لعل من غير الإنصاف أن نشير إلى أن قراءة انتقائية لأدبيات علم الأنثروبولوجيا لا يمكن أن تدعم مثل هذه التبسيطات، وتحول آلاف الثقافات «البدائية» عبر العالم وعلى مدى آلاف السنين إلى أنماط مثالية؛ فانتقاء روايات أخرى، كالروايات الأنثروبولوجية المذكورة في الفصل الثاني، من شأنه الكشف عن المزيد من الطرق المتنوعة والمعقدة على نحو هائل للاتصاف بالإقليمية؛ ولكن هدف ساك لا يكمن في بلوغ دقة إثنوجرافية عملية بقدر ما يكمن في مقارنة البدائية بصورة مميزة من حداثة ما بعد البدائية. وهنا تبدأ القصة الحقيقية، مع الأحداث المدمرة التي ميزت التحول من البدائية إلى التحضر، والدور الحاسم الذي لعبته الإقليمية في التعجيل بهذه التحولات.
التحضر
ما معنى أن تكون متحضرا أو أن تتحدث عن نظام اجتماعي بوصفه يحمل علامات التحضر؟ التحضر في نموذج ساك يعني تبوء نظام اقتصادي سياسي أكبر، وأكثر تجردا، وأكثر طبقية مما يتبوءه البدائيون. وانطلاقا من نموذج افتراضي للعمليات التي ظهرت بواسطتها الحضارات الكائنة (في مقابل العمليات التي قدمت بواسطتها «الحضارة» من الخارج وفرضت على الشعوب الأصلية)، يطلب منا ساك أن نتخيل مجموعة من المجتمعات البدائية المستقلة والمترابطة في الوقت نفسه وهي تمارس تبادلا تجاريا فيما بينها. على مدار الوقت تبدأ المجتمعات المختلفة في التخصص في إنتاج سلع تجارية معينة. وعلى الرغم من وجود عدد من النظريات التي تفسر الزيادة المتخيلة في الإنتاج في هذه الاقتصادات التجارية التي لا تزال بدائية، فإن ثمة حدثا محوريا من منظور ساك، وهو ظهور طبقة كهنوتية وما يترتب على ذلك من ظهور التقسيم الطبقي الاجتماعي؛ فالكهنة أو وكلاؤهم يتحكمون في فائض الإنتاج ويتولون عملية تخزينه وتوزيعه واستهلاكه؛ مما يعجل بتدهور المساواة الأكثر أو الأقل تبادلية المميزة للمجتمعات البدائية؛ ومن هنا يمكن لعملية التحضر أن تكتسب زخمها أو منطقها، وهذا يمكن أن يتبع عددا من المسارات المختلفة. وتتمثل العناصر الأساسية لهذه العملية في زيادة مركزية السلطة (التي ربما تكون محلية في مدينة بدائية)، والتمدن، ونشأة وترسخ طبقة من التجار، وأخيرا هيمنة المجتمعات الفرعية التابعة الواقعة بالقرب من المركز. والإقليمية الآن في طريقها لأن تلعب دورا مهما في «إدارة» المناطق الدافعة للجزية؛ مما يترتب عليه ظهور هياكل مميزة للحكم في الدولة، فتفرض المناطق الإدارية والسلطات المرتبطة بها على المنتجين القرويين والمجتمعات المحلية. ويأتي مع التحضر أيضا نوع من الإقليمية العمودية. والنقطة المهمة بشأن هذه المرحلة الوسيطة للتنظيم الاجتماعي، بالنسبة إلى نظرية ساك، هي أن التحولات في تاريخ الإقليمية لا يمكن فصلها عن التغيرات في تاريخ السلطة، لا سيما الأهمية المتزايدة لعلاقات السلطة المجردة. ومما يحويه هذا النموذج على نحو ضمني، دون تناوله صراحة، التغيرات الملازمة في تقنيات التواصل (الكتابة ومحو الأمية) والتقنيات القمعية.
الرأسمالية
من بين عشرات حضارات ما قبل الحداثية، «أوجدت واحدة فقط منها الرأسمالية والدولة الحديثة» (ص78). وكانت هذه هي حضارة أوروبا الغربية ما قبل الحداثية. الشيء الجديد والمهم هنا هو أنه في ظل الحداثة التي صدعتها الرأسمالية، نرى أن:
الاستخدام المتكرر والواعي للإقليم كأداة لتعريف، واحتواء وقولبة شعب مفكك وأحداث ديناميكية، يؤدي إلى شعور بحيز مجرد وقابل للإخلاء؛ فهو يجعل المجتمع يبدو مصطنعا، ويجعل المستقبل يبدو على نحو جغرافي كعلاقة ديناميكية بين الناس والأحداث من جانب، والقوالب الإقليمية على الجانب الآخر. هذا من شأنه أن يجعل الحيز يبدو وكأنه الشيء الوحيد المرتبط عرضيا بالأحداث (ص78).
