ضحكت فؤادة وردت: خلاص يا زكي بقيت شيوعي؟
فانفجر الجميع بالضحك، وأخرج زكي زجاجة ثانية من الشامبانيا. - أنا معاكي يا فؤادة إحنا مش حنحرر الفقرا هما يحرروا أنفسهم بأنفسهم وإحنا نحرر أنفسنا بأنفسنا، ابدأ بنفسك كما قال رسول الله، تحيا الحرية.
ورفع الجميع كئوسهم إلى أعلى، يتخللها ضوء القمر، متكسرا فوق السائل الشفاف، تلك الليلة أكمل الطلاب والطالبات سهرتهم في الفندق، لكن فؤادة انسحبت إلى غرفتها، كانت تشعر بالحزن ، بحرمان غامض من الحب، الرجل الذي يمكن أن يهز قلبها غير موجود؟
نسيت جابور وعبد الجليل وجميع من عرفتهم من قبل، لم تلتق الرجل الذي تحلم به.
من هو هذا الرجل؟ هل له وجود أم حلم؟ ليس هو ماجد أحمد يقينا ولا زكي ولا أحدا من الطلبة أو الأساتذة. دخل ماجد غرفته قرب الفجر بعد السهرة في الفندق، أصابته الشمبانيا بنشوة وشجاعة، فكر أن يسير إلى غرفة فؤادة ويدق بابها، تخيل أنه رأى بريق الحب في عينيها وهي في جواره في القارب، أتنتظره في غرفتها؟
ثم عاد إلى رشده بعد أن خلع ملابسه، نظر إلى جسده في المرآة، بدا جسده العاري ضئيلا هزيلا، وخصوصا القفص الصدري، ضلوعه نحيفة بارزة، صدره ليس عريضا كما تقتضي الرجولة، العمود الفقري مقوس قليلا عند لوحي الكتف، عيناه باهتتان لا يطل منهما بريق، ابتلع لعابا مرا مع فقدان الثقة بنفسه، صعد إلى السرير الناعم الوثير، داعب النوم عينيه المحمرتين من أثر الشامبانيا، امتدت أصابعه المخدرة قليلا تداعب الشيء أسفل بطنه، حركة تعودها منذ الطفولة، انتفض بعد لحظات عدة انتفاضات باللذة الحادة السريعة، ثم سقط في النوم العميق.
الصالة واسعة فيها أريكة فاخرة بيضاء تقابل التلفزيون الكبير المنتصب فوق قطعة أثاث عريق، خشب أسود مشغول برسوم ذهبية، الأريكة والكراسي من الطراز نفسه، خشب يشتد سوادا ولمعانا في جوار الأغطية والجدران الأنيقة الناصعة البياض، ثلاث غرف كبيرة للنوم والأكل والمكتب، المطبخ كبير فيه كل الأدوات الحديثة، والحمام واسع أبيض الجدران، كامل التجهيز وكل شيء في مكانه، السرير كبير، ملوكي الحجم من بطن التاريخ العريق، يتسع لإمبراطورة وزوجها الإمبراطور لا عمل لهما إلا الأكل والجنس، كل منهما يزن مائتي كيلو غرام، يتحركان من غرفة النوم إلى غرفة الطعام فوق عربة تجرها الخيول، أغلقت جفونها تنشد النوم، تتشمم عطر الملاءات البيضاء الجديدة، تدفن وجهها في نعومة الوسادة الحانية، تسيل دموعها وحدها من بين الجفون، حزن قديم غامض منذ الطفولة، فرح جديد أكثر غموضا، شدة التعب أو شدة الراحة، أو الاثنان معا، لا يكشف لذة الراحة إلا ألم التعب، في الصباح جاءت إلى شقتها «مارلين» طالبة جامعية في الثالثة والعشرين، تم تعيينها مرافقة لها، عيناها كبيرتان سوداوان، أبوها من العراق وأمها أمريكية، تتقن العربية والإنكليزية، طويلة القامة ممشوقة، شعرها غزير أسود كلون الليل، تجمع بين السمرة الخمرية لأهل دجلة والفرات، والعيون الزرق القاتمة الخضرة لأهل أوروبا والشمال، سحر الهوية المتعددة، والدماء المختلطة من الشرق والغرب، ولدت مارلين في بغداد، قبل غزو صدام حسين الكويت بعامين، عاشت مع أمها وأبيها أهوال الحروب المتتالية على العراق، أصبحت في الرابعة عشرة من عمرها، بدأت تدرك عمق الخلاف بين أمها وأبيها، كرهت أباها، أصرت على البقاء مع أمها بعد الطلاق، حرمها أبوها ماله فلم تعبأ، تركت له العراق وما فيها ورحلت إلى أمريكا مع أمها، تحكي قصتها لفؤادة وهي تقود سيارتها الحمراء عبر شوارع نيويورك: اشتغلت يا أستاذة فؤادة وأكملت تعليمي من عرق جبيبني، تزوجت أمي رجلا أمريكيا قاسيا غليظا يشبه أبي العراقي، تركتهما وعشت وحدي، أعد الآن لدرجة الدكتوراه في علوم المرأة والجندر، يعيش معي في بيتي صديقي بيل، إنسان رقيق حساس، ليس مثل أبي أو زوج أمي، تعلمت درسا من حياة أمي التعيسة، أن يكون لي عملي وحسابي في البنك وبيتي وسيارتي وكل ما أريد، وإن أعجبني رجل يسكن معي في بيتي، ولا أسكن في بيته، عاشت أمي مع أبي عشرين عاما وهي تكرهه وتعجز عن الانفصال عنه، كان يملك البيت والسيارة والحساب في البنك.
أقامت الجامعة حفلة عشاء للمشاركين في المؤتمر، جلس جورج نلسون في جوار فؤادة، ألقى رئيس الجامعة كلمة قصيرة، ثم تكلم نائبه (البروفوست) ثم تكلم جورج نلسون، ثم تكلمت الأستاذة باتريشيا، في قسم علوم المرأة والجندر، صديقة قديمة لفؤادة، كانت أستاذة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، خمس سنوات عاشتها باتريشيا في القاهرة ونمت الصداقة بينهما، همست باتريشيا في أذنها، ألا تشتاقين يا فؤادة إلى كأس نبيذ أحمر عمر الخيام؟ - ما ألذ نبيذكم المصري عمر الخيام، لا أنساه.
أقبلت مارلين ومعها شاب طويل أسود البشرة، أقدم لك بيل صديقي، البوي فريند، أسنانه بيضاء تلمع في وجهه القاتم السواد، تنم ملامحه عن هدوء ورقة وثقة بالنفس، كانت تفزع مثل أمها من الرجال السود ذوي الملامح الزنجية، بقايا عنصرية تخلصت منها بعد أن تعودت رؤية نساء ورجال سود البشرة في أمريكا. - أهلا بيل، أعتذر لك لأني أشغل مارلين عنك ساعات كثيرة. - مارلين سعيدة بوجودك هنا، وأنا سعيد لأنها سعيدة.
ثم أقبل جورج نلسون يحمل لها صحن الفاكهة في يد، وفي يده الأخرى كوب عصير برتقال. - لم تأكلي شيئا يا فؤادة؟
ناپیژندل شوی مخ