دليل آخر على ذلك: وهو أن من قرأ القرآن وهو جنب أو امرأة حائض مع علمها بتحريم ذلك أنهما قد عصيا وفعلا ما لا يجوز لهما، ولو تهجى الجنب والحائض حروف الهجاء من أولها إلى آخرها لم يعصيا بذلك، فعلم بذلك أن الحروف غير كلام الله تعالى، وإنما هي آلة يكتب بها كلام الله تعالى ويتلى بها كلامه، وليست نفس كلامه. ويدل على ذلك أيضا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال في جواب مسائل سأله عنها اليهود فقال: إن الله تعالى كلم موسى عليه السلام بلا جوارح، ولا أدوات، ولا حروف، ولا شفة، ولا لهوات، سبحانه عن تكيف الصفات. وأيضا ما روى عن علي عليه السلام أنه سئل هل رأيت ربك ؟ وكان السائل له دعبل فقال في جوابه: لم أعبد ربا لم أره. فقال له كيف رأيته ؟ قال: لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ، بل رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويحك يا دعبل ! إن ربي لا يوصف بالبعد وهو قريب ولا بالحركة، ولا بقيام، ولا انتصاب، ولا مجئ، ولا ذهاب، كبير الكبراء لا يوصف بالكبر، جليل الأجلاء لا يوصف بالغلظ، رؤوف رحيم لا يوصف بالرقة، آمر لا بحروف، قائل لا بألفاظ، فوق كل شيء ولا يقال شيء تحته، وخلف كل شيء، ولا يقال شيء قدامه، وأمام كل شيء، ولا يقال له أمام، وهو في الأشياء غير ممازج ولا خارج منها كشيء من شيء خارج، " تبارك الله رب العالمين " لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصورا، ولو كان من شيء لكان محدثا.
ويدل عليه قول شيخ طبقة التصوف الجنيد رحمه الله؛ فإنه قال: جلت ذاته عن الحدود، وجل كلامه عن الحروف، فلا حد لذاته، ولا حروف لكلامه. ويدل عليه أيضا ما حدث به أبو بكر النقاش في تفسيره عن آدم بن أبي إياس قال: رأيت في يد بكر بن خنيس كتابا فزدت فيه حرفا أو نقصت منه حرفا: فقال لي بكر بن خنيس: يا آدم من أمرك أن تفعل هذا ؟ أما علمت أن الله تعالى لما خلق الألف انتصبت قائمة، فلما خلق الباء اضجعت، وقيل للألف لم انتصبت قائمة ؟ قالت: انتظر ما أومر. وقيل للباء لم اضجعت ؟ قالت: سجدتي لربي. فقال بكر فأيهما أجل ؟ الذي فعل ما لم يؤمر به يعني الباء سجدت ولم تؤمر بالسجود أو الذي انتظر ما يؤمر يعني الألف. قال آدم بن أبي إياس فكأنه فضل الألف على الباء ودلالة هذا على وجهين: أحدهما: أنه صرح في هذا بخلق الألف والباء.
والثاني: أنه فضل الألف على الباء، والقديم لا يجوز أن يفضل بعضه على بعض، ولا يوصف بالأبعاض وإنما الذي يبعض ويحدد تلاوة القديم لا نفس الكلام القديم: وأيضا ما ذكره في تفسيره بإسناد رفعه إلى كعب الأحبار أنه قال: إن أول ما خلق الله تعالى من الحروف الباء: ويقال كانت الألف والسين حرفين كاملين فرفعت السين فرفع الله الألف عليها.
وأيضا ما روى عن عبد الله بن سعيد أنه قال: عرضت حروف المعجم على الرحمن تعالى وتقدس وهي تسعة وعشرون حرفا فتواضع الألف من بينهما فشكر الله تعالى له فجعله قائما، وجعله أمام اسمه الأعظم يعني الله، فإنه لم يسم به غيره ويدل عليه أيضا: أن حروف التوراة مخالفة لحروف الفرقان في الهيئة والصورة والعدد، لأن حروف التوراة حروف عبرانية، وكذلك القول في حروف الإنجيل والمقروء بالكل منهما وإن اختلفت الحروف شيء واحد، لا يختلف ولا يتغير.
وأيضا فإن الحروف تحتاج إلى مخارج، فحرف الشفة غير حرف اللسان، وحرف الحلق غيرهما، فلو كان تعالى يحتاج في كلامه إلى الحروف لاحتاج إلى المخارج وهو منزه عن جميع ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون.
وأيضا فإن الحروف متناهية معدودة، وكلام الله تعالى قديم لا مفتتح لوجوده ولا نهاية لدوامه كعلمه، وقدرته، ونحو ذلك من صفات ذاته. وقد أكد تعالى ذلك بغاية التأكيد، وأن كلامه لا يدخله العد والحصر والحد، بقوله تعالى: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا " وقال: " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله " فأخبر تعالى في هاتين الآيتين أنه لا نهاية لكلامه. إذ كل ماله نهاية له بداية، وإنما تتصور النهاية في حق من يتصور في حقه البداية. وبالجملة أن من خالف في هذا فلا أراه أهلا للكلام معه، لأنه ينكر ما قد علم ضرورة ويكابر الحس ويعاند الحق، وفي هذا القدر كفاية ومقنع.
مسألة
مخ ۳۷