1 - الدين والعلم1
2 - أوجست كومت وفلسفته1
3 - المعرفة أساس إيمان المستقبل1
4 - القدرية والجبرية أو الاختيار والاضطرار1
1 - الدين والعلم1
2 - أوجست كومت وفلسفته1
3 - المعرفة أساس إيمان المستقبل1
4 - القدرية والجبرية أو الاختيار والاضطرار1
الإيمان والمعرفة والفلسفة
الإيمان والمعرفة والفلسفة
تأليف
الدكتور محمد حسين هيكل
الفصل الأول
الدين والعلم1
«... أما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة.»
1 ... فأما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة؛ لأنها خصومة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وأما الدين والعلم فلم تكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة؛ لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال، والواجب شيء والواقع شيء آخر، والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يتبدل، والكمال الذي يظن العلم أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده؛ لأن العلم يعترف بأن الإنسانية، وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ومورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة. وإلى أن يكشف العلم - إن أتيح له أن يكشف يوما ما - عن هذه العوامل غير المعروفة، فالكمال العلمي لا يزال ظنيا وما يزال مبهم الحدود غير مقرر القواعد والأركان.
فإذا سمعت يوما أن بين الدين والعلم خلافا أو خصومة فاقطع بادئ الرأي بأن الخلاف والخصومة ليستا بين الدين والعلم، ولكنهما بين رجال الدين ورجال العلم، وأن أساسهما ليس في شيء من الدين لذاته ولا من العلم لذاته، ولكنه في سعي كل من هاتين الطائفتين سعيا أنانيا صرفا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى.
وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن بين رجال الدين علماء في العلم آخذون بأساليبه من غير أن يطعن ذلك في دينهم أو يغير من عقيدتهم، ومن بين رجال العلم من عمرت بالإيمان نفوسهم، وأخذوا في حياتهم بما يدعو الدين إليه من قواعد الكمال . وكيف يكون خلاف بين الدين لذاته والعلم لذاته ومن رجال الدين من إذا خلوت إليه أو خلا إلى نفسه رأيت الشك يملأ جوانب فؤاده فيعذبه أو يدفعه إلى السخر والاستهزاء من غير أن يخرجه ذلك من زمرة رجال الدين، ومن رجال العلم من يشك في طرائق العلم وأساليبه أكبر الشك، ويدعو لذلك إلى الأخذ بأساليب أخرى قد تكون إلى أساليب الدين أقرب.
ألم يكن رينان الكاتب الفرنسي الكبير من رجال الدين، ثم بلغ من خروجه على متعارف قواعد الدين أن رمي بالإلحاد وأن أضافه أهل طائفته إلى رجال العلم ليحاربوه بالوسائل التي يحاربون بها رجال العلم، وبرجسون الفيلسوف الفرنسي الكبير يدعو إلى عدم التقيد بأساليب العلم الواقعي المقررة أن كان يراها أضيق من أن تتسع لكل الحقائق، وإلى الأخذ بوحي الإلهام فيما لم يصل العلم إلى الكشف عن حقيقته. ووحي الإلهام أقرب إلى الأساليب الدينية، بل هو قاعدة المذاهب الميتافيزيقية التي أنكرها العلم أشد الإنكار. وكثيرا ما حارب الدينيون رجلا منهم بتهمة خروجه على الدين فلما أتى عليه الموت وتقضت شهوات الحياة وفي مقدمتها شهوة الحكم والسلطان، ودخل هذا الرجل حوزة التاريخ عاد جيل جديد من الدينيين فجعله من المقدسين والأولياء المقربين. بل إنك لترى رجال الدين يشتدون في خصومتهم لأشد رجال العلم إيمانا لا لشيء إلا أن هؤلاء المؤمنين العلماء عرضوا لميدان الدين بالبحث. وهذا ديكارت العالم الفيلسوف الفرنسي الكبير كتب في العلم خير كتبه وعلا بين الناس مقامه وفضله، ولم يعرض له رجال الدين إلا حين بحث على طريقته العلمية - التي تبدأ بإنكار كل شيء - في وجود الله وخلود الروح. ومع أنه انتهى إلى إثبات وجود الله وخلود الروح بأدلته العلمية، فقد حظر رجال الكنيسة على الناس قراءة هذا الكتاب، بل قراءة كتب الفيلسوف كلها، وكانت مباحة من قبل. كذلك كان الأمر مع روسو؛ فقد أثبت وجود الله وأظهر من قوة الإيمان وفضله وجماله ما ندر أن استطاع واحد من رجال الدين أنفسهم الوصول إليه؛ ولهذا قامت عليه قيامة رجال الدين فنفي من فرنسا ونفي من سويسرا والتجأ إلى إنجلترا ثم تركها وظل هائما على وجهه طريدا من الكنيسة بقية حياته. هذا، وربما جاز لنا أن نقرن إلى هذين الاسمين اسم عالم من علماء الإسلام هو الأستاذ الشيخ محمد عبده؛ فلقد لقي في حياته من رجال الدين عنتا ورمي بالكفر والإلحاد، وهو صاحب رسالة التوحيد والقوة التي لم تعدلها في عصرها قوة للذود عن حياض الإسلام والمسلمين ضد من طعنوا عليه من أهل الأديان الأخرى.
