جواب آخر: وهو أن الصحابة سألوا الرسول عليه السلام: هل نرى ربنا ؟ فقال: نعم ولا يجوز أن يكون سؤالهم: هل نعلم ربنا أو يعلمنا ربنا؛ فبطل قول من يحمل الرؤية على العلم، ولهذا أجاب صلى الله عليه وسلم: سترونه كما يرى القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب وكما ترى الشمس ليس دونها سحاب يعني لا تشكون في رؤيته كما لا يشك من رأى القمر والشمس فيها، فشبه الرؤية بالرؤية في نفي الشك عن الرائي، ولم يشبه المرئي بالمرئي. فاعلم ذلك.
فصل
في ذكر الأجوبة عن آيات يحتجون بها، وأخبار، وشبه في نفي الرؤية.
فإن احتجوا بقوله تعال: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " قالوا: فأخرج ذلك مخرج التمدح، كما تمدح بقوله تعالى: " بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد " فكيف يجوز أن يزول عن مدحته، فالجواب عن هذه الآية من وجوه عدة: أحدها: أن يقال لهم: ما أنكرتم على قائل يقول لكم، لا حجة لكم في ذلك، لأن التمدح إنما وقع في قوله تعالى: " وهو يدرك الأبصار " لأن كون الشيء لا يدرك بالأبصار لا يدل على مدحه، ألا ترى المعدوم لا تدركه الأبصار، ولا يوجب كون ذلك مدحة له، وكذلك عندكم العطور والروائح وأكثر الأعراض لا تدرك بالأبصار، وليست بممدوحة، لأنها لا تدركها الأبصار.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون متمدحا بأنه يدرك الأبصار وأنها لا تدركه ؟ قيل لهم: لأن للوصفين الذين يتمدح بهما لا بد أن يكون في كل واحد منهما مدح بمجرده نحو قوله تعالى: " عزير حكيم " و" عليم قدير " فكل واحد من الوصفين مدح في نفسه، تجدد أو انضم إلى غيره، ولما لم يكن كون المعدوم غير مدرك بالبصر مدحا له عندنا وعندكم بطل ما قلتم.
جواب آخر: وهو أن نقول الآية حجة عليكم وذلك قوله: " وهو يدرك الأبصار " فحسب، وإنما أراد أنه يدرك جميع المرئيات، فأثبت تعالى أنه يرى الأشياء لأنه موجود، قادر على الرؤية، وسائر الأشياء الموجودة التي يجوز أن ترى، لكن تمدح تعالى بأن كل راء يجوز أن يرى، لكن هو تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الإدراك له، بأن يحدث في أبصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته؛ فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق، فصار هذا بمنزلة تمدحه تعالى بكونه محييا مميتا، أي لا يقدر على ذلك غيره، وإن جاز أن يميت الحي ويحيي الميت، فكذلك لا يمدح تعالى بأن يحدث مانعا في البصر من الإدراك، وإن جاز أن يزيل ذلك المانع حتى نراه تعالى بلا كيف، ولا شبه، ولا تحديد. فاعلم ذلك.
جواب آخر: وهو أن المعتزلة لا يصح لهم الاحتجاج بهذه الآية؛ لأن عند البصريين منهم أنه لم يعن بالإدراك الرؤية، لأن البصر عندهم عرض؛ فلا يدرك عند البغداديين منهم: أنه تعالى لا يرى شيئا، إنما المراد بالإدراك العلم، فهو يعلم الأبصار عندهم، والأبصار لا تعلمه، فبطل احتجاج الجميع منهم بهذه الآية، لأن عندهم لا يراد بالإدراك الرؤية، فلا يصح لهم الاحتجاج بها في نفي الرؤية.
جواب آخر: وهو أن الآية لا حجة فيها، لأنه قال: " لا تدركه الأبصار " ولم يقل لا تراه الأبصار، والإدراك بمعنى يزيد على الرؤية، لأن الإدراك: الإحاطة بالشيء من جميع الجهات، والله تعالى لا يوصف بالجهات، ولا أنه في جهة، فجاز أن يرى وإن لم يدرك، وهذا كما قال تعالى في قصة اللعين فرعون: " حتى إذا أدركه الغرق " يعني أحاط به من جميع جوانبه، فالغرق لا يوصف بأنه يرى، وإنما يوصف بأنه أحاط بالشيء. كذلك المؤمن يوصف بأنه يرى ربه ولا يدركه بالإحاطة، وهذا كما نقول: إنا نعلم ربنا، ولا نقول إنا نحيط بربنا، فكما كانت الإحاطة معنى يزيد على العلم كذلك الإدراك معنى يزيد على الرؤية، وهذا صحيح. لأنا نجمع بين قوله تعالى: " فاعلم أنه لا إله إلا الله " وبين قوله: " ولا يحيطون به علما " ونجمع بين قوله تعالى: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " وبين قوله تعالى: " لا تدركه الأبصار " فنقول: معلوم ولا يحاط به، ومرئي ولا يدرك. فصح ما قلناه، وبطل قول الغير.
جواب آخر: أن معنى الآية لا تدركه الأبصار في الدنيا، وإن جاز أن تدركه في الآخرة، ليجمع بين قوله تعالى: " لا تدركه الأبصار " وبين قوله تعالى: " إلى ربها ناظرة " .
مخ ۷۱