شهد القرن التاسع عشر نشأة جمعيات أخلاقية، وهي التي ظهرت في أوروبا والولايات المتحدة. وفرت تلك الجمعيات إطارا يمكن للناس من خلاله مناقشة المسائل الأخلاقية والاشتراك في نشاط أخلاقي، مثل العمل الخيري والبرامج الاجتماعية والتعليمية. كان أعضاء تلك الجمعيات مفكرين أحرارا، يشجعون على النقاش المفتوح حول المسائل الأخلاقية والدينية. ورغم أن كثيرا من تلك الجمعيات وصفت نفسها بأنها «دينية»، فإنها لم تكن دينية غالبا إلا من منطلق أنها أخذت على عاتقها التزاماتها الأخلاقية بجدية، وكان الإيمان بوجود إله اختياريا. وقد قال فيلكس أدلر (1851-1933)، مؤسس جمعية نيويورك للثقافة الأخلاقية في عام 1876: «إن الثقافة الأخلاقية دينية لأصحاب العقلية الدينية، وهي أخلاقية فحسب لمن لا يمتلكون تلك العقلية.» وأول جمعية أخلاقية بريطانية - جمعية ساوث بليس الأخلاقية، الموجودة حتى يومنا هذا - تأسست رسميا في عام 1888، بعد أن خرجت من رحم كنيسة توحيدية. وسرعان ما تبعتها جمعيات أخلاقية بريطانية أخرى عديدة.
تحولت مختلف الجمعيات الأخلاقية التي ظهرت في القرن التاسع عشر إلى إحدى الركائز الأساسية للحركة الإنسانوية الحديثة. في عام 1896، تجمعت الجمعيات الأخلاقية البريطانية معا لتشكل اتحاد الجمعيات الأخلاقية، الذي أعيدت تسميته في عام 1967 ليكون الرابطة الإنسانوية البريطانية. وفي عام 1952، أصبح الاتحاد الأخلاقي الأمريكي، وهو منظمة جامعة لمختلف الجمعيات الأخلاقية بالولايات المتحدة، عضوا مؤسسا في الاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي، وهو الجهة التي تمثل الآن الحركة الإنسانية العالمية. (9) القرن العشرون
في كثير من الدول إبان النصف الثاني من القرن العشرين، أصبحت الإنسانوية جزءا من الاتجاه السائد. ففي أوروبا، تراجع الدين على نحو كبير؛ فعلى سبيل المثال، تشير استطلاعات الرأي أنه في نهاية القرن العشرين، تبنى حوالي 36٪ من البريطانيين معتقدات وقيم الإنسانوية والرابطة الإنسانوية البريطانية. وعلى مستوى أغلب أوروبا، أمكن التعبير عن المعتقدات الإلحادية أو الإنسانوية دون كبير خوف من التبعات.
كان كثير من مفكري القرن العشرين البارزين من الإنسانويين؛ وفيهم برتراند راسل، الذي كان لكتابه «لماذا لست مسيحيا؟» تأثير بالغ. وفي نهاية القرن العشرين، زعم عدد قليل نسبيا من الفلاسفة أن الأخلاق تتطلب أساسا إلهيا من نوع ما (في الواقع، أشارت نتيجة استطلاع حديث أن 14,6٪ فحسب من الفلاسفة مؤلهون). وأبرز الأخلاقيين اليوم وأبلغهم تأثيرا، وهو بيتر سنجر، إنسانوي.
إبان القرن العشرين، زادت صعوبة تمييز الدين الذي يمثله كثير من علماء اللاهوت وغيرهم من المفكرين الدينيين؛ إذ إنه من الأسهل بكثير توصيف تدينهم من منطلق ما ليس عليه لا من منطلق ما هو عليه. وفي الواقع، يصعب تمييز معتقدات بعض علماء اللاهوت المتطورين عن معتقدات بعض الإنسانويين.
لكن على مستوى الدينيين في العالم، تلك الأفكار اللاهوتية المتطورة هي الاستثناء لا القاعدة؛ إذ الأصولية الدينية هي السائدة. ففي الولايات المتحدة، تشير استطلاعات الرأي باستمرار إلى أن حوالي ثلث المواطنين يؤمنون بصحة كل ما جاء في الكتاب المقدس؛ ومن ثم بأن عمر الكون بضعة آلاف من السنوات فقط. والملحدون من أقل الأقليات المؤتمنة بالولايات المتحدة؛ إذ أشارت دراسة وطنية إلى أن الملحدين هم أبعد أقلية يسمح الأمريكيون لأبنائهم بالزواج منها. وقالت دوروثي إدجيل، قائدة فريق الدراسة السابقة التي أجرتها جامعة مينيسوتا: «يبدو أن نتائجنا تقوم على نظرة للملحدين مفادها أنهم أفراد لا يهتمون إلا بذواتهم ولا يكترثون بالصالح العام.» فينبغي تناول المفاهيم الخاطئة حول ماهية معتقدات الإنسانويين والتمييز الذي يعانون منه نتيجة لتلك المفاهيم، حتى داخل أكبر الديمقراطيات الليبرالية في العالم.
وحتى في كثير من الدول الليبرالية، تحظى المعتقدات الدينية بوضعية متميزة ترعاها الدولة، ولا تزال المعركة تدور من أجل إتاحة تكافؤ فرص بين الدينيين واللادينيين. ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تمول الدولة المدارس الدينية التي بمقدورها التمييز بين كل من هيئة التدريس والطلاب على أساس معتقداتهم الدينية. ويلزم القانون كل مدرسة تمولها الدولة في إنجلترا وويلز بأن تبدأ كل يوم بشعيرة من شعائر العبادة الجماعية، ويجب أن تكون «ذات محتوى مسيحي الطابع على نحو كلي أو رئيسي.»
وفي كثير من البلدان حول العالم، أن يخرج أحدهم عن الدين الذي ولد عليه فإنه يخاطر بنبذه اجتماعيا أو ما هو أسوأ. المسلمون المرتدون يعدمون في السعودية وإيران والصومال وقطر واليمن وموريتانيا. وفي مالاوي ونيجيريا، يدين القساوسة المسيحيون الأطفال لممارستهم السحر، ويعاقبونهم بالضرب والتعذيب، وأحيانا القتل في مراسم طرد الأرواح الشريرة. ونتيجة لممارسات جماعات الضغط الدينية، تنظر أوغندا في إنزال عقوبة السجن مدى الحياة لتكون الحد الأدنى لعقوبة ممارسة الجنس المثلي. وفي بقاع كثيرة من العالم، ينتشر التعصب الديني ولا تزال المعركة من أجل الحقوق والحريات الأساسية دائرة.
وعلى كلا الصعيدين المحلي والعالمي، ثمة عدد ضخم من القضايا المهمة، وأحيانا البالغة الأهمية بالنسبة إلى الإنسانويين؛ قضايا تواصل المنظمات الإنسانوية - مثل الرابطة البريطانية الإنسانية، ومركز البحث، والجمعية الإنسانوية الأمريكية، والاتحاد الإنسانوي الأوروبي، والاتحاد الإنسانوي والأخلاقي الدولي - تنظيم الحملات من أجلها.
عادة ما يكون الإنسانويون إصلاحيين. وكثيرا ما تضعهم آراؤهم في موقف المواجهة مع الدينيين - ولا سيما المتحفظين منهم - حول قضايا مثل تحديد النسل وحقوق المثليين من الجنسين، وحقوق المرأة، وحقوق الأطفال، وحرية التعبير، ووضع نهاية لحظوة الدين. ويرجع ذلك إلى أن ما يعارضه الإنسانويون في كثير من الأحيان (لكن ليس دائما) متجذر في التقاليد والمؤسسات الدينية ويحظى بتبرير ديني.
ناپیژندل شوی مخ