وهذا ليس فقط في سياق عمليات الأقلمة الدولية؛ فالحداثة ذاتها عادة ما تتميز عن الصياغات الاجتماعية الأخرى بوجود أشكال أخرى أكثر تعميما من التنقل، والحركة، والتداول. وحركات التنقل الداخلية بين المدن المرتبطة بتغيير المسكن، وتقسيمة العمل/المنزل/الاستهلاك التي تلزم معظم الناس في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، بخوض حياتهم اليومية ممزقين بين عدد من الاختصاصات والولايات السياسية؛ تجعل علاقتهم بالإقليم على العكس تماما من هؤلاء الذين تسير حياتهم داخل هياكل إقليمية أقل تعقيدا وتشرذما. وقد يسرت توليفة التجزئة الاجتماعية، والتشرذم الإقليمي، والتحول التقني ظهور نظم «فرط التنقل» التي أسفرت، بدورها، عن علاقات مختلفة جوهريا مع الإقليم؛ فقد لا يكون للفرد حق التصويت إلا في مجموعة فرعية محدودة من الوحدات المحددة إقليميا التي توزع بينها لحظات الحياة اليومية أو الأسبوعية للفرد، وربما لا تكون هذه الحقوق في الإقليم هي الأكثر أهمية؛ فملايين الأمريكيين، على سبيل المثال، يعيشون ويعملون في ولايات مختلفة، وثمة بلديات كثيرة بها أشخاص يعملون أو يتسوقون فيها أكثر ممن يعيشون داخلها. في الوقت ذاته، قد تكون الحكومات المحلية المحددة إقليميا قد قلصت على نحو كبير من السلطة أو الرقابة على ما يحدث داخل حدودها. والبلدات أو القرى الريفية، التي تمر بها طرق حرة، قد يكون ب «داخلها»، في أي لحظة، أشخاص لم يسمعوا قط عن المكان الذي يوجدون فيه أكثر ممن لديها من سكان مقيمين. (5-3) الإقليم والتأويل
كما ناقشت فيما سبق، تتضمن الإقليمية بالضرورة إضفاء معان - من أنواع مختلفة - على المساحات المحددة، على الحدود والتخوم، على اجتياز الخطوط الفاصلة. وهذه المعاني قد لا تكون محددة بوضوح؛ فغالبا ما تكون ضمنية أو مفترضة؛ فالفرد ليس مضطرا لتعليق لافتة «ابتعد» على باب شقته ليكون لديه توقع منطقي بأن الغرباء - أو أقرب المقربين - لن يدخلوا دون دعوة. وفي السياقات الشخصية قد يعبر عن المعاني الخاصة بإقليم ما (بمعناه المستخدم من قبل علماء الاجتماع وعلماء النفس البيئي؛ انظر الفصل الثاني) شفهيا، أو ربما من خلال وضعية الجسد، غير أن المعاني المرتبطة بالعديد من أشكال الإقليم الحديث غالبا ما تكون مبنية على النص؛ فالثقافة الحديثة - أي الثقافة الكتابية، أو الثقافة القانونية - تتسم بأنها ثقافة «لافتات». وكما ستثبت الخبرة المشتركة بسهولة، فإن العديد من اللافتات غير التجارية التي يصادفها المرء يكون علامات مميزة للإقليم؛ فاللافتة تنقل أوامر السلطة بشأن ما قد نفعله، أو لا بد أن نفعله، أو لا بد ألا نفعله في المساحات اللامتناهية التي تشكل بيئاتنا الاجتماعية المادية.
ممنوع التجاوز.
ممنوع الانتظار.
الدخول إلى مدفيل: مطلوب رخصة بائع متجول.
منطقة مدارس: يحظر استخدام منتجات التبغ.
لا تقدم الخدمة في حالة عدم ارتداء القميص والحذاء.
وما إلى ذلك. أحيانا ما تكون عواقب إغفال اللافتة مشارا إليها أيضا («غرامة 50 دولارا»)، وأحيانا ما يحمل الأمر معه لمحة من جوازه («قوانين ماساتشوستس العامة، صفحة 266، الفقرة 120»). هل هناك ما هو أوضح من ذلك؟ إن لافتة «ابتعد» تعني ابتعد وإلا ف «ستعاني عواقب سيئة». ولافتة «للموظفين المخولين فقط» تجعلك على علم بأنك إذا لم تكن تعد من بين «المخولين»، فمحظور عليك أن تتجاوز عتبة المكان. وبالتأكيد لا يوجد ثمة غموض في المعاني والمدلول العملي للافتة «للبيض فقط» أو «الدخول إلى الولايات المتحدة». وإذا كانت إحدى الوظائف المفترضة للإقليم هي توضيح وتبسيط المعاني الاجتماعية للمكان، فهذه الأمثلة تفي بالغرض على ما يبدو.
علاوة على ذلك، يكون للعديد من المعاني المرتبطة بالإقليم الحديث مرجعية في نصوص أخرى؛ فقد يكون كم المعنى الذي تحمله له جذور في وثائق قانونية من نوعيات متعددة، وهذه الوثائق بدورها قد يعود مرجعها إلى القواعد التي تفسر بمقتضاها النصوص القانونية المختلفة. ونظرا لكونها نصوصا «قانونية»، فإن مرجعها هو الدولة وقدراتها الإلزامية. وقد تستمد معاني الإقليم، أو أقاليم بعينها، من المعاهدات، والاتفاقيات الدولية، والدساتير، والتشريعات القانونية، واللوائح، ومراسيم السلطة، والمستندات، وقوانين العمل، ونصوص أخرى لا تحصى. وأي إقليم يمكنه الاعتماد على هذه النوعيات من النصوص لاشتقاق جزء من معناها. ولمزيد من الدقة، يمكن اشتقاق معاني أي إقليم حديث أو مجمع إقليمي من عدة نصوص. وفي منتصف القرن العشرين كان شائعا للغاية لدى ملاك العقارات والأراضي من البيض في الولايات المتحدة إنشاء مناطق عرقية مستثناة باستخدام عقود خاصة؛ فكان المشاركون يوافقون على عدم تأجير أو بيع أملاكهم ل «الزنوج» لفترة زمنية محددة؛ 25 أو 50 عاما في العادة (ديلاني 1998). وقد كانت هذه الأقاليم القائمة على الإقصاء (والطرد) أيضا تمنح كل مالك «حقوقا» فيما يتعلق بالممتلكات الأخرى في الإقليم، وقد أقيمت عشرات الدعاوى القضائية التي تتحدى وتدافع عن هذه المساحات ذات الطابع العنصري. وقد اعتمدت التأويلات المتنازعة على حالات سابقة ومبادئ وأحكام دستورية وبيانات سياساتية لإضفاء معنى قانوني على الأقاليم. ووفقا لما ساد من بين هذه التأويلات المتناقضة (بين القضاة البيض)، من الممكن تعزيز، أو تعديل، أو محو الأقاليم تأويليا. وفي الولايات المتحدة، يستخدم قانون الملكية، والقانون البيئي، وقانون التفتيش والمصادرة، والقانون الهندي، والقانون الجنائي، وقانون اللجوء، وقانون السجون، وما إلى ذلك، في تفسير الأقاليم لعدد لا يحصى من المرات كل يوم. وثمة دول قومية أخرى لديها مؤسسات وممارسات مشابهة تخضع من خلالها الأقاليم للتأويل؛ فقد يكون إقليم بسيط ظاهريا هو المرجعية المكانية لمجموعة بالغة التعقيد من «المعاني» القائمة على النص. ونظرا لهذا التعقيد، قد تكون حتى ما يبدو أنها المعاني الأكثر وضوحا مفتوحة لعمليات تأويل وإعادة تأويل متباينة. وإذا كانت الأقاليم تنقل معاني، فلا بد أن تكون هذه المعاني «مقروءة»، والأهم من ذلك أنه في العديد من السياقات الاجتماعية الحديثة، قد تكون إعادة التأويل أو إعادة القراءة الاستراتيجية للمعاني المتضمنة داخل الأقاليم استراتيجية خطيرة للغاية لإعادة هيكلة آليات السلطة. وقد ذكرت في موضع سابق من هذا الفصل قضية الولايات المتحدة ضد أوليفر، التي أعاد فيها أغلبية قضاة المحكمة الأمريكية العليا تأويل مساحة معزولة ذات ملكية خاصة ك «نطاق مفتوح» لأغراض عمليات التفتيش المصرح بإجرائها دون الحصول على إذن من جانب الشرطة. يمكن فهم القضية باعتبارها نتاجا لصراع بين مؤيدي «القانون والنظام» والتحرريين المدنيين؛ ونتيجة للقرار، تقلصت إقليمية الخصوصية وتعزز النطاق المكاني للعمليات الشرطية؛ فإعادة توزيع السلطة محسومة، سواء أكان مالك العقار أو الأرض مسجونا أم لا.
والإشارة إلى نصوص قانونية ومعان محددة تربط الأماكن محل النقاش بشكل إقليمي ذي طابع مؤسسي للسلطة؛ ذلك الشكل المرتبط بالدولة. فالكثير من أقاليم الحياة الاجتماعية الحديثة ذات الشكل النصي - من مناطق التجارة الحرة نصف الكروية، إلى أراضي المعسكرات في المتنزهات المملوكة للدولة، إلى مناطق سحب السيارات المخالفة بالأوناش - يتم إنشاؤه على نحو مباشر عن طريق الجهات الفاعلة التابعة للدولة. ثمة أقاليم أخرى عديدة، كتلك التي تعود جذورها إلى امتيازات الملكية الخاصة، على الرغم من كونها منشأة على يد عناصر «خاصة» مفترضة مثل الملاك أو المديرين، فإنها بحاجة إلى التصريح لها، والتصديق عليها، وتنفيذها من قبل الجهات الفاعلة التابعة للدولة. وهكذا فإن لافتة «ممنوع التجاوز» تحمل معاني أكثر بكثير من مجرد الابتعاد؛ إنها تحمل معها المعنى الضمني الأساسي الذي يفيد بأنه في حالة عدم امتثال أحد للرسالة، فإن المالك أو المدير قد يستفيد من ميزة عنف الدولة لتنفيذ مزاعمه بالخصوصية واقتصار ملكية المكان عليه. وجميع الأقاليم الحديثة تقريبا، بطريقة ما أو بأخرى، تشير ضمنا إلى علاقات معقدة للسلطة تشمل - أو يمكن إعادة تأويلها لتشمل في مرحلة ما - تلك المرتبطة بالدولة البيروقراطية (المحلية، أو دون القومية، أو القومية). وأي إقليم تقريبا يحتل موضعا في نقطة التقاطع لعدد مفتوح من النصوص القانونية فيما يتعلق بما يضفي عليه «معنى»؛ لذا فإن أي إقليم حديث قابل للتأويل والتفسير، وربما يكون مفتوحا لمجموعة من التأويلات المتباينة. ولن تكون جميع هذه التأويلات منطقية أو مقبولة بالقدر نفسه لدى المفسرين المعتمدين، ولكن هذه أيضا قضية تتحدد وفقا لتوزيع السلطة. (5-4) الإقليم والعمودية
ناپیژندل شوی مخ