التاريخ في النتيجة فوق مكتبي، كان يوما حارا وغائما، قالت أمي إنني أصبحت في الثامنة من عمري، ويمكن أن أفهم ما يحدث في البلد.
سمعتها تقول: التظاهرات الوطنية في الشارع تطالب بالحرية.
أبي قال: تظاهرات شعبية يقوم بها الفقراء من أجل العدالة، لكن الراديو والتلفزيون والمعلمات والمعلمين في المدرسة، كانوا يقولون: إنهم البلطجية والمجرمون يتآمرون مع المأجورين من الخارج على الوطن.
من فوهات الميكروفونات تنطلق عبارة «الله أكبر» من فوق الجوامع، من الإذاعات وأجهزة التلفزيون، تذوب الأصوات كلها في صوت واحد قادم من السماء، وتنتفض القلوب رعبا، يختلط الأمر في عقلي، لا أعرف السماء من الأرض وماذا تعني كلمة الوطن، كل شيء يبدو غير مفهوم، مراحل عمري أيضا لم تكن واضحة المعالم، تذوب طفولتي في شبابي وتمر كلها من وراء ظهري في أثناء نومي، الدنيا تذوب في الآخرة والجنة في النار والنهار في الليل والحياة في الموت، أصحو فجأة على جرس المنبه قرب رأسي، هناك دائما رنين جرس حاد يوقظني من النوم العميق، يمر الزمن في الليل وأنا غائبة فيما يشبه الموت.
كان جدي يزورنا مع جدتي، سمعته يقول لي: النوم ميتة صغرى يا داليا، الناس تفقد الوعي حين تنام.
لم تكن جدتي تسمع ما يقوله، تقول إنه وهو في الغرفة الأخرى رجل عجوز يفقد الوعي من دون نوم، لم يكن جدي يزورنا مع جدتي إلا في عيد السنة الجديدة، يحمل صندوقا كبيرا من الكرتون، ملفوفا بورق ملون وشريط أخضر رفيع، يشتري الحلويات من المحال الغالية، يرتدي بذلة أنيقة دكناء اللون من الصوف الإنكليزي، بذلة بيضاء من الشاركسن أيام الحر، مع ربطة عنق ملونة، حذاؤه الأسود الجلدي يلمع لا تعلوه ذرة تراب، نظارته لامعة بيضاء، يجلس واضعا ساقا فوق ساق، يشبه أبي في حركته وتقاطيع الوجه وخصوصا الأنف، لكن شعر جدي أبيض خفيف سقط عند منتصف رأسه، تاركا صلعة مستديرة محمرة اللون قليلا، انحناءة ظهر جدي أكثر من انحناءة أبي، صوتاهما متشابهان لكن صوت جدي يتحشرج من جراء دخان الغليون الكثيف والسيجار الغليظ الذي يتدلى من بين شفتيه، لم يكن أبي يدخن، أسمعه يقول لأمي إنه توقف عن التدخين في السجن، ترن كلمة السجن في أذني حادة مدببة جارحة، حمراء كالدم، مثل لون الوطن والدنيا والآخرة والملائكة والشياطين.
كنا نزور جدي في شقته في شارع الدقي، ونزور جدتي في بيتها في جاردن سيتي، سألت أمي لماذا لا يعيش جدي وجدتي معا؟
حكت لي أمي الحكاية، كانت جدتي فتاة جميلة من عائلة كبيرة، تزوجها جدي وهو طالب في الجامعة، أبوه فلاح فقير كان يشتغل في عزبة أبيها في الزقازيق، أنفقت جدتي على جدي حتى تخرج وأصبح أستاذا في الجامعة، وشخصية سياسية مرموقة ، عاش معها في بيتها بجاردن سيتي، أنجبت أبي، خرج جدي من البيت ذات صباح ليلعب الجولف في النادي، غاب يومين، وفي اليوم الثالث وجدت جدتي في صندوق البريد مظروفا صغيرا، يشبه مظاريف الحكومة والمحكمة، وقعت عينها على ورقة الطلاق من مأذون حي الدقي، عرفت خط زوجها وإمضاءه، كان يوقع به شيكات البنك التي يصرفها من حسابها على مدى أربعة وثلاثين عاما.
تضحك أمي ضحكتها الساخرة، بعد أن كبرت أكثر فهمت القصة، كان لجدها شقة سرية في الدقي تسمى جارسونيرة، معظم الرجال من هذه الطبقة كان لهم بيت سري، يرتفع عدد البيوت السرية بارتفاع المنصب في الحكومة أو الرصيد في البنك.
عرف جدها نساء كثيرات من الأنواع كافة، لكن هذه الفتاة الصغيرة رفضت تسليم نفسها له من دون عقد مكتوب، تدربت على فهم الرجال، عرفت أنهم يخدعون البنات ويخونون زوجاتهم، كانت تعمل في كاباريه النيل مع أمها، تتغلب بنات الليل على أعتى الرجال في الذكاء. وضعت الفتاة لجدها الشروط في العقد: (1) أن يطلق زوجته طلقة بائنة. (2) أن يسجل سيارة مرسيدس باسمها. (3) وشقة باسمها تطل على النيل. (4) أن تكون عصمتها بيدها.
ناپیژندل شوی مخ