ويزيدك دلالة على ما تقدم وعلى أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، بل هو بين رجال الدين ورجال العلم وأنه خلاف على السلطة ونظام الحكم قبل أن يكون خلافا على شيء آخر، ما كان من الخلاف بين طوائف رجال الدين أنفسهم حين انقسامهم إلى مذاهب مختلفة. فقد بدأ الخلاف بين أهل هذه المذاهب على أنه خلاف في المبادئ لذاتها، ثم سرعان ما انقلب خلافا غايته السلطة والحكم، وكلمة هنري الرابع: «باريس تساوي قداسا» - يقصد أن امتلاك باريس يستحق انتقاله من البروتستاتنية إلى الكثلكة - تدل على معنى كبير. وكل الفرق بين هنري الرابع وغيره أن هنري الرابع كان صريحا وأن كثيرين يذهبون مذهبه لو أنهم وجدوا ما يساوي ذهابهم هذا المذهب. فإذا لم يجدوه ورأوا في التعصب لرأيهم ما يساوي باريس تعصبوا لهذا الرأي أيما تعصب.
الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم إذن هي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم جميعا، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم. وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال السياسة وأولياء الأمر في الدولة. ألم يكن ريشليو كبير وزراء فرنسا كاردينالا من أكابر الكرادلة. لكن مجده على التاريخ ليس مجدا دينيا بل هو مجد سياسي؛ لأن رجال الدين كانت لهم الغلبة على رجال العلم في عصره، فآلت إليهم شئون الدولة وقام أذكياؤهم وذوو الدراية والدربة في الشئون العامة منهم بالتقدم إلى مصاف الحكم. لكن هؤلاء كانوا يتبادلون المعاونة مع أهل طائفتهم من رجال الدين. فكانوا يعينونهم على الحياة ومرافقها وييسرون لهم أسباب العيش فيها بما في يدهم من سلطان يسمح لهم بالتحكم في خزانة الدولة. وكانوا يستعينون بما لأهل طائفتهم من رجال الدين من سلطان على المجموع وحكم على عقائده وعلى أعماله.
ولم تنج دولة من الدول ولم ينج عصر من العصور من هذا الصراع الطائفي. وهو طائفي محتوم؛ لأن رجل الدين ليس في الواقع رجل دين باختياره، ورجل العلم ليس في الواقع رجل علم باختياره، بل كل واحد منهم له هذه الصفة بالنشأة التي نشأها والبيئة التي تربى فيها وبالطائفة التي يسرته الحياة ليكون أحد أفرادها؛ فهو في خصومته غير مختار بأكثر مما يختار الجندي المدافع عن وطنه، هذا الجندي يستحمس ويستميت لا لأن له في ذلك مصلحة ذاتية، ولكنه يعلم أو يشعر شعورا لا سبيل فيه لريب أو شك أن هزيمة بلاده تخضعه لألوان من الذل يقاسيها بالاشتراك مع أهل بلاده جميعا، كذلك رجل الطائفة يسير وطائفته جنبا لجنب لمثل هذا السبب. والذي يخرج على طائفته متأثرا بعقيدة خاصة أو رأي شخصي مثله مثل الذين لا ينخرطون في سلك الجندية، ولو اعتبروا فارين وأعدموا لاعتقادهم بأن الحرب إثم وحشي لا يجوز لإنسان أن يقدم على اقترافه ولو تحمل في سبيل ذلك ما تحمل من النتائج.
ولم يكن فوز طائفة رجال الدين بالحكم، ولا كان فوز طائفة رجال العلم راجعا إلى الدين لذاته أو إلى العلم لذاته، بل كان راجعا أبدا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة. واعتقاد المجموع بالصلاح لولاية شئون الدولة يرجع إلى اعتبارات عملية لا دخل للدين ولا للعلم فيها، وإنما الدخل لقوام الخلق وحسن البصر بالأمور وبعد النظر ودقة معرفة حاجات الدولة في الفترة التي يحكم المجموع فيها، سواء ما تعلق من هذه الحاجات بحكم الدولة في شئونها الداخلية وما تعلق بصلاتها بسواها من الدول.
ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوروبا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئا فشيئا، حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى. وإنما تغلبت طائفة رجال العلم أن نشأ المخترعون والاقتصاديون. وهؤلاء وأولئك جعلوا الناس أكثر حرصا على حياة أكثر رفها ونعمة. وقد تقدمت الاختراعات على يد رجال العلم إلى حد أيقن الناس معه أن رجال الدين - على حاجة الناس إليهم لهدايتهم في سبيل الله - أقل صلاحا للحكم وتنظيم شئون الدنيا من رجال العلم. وامتد هذا الاعتقاد وساد أوروبا كلها وانتقل مع الغزاة والمستعمرين الأوروبيين إلى أمم الشرق، وهو اليوم قد تغلغل في هذه الأمم حتى أصبح من البدهيات المسلم بها عند الناس جميعا، أن خير ما يجب أن يتحلى به رجل الدين الورع والزهد في الدنيا وزخرفها، والتقرب إلى الله للعبادة والانقطاع له بدرس الدين من غير تعرض لشئون الدولة ولا لنظام الحكم فