضع ذِكره، وحمْل كلام الله تعالى، وكلام نبيه ﷺ على الحقيقة: أولى بذوي الدِّين، والحق؛ لأنه يقص الحق، وقوله الحق، ﵎ علوًّا كبيرًا" انتهى.
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " (٥ / ١١ – ١٦) .
ثم اختلف العلماء أيضا في نفسي جهنم، هل هما على الحقيقة، أم على المجاز؟ وأكثر العلماء على أن ذلك على الحقيقة أيضًا.
قال الحافظ ابن حجر ﵀:
"قال القرطبي: لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته، قال: وإذا أخبر الصادق بأمر جائز: لم يُحتج إلى تأويله، فحمله على حقيقته: أولى، وقال النووي نحو ذلك، ثم قال: حمله على حقيقته هو الصواب، وقال نحو ذلك التوربشتى.
ورجح البيضاوي حمله على المجاز، فقال: شكواها مجاز عن غليانها، وأكلها بعضها بعضًا: مجاز عن ازدحام أجزائها، وتنفسها: مجاز عن خروج ما يبرز منها، وقال الزين بن المنير: المختار حمله على الحقيقة؛ لصلاحية القدرة لذلك [يعني: أن الله تعالى يقدر على ذلك]، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت، لكن الشكوى، وتفسيرها، والتعليل له، والإذن، والقبول، والتنفس، وقصره على اثنين فقط: بعيد من المجاز خارج عما أُلِف من استعماله" انتهى.
" فتح الباري " (٢ / ١٩) .
وقال الزرقاني ﵀:
" (أن النار اشتكت إلى ربها) حقيقة، بلسان المقال، كما رجحه من فحول الرجال: ابن عبد البر، وعياض، والقرطبي، والنووي، وابن المنير، والتوربشتي، ولا مانع منه سوى ما يخطر للواهم من الخيال" انتهى.
" شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " (١ / ٥٩) .
وقد رد بعض الجهلة هذا الحديث بزعم أنه مخالف للواقع، من أن اختلاف الفصول إنما يرجع للعلاقة بين الشمس والأرض.
والجواب على هؤلاء أسهل مما يتصورون؛ وذلك أن هذا الحديث ليس فيه أن اختلاف الفصول أو حصول الشتاء والصيف هو بسبب نفَسَيْ جهنم.
بل الحديث نفْسُه يدل على وجود الفصلين (الشتاء والصيف) ابتداءً، وأن "شدة الحر" و"شدة البرد" هما من أثر نفَسَي جهنم، لا أنهما يكوِّنان "الصيف" و"الشتاء"، وهذا واضح بأدنى تأمل في الحديث.
قال ابن عبد البر ﵀:
"وأما قوله: (فأذن لها بنفسين: نفسٍ في الشتاء، ونفس في الصيف): فيدل على أن نفَسها في الشتاء: غير الشتاء، ونفَسها في الصيف: غير الصيف" انتهى.
" التمهيد " (٥ / ٨) .
وقد رَدَّ آخرون الحديث لأن سبب شدة الحر أو شدة البرد معروف، وهو بعد الشمس أو قربها من الأرض.
وقد أجاب العلماء عن ذلك أيضًا، وبينوا أنه لا تعارض بين الحديث، وبين الواقع،
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين ﵀:
"وفي هذا الحديث: دليل على أن الجمادات لها إحساس لقوله: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب أكل بعضي بعضًا)، من شدة الحر، وشدة البرد، فأذن الله لها أن تتنفس في الشتاء، وتتنفس في الصيف، تتنفس في الصيف ليخف عليها الحرَّ، وفي الشتاء ليخفَّ عليها البرد، وعلى هذا فأشد ما نجد من الحرِّ: يكون من فيح جهنم، وأشد ما يكون من الزمهرير: من زمهرير جهنم.
فإن قال قائل: هذا مشكل حسَب الواقع؛ لأن من المعروف أن سبب البرودة في الشتاء هو: بُعد الشمس عن مُسامتة الرؤوس، وأنها تتجه إلى الأرض على جانب، بخلاف الحر، فيقال: هذا سبب حسِّي، لكن هناك سبب وراء ذلك، وهو السبب الشرعي الذي لا يُدرك إلا بالوحي، ولا مناقضة أن يكون الحرُّ الشديد الذي سببه أن الشمس تكون على الرؤوس أيضا يُؤذن للنار أن تتنفس فيزدادُ حرُّ الشمس، وكذلك بالنسبة للبرد: الشمس تميل إلى الجنوب، ويكون الجوُّ باردًا بسبب بُعدها عن مُسامتة الرؤوس، ولا مانع من أنّ الله تعالى يأذن للنار بأن يَخرج منها شيءٌ من الزمهرير ليبرِّد الجو، فيجتمع في هذا: السبب الشرعي المُدرَك بالوحي، والسبب الحسِّي، المُدرَك بالحسِّ.
ونظير هذا: الكسوف، والخسوف، الكسوف معروف سببه، والخسوف معروف سببه.
سبب خسوف القمر: حيلولة الأرض بينه، وبين الشمس، ولهذا لا يكون إلا في المقابلة، يعني: لا يمكن يقع خسوف القمر إلا إذا قابل جُرمُه جرمَ الشمس، وذلك في ليالي الإبدار، حيث يكون هو في المشرق، وهي في المغرب أو هو في المغرب، وهي في المشرق.
أما الكسوف فسببه: حيلولة القمر بين الشمس، والأرض، ولهذا لا يكون إلا في الوقت الذي يمكن أن يتقارب جُرما النيّرين، وذلك في التاسع والعشرين أو الثلاثين، أو الثامن والعشرين، هذا أمر معروف، مُدرك بالحساب، لكن السبب الشرعي الذي أدركناه بالوحي هو: أن الله (يخوّف بهما العباد)، ولا مانع من أن يجتمع السببان الحسي والشرعي، لكن من ضاق ذرعًا بالشرع: قال: هذا مخالف للواقع ولا نصدق به، ومن غالى في الشرع: قال: لا عبرة بهذه الأسباب الطبيعية، ولهذا قالوا: يمكن أن يكسف القمر في ليلة العاشر من الشهر! .... لكن حسَب سنَّة الله ﷿ في هذا الكون: أنه لا يمكن أن يَنخسف القمر في الليلة العاشر أبدًا" انتهى.
" شرح صحيح مسلم " (شرح كتاب الصلاة ومواقيتها، شريط رقم ١٠، وجه أ) .
ونرجو أن يكون ما ذكرناه كافيًا لتوضيح معنى الحديث، وأنه لا يمكن للشرع أن يخالف شيئًا محسوسًا في الواقع، وإنما أتي الناس من جهلهم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب

1 / 357