بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
تمهيد
اللَّهُمَّ لَك الْحَمد ملْء السَّمَوَات وملء الأَرْض وملء مَا شِئْت من شَيْء بعد لَك الشُّكْر عدد كل شَيْء وزنة كل شَيْء وملء كل شَيْء وَعدد مَا قد شكرك الشاكرون وَمَا سيشكرك الشاكرون
اللَّهُمَّ وصل وَسلم على رَسُولك الْمُصْطَفى من خلقك مُحَمَّد صَلَاة وَسلَامًا يدومان بدوام الْمَخْلُوقَات ويتجددان بتجدد الْأَوْقَات وعَلى آله الطاهرين وَأَصْحَابه الأكرمين
وَبعد فَإِن الْقُرْآن الْعَظِيم قد اشْتَمَل على الْكثير الطّيب من مصَالح المعاش والمعاد وأحاط بمنافع الدُّنْيَا وَالدّين تَارَة إِجْمَالا وَتارَة تَفْصِيلًا وَتارَة عُمُوما وَتارَة خُصُوصا وَلِهَذَا يَقُول سُبْحَانَهُ ﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾
وَيَقُول ﷿ ﴿وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين﴾
وَيَقُول ﵎ ﴿ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء﴾ وَنَحْو ذَلِك من الْآيَات الدَّالَّة على هَذَا الْمَعْنى
وَأما مَقَاصِد الْقُرْآن الْكَرِيم الَّتِي يكررها ويورد الْأَدِلَّة الحسية والعقلية عَلَيْهَا وَيُشِير إِلَيْهَا فِي جَمِيع سوره وَفِي غَالب قصصه وَأَمْثَاله فَهِيَ ثَلَاثَة مَقَاصِد يعرف ذَلِك من لَهُ كَمَال فهم وَحسن تدبر وجودة تصور وَفضل تفكر
1 / 3
الْمَقْصد الأول إِثْبَات التَّوْحِيد الْمَقْصد الثَّانِي إِثْبَات الْمعَاد الْمَقْصد الثَّالِث إِثْبَات النبوات
وَلما كَانَت هَذِه الثَّلَاثَة الْمَقَاصِد مِمَّا اتّفقت عَلَيْهِ الشَّرَائِع جَمِيعًا كَمَا حكى ذَلِك الْكتاب الْعَزِيز فِي غير مَوضِع أَحْبَبْت أَن أَتكَلّم هَاهُنَا على كل مقصد مِنْهَا بإيراد مَا يُوضح ذَلِك من الْكتب السَّابِقَة وَعَن الرُّسُل الْمُتَقَدِّمين مِمَّا يدل على اتِّفَاق أَنْبيَاء الله وَكتبه على إِثْبَاتهَا لما فِي ذَلِك من عَظِيم الْفَائِدَة وجليل العائدة فَإِن من آمن بهَا كَمَا يَنْبَغِي وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهَا كَمَا يجب فقد فَازَ بخيري الدَّاريْنِ وَأخذ بالحظ الوافر من السَّعَادَة الآجلة والعاجلة وَدخل إِلَى الْإِيمَان الْخَالِص من الْبَاب الَّذِي أرشده إِلَيْنَا نَبينَا ﷺ فِي جَوَاب من سَأَلَهُ عَن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَالْإِحْسَان فَقَالَ فِي الْإِيمَان (أَن تؤمن بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْقدر خَيره وشره)
هَكَذَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من طرق كَثِيرَة
وَلَا ريب أَن من آمن بِاللَّه وَبِمَا جَاءَت بِهِ رسله ونطقت بِهِ كتبه فَإِن إيمَانه بِهَذِهِ الثَّلَاثَة الْمَقَاصِد هُوَ أهم مَا يجب الْإِيمَان بِهِ وأقدم مَا يتحتم عَلَيْهِ اعْتِقَاده لِأَن الْكتب قد نطقت بهَا وَالرسل قد اتّفقت عَلَيْهَا اتِّفَاقًا يقطع كل ريب وينفي كل شُبْهَة وَيذْهب كل شكّ
وَسميت هَذَا الْمُخْتَصر إرشاد الثِّقَات إِلَى اتِّفَاق الشَّرَائِع على التَّوْحِيد والمعاد والنبوات وَبِاللَّهِ أستعين وَعَلِيهِ أتوكل
وَاعْلَم أَن إِيرَاد الْآيَات القرآنية على إِثْبَات كل مقصد من هَذِه الْمَقَاصِد وَإِثْبَات اتِّفَاق الشَّرَائِع عَلَيْهَا لَا يحْتَاج إِلَيْهِ من يقْرَأ الْقُرْآن الْعَظِيم
فَإِنَّهُ إِذا أَخذ الْمُصحف الْكَرِيم وقف على ذَلِك فِي أَي مَوضِع شَاءَ وَمن أَي مَكَان أحب وَفِي أَي مَحل مِنْهُ أَرَادَ ووجده مشحونا بِهِ من فاتحته إِلَى خاتمته
1 / 4
الْفَصْل الأول فِي بَيَان اتِّفَاق الشَّرَائِع على التَّوْحِيد
اعْلَم أَنه قد روى جمَاعَة من أكَابِر عُلَمَاء الْإِسْلَام أَن الشَّرَائِع كلهَا اتّفقت على إِثْبَات التَّوْحِيد على كَثْرَة عدد الرُّسُل الْمُرْسلين وَكَثْرَة كتب الله ﷿ الْمنزلَة على أنبيائه فَإِنَّهُ أخرج ابْن حَيَّان وَالْبَيْهَقِيّ بِسَنَدَيْنِ حسنين من حَدِيث أبي ذَر (أَن الْأَنْبِيَاء مائَة ألف وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألفا وَأَن الْكتب الْمنزلَة مائَة وَأَرْبَعَة كتب)
فالتوحيد هُوَ دين الْعَالم أَوله وَآخره وسابقه ولاحقه وَمن خَالف فِي ذَلِك فَجعل لله ﷿ شَرِيكا وَعبد الْأَصْنَام فَإِنَّهُ كَمَا أرشد إِلَيْهِ الْقُرْآن حِكَايَة عَنْهُم بقوله ﴿مَا نعبدهم إِلَّا ليقربونا إِلَى الله زلفى﴾ مقرّ بِأَنَّهُ إِيمَان وَإِنَّمَا جعل الشَّرِيك وصلَة إِلَى الرب سُبْحَانَهُ ووسيلة إِلَى التَّقْرِيب إِلَيْهِ وَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لبيْك لَا شريك لَك إِلَّا شريك هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك
وَهَا نَحن نذْكر لَك مَا فِي كتب الله ﷿ من التَّوْحِيد وَهِي وَإِن كَانَ عَددهَا مَا تقدم لكنه لم يبْق بأيدي أهل الْملَل مِنْهَا فِيمَا وَجَدْنَاهُ عِنْدهم بعد الْبَحْث عَن ذَلِك ومزيد الطّلب لَهُ إِلَّا التَّوْرَاة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَكتب نبوات أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل
أما التَّوْرَاة فالنصوص فِيهَا على ذَلِك كَثِيرَة جدا وَقد اشْتَمَلت على ذكر مَا كَانَ يَقع من الْخُصُومَات لأهل الْأَصْنَام وإيراد الْحجَج
1 / 5
عَلَيْهِم وَلَا سِيمَا بعد موت مُوسَى وَقيام أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل فَإِنَّهَا وَقعت بَينهم قصَص يطول شرحها وَكَانُوا يُقَاتلُون من عبد الْأَصْنَام ويستحلون دِمَاءَهُمْ ويحشدهم على ذَلِك أَتبَاع مُوسَى وأحبار الْملَّة الْيَهُودِيَّة وكل نَبِي يَبْعَثهُ الله من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل يُوجب على بني إِسْرَائِيل قتال من يعبد الْأَصْنَام وغزوهم إِلَى دِيَارهمْ وَقد اشْتَمَلت التَّوْرَاة أَيْضا على حِكَايَة مَا كَانَ من أَخْبَار الْأَنْبِيَاء قبل مُوسَى وَمَا كَانَ بَينهم من الدُّعَاء إِلَى التَّوْحِيد والفرار من الشّرك والتنفير عَنهُ
وَمن نُصُوص التَّوْرَاة مَا ذكر فِي الْفَصْل الْعشْرين مِنْهَا من السّفر الثَّانِي وَلَفظه أَنا الله رَبك الَّذِي أخرجك من أَرض مصر من بَيت الْعُبُودِيَّة لَا يكون لَك معبود آخر من دوني لَا تصنع لَك منحوتا وَلَا شبها لما فِي السَّمَاء من الْعُلُوّ وَمَا فِي الأَرْض مثلا وَمَا تَحت الأَرْض لَا تسْجد لَهُم وَلَا تعبدها لِأَنِّي الله رَبك الْقَادِر الغيور انْتهى وَكرر هَذَا فِي مَوَاضِع مِنْهَا غير هَذَا الْموضع وَفِي الْفَصْل السَّادِس وَالْعِشْرين من السّفر الثَّالِث فِي التَّوْرَاة مَا لَفظه وَلَا تصنعوا لكم أوثانا ومنحوتا ونصبا وَلَا تصنعوا لكم حجرا من خزف لَا تصنعوا فِي بلدكم لتسجدوا لَهُ أَنا الله ربكُم انْتهى وَفِي التَّوْرَاة من النُّصُوص المفيدة لهَذَا الْمَعْنى مَا يصعب الْإِحَاطَة بِهِ ويتعسر الذّكر لجميعه
وَفِي الْفَصْل الثَّالِث وَالْعِشْرين من كتاب يُوشَع بن نون مَا لَفظه وَإِيَّاكُم معبوداتهم لَا تَذكرُوا وَلَا تحلفُوا وَلَا تعبدوهم وَلَا تسجدوا لَهُم بل الله ربكُم وَبِه تتمسكون كَمَا فَعلْتُمْ إِلَى هَذَا الْيَوْم وَفِي كِتَابه نُصُوص كَثِيرَة قاضية بِإِثْبَات التَّوْحِيد وَكَذَلِكَ فِي كتب من بعده من أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل الَّذين لَهُم كتب مدونة وقفنا عَلَيْهَا وهم صمويل الصَّبِي ثمَّ اليسع ثمَّ دَاوُد ثمَّ سُلَيْمَان ثمَّ عزرا الكابت وَهُوَ الْمُسَمّى فِي الْقُرْآن عُزَيْر ثمَّ إيليا ثمَّ عوبد ثمَّ أَيُّوب ثمَّ أشعيا بن أموص وَهُوَ الْمُسَمّى فِي الْقُرْآن إلْيَاس وَفِي السّفر الثَّانِي من أسفار الْمُلُوك من التَّوْرَاة أَن الله رَفعه إِلَى السَّمَاء ثمَّ أرميا ثمَّ حزقيال ثمَّ دانيال ثمَّ هوشع وَهُوَ الْمُسَمّى يُوشَع ثمَّ يونان وَهُوَ
1 / 6
الْمُسَمّى فِي الْقُرْآن يُونُس والمسمى أَيْضا بِذِي النُّون ثمَّ ميخا ثمَّ ناحوم ثمَّ حبقوق ثمَّ صفونيا ثمَّ حجي ثمَّ يوحنا وَيُقَال لَهُ ملاحيا وَهُوَ الْمُسَمّى فِي الْقُرْآن يحيى
ثمَّ بعد هَؤُلَاءِ بعث الله ﷿ الْمَسِيح بن مَرْيَم ﵈ وعَلى نَبينَا صَلَاة الله وَسَلَامه
وَفِي الزبُور بِمَا فِيهِ التَّصْرِيح بِإِثْبَات التَّوْحِيد مَوَاضِع كَثِيرَة فَمِنْهَا فِي المزمور السَّابِع عشر مَا لَفظه كَلَام الرب مختبر وَهُوَ نَاصِر جَمِيع المتوكلين عَلَيْهِ لِأَن من الْإِلَه غير الرب أَو من الْإِلَه سوى إِلَّا هُنَا انْتهى وَفِي المزمور الموفى ثَمَانِينَ مَا لَفظه وَلَا يكن فِيك إِلَه جَدِيد وَلَا تسْجد لإله غَرِيب لأنني أَنا هُوَ الرب إلهك انْتهى وَفِي المزمور الْخَامِس والثمانين مَا لَفظه الَّذِي هُوَ وَحده إِلَه وَله وَحده أَيْضا يجب أَن يسْجد الْجَمِيع ويخدموا انْتهى وَفِيه أَيْضا مَا لَفظه أَنْت وَحدك الْإِلَه الْمُعظم انْتهى وَفِي المزمور الرَّابِع وَالتسْعين مَا لَفظه بالمزمور يهلل لَهُ لِأَن الرب إِلَه عَظِيم وَملك كَبِير على جَمِيع الْآلهَة انْتهى وَفِي المزمور الْخَامِس وَالتسْعين مَا لَفظه فَإِن الرب عَظِيم ومسبح جدا مرهوب هُوَ على كل الْآلهَة لِأَن كل آلِهَة الْأُمَم شياطين فَأَما الرب فَصنعَ السَّمَوَات انْتهى وَفِي المزمور السَّادِس وَالتسْعين مَا لَفظه يخزى جَمِيع الَّذين يَسْجُدُونَ للمنحوتات المفتخرون بأصنامهم اسجدوا لَهُ يَا جَمِيع مَلَائكَته انْتهى وَفِي المزمور الْخَامِس بعد الْمِائَة وعبدوا منحوتاتهم فَصَارَ ذَلِك عَثْرَة لَهُم انْتهى وَفِي المزمور الثَّالِث عشر بعد الْمِائَة إلهنا فِي السَّمَاء وَفِي الأَرْض وَكلما شَاءَ صنع أوثان الْأُمَم فضَّة وَذهب أَعمال أَيدي النَّاس لَهَا أَفْوَاه وَلَا تَتَكَلَّم
1 / 7
لَهَا أعين وَلَا تبصر لَهَا آذان وَلَا تسمع لَهَا مناخر وَلَا تشم لَهَا أيادي وَلَا تلمس لَهَا أرجل وَلَا تمشي وَلَا تصوت بحنجرتها انْتهى وَفِي المزمور الثَّالِث وَالثَّلَاثِينَ بعد الْمِائَة مَا لَفظه أوثان الْأُمَم فضَّة وَذهب أَعمال يَدي النَّاس لَهُم أَفْوَاه وَلَا يَتَكَلَّمُونَ وَلَهُم أعين وَلَا يبصرون وَلَهُم آذان وَلَا يسمعُونَ وَلَيْسَ فِي أَفْوَاههم روح مثلهم يصير الَّذين يصنعونهم وَجَمِيع المتوكلين عَلَيْهِم انْتهى
