يبدو موتها بعيدا عنها أو مستحيلا، تنطلق، تجري بين الأشجار على جانبي الطريق كأنما إلى الأبد.
قطرات الندى فوق الأوراق الخضراء تلمع شفافة رقيقة، ثم تتبخر فجأة مع طلوع الشمس، تندهش لسرعة تغير الأشياء من حولها، لحظة بعد لحظة تختفي أشياء وتظهر أشياء، تتغير ألوان الشجر والأرض والسماء والشمس والقمر والنجوم، تتغير رائحة الزرع في الحقول والزهور والهواء، تتألق الأضواء على صفحة النيل وتتكسر وتخبو، تتغير حركة الموجات الصغيرة تهبط مع التيار من الجنوب إلى الشمال، تنبهر، تندهش، ثم تزول الدهشة والانبهار ويصبح كل شيء عاديا، عيناها بالرغم من تعب الرحلة الطويلة تتسعان بدهشة طفولية، يتلاشى الزمان والمكان في غمضة عين، والأهل والوطن والجغرافيا والتاريخ، كل شيء من حولها يتغير، حتى جسدها على المقعد في جوار النافذة، لم يعد جسد الطفلة التي كانت تسابق الريح، أصبحت كاتبة وامرأة ناضجة زوجة وأما، جسدها لا يزال قويا مشدود العضلات، لكنها لم تعد تسابق به الريح، ترتدي قميص نوم جديدا غير مألوف، اشتراه لها جورج نلسون في المطار، قال الموظف في شركة الخطوط الجوية الأمريكية وهو يقرأ من شاشة الكومبيوتر أمامه: نحن في أشد الأسف على تخلف حقيبة الأستاذة في مطار القاهرة، وسوف تصل الحقيبة صباح الغد على طائرة أخرى، ثم اتجه إليها وقال: يمكنك يا أستاذة شراء ما تحتاجين إليه هذه الليلة من ملابس داخلية، تسدد الشركة ثمنها تعويضا من تأخر الحقيبة، لكن أرجوك لا تشتري قميص نوم شهرزاد بألف دولار.
ضحك الموظف كاشفا عن أسنان بيضاء لامعة تشبه الصور في الإعلانات عن أنواع معجون الأسنان الأمريكية، يتكلم لغة إنكليزية بلكنة أمريكية شمالية متآكلة الحروف.
لم يضحك جورج نلسون، ربما لم تعجبه الفكاهة غير المناسبة للأستاذة المصرية، يغازلها موظف المطار بالطريقة الأمريكية الفجة، يتصنع خفة الدم، يخاطبها كأنما هي أنثى جذابة مثل شهرزاد ونساء ألف ليلة وليلة، وهي أستاذة ذات قيمة أدبية محترمة.
ضحكت فؤادة متخففة قليلا من التعب، وسألت موظف المطار: ماذا تعرف عن شهرزاد؟
قال الموظف بسرعة كمن حفظ الكلمات عن ظهر قلب: كانت زوجة الملك شهريار أخضعته لإرادتها بذكائها، وأنقذت حياتها وغيرها من البنات، قرأت القصة في المدرسة الابتدائية ولم أنسها قط. - برافو مستر؟ - اسمي ديفيد. - برافو يا مستر ديفيد.
جورج نلسون واقف في جوارها، وهي تملأ الأوراق الخاصة بحقيبتها المفقودة، تشعر بوجوده، كما شعرت به في أول لقاء منذ عشرة أعوام، لها قرون استشعار منذ الطفولة، ورثتها عن جدة بعيدة من جداتها القديمات، أقدم من الجدة معات، قبل آمون وأخناتون، لم يكتشف العلم مصدرها، أو الجينات التي تكونها، ويمكن توارثها عبر آلاف الأجيال، هناك فئات من البشر تلقاهم فؤادة مرة واحدة في العمر، ولا تنساهم، وهناك فئات أخرى، تلقاهم ألف مرة، ولا يبقى لهم في ذاكرتها أثر.
جورج نلسون، بقي في خيالها بدون أن تعرف السبب، أمه بيضاء كاثوليكية من كندا، أبوه مسلم من السنغال، جده الكبير أرثوذوكسي من إيطاليا، وجدته الكبرى بوذية من الهند، خليط من الدماء، يرفع بعض الناس فوق الحدود المرسومة، لكن الأمر ليس تعدد الهوية أو الدماء المختلطة المنابع فحسب، بل هناك شيء آخر غامض ربما هو الحضور أو الوجود.
لم يتغير إحساسها بوجوده منذ عشرة أعوام.
السؤال يدور في رأسها.
ناپیژندل شوی مخ