واعلم: أنه لا خلاف بين أهل الإسلام ومن أقر بالصانع في أنه تعالى غني إلا فرقة من اليهود حكى الله عنهم نسبة الحاجة إليه حيث قال: {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء}[آل عمران:181] وقد قيل: إن القائلين بذلك لم يقولوه عن اعتقاد، وإنما أوردوه على جهة الإلزام للرسول والتهكم بما جاء به من قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا}[البقرة:245] (والدليل على ذلك) القول الصحيح (أن الحاجة) الاصطلاحية التي هي الدواعي والصوارف، وهي ما يدعوا إلى جلب نفع له، أو يصرفه عن جلب ضرر إليه، والداعي هو ما يرجح وجود الفعل على عدمه من غير تأثير، والصارف هو ما يرجح عدم الفعل على وجوده من غير تأثير، فهذه (لا تجوز إلا على من جازت عليه الشهوة والنفار)؛ وذلك لأن النفع والضرر مأخوذ في تلك الحاجة، والمنفعة هي اللذة والسرور، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، والمضرة: هي الألم والغم، أو ما أدى إليهما أو إلى أحدهما، واللذة والألم مأخوذان في تعريف المنفعة: هما المعنى المدرك بمحل الحياة فيه، لكن إن قارنه شهوة سمي لذة، وإن قارنه نفار سمي ألما، فبهذا التدريج صارت الحاجة من ملازمات الشهوة والنفار (و) وجب القطع (بأن الشهوة والنفار لا يجوزان إلا على من جازت عليه اللذة والألم، واللذة والألم لا يجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنقصان) من حيث يزداد جسم أحدنا بتناول ما يشتهيه ، وينقص بتناول ما ينفر عنه (والزيادة والنقصان لا يجوزان إلا على من كان جسما)؛ إذ المرجع بالزيادة إلى انضمام بعض الأجزاء المتحيزة إلى بعض والمرجع بالنقصان إلى افتراق بعض الأجزاء المتحيزة من بعض (وهو تعالى ليس بجسم؛ لأن الأجسام محدثة وهو تعالى قديم على ما تقدم) وهذه علة أبي هاشم في امتناع الشهوة والنفار عليه تعالى، واعترضه الشيخ أبو إسحاق: بأنه لا يصح كون الشهوة مؤثرة في زيادة الجسم، إذ ليست من الأسباب المولدة ولا المتحيزات مما تولد عن غيرها، فلا يصح أن تولد الشهوة تلك الأجزاء، ولا أن تولد اجتماعا ولا تأليفا، وكذلك النفرة لا يصح أن تولد افتراق الجواهر ولا أن توجد عدمها، فحينئذ علمنا أن تلك الزيادة والنقصان من جهة الله تعالى أجرى العادة بذلك، ولو قدرنا أن الله تعالى مشته ونافر لم يمتنع ألا يثبت ما مجراه العادة في حقه تعالى، ولا تزداد ذاته ولا تنقص بإدراك ما يشتهيه أو ينفر عنه، لا سيما وذلك لا يصح عليه، بل هو مستحيل في حقه تعالى، وقال الجمهور في امتناع الشهوة والنفرة عليه؛ لأنه لو جاز أن يشتهي لكان إما أن يشتهي لذاته أو لما هو عليه في ذاته، أو بالفاعل أو لمعنى، والأول باطل وإلا وجب أن يشتهي جميع المشتهيات فيكون ملجأ إلى فعلها دفعة واحدة، وإلى أنه يوجد أكثر مما أوجد وأكبر، وقبل الوقت الذي أوجد المشتهيات فيه؛ لتوفر دواعيه إلى جميع ذلك، والثاني باطل لما تقدم من أن القديم لا فاعل له ولا لشيء من صفاته، ولأن تأثير الفاعل لا يتعدى تأثير إحداث الذات وإخراجها من العدم إلى الوجود وتوابع الحدوث، وهي الوجوه التي يقع عليها الفعل ككون الكلام أمرا أوخبرا، وكون الفعل طاعة أو معصية. والثالث: باطل؛ لأن المعنى إن كان قديما لزم أن يشتهي أكثر المشتهيات فيوجد أكثر مما أوجد قبل الوقت الذي أوجد فيه، وإن كان معدوما فلا اختصاص للشهوة المعدومة لمشتهى دون مشتهى، وإن كان المعنى محدثا لزم ذلك أيضا، ومثل هذا الكلام يجيء في أنه تعالى لا يجوز أن يكون نافرا إلا في كونه نافرا بنفار محدث، فإنه يقال: لو جاز عليه النفار المحدث لجازت عليه الشهوة المحدثة، إذ لو قلنا: كان يلزم أن يكون ملجأ إلى أن لا يخلق شيئا من النفرة ولا من المنفر لكان لقائل أن يقول: إنه يخلق لنفسه نفرة عن منفرات لم يخلقها، ولا يخلق نفرة عن المنفرات التي خلقها (فثبت بذلك) المذكور من الأدلة (أن الله تعالى غني) لا يحتاج إلى شيء أصلا.
مخ ۴۶