ومتى نحن سلمنا بأن الفن هو صورة المجتمع، وهو المرآة التي تعكس صورته، لم نعجب قط بأن نرى أمثال هذا النوع من الفن يطل برأسه على الناس، لا سيما عقب انتهاء حربين عالميتين فظيعتين، تلك الحروب الهائلة التي صبغت الدنيا بالدماء وبالفظائع، والتي لا بد لها أن تؤثر على الناس وتجر وراءها أمثال هذه النتائج والمخلفات المحزنة.
ويدلنا التاريخ أنه كلما كانت الإنسانية في طور من الازدهار والنضج أتت بالآثار الفنية الرائعة وبالعباقرة الذين يقربون الأرض من السماء ويدنون من الآلهة، وعندما تنحط البشرية وتنحدر ويصيبها المرض تغور في الأعماق وتغرق في الأوحال، وتقرب من الجحيم، لا سيما عندما يكثر فيها محترفو السياسة وتجار الأسلحة والدماء، ويتعاون الجزارون والسماسرة والفريسيون وزعماء الهيكل فهناك الكارثة.
الفصل السادس
مما لا ريب فيه أن الفن هو «بارومتر» المجتمع، وهو المقياس الذي يدلنا عن حالة الأمم وعن صحتها وعن نفسيتها ووضعها الاجتماعي والفكري.
وليس في ذلك غرابة، فالإنسانية من الإنسان وما ينطبق عليه يصح فيها من مرض وعافية وجمود وحركة وثورة وركود ورصانة وجنون، إلى آخر ما يعتري الإنسان، ومن سوء حظنا أننا نعيش اليوم في عصر باتت فيه الإنسانية بحالة مرض وجنون، وبحالة مادية مخيفة تكاد تقتل الإنسان، ومن يتأمل حالة الفنون جملة يراها الصورة الصحيحة لهذا الواقع المؤلم.
جلس سليم يوما يفكر بكل هذا، ثم ينظر إلى مواطنيه وإلى تبلبل ثقافتهم من جهة، وإلى تهالكهم على المادة دون الاستفادة منها، وإلى الإثراء دون إثراء الفكر والروح وأثره في حياتهم الاجتماعية، ثم ينظر إلى المتاجرين الذين ينحرون الفن والفكر، ويقتلون الذوق في المهد في سبيل ربح دريهمات ومظاهر شخصية مضحكة، وكنفشات صبيانة يسخر منها الفن، هذا الفن الذي يهدف إلى أجواء رفيعة فإذا به يلطخ بالأوحال، ويستثمر في أخس الأمور وأحط الأشياء ويصبح مهنة مبتذلة للارتزاق، وقد قال الفنان العظيم رودن: «الفن الصحيح يسخر من الفن المزيف كما تسخر البلاغة من الثرثرة.»
الفصل السابع
جلس سليم يفكر ويوازن بين هذه الأمور، فإذا بنفسه الأبية تنفر من هذه الصور البشعة والتمثيليات الرخيصة المضحكة، فيقرر الاعتزال عن هذا المجتمع المريض ويعمل للفن، كما عمل من سبقه من الفنانين المخلصين، ورأينا كيف بالنتيجة مات التجار وخلد المخلصون.
ولم يترك سليم الميدان انهزاما، فهو قام بقسطه من العمل على أتم وجه، فخلف تلامذة ولوحات كثيرة في كل مكان، وأعلن عن ذلك في الصحف والمجلات، ينذر بها عن انهيار الفن لانحرافه عن طريقه السوي، ولم يترك وسيلة لإسماع صوته إلا قام بها فأرضى ضميره وسجل ما يجب أن يعلم أمام التاريخ.
وبينما كان يسير ذات يوم غارقا في أحلامه تائها في صحراء تمنياته وآماله، يعيش طورا في الماضي وطورا في الحاضر ثم يقفز به الخيال للمستقبل، يود بالنتيجة لو أنه يجعل الناس هنا يشعرون بالجمال ويحبون الفن ويشاركونه بلذائذهما، فإذا هم بعدها أشبه بالملائكة، فلا غل ولا حسد ولا خلاف ولا شغب ولا أنانية ولا رياء، وتصبح بالتالي أرض بلاده جنة النعيم والفردوس المقيم.
ناپیژندل شوی مخ