مرة أخرى تعرض آليات هذا التحول العالمي التاريخي بأسلوب واضح وصريح؛ فهي متأصلة في التغيرات التي تطرأ على الظروف المادية، والسيطرة على الإنتاج، وأجهزة الهيمنة. والسلطة المتزايدة للتجار والبلترة (عملية الوصول إلى الوضع البوليتاري) التدريجية للعمل هي العمليات التوليدية. ومما يحظى بأهمية طاغية الأساليب التي يرغم بها المنتجون على المشاركة في اقتصاد السوق، الذي يجري التحكم فيه من قبل طبقة الرأسماليين الناشئة ولأجلهم، وعن هذا يكتب ساك قائلا: «تتمثل إحدى الوسائل التي يسيطر بها رأس المال التجاري في «تجريد» الفلاحين من الأرض حتى يتمكنوا من دخول السوق، مع ضمان عدم امتلاكهم خيار العودة إلى معيشة الكفاف أو المعيشة التقليدية حال فشل التجارة» (ص79).
على مدار الأجيال التالية حدث تحول حاد من الأسر باعتبارها الوحدة الأساسية ومركز التجارة إلى إنشاء المصانع التي لم يعد فيها للعمال أي سيطرة (ملكية) على وسائل الإنتاج (الأدوات)، وكانت تضبط وتنظم على نحو متزايد بمفهوم متري جديد للوقت. وأدى الفصل بين العمل والمنزل، بدوره، إلى تقسيم إقليمي معمق لمعظم جوانب الحياة الاجتماعية، وأهمية متزايدة للمؤسسات البيروقراطية الهرمية. هذه هي قصة ظهور العوالم الحياتية المفرطة الأقلمة المرتبطة بالحداثة، ومن بين العناصر الأخرى التي يذكرها ساك نشأة الدولة الليبرالية وأيديولوجياتها التسويغية للحيادية والحرية، وزيادة في حركة الأشخاص والأشياء، والدور الاجتماعي الأكثر بروزا للعلم والتقنيات الإبداعية. كذلك يرتبط العلم بعهد ساده التقدير الكمي والتجريد اللذان أوجدا بدورهما طرقا جديدة لإدراك المكان والزمان والإقليم. وأدى التوسع الجغرافي، من خلال الاستعمارية والإمبريالية، للقوى السياسية التي وجدت في البداية في أوروبا؛ إلى تيسير العولمة الافتراضية لهذا التنظيم الاجتماعي المكاني الجديد. وبالطبع لم يعد العالم إلى ما كان عليه مرة أخرى مطلقا؛ فمن خلال المنطق السياسي الاقتصادي الثقافي للرأسمالية ورد إلى العالم المنطق الإقليمي المميز للحداثة، الذي لا يزال يكشف عن نفسه في صورة تحولات وتغيرات متنوعة حول العالم. ومما يحظى بأهمية خاصة الطرق التي تستخدم بها هذه المفاهيم والممارسات الحديثة على نحو مميز الإقليم لعزل وتجميع وإخلاء وإشغال الحيز الاجتماعي.
من الممكن بسهولة فهم هذا الفصل خطأ باعتباره محاولة لإجراء رصد دقيق للخبرة الإنسانية الجماعية على مدى 7000 عام في بضع صفحات؛ ولكن مرة أخرى، بينما قد تفترض درجة معينة من الصحة للحقائق الإثنوجرافية والتاريخية، فإن الدقة من جانب ما خارج الموضوع. إن هدف ساك في الحقيقة لا يتمثل في إخبارنا كيف وصلنا إلى حيث نحن اليوم بقدر ما يتمثل في توضيح جوانب الإقليمية (أو جوانب نظريته) مثلما قد ترى من منظور الموضوعاتية للتغيير والاستمرارية. إن الهدف هو مقاومة الميول نحو عزل الإقليمية عن العمليات الاجتماعية وعن العلاقات الاجتماعية المتغيرة؛ فلا يهم كثيرا، بدرجة ما أو بأخرى، إن كانت القصة دقيقة (بالطبع هي كذلك، وبالطبع لا يمكن أن تكون كذلك). بل ينبغي تقييمها وفقا لدورها المؤثر في الكشف عن شكل العالم أو التعتيم عليه، وكيف قد يسهم الإقليم في هذا. (2-4) دراسات حالة
الفصول الرابع والخامس والسادس من كتاب «الإقليمية البشرية» عبارة عن دراسات حالة تفصيلية؛ فكل منها يتتبع آليات الإقليم في مجال محدد من الحياة الاجتماعية على مدى فترات زمنية طويلة، مفسرا الموضوعات الأكثر تجريدية المقدمة في الفصول الثلاثة الأولى. ويصف الفصل الرابع جوانب مهمة من الإقليمية في التاريخ الطويل للمسيحية المؤسساتية، وعلى الأخص الكنيسة الرومانية الكاثوليكية؛ فيناقش ساك الممارسات المسيحية الأولى وقتما كانت مستمرة إلى حد كبير مع تلك الخاصة باليهودية في مكان وزمان ظهور المسيحية. وعرض كيف تغيرت الممارسات الإقليمية مع ازدياد هرمية الكنيسة، ومع تزايد قوة ارتباط نفوذ الكهنة والأساقفة بالبنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات. ومع اعتناق الإمبراطورية الرومانية للمسيحية، عملت البنية الإقليمية للأسقفيات والأبرشيات كنموذج من نوع ما للسلطة الدينية السياسية للكنيسة. ويتطرق ساك إلى العمليات التي سرت من خلالها الإقليمية بفعل انهيار الإمبراطورية، وبفعل الإقطاع واحتضاره البطيء، وبفعل عصر الإصلاح، وأخيرا بفعل تحولها الأحدث نحو البيروقراطية.
ناپیژندل شوی مخ