وعام 1853 أي في ابتداء الحرب الشرقية؛ نقل صاحب الترجمة إلى صفوف جنود الطونا وانضم إلى فيلق القائد غورتشا كوف الشهير، ثم انضم إلى حامية «سيفاستوبل» واشترك بمعركة سنة 1855، وكذلك شهد ضرب «سيفاستوبل» من الجنود المتحدة، وفي أثناء هذه المعمعة المخيفة والأحوال المزعجة انتدب بصفة كونه معتمدا إلى جلالة القيصر نقولا الأول حاملا إليه أوامر سياسية مهمة.
وبين عامي 1853 و1855 وضع رواية «سيفاستوبل» ثم رواية «روبكاليسا» (قطع الغابة) وعام 1855 استقال من الخدمة العسكرية، وأخذ من ذلك الحين يقضي الشتاء في «موسكو» و«بطرسبرج» والصيف في قرية «ياسناسا بوليانا»، وقد أنشأ في هذه الأثناء عدة تآليف مهمة، وعام 1861 جاب بعض أنحاء أوروبا ثم عاد فاستوطن قريته، وجرد نفسه لخدمة الأمة مبشرا بالسلام والخير والفضيلة.
ثم أصدر مجلة تهذيبية أطلق عليها اسم بلدته، وجعل ينشر فيها المقالات الأخلاقية بقصد تربية الأهالي وتثقيف عقول أبنائهم.
ثم أنشأ الفيلسوف في بلدته مدرسة وطنية كان ينفق عليها من جيبه الخاص، ويعلم فيها بنفسه أبناء الفلاحين، ويبث فيهم روحا جديدا، فأحدثت تلك المدرسة شهرة فائقة دوى صداها في جميع أنحاء روسيا، وأخذ يتقاطر إليها كثيرون من شبان بطرسبرج المتخرجين في كلياتها؛ ليلقوا فيها دروسا بلا مقابل، تحت مراقبة الفيلسوف، وإنما كانوا يفعلون ذلك ليقتبسوا من معارفه السامية ويغترفوا من بحار فلسفته شرابا عذبا خاليا من شوائب الأكدار، فاجتمعوا حوله واستظلوا بلواء علمه وفلسفته.
وعام 1862 تزوج الفيلسوف من الآنسة صوفيا كريمة الدكتور بيرس، وفي أواخر سنة ستين وضع روايته الشهيرة «الحرب والسلام»، وجعل مدار البحث فيها على فساد عيشة المترفين وحرب سنة 1812، وفي السنة السبعين كتب رواية أخرى سماها: «حنة كاريننا»، وقد أخذت هاتان الروايتان في عموم أوروبا أدوارا مهمة، فعربت إلى جميع لغاتها، وقد اطلع الفيلسوف على فلسفة الفيلسوف الإنكليزي الاشتراكي المستر هربرت سنبسر بشأن توزيع الأراضي على الأفراد بالسواء أولى من استقلال نفر قليل بها، فوافقه على رأيه وعمل به، فإنه وزع جميع أملاكه الواسعة على فلاحيه وأبقى له ولعائلته مساحة من الأرض تقوم بحاجاتهم، ثم إنه يحرث الأرض بنفسه ويزرعها.
وقد كتب هذا الفيلسوف في مواضيع جليلة وكتب في الدين، فكتب بشأنه ما يخالف عقائد الكنيسة المسيحية وخطأها، فأثار عليه ذلك أحقاد رجال الدين في روسيا، والتأم أعضاء المجمع المقدس في 20 فبراير عام 1901 وقضوا عليه بالحرمان من الكنيسة كذي بدعة أو ضلالة، فكان لذلك الفعل تأثير شديد في جميع أنحاء روسيا، وكاد يفضي الأمر إلى ثورة داخلية كما أشرنا إلى ذلك قبلا، وقد رد على حكم المجمع ردا مطولا ثبت فيه إيمانه وخطأ الكنيسة في تعاليمها، فقال إنها بهتان ظاهر وعقائدها ليست إلا مجموعة خرافات منبوذة، واختلاق محكم الوضع قد غشي على جوهر تعاليم المسيح، ثم أنكر ألوهية المسيح وولادته من غير أب، وأنكر الاعتقاد بالتثليث، وقال: «إني أومن بإله واحد هو إله روح ومحبة وأصل كل موجود، وأومن بأنه في وأنا فيه، وأن شريعته سمحاء واضحة في تعليم المسيح الإنسان الذي لا أعتقد به إلها، وإني أعتبر الصلاة له تهكما عليه، ثم أعترف بأن سعادة الإنسان الحقيقية تحصل بوفور إرادة الله في الناس، فيحبون بعضهم بعضا ويفعلون مع غيرهم ما يريدون أن يفعل الناس بهم.»
إن الفيلسوف على جانب عظيم من الجراءة في طلب الحق لم يساوه فيه أحد في العالم، فإنه كتب كثيرا إلى القيصر يعترض على حالة الحكومة وسيرها وذمها بسبب تعذيبها الأهالي في سجون سيبيريا المظلمة وجزيرة سخالين القفراء الجرداء.
وتولستوي لم يزل حيا يرزق مقيما في بلدته، يضع المؤلفات المفيدة، وقد زاره كثيرون من علماء الأمريكان والإنجليز والألمان وحادثوه طويلا في الشئون الاجتماعية، فكان يقيم لهم أسد الحجج ويفيض عليهم من بحار مداركه، فيخرجون من لديه معجبين بما أوتيه هذا الرجل من الحكمة البالغة.
مقدمة المؤلف
لقد سئمت عيش الحياة بعد أن أنكرت على الكنيسة عقائدها، وإذ ساورتني عوامل اليأس ضربت ببصري في جمهور الناس لألتمس من بينهم من يقاسمني هذا القنوط، فأداني البحث إلى أن جميعهم عائشون بالإيمان، وحيث رأيت إلى من يحدق بي من السواد الأعظم وجدتهم مؤمنين، وقد انتزعوا من ذلك الإيمان نظاما لهم، ومنه كونوا منهجا يستنهجونه إلى خاتمة أنفاسهم، غير أني لم أتحسس بعقلي ما أستدل به على صحة هذا النظام؛ فاستعقبت حال هؤلاء المؤمنين في سبيل الحياة الدنيا؛ فجعلت أكثر من مخالطتهم، وأجاريهم في تأدية عبادة الله الكمالية، ولكن كنت لا أزداد في التقرب منهم على تلك العبادة إلا تنازعني عاملان متخالفان، فمن جهة: قد ظهر لي أن هذه الحياة لا يبيدها الموت ولا يفنيها الفناء، ومن جهة ثانية: قد استوثقت مما في هذا الإيمان، وتلك العبادة من المين والبهتان، وإني لا أثق بأن في قدرة الشعب استدراك ذلك، إما لأميته أو قصور إدراكه أو ميله عن البحث في الوصول إلى الحقيقة، غير أني أكبرت السكوت عن ذلك خيفة استفحال أمر هذه المفتريات، وقد شاركني في ذلك جماعة من الذين استنارت عقولهم؛ فلجأت إلى التنقيب عن أصل فساد هذه التعاليم وتمحيص الحقيقة في ذلك.
ناپیژندل شوی مخ