وَأما إنجيل الْمَسِيح ﵇ فَهُوَ مشحون بِالتَّوْحِيدِ وبذم الْمُشْركين وَالْمُنَافِقِينَ والمرائين وَمن أَرَادَ اسْتِيفَاء ذَلِك فَليُرَاجع الأناجيل الْأَرْبَعَة الَّتِي جمعهَا الْأَرْبَعَة من الحواريين وَمن ذَلِك مَا فِي الْإِنْجِيل الَّذِي جمعه القديس مَتى فِي الْفَصْل الْخَامِس وَالْخمسين مِنْهُ مَا لَفظه إِن أَخطَأ إِلَيْك أَخُوك فَاذْهَبْ وعاتبه فِيمَا بَيْنك وَبَينه وَحده فَإِن سمع مِنْك فقد ربحت أَخَاك وَإِن لم يسمع مِنْك فَخذ من بعد أَيْضا وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ لكَي تقوم كل كلمة على فَم شَاهِدين أَو ثَلَاثَة تثبت كل كلمة وَإِن لم يسمع مِنْهُم فَقل لِلْبيعَةِ وَإِن لم يسمع أَيْضا من الْبيعَة فَلْيَكُن عنْدك كوثني وعشار انْتهى
وَهَكَذَا الرسائل الَّتِي صنفها جمَاعَة من الحواريين فَإِنَّهَا مشحونة بِالتَّوْحِيدِ وَنفي الشّرك والذم لأَهله وَمثل ذَلِك الْكتاب الْمُشْتَمل على سيرة أَصْحَاب الْمَسِيح الْمُسَمّى عِنْدهم ابركسيس
وَبِالْجُمْلَةِ فَكتب الله ﷿ بأسرها وَرُسُله جَمِيعًا متفقون على التَّوْحِيد وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَنفي الشّرك بِجَمِيعِ أقسامه
1 / 8
وَأما دُعَاء الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين على مُوسَى إِلَى التَّوْحِيد فقد تَضَمَّنت التَّوْرَاة حِكَايَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ من التَّوْحِيد وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَنفي الشّرك فَإِنَّهَا قد حكت مَا وَقع مِنْهُم من عِنْد أَبينَا آدم وَمن بعده من الْأَنْبِيَاء كنوح وَإِبْرَاهِيم وَلُوط وَإِسْحَاق وَإِسْمَاعِيل وَيَعْقُوب ويوسف إِلَى عِنْد قيام مُوسَى سَلام الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ
1 / 9
الْفَصْل الثَّانِي فِي بَيَان اتِّفَاق الشَّرَائِع على إِثْبَات الْمعَاد
اعْلَم أَنه قد سبق لي تأليف رِسَالَة فِي هَذَا سميتها الْمقَالة الفاخرة فِي بَيَان اتِّفَاق الشَّرَائِع على إِثْبَات الدَّار الْآخِرَة وَلما كَانَ هَذَا هُوَ أحد الْمَقَاصِد الثَّلَاثَة الَّتِي جمعت لَهَا هَذَا الْمُخْتَصر فَإِن ذكر بعض مَا فِي كتب الله ﷿ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ لَازِما
فَفِي التَّوْرَاة فِي أَولهَا عِنْد الْكَلَام على ابْتِدَاء الخليقة التَّصْرِيح باسم الْجنَّة وَلَفظه فغرس الله جنَانًا فِي عدن شرقيا وابقا ثمَّ آدم الَّذِي خلق وَأنْبت الله ثمَّ كل شَجَرَة حسن منظرها وَطيب مأكلها وشجرة الْحَيَاة فِي وسط الْجنان وشجرة معرفَة الْخَيْر وَالشَّر وَكَانَ نهر يخرج من عدن ليسقي الْجنان وَمن ثمَّ يتفرق وَيصير أَرْبَعَة رُؤُوس اسْم أَحدهمَا النّيل وَهُوَ الْمُحِيط بِجَمِيعِ بلد زويلة الَّذِي ثمَّ الذَّهَب وَذهب ذَلِك الْبَلَد جيد ثمَّ اللُّؤْلُؤ وحجارة البنور وَاسم النَّهر الثَّانِي جيحون وَهُوَ الْمُحِيط بِجَمِيعِ بلد الْحَبَشَة وَاسم النَّهر الثَّالِث الدجلة وَهُوَ السائر فِي شَرْقي الْموصل وَالنّهر الرَّابِع هُوَ الْفُرَات انْتهى
وكما وَقع التَّصْرِيح فِي التَّوْرَاة بِالْجنَّةِ كَمَا ذكرنَا فقد وَقع التَّصْرِيح فِيهَا باسم النَّار ولفظها فِي التَّوْرَاة شول واشي قَالَ عُلَمَاء الْيَهُود وَمعنى اللَّفْظَيْنِ جَهَنَّم وَفِي مَوضِع آخر فِي التَّوْرَاة مَا لَفظه وَإِن الله خلق خلقا وتفتح الأَرْض فاها فينزلون إِلَى الثرى هَؤُلَاءِ الْقَوْم الَّذين عصوا الله وَقَالَ أحجب رَحْمَتي عَنْهُم وأريهم عاقبتهم وكما أَنهم
1 / 10
كادوني بِغَيْر إِلَه وأغضبوني بغروراتهم كَذَلِك إِنِّي أكيدهم لِأَن النَّار تتقدح من غَضَبي وتتوقد إِلَى أسفال الثرى فتأكل الأَرْض ونباتها حَتَّى تستطلع أساسات الْجبَال كَذَلِك أَزِيد عَلَيْهِم شرورا وسهامي أفرقها فيهم انْتهى
وَفِي الْفَصْل الثَّانِي عشر من السّفر الثَّالِث من التَّوْرَاة مَا لَفظه واحفظوا رسومي وأحكامي فَإِن جَزَاء من عمل بهَا أَن يحيا الْحَيَاة الدائمة انْتهى وَلَا حَيَاة دائمة فِي الدُّنْيَا بل فِي الْآخِرَة وَفِي التَّوْرَاة من النُّصُوص على هَذَا الْمَعْنى كثير وَفِي الْفَصْل السَّادِس وَالْعِشْرين من كتاب النَّبِي أشعيا مَا لَفظه يقوم الْموَات وَيَسْتَيْقِظ الَّذين فِي الْقُبُور انْتهى وَفِي كِتَابه أَيْضا مَا لَفظه مزكى الظَّالِم لأجل الرشا وَزَكَاة الزكى يزيلونها عَنهُ لذَلِك كَمَا تَأْكُل القش لِسَان النَّار والهشيم مَا يخليه اللهيب غَدا حرهم يكون كالبرق وفروعهم تصعد كالغبار وَإِن زهدوا فِي توراة رب الجيوش وَقَول قدوس الْعَالم بِهِ إِن الهاوية موعودة من أمس وَهِي أَيْضا أصلحت للملوك عمقها فأوسعها نَارا وحطبا كثيرا وَأمر الله كواد من كبريت مشتعل فِيهَا وَقَالَ ويحرقون ينظرُونَ إِلَى أجسام الْقَوْم الَّذين كفرُوا بِي إِن دودهم لَا تَمُوت ونارهم لَا تطفىء فيصيرون عِبْرَة لباقي البشريين انْتهى وَقَالَ أَيْضا فِي كِتَابه الْمَذْكُور فِي حَقِيقَة تلذذ أهل الْجنَّة لَا عين تقدر ترَاهُ إِلَّا علم الله تَعَالَى انْتهى
وَفِي الْفَصْل الثَّانِي عشر من كتاب دانيال مَا لَفظه وَكثير من الهاجعين فِي تُرَاب الأَرْض يستيقظون هَؤُلَاءِ لحياة أبدية وَهَؤُلَاء لتعيير وخزي أبدي انْتهى
وَفِي زبور النَّبِي دَاوُد ﵇ فِي المزمور السَّادِس مِنْهُ مَا لَفظه وَأَنت يَا رب فحتى مَتى عد يَا رب ونج نَفسِي وخلصني من أجل رحمتك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْتَى من ينكرك وَلَا فِي الْجَحِيم من يعْتَرف
1 / 11
لَك انْتهى وَفِي المزمور التَّاسِع مِنْهُ مَا لَفظه انتشبت الْأُمَم فِي الْفساد الَّذِي عملوه وَفِي الفخ الَّذِي أخفوه تعلّقت أَرجُلهم يعرف الرب أَنه صانع الْأَحْكَام والخاطئ بِعَمَل يَدَيْهِ يُؤْخَذ يرفع الخطاة إِلَى الْجَحِيم انْتهى وَفِي المزمور الْخَامِس عشر مِنْهُ فَرح قلبِي وتهلل لساني وجسدي أَيْضا يسكن على الرَّجَاء لِأَنَّك لَا تتْرك نَفسِي فِي الْجَحِيم وَلَا تدع ضيفك أَن يرى فَسَادًا انْتهى وَفِي المزمور الرَّابِع وَالْخمسين مَا لَفظه ليأت الْمَوْت عَلَيْهِم ولينحدروا إِلَى الْجَحِيم أَحيَاء لِأَن الشرور فِي مساكنهم وَفِي وَسطهمْ انْتهى وَفِي المزمور السَّابِع والثمانين مَا لَفظه يَا رب لِأَن نَفسِي قد امْتَلَأت شرورا وحياتي إِلَى الْجَحِيم دنت حسبت مَعَ المنحدرين فِي الْجب صرت كإنسان فَاقِد المعونة بَين الْأَمْوَات جرى كالمجرمين الراقدين فِي الْقُبُور الَّذِي يذكرهم أَيْضا وهم أقصوا من يدك وضعوني فِي جب أَسف السافلين فِي ظلمات وظلال الْمَوْت انْتهى
وَفِي وَصَايَا النَّبِي سُلَيْمَان ﵇ فِي الْفَصْل الْخَامِس مِنْهَا مَا لَفظه لِأَن أرجل الْعِبَادَة تحذر الَّذين سيعملونها وتحطهم بعد الْمَوْت إِلَى الْجَحِيم انْتهى
وَفِي الْإِنْجِيل المسيحي فِي الْفَصْل الْخَامِس مِنْهُ من الْإِنْجِيل الَّذِي جمعه مَتى مَا لَفظه وَمن قَالَ لِأَخِيهِ يَا أَحمَق فقد وَجَبت عَلَيْهِ نَار جَهَنَّم انْتهى وَفِي هَذَا الْفَصْل مَا لَفظه إِن شككتك عَيْنك الْيُمْنَى فاقلعها وألقها عَنْك فَإِنَّهُ لخير لَك أَن تهْلك أحد أعضائك من أَن تهْلك جسدك كُله فِي جَهَنَّم وَإِن شككتك يدك الْيُمْنَى فاقطعها وألقها عَنْك فَإِنَّهُ لخير لَك أَن يهْلك أحد أعصابك من أَن يذهب جسدك كُله فِي جَهَنَّم انْتهى وَفِي الْفَصْل الْعَاشِر مِنْهُ مَا لَفظه لَا تخافوا مِمَّن يقتل الْجَسَد
1 / 12
وَلَا يَسْتَطِيع أَن يقتل النَّفس خَافُوا مِمَّن يقدر أَن يهْلك النَّفس والجسد جَمِيعًا فِي جَهَنَّم انْتهى وَفِي الْفَصْل الثَّالِث عشر مِنْهُ إِن الْمَلَائِكَة يجمعُونَ كل أهل الشكوك وفاعلي الْإِثْم فيلقونهم فِي أتون النَّار حَيْثُ الْبكاء وصرير الْأَسْنَان انْتهى وَمِنْه أَيْضا مَا لَفظه هَكَذَا يكون فِي انْقِضَاء هَذَا الزَّمَان يخرج الْمَلَائِكَة ويغرزون الأشرار من وسط الأخيار ويلقونهم فِي أتون النَّار هُنَاكَ يكون الْبكاء وصرير الْأَسْنَان انْتهى وَفِي الْفَصْل الْخَامِس وَالْعِشْرين مِنْهُ مَا لَفظه حِينَئِذٍ يَقُول الَّذين عَن يسَاره اذْهَبُوا عني يَا ملاعين إِلَى النَّار المؤبدة الْمعدة لإبليس وَجُنُوده انْتهى وَفِيه أَيْضا مَا لَفظه فَيذْهب هَؤُلَاءِ إِلَى الْعَذَاب الدَّائِم وَالصِّدِّيقُونَ إِلَى الْحَيَاة المؤبدة انْتهى
وَفِي الْفَصْل التَّاسِع من الْإِنْجِيل الَّذِي جمعه مرقص مَا لَفظه فَإِن شككتك يدك فاقطعها فَخير لَك أَن تدخل الْحَيَاة وَأَنت أقطع من أَن يكون لَك يدان وَتذهب إِلَى جَهَنَّم فِي النَّار حَيْثُ دودهم لَا يَمُوت ونارهم لَا تطفأ وَإِن شككتك رجلك فاقطعها فَخير لَك أَن تدخل الْحَيَاة أعرج من أَن يكون لَك رجلَانِ وتلقى فِي جَهَنَّم فِي النَّار حَيْثُ دودهم لَا يَمُوت ونارهم لَا تطفأ انْتهى وَفِي الْفَصْل الثَّانِي عشر مِنْهُ التَّصْرِيح بِأَن الزَّنَادِقَة هم الَّذين يَقُولُونَ لَيست تكون قِيَامَة انْتهى
وَفِي الْإِنْجِيل الَّذِي جمعه لوقا فِي الْفَصْل السَّادِس عشر مِنْهُ مَا لَفظه ثمَّ مَاتَ ذَلِك الغبي وقبر فَرفع عينه وَهُوَ يعذب فِي الْجَحِيم انْتهى
وَفِيه أَيْضا ذكر الزَّنَادِقَة وهم الَّذين يَقُولُونَ لَيست قِيَامَة هَكَذَا فِي الْفَصْل الْعشْرين مِنْهُ وَفِيه أَيْضا مَا لَفظه فَأَما أَن الْمَوْتَى يقومُونَ فقد أنبأ بذلك مُوسَى انْتهى وَفِي الْفَصْل الثَّالِث وَالْعِشْرين مِنْهُ إِن الْمَسِيح قَالَ للمصلوب الَّذِي آمن بِهِ إِنَّك تكون معي فِي الفردوس انْتهى وَفِي الْإِنْجِيل الَّذِي جمعه يوحنا فِي الْفَصْل الْخَامِس مِنْهُ مَا لَفظه فَإِنَّهُ ستأتي سَاعَة يسمع فِيهَا جَمِيع من فِي الْقُبُور صَوته فَيخرج الَّذين
1 / 13
عمِلُوا الْحَسَنَات إِلَى قِيَامَة الْحَيَاة وَالَّذين عمِلُوا السَّيِّئَات إِلَى قِيَامَة الدينونة انْتهى وَفِي الْفَصْل السَّادِس عشر مِنْهُ مَا لَفظه يكون لَهُ الْحَيَاة المؤبدة وَأَنا أقيمه فِي الْيَوْم الآخر وَفِي الْفَصْل السَّابِع عشر مِنْهُ مَا لَفظه الْحق وَالْحق أَقُول لكم إِنَّه من يُؤمن بحياة دائمة انْتهى
إِذا عرفت هَذَا الْمُصَرّح بِهِ فِي الأناجيل فَهَكَذَا صرح الحواريون من أَصْحَاب الْمَسِيح فِي رسائلهم الْمَعْرُوفَة
وَالْحَاصِل أَن هَذَا أَمر اتّفقت عَلَيْهِ الشَّرَائِع ونطقت بِهِ كتب الله ﷿ سابقها ولاحقها وتطابقت عَلَيْهِ الرُّسُل أَوَّلهمْ وَآخرهمْ وَلم يُخَالف فِيهِ أحد مِنْهُم وَهَكَذَا اتّفق على ذَلِك أَتبَاع جَمِيع الْأَنْبِيَاء من أهل الْملَل وَلم يسمع عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكر ذَلِك قطّ وَلكنه ظهر رجل من الْيَهُود زنديق يُقَال لَهُ مُوسَى بن مَيْمُون الْيَهُودِيّ الأندلسي فَوَقع مِنْهُ كَلَام فِي إِنْكَار الْمعَاد وَاخْتلف كَلَامه فِي ذَلِك فَتَارَة يُثبتهُ وَتارَة يَنْفِيه ثمَّ هَذَا الزنديق لم يُنكر مُطلق الْمعَاد إِنَّمَا أنكر بعد تَسْلِيمه للمعاد أَن يكون فِيهِ لذات حسية جسمانية بل لذات عقلية روحانية ثمَّ تلقى ذَلِك عَنهُ من هُوَ شَبيه بِهِ من أهل الْإِسْلَام كَابْن سينا فقلده وَنقل عَنهُ مَا يُفِيد أَنه لم يَأْتِ فِي الشَّرَائِع السَّابِقَة على الشَّرِيعَة المحمدية إِثْبَات الْمعَاد وتقليدا لذَلِك الْيَهُودِيّ الملعون الزنديق مَعَ أَن الْيَهُود قد أنكرو اعليه هَذِه الْمقَالة ولعنوه وسموه كَافِرًا
قَالَ فِي تَارِيخ النَّصْرَانِي فِي تَرْجَمَة مُوسَى بن مَيْمُون الْمَذْكُور أَنه صنف رِسَالَة فِي إبِْطَال الْمعَاد الجسماني وَأنكر عَلَيْهِ مقدمو الْيَهُود فأخفاها إِلَّا عَمَّن يرى رَأْيه قَالَ وَرَأَيْت جمَاعَة من يهود بِلَاد الإفرنج بأنطاكية وطرابلس يلعنونه ويسمونه كَافِرًا انْتهى
1 / 14
فَهَذِهِ رِوَايَة نَصْرَانِيّ عَن طَائِفَة من الْيَهُود وَأَنَّهُمْ كفرُوا ابْن مَيْمُون ولعنوه بِسَبَب هَذِه الْمقَالة على أَن هَذَا الملعون الزنديق قد اعْترف فِي كثير من كَلَامه بالمعاد فَقَالَ فِي تأليفه الْمُسَمّى بالمشنا فِي فقه الْيَهُود إِن هَذَا الْموضع الَّذِي هُوَ جن عيذا هُوَ مَوضِع خصيب من كرة الأَرْض كثير الْمِيَاه والأثمار وسيكشفه الله للنَّاس فِي الْمُسْتَقْبل فيتنعمون بِهِ وَلَعَلَّه يُوجد فِيهِ نَبَات غَرِيب جدا عَظِيم النَّفْع كثير اللَّذَّة غير هَذِه الْمَشْهُورَة عندنَا وَهَذَا كُله غير مُمْتَنع وَلَا بعيد بل قريب الْإِمْكَان بِمَشِيئَة الله تَعَالَى ثمَّ اعْترف بذلك اعترافا آخر فَقَالَ فِي كتاب اللُّغَات فِي حرف الْعين إِن معنى هَذَا الِاسْم الَّذِي هُوَ عيذا التَّلَذُّذ والتنعم وَمِنْه سميت لذات الْآخِرَة ونعيم أنفس الصَّالِحين الكاملين جن عيذا ثمَّ قَالَ فِي هَذَا الْكتاب فِي تَفْسِير جن عيذا أَي أَن تِلْكَ هِيَ جنَّات النَّعيم وفردوس السَّعَادَة وَقد شرحوا معنى جن عيذا وماهية التَّلَذُّذ فِيهَا رجال مِمَّن وصل إِلَيْهَا وَاسْتقر فِي ظلّ غروسها وَشرب عذوبة أنهارها وَأكل من لذيذ أثمارها قَالُوا والصالحون باقون فِيهَا ليستلذوا من نور الله قَالَ وَقَالَ النَّبِي أشعيا فِي حَقِيقَة التَّلَذُّذ لَا عين تقدر ترَاهُ إِلَّا علم الله تَعَالَى انْتهى كَلَام مُوسَى بن مَيْمُون الْمَذْكُور
ثمَّ قَالَ هَذَا اللعين فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمشنا بعد اعترافه فِيهِ كَمَا حكيناه عَنهُ هَاهُنَا مَا لَفظه اعْلَم أَنه كَمَا لَا يدْرِي الْأَعْمَى الألوان وَلَا يدْرِي الْأَصَم الْأَصْوَات وَلَا الْعنين شَهْوَة الْجِمَاع كَذَلِك لَا تَدْرِي الْأَجْسَام اللَّذَّات النفسانية وكما لَا يعلم الْحُوت اصطقص النَّار لكَونه فِي حِدة كَذَلِك لَا يعلم فِي هَذَا الْعَالم الجسماني بلذات الْعَالم
1 / 15
الروحاني بل لَيْسَ عندنَا تُوجد لَذَّة غير لذات الْأَجْسَام وَإِدْرَاك الْحَواس من الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّكَاح وَمَا سمي غير ذَلِك فَهُوَ عندنَا غير مَوْجُود وَلَا نميزه وَلَا ندركه على بادئ الرَّأْي إِلَّا بعد تحذق كثير وَإِنَّمَا وَجب ذَلِك لكوننا فِي الْعَالم الجسماني فِي لذات فَلَا ندرك إِلَّا لذته فَأَما اللَّذَّات النفسانية فَهِيَ دائمة غير مُنْقَطِعَة وَلَيْسَ بَينهَا وَبَين هَذِه اللَّذَّة نِسْبَة بِوَجْه من الْوُجُوه وَلَا يَصح لنا فِي الشَّرْع وَلَا عِنْد الإلهيين من الفلاسفة أَن نقُول إِن الْمَلَائِكَة وَالْكَوَاكِب والأفلاك لَيْسَ لَهَا لَذَّة بل لَهُم لَذَّة عَظِيمَة جدا لما عقلوه من الْبَارِي ﷿ وهم بذلك فِي لَذَّة غير مُنْقَطِعَة وَلَا لَذَّة جسمانية عِنْدهم وَلَا يدركونها لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم حواس مثلنَا يدركون بهَا مَا ندرك نَحن وَكَذَلِكَ نَحن إِذا تزكّى منا من تزكّى وَصَارَ بِتِلْكَ الدرجَة بعد الْمَوْت لَا يدْرك اللَّذَّات الجسمانية وَلَا يريدها كَمَا لَا يُرِيد الْملك عَظِيم الْملك أَن ينخلع من ملكه ليرْجع يلْعَب بالكرة فِي الْأَسْوَاق وَقد كَانَ فِي زمَان مَا بِلَا محَالة يفضل اللّعب بِتِلْكَ الكرة على الْملك وَذَلِكَ فِي حِين صغر سنه عِنْد جَهله بالأمرين جَمِيعًا كَمَا نفضل نَحن الْيَوْم اللَّذَّة الجسمانية على النفسانية وَإِذا مَا بلغت أَمر هَاتين اللذتين نجد حساسة اللَّذَّة الْوَاحِدَة ورفعة الثَّانِيَة وَلَو فِي هَذَا الْعَالم وَذَلِكَ أَنا نجد أَكثر النَّاس يحملون أنفسهم وأجسامهم من الشَّقَاء والتعب مَا لَا مزِيد عَلَيْهِ كي ينَال رفْعَة يعظمه النَّاس وَهَذِه اللَّذَّة لَيست لَذَّة طَعَام أَو شراب وَكَذَلِكَ كثير من النَّاس يُؤثر الانتقام من عدوه على كثير من لذات الْجِسْم وَكثير من النَّاس يتَجَنَّب أعظم مَا يكون من اللَّذَّات الجسمانية خشيَة أَن يَنَالهُ فِي ذَلِك جَزَاء أَو حشمة من النَّاس
فَإِذا كَانَت حالتنا فِي هَذَا الْعَالم الجسماني هَكَذَا فناهيك بالعالم النفساني وَهُوَ الْعَالم المستقل الَّذِي تعقل أَنْفُسنَا من الْبَارِي فِيهِ مثل مَا تعقل الأجرام العلوية أَو أَكثر فَإِن تِلْكَ اللَّذَّة لَا تتجزأ وَلَا تتصف وَلَا يُوجد مثل تمثل تِلْكَ اللَّذَّة بل كَمَا قَالَ النَّبِي دَاوُد مُتَعَجِّبا من عظمتها مَا أَكثر وَمَا أجزل خيرك الَّذِي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك وَهَكَذَا قَالَ الْعلمَاء الْعَالم الْمُسْتَقْبل لَيْسَ فِيهِ لَا أكل
1 / 16
وَلَا شرب وَلَا غسل وَلَا دهن وَلَا نِكَاح بل الصالحون باقون فِيهِ ويستلذون من نور الله تَعَالَى يُرِيدُونَ بذلك أَن تِلْكَ الْأَنْفس تستلذ بِمَا تعقل من الْبَارِي بِمَا تستلذ سَائِر طَبَقَات الْمَلَائِكَة بِمَا عقلوا من وجوده سُبْحَانَهُ فالسعادة والغاية القصوى هِيَ الْوُصُول إِلَى هَذَا الْمَلأ الْأَعْلَى والحصول فِي هَذَا الْحَد هُوَ بَقَاء النَّفس كَمَا وَصفنَا إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ بِبَقَاء الْبَارِي جلّ اسْمه وَهَذَا هُوَ الْخَيْر الْعَظِيم الَّذِي لَا خير يُقَاس بِهِ وَلَا لَذَّة يمثل بهَا وَكَيف تمثل الدَّائِم بِمَا لَا نِهَايَة لَهُ بالشَّيْء الْمُنْقَطع وَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي نَص التَّوْرَاة لكَي يطيب لَك فِي الْعَالم الَّذِي كُله طيب ويطيل أيامك فِي الْعَالم الَّذِي كُله طائل والشقاوة الْكَامِلَة هُوَ انْقِطَاع النَّفس وتلفها وَأَن لَا تحصل بَاقِيَة وَهُوَ الْقطع الْمَذْكُور فِي التَّوْرَاة كَمَا بَين وَقَالَ انْقِطَاعًا يَنْقَطِع من هَذَا الْعَالم وَيَنْقَطِع من الْعَالم الْمُسْتَقْبل فَكل من أخلد إِلَى اللَّذَّات الجسمانية ونبذ الْحق وآثر الْبَاطِل انْقَطع من ذَلِك الْبَقَاء والعلو وَبَقِي مَادَّة مُنْقَطِعَة فَقَط وَقد قَالَ النَّبِي أشعيا إِن الْعَالم الْمُسْتَقْبل لَيْسَ يدْرك بالحواس وَهُوَ قَوْله لَا عين تقدر ترَاهُ
وَأما الْوَعْد والوعيد الْمَذْكُور فِي التَّوْرَاة فِي لذات هَذَا الْعَالم فتأويله مَا أصف لَك وَذَلِكَ أَنه يَقُول لَك إِن امتثلت هَذِه الشَّرَائِع نعينك على امتثالها والكمال فِيهَا ونقطع عَنْك العلائق كلهَا لِأَن الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ الْعِبَادَة لَا مَرِيض وَلَا جَائِع وَلَا عاطش وَلَا فِي فتْنَة فوعد بِزَوَال هَذِه كلهَا وَإِنَّهُم يصحون ويتذهنون حَتَّى يكمل لَهُم الْمعرفَة ويلتحقون بالعالم الْمُسْتَقْبل فَلَيْسَ غَايَة التَّوْرَاة إِلَّا أَن تخصب الأَرْض وتطول الْأَعْمَار وَتَصِح الْأَجْسَام وَإِنَّمَا يعان على امتثالها بِهَذِهِ الْأَشْيَاء كلهَا وَكَذَلِكَ إِن تعدوا كَانَ عقابهم أَن تحدث عَلَيْهِم تِلْكَ الْعَوَائِق كلهَا حَتَّى لَا يُمكن أَن يعملوا صَالِحَة فَإِذا تَأَمَّلت هَذَا التَّأَمُّل العجيب تَجدهُ كَأَنَّهُ يَقُول إِن فعلت بعض هَذِه الشَّرَائِع بمحبة وَفرض نعينك عَلَيْهَا كلهَا بِأَن نزيل عَنْك الْعَوَائِق والموانع وَإِن ضيعت مِنْهَا بَعْضهَا اسْتِخْفَافًا نجلب عَلَيْك مَوَانِع نَمْنَعك من جَمِيعهَا حَتَّى لَا يحصل لَك كَلَام وَلَا بَقَاء انْتهى
1 / 17
فَهَذَا خُلَاصَة كَلَام ابْن مَيْمُون الْيَهُودِيّ زنديق الْيَهُود فِي كِتَابه الْمَذْكُور سَابِقًا وَقد أوردنا لَك كَلَامه هَاهُنَا لتعلم أَنه لم يربطه شَيْء من كَلَام الله سُبْحَانَهُ يصلح دَلِيلا عَلَيْهِ بل هُوَ مُجَرّد زندقة والتوراة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَكتب سَائِر الْأَنْبِيَاء منادية بِخِلَاف ذَلِك حَسْبَمَا قدمنَا لَك وهانحن نوضح لَك فَسَاد كَلَامه هَذَا فَنَقُول
أَولا إِن حصر هَذِه اللَّذَّات النفسانية الَّتِي ذكرهَا لَا يُنَافِي حُصُول اللَّذَّات الجسمانية الَّتِي وَردت فِي كتب الله ﷿
وَقَوله وَلَيْسَت بلذة طَعَام أَو شراب هَذَا مُسلم فَإِن اللَّذَّات النفسانية لَيست بلذة طَعَام وَلَا شراب وَلَكِن من أَيْن يلْزم أَنه لَا لَذَّة طَعَام وشراب وَنَحْوهمَا فِي تِلْكَ الدَّار الْآخِرَة
فَإِن كَانَ بِالشَّرْعِ فَكتب الله ﷿ جَمِيعهَا ناطقة بِخِلَاف ذَلِك كَمَا قدمنَا ذَلِك فِي كتب الله ﷿ وَفِي الْقُرْآن الْعَظِيم مِمَّا يكثر تعداده وَيطول إِيرَاده وَهُوَ لَا يخفى مثله على أحد من الْمُسلمين الَّذِي يقرأون الْقُرْآن لبلوغه فِي الْكَثْرَة إِلَى غَايَة يشْتَرك فِي مَعْرفَتهَا المقصر والكامل وَإِن كَانَ بِالْعقلِ فَلَيْسَ فِي الْعقل مَا يَقْتَضِي إِثْبَات اللَّذَّة النفسانية وَنفي اللَّذَّة الجسمانية بل لَا مدْخل لِلْعَقْلِ هَاهُنَا وَلَا يتعول عَلَيْهِ أصلا
وَإِن كَانَ لَا يعْتَبر عقل وَلَا شرع بل لمُجَرّد الزندقة والمروق من الْأَدْيَان كلهَا والمخالفة لما ورد فِي كتب الله سُبْحَانَهُ فبطلان ذَلِك مستغن عَن الْبَيَان
وَأما قَوْله كَمَا قَالَ النَّبِي دَاوُد مُتَعَجِّبا من عظمتها مَا أَكثر
1 / 18
وَمَا أجزل خيرك الَّذِي خبأته للصالحين الطائعين لأمرك فَهَذَا عجب مِنْهُ ﵇ من كَثْرَة خير الله سُبْحَانَهُ وجزالة مَا خبأه للصالحين من عباده الطائعين لأَمره فِي الدَّار الْآخِرَة وَهُوَ دَلِيل على الملعون لَا لَهُ فَإِن كَلَامه هَذَا هُوَ ككلام سَائِر أَنْبيَاء الله فِي استعظام مَا أعده الله للصالحين من عباده كَمَا قَالَ نَبينَا ﷺ (فِي الْجنَّة مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر) وَمثله فِي الْقُرْآن الْكَرِيم فِي قَوْله تَعَالَى ﴿فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين﴾
وَأما قَوْله وَهَكَذَا قَالَ الْعلمَاء الْعَالم الْمُسْتَقْبل لَيْسَ فِيهِ لَا أكل وَلَا شرب إِلَى آخِره فَيُقَال لَهُ إِن أردْت عُلَمَاء الْملَّة الْيَهُودِيَّة فهم الَّذين لعنوك وكفروك بِسَبَب هَذِه الْمقَالة كَمَا قدمنَا وهم جَمِيعًا يخالفونك ويثبتون الْمعَاد الجسماني وَاللَّذَّات الجسمانية ويكفرون من لم يثبتها كَمَا كفروك ويلعنونه كَمَا يلعنوك وَإِن أردْت عُلَمَاء الْملَّة النَّصْرَانِيَّة فهم متفقون بأسرهم على إِثْبَات الْمعَاد الجسماني وَإِثْبَات اللَّذَّات الجسمانية والنفسانية فِيهِ وَكَيف يُخَالف مِنْهُم مُخَالف فِي ذَلِك والانجيل مُصَرح بِهَذَا الاثبات تَصْرِيحًا لَا يبْقى عِنْده ريب لمرتاب
وَإِن أردْت عُلَمَاء الْملَّة الإسلامية فَذَلِك كذب بحت وزور مَحْض فَإِنَّهُم مجمعون على ذَلِك لَا يُخَالف مِنْهُم فِيهِ مُخَالف ونصوص الْقُرْآن من فاتحته إِلَى خاتمته مصرحة بِإِثْبَات الْمعَاد الجسماني وَإِثْبَات تنعم الْأَجْسَام فِيهِ بالمطعم وَالْمشْرَب والمنكح وَغير ذَلِك أَو تعذيبها بِمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْقُرْآن من تِلْكَ الْأَنْوَاع الْمَذْكُورَة فِيهِ وَهَكَذَا النُّصُوص النَّبَوِيَّة المحمدية مصرحة بذلك تَصْرِيحًا يفهمهُ كل عَاقل بِحَيْثُ لَو جمع مَا ورد فِي ذَلِك مِنْهَا لجاء مؤلفا بسيطا
وَأما استدلاله بقوله فِي التَّوْرَاة لكَي يطيب لَك فِي الْعَالم الَّذِي كُله طيب ويطيل أيامك فِي الْعَالم الَّذِي كُله طائل فَهَذَا دَلِيل على الملعون لَا لَهُ
1 / 19
فَإِن الْخطاب فِي الدُّنْيَا لمجموع الشَّخْص الَّذِي هُوَ الْجِسْم وَالروح وَظَاهره أَنه يكون لَهُ هَذَا على الصّفة الَّتِي خُوطِبَ وَهُوَ عَلَيْهَا وَأَنه يحصل لَهُ جَمِيع مَا يتلذذ بِهِ من اللَّذَّات الجسمانية والنفسانية وَمن ادّعى التَّخْصِيص بِبَعْض الشَّخْص أَو بِبَعْض اللَّذَّات فَهُوَ يَدعِي خلاف الظَّاهِر وَلَكِن المحرف المتزندق لَا مقصد لَهُ إِلَّا التلبيس على أهل الْأَدْيَان
وَكَذَلِكَ قَوْله وَقد قَالَ النَّبِي أشعيا أَن الْعَالم الْمُسْتَقْبل لَيْسَ يدْرك بالحواس وَهُوَ قَوْله لَا عين تقدر ترَاهُ فَإِن هَذَا هُوَ مثل مَا قدمنَا من كَلَام الْأَنْبِيَاء فِي استعظام مَا عِنْد الله لِعِبَادِهِ الصَّالِحين فِي الدَّار الْآخِرَة
وَبِهَذَا تعرف أَنه لم يكن فِي كَلَام هَذَا الملعون الزنديق مَا يتَمَسَّك بِهِ متمسك أَو يغتر بِهِ مغتر بل هُوَ خلاف مَا فِي كتب الله جَمِيعًا كَمَا قدمنَا وَخلاف مَا عِنْد عُلَمَاء الْملَل بل خلاف مَا أقرّ بِهِ فِي كَلَامه السَّابِق إِقْرَارا مكررا
فيا عجبا لمن يتَمَسَّك بِمثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي لم يجر على نمط مِلَّة من الْملَل وَلَا وَافق نصا من نُصُوص كتب الله سُبْحَانَهُ وَلَا نصا من نُصُوص رسل الله جمعيا ويجعله مَا وَردت بِهِ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل ويجزم بِهِ ويحرره فِي كتبه مظْهرا أَن الشَّرِيعَة المحمدية جَاءَت بِمَا لم يكن فِي الشَّرَائِع السَّابِقَة زاعما أَن ذَلِك دَلِيل على كمالها مبطئا مَا أبطنه هَذَا الزنديق ابْن مَيْمُون الْيَهُودِيّ كَمَا فعل ذَلِك ابْن سينا وَتَبعهُ بن أبي الْحَدِيد فِي شرح النهج بِكُل جاور مَا قَالَه هَذَا إِلَى مَا هُوَ شَرّ مِنْهُ فَقَالَ إِن التَّوْرَاة لم يَأْتِ فِيهَا وعد ووعيد يتَعَلَّق بِمَا بعد الْمَوْت وَهَذِه فِرْيَة على التَّوْرَاة وَجحد لما فِيهَا وتحريف لما صرحت بِهِ فِي غير مَوضِع كَمَا قدمنَا بعض ذَلِك وَكَذَلِكَ زعما أَن الْمَسِيح وَإِن صرح بالقيامة فقد جعل الْعَذَاب روحانيا وَكَذَلِكَ الثَّوَاب وَهَذَا أَيْضا كذب مَحْض وَقد قدمنَا مَا يفيدك ذَلِك ويطلعك على كذبهما وَالْعجب أَن ابْن مَيْمُون الْيَهُودِيّ
1 / 20
لم يتجاسر على مَا زعماه من أَن التَّوْرَاة لم يَأْتِ فِيهَا وعد ووعيد يتَعَلَّق بِمَا بعد الْمَوْت بل أثبت ذَلِك وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِالتَّوْرَاةِ كَمَا عرفت من كَلَامه السَّابِق المتضمن لاعْتِرَافه ولمخالفته فِي إِثْبَات اللَّذَّات الجسمانية فَإِن قلت قد جَاءَ عَن الصابئة وَعَن جمَاعَة من المتعلقين بمذاهب الْحُكَمَاء مَا يُوَافق كَلَام ابْن مَيْمُون الْمَذْكُور قلت لسنا بصدد الرَّد على كل كَافِر ومتزندق بل بصدد الْكَلَام على مَا جَاءَت بِهِ رسل الله ونطقت بِهِ كتبه واتفقت عَلَيْهِ الْملَل المنتسبة إِلَى الْأَنْبِيَاء المقتدية بكتب الله وَرُسُله دفعا لما وَقع من الْكَذِب البحت والزور الْمَحْض مِمَّن يزْعم الْمُخَالفَة بَينهَا وَبَين مَا جَاءَت بِهِ الشَّرِيعَة المحمدية فأوضحنا أَن ذَلِك مُخَالف للملة الْيَهُودِيَّة وَلما جَاءَت بِهِ التَّوْرَاة وَمَا قَالَه عُلَمَاء الْيَهُود ومخالف لما جَاءَت بِهِ الْملَّة النَّصْرَانِيَّة وَلما جَاءَ بِهِ الانجيل وَمَا قَالَه عُلَمَاء النَّصَارَى ومخالف أَيْضا لما جَاءَ بِهِ أَنْبيَاء بني إِسْرَائِيل وَمَا نطقت بِهِ كتبهمْ حَسْبَمَا قدمنَا ومخالف ملا كَانَ من الْأَنْبِيَاء الْمُتَقَدِّمين على بعثة مُوسَى كَمَا يَحْكِي ذَلِك مَا تضمنته التَّوْرَاة من حِكَايَة أَحْوَالهم وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا كَانُوا يدينون بِهِ وكما يَحْكِي ذَلِك عَنْهُم الْقُرْآن الْكَرِيم فَإِن فِيهِ مَا يُفِيد مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَمَا كَانُوا يدينون بِهِ وَمَا قَالُوا لقومهم وَمَا وعدوهم بِهِ من خير وَشر بل فِيهِ مَا يُفِيد مَا كَانَ عَلَيْهِ أهل الْكتب الْمُتَأَخِّرَة من الْبعْثَة لمُوسَى وَمن بعده وَمَا كَانُوا يدينون بِهِ كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ حاكيا عَن الْيَهُود ﴿وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة إِلَّا من كَانَ هودا أَو نَصَارَى﴾ وَقَوله تَعَالَى ﴿يَا بني إِسْرَائِيل اعبدوا الله رَبِّي وربكم إِنَّه من يُشْرك بِاللَّه فقد حرم الله عَلَيْهِ الْجنَّة ومأواه النَّار﴾ وَقَوله حاكيا عَن مُوسَى إِلَى فِرْعَوْن ﴿وَيَا قوم إِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم يَوْم التناد﴾ إِلَى قَوْله ﴿وَإِن الْآخِرَة هِيَ دَار الْقَرار﴾ إِلَى قَوْله ﴿فَأُولَئِك يدْخلُونَ الْجنَّة يرْزقُونَ فِيهَا بِغَيْر حِسَاب﴾
1 / 21
وَقَوله ﴿إِذْ قَالَ الله يَا عِيسَى إِنِّي متوفيك ورافعك إِلَيّ ومطهرك من الَّذين كفرُوا وجاعل الَّذين اتبعوك فَوق الَّذين كفرُوا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ إِلَيّ مرجعكم فأحكم بَيْنكُم فِيمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون فَأَما الَّذين كفرُوا فأعذبهم عذَابا شَدِيدا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَمَا لَهُم من ناصرين وَأما الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فيوفيهم أُجُورهم﴾
وَقَالَ ﴿بل تؤثرون الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة خير وَأبقى إِن هَذَا لفي الصُّحُف الأولى صحف إِبْرَاهِيم ومُوسَى﴾
ونصوص الْقُرْآن الحاكية عَن الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَسَائِر الْملَل مثل هَذَا كَثِيرَة جدا وَلَا يَتَّسِع الْمقَام لبسطها وَقد بعث النَّبِي ﷺ وَأهل الْملَّة الْيَهُودِيَّة والنصرانية فِي أَكثر بقاع الأَرْض وبلغهم مَا حَكَاهُ الْقُرْآن عَن أَنْبِيَائهمْ من إِثْبَات الْمعَاد وَإِثْبَات النَّعيم الجسماني والروحاني وَلم يسمع عَن أحد مِنْهُم أَنه أنكر ذَلِك أَو قَالَ هُوَ خلاف مَا فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل وَقد نزل أَكثر الْقُرْآن على النَّبِي ﷺ فِي الْمَدِينَة وَكَانَ الْيَهُود متوافرين فِيهَا وَفِيمَا حولهَا من الْقرى الْمُتَّصِلَة بهَا وَكَانُوا يسمعُونَ مَا ينزل من الْقُرْآن وَلم يسمع أَن قَائِلا مِنْهُم قَالَ للنَّبِي ﷺ إِنَّك تحكي عَن التَّوْرَاة مَا لم يكن فِيهَا من الْبعْثَة وَمَا أعده الله فِي الدَّار الْآخِرَة من النَّعيم للمطيعين وَالْعَذَاب للعاصين وَقد كَانُوا يودون أَن يقدحوا فِي النُّبُوَّة المحمدية بِكُل مُمكن بل كَانُوا فِي بعض الْحَالَات يُنكرُونَ وجود مَا هُوَ مَوْجُود فِي التَّوْرَاة كالرجم فَكيف سكتوا عَن هَذَا الْأَمر الْعَظِيم وَهل كَانُوا يعجزون أَن يَقُولُوا عِنْد سماعهم لقَوْله تَعَالَى ﴿قَالُوا لن تمسنا النَّار إِلَّا أَيَّامًا معدودات﴾ مَا قُلْنَا هَذَا وَلَا نعتقده وَلَا جَاءَت بِهِ شَرِيعَة مُوسَى
وَهَكَذَا عِنْد سماعهم لقَوْله تَعَالَى ﴿وَقَالُوا لن يدْخل الْجنَّة﴾
1 / 22