كان داروين يكرر كلمة مألوفة بين أصدقائه هي «معدتي الملعونة» والترجمة السيكلوجية لهذه الكلمة هي: أريد أن أقعد وأتكاسل وأفكر ولا يساعدني على هذه الحال إلا معدة ملعونة تزكيني وتسوغ لي الكسل والتفكير والتأليف.
وهذا الكسل من أعجب صفات داروين، وهو صفة المريض النيوروزي الذي يكره النشاط ويرفض المعالجة لأي عمل؛ لأنه يخشى النقص؛ أي: لأنه يخشى أن يقصر عن التمام، فقد بقي داروين نحو ثلاثين سنة وهو يفكر في التطور، ولكنه لا يخرج كتابه عنه ولا يكتب مقالا، ثم حدث حادث أزعجه فانتفض منه، هو أن وولاس كان في بعض الجزر التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا يجمع الأزهار والحشرات ويحنطها ويبعث بها إلى الجمعيات العلمية، وكان مشغولا بالموضوع نفسه؛ أي: التطور، وكان يعرف أن داروين مشغول به أيضا فأرسل إليه رسالة علمية يشرح فيها رأيه في هذا الموضوع، وصعق داروين إذ وجد أن وولاس قد سبقه إلى تعليل التطور بأن الطعام قليل في الطبيعة، وأن التوالد كثير بين أنواع الحيوان والنبات، فلا بد أن يكون هناك تزاحم؛ أي: مسابقة من أجل الطعام، وفي هذا التزاحم أو المسابقة لا يبقى غير الأقوى الأصلح للبقاء.
وسارع داروين إلى إبلاغ الهيئات العلمية في إنجلترا عن رسالة وولاس، وشرع هو أيضا يؤلف كتابه «أصل الأنواع»، ونستطيع أن نتخيل داروين في حزنه ونزاهته معا، ولكن وولاس بعد ذلك بسنين اعترف بأن العالم كسب ولم يخسر بتزعم داروين لهذه النظرية؛ لأنه كان أوفى منه معرفة وأنصع بيانا وأدق منطقا.
وأخرج داروين كتابه «أصل الأنواع» في 1859 فتغيرت الرؤية والرؤيا البشريتان.
وكثير من النظريات التي غيرت التفكير البشري تبدو غاية في السهولة والبساطة، حتى ليتساءل الناس: كيف جهل السالفون هذه النظرية على وضوحها؟
فإن داروين يتحدث عن الحمام والكلاب وغيرها مما يربيه الناس وكيف استطاعوا أن يخلقوا العشرات والمئات من السلالات الجديدة، وما استطاعه الإنسان في مئات السنين القليلة قد استطاعته، وأكثر منه الطبيعة في ملايين السنين الماضية، حتى أخرجت الأنواع فضلا عن السلالات، فهناك في الغابات والبحار والجبال والسهول إنتاج محدود من الطعام، ولكن هناك توالد يتضاعف بين الحيوان والنبات ولا يمكن أن يكفي الطعام هذه الملايين بل ملايين الملايين من النبات والطعام، فلا بد إذن من أن تتنازع الأفراد لأجل البقاء؛ أي: لأجل الحصول على الطعام، وقد يكون السبب للتفوق في هذا التنازع ثم البقاء خفيا، هو كما في النفس الأخير في صراع يدوم الساعات، أو في القدرة على الجوع أو العطش، أو في طرق الحماية للنسل، أو في القدرة على التطفل، أو في الجرأة والبطش.
وما دام كل فرد يولد مختلفا عن الآخر في الحيوان والنبات، فإن هذا الاختلاف ينطوي بلا شك على ميزة أو عجز، فهو يساعد في الحال الأولى على البقاء والانتصار في معركة الحياة، وهو يهيئ له الهزيمة في الحال الثانية، ولا نعرف الأسباب لهذا الاختلاف، ولكننا نشاهده ونعلم به، ولذلك لا بد أن يستمر التغيير جيلا بعد جيل، فإذا تراكمت التغيرات أحدثت السلالات الجديدة، وإذا زاد الاختلاف بين السلالات ظهرت الأنواع الجديدة.
وعلى هذا يجب أن نسلم بأن الأحياء؛ نباتا وحيوانا، ليس الآن كما كانت قبل مليون أو مئة مليون سنة؛ لأنها دائمة التغير والتطور، وليس الاستقرار والثبات طبيعة الأحياء؛ لأن التغير والتطور هما طبيعتها، ونستطيع أن نستنتج أنه ما دام لنا تاريخ ماض في التطور فسوف يكون لنا تاريخ قادم أيضا تتغير فيه الأحياء.
وهذا هو المغزى الخطير الذي انتهى إليه قراء داروين، وهو أن الحياة في بوتقة لم تتجمد قط، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصرها ومركباتها، وهذا هو التوجيه الجديد الذي سدد داروين عقولنا إليه، ونحن في بداية هذا التوجيه الذي يخشى كثير منا مغزاه؛ لأنه يحمل في طياته مشروعات بشرية خطيرة.
لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور ونجح إلى حد ما في هذا التعليل، ولكنه لم ينجح كل النجاح، وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق، وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع، تنازع البقاء، وحال بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
ناپیژندل شوی مخ