ولما فض الظرف وجد فيه صورة فوتوغرافية لطفل حالما رآه أدرك أنه ابنه.
وبينما هو في ذلك إذ جاءت محفظة البريد كالعادة فوضعوها على المكتب في غرفة المطالعة وذهبوا، وأتى هو إلى الغرفة في الصباح فرأى المحفظة فلم يفتحها لئلا يكون فيها ما يسوءه. وفي الغداء لم يذق من الطعام قليلا لكنه أكثر من التدخين، فلما جاء الغروب وانقبضت الطبيعة لفراق الشمس حمله حب الاطلاع على فتح المحفظة، وقد أنيرت المصابيح فوق المكتب ففتحها وقلب ما فيها من الظروف، فرأى بينها ظرفا عليه ختم مناستير، وحالما وقع نظره على العنوان تسارعت دقات قلبه لأنه بخط القادين ج، فأخذ في فتحه ويده ترتجف من التأثر، ولما فضه وجد فيه صورة فوتوغرافية لطفل عار ليس عليه من الثياب إلا ملاءة بيضاء ووجهه يضحك كالملاك، فحينما رآه أدرك أنه ابنه، فلم يستطع التفرس فيه طويلا فقلب الورقة ليخفي الصورة عن عينيه، فرأى على ظهرها كتابة هذا نصها:
هذه يا ظالم صورة ابنك الذي كنت تتعمد قتله وقتل والدته خوفا من أن يكون وجوده شؤما يذهب بدولتك، فها هو ذا قد وجد وأمه حية في مكان لا يصل إليه سلطانك. فاعلم أن تنجيم المنجمين قد صدق، ولم يبق لك في السيادة مأرب من هذه الساعة. تب إلى الله وارجع.
ولم يكد يتم القراءة حتى اختلجت أعضاؤه، فاستلقى على كرسي طويل تعود أن ينام عليه أحيانا، واستغرق في أفكاره وراجع تاريخ حياته وما مر بها من الأهوال، وكم قتل من الأنفس وأنفق من الأموال في سبيل حفظ سيادته والمحافظة على حياته، وكان معوله على الجند فأصبح الجند ضده ولم يعد ماله ينفعه.
ومازال في أمثال هذه الهواجس وقد أخذ التعب منه مأخذا عظيما، فغلب عليه النعاس ونام، فتوالت عليه الأحلام المزعجة، فتراءت له القادين ج تحمل طفلها على ذراعها وتقول له: «هذا هو ابني وابنك، فقد أفل نجم سعدك، دع الملك لأهله.» ثم تراءى له أن البوسفور قد جف ماؤه وانكشف قاعه، وقد نبتت جثث القتلى بين صخوره كالأسفنج، وكل أسفنجة تشبه واحدا من قتلاه قد حملق بعينيه فيه، وأخيرا رأى مدحت عائدا من الطائف يدرج على الأرض جثة بلا رأس، حتى وصل إلى باب القصر فإذا برأسه قد تدحرج من مخبئه واستقر على الجثة بين الكتفين، وأخذ في توبيخه فذكره بأمور كانت بينهما لا يعرفهما سواهما، فأجفل واستيقظ، ثم عاد فنام وعادت إليه الأحلام.
وما زال في ذلك إلى الصباح وقد استيقظ على صوت الحاجب جاء ينبئه بقدوم الباشكاتب لأمر عظيم فأمر بإدخاله، فدخل وفي يده رسالة جمعية الاتحاد والترقي في مناستير تطلب الدستور، فدفعها إلى السلطان فحالما فتحها وقرأها لم يستغربها لأنها أقل مما كان يتوقعه على أثر تلك الوساوس. وكان يخاف أن يأتي الأحرار إليه فاتحين، فيقع في خطر القتل وهو يبذل كل شيء في سبيل بقائه حيا، فإذا هم يطلبون الدستور فقط بعبارة لطيفة جدا، فأحس بضعفه وعزم على الإجابة لكنه دعا وزراءه وذوي شوراه وأخذ يباحثهم.
ولم يكن الأحرار يشكون في إجابة طلبهم ولذلك كانوا فرحين، وفي مقدمتهم الفدائيون والأبطال المحاربون أمثال نيازي وأنور. أما رامز فإنه كان منغصا لفقد شيرين.
كان طهماز قد فر من الفندق خوفا من وشاية خريستو بعد خروجه، لعلمه أنه من حزب رامز وأن هذا له عصبة قوية من جمعية الاتحاد والترقي في مناستير، فرجع بشيرين إلى سلانيك، وسبقه صائب إلى هناك، وعاد إلى التردد والتزلف إلى شيرين ولم يخبرها أحد ببقاء رامز حيا. وما زال صائب يطاولها حتى خاف فوز الأحرار بعد مقتل شمسي والقبض على عثمان وإرسال البرقية إلى القصر بطلب الدستور، وشعر بأنه لم يبق له عيش، فألح على أبيها أن يعقد له عليها ليسافر بها. فاستخدم طهماز سلطانه الأبوي وخاطبها بلهجة صاحب السلطة الوالدية وفصل لها مزايا صائب باشا وما يرجوه من النعم على يده، وأن رامزا صار ترابا، فلم تزدد إلا رفضا فقال لها: «إن السلطة لي وحدي في تزويجك. وغدا يأتي القاضي ليعقد عقدك على صائب باشا، إذ لا يجوز أن نخسر بسبب جنونك صهرا مثل هذا.»
وكانت قد تعبت من تكرار الرفض وملت الجدال، وقد أخذ الهزال منها مأخذا عظيما، وأيقنت بموت رامز وكرهت الحياة، فلما خاطبها أبوها بهذه اللهجة سكتت لكنها أعدت خنجرا ماضيا خبأته تحت أثوابها، وعزمت إذا لم تجد لها نجاة أن تقتل صائبا وتنتحر.
أما خريستو فما زال يقتص الآثار حتى علم أنهم في سلانيك، فجاءها في صباح اليوم المعين لعقد القرآن، فلما علم بقرب العقد والسفر سارع إلى إرسال برقية إلى رامز بأن صائبا هناك ليأتي سريعا. وهو مع ذلك يعلم أن رامزا يستحيل عليه الوصول إلى سلانيك قبل صباح الغد إذ يكون قد قضي الأمر، ولكنه فعل ما يمكنه، وهو لا يستطيع الدخول إلى المنزل للوصول إلى صائب. وأخيرا عزم على المخاطرة بحياته، فاقتنى مسدسا خبأه بين أثوابه، وجاء قبل ميعاد العقد بساعتين، وجعل يترقب الفرص للدخول إلى المنزل، فرأى القاضي داخلا ومعه شاهدان، فأراد أن يدس نفسه معهم فرفسه أحد الشاهدين رفسة ألقته على الأرض. فاستغرب خريستو اهتمام ذلك الشاهد به وارتاب في أمره، فدار من جهة النافذة لعله يقدر أن يصوب المسدس من هناك فلم يجد منفذا. فرأى أن يخبر شيرين على الأقل ببقاء رامز حيا لعل ذلك ينعشها ويساعدها، فكتب كلمتين على ورقة وذهب إلى الجيران وكان يعرف خادمهم وبينهما صداقة متينة، فسلم إليه الورقة ليوصلها إلى شيرين حيثما تكون.
ناپیژندل شوی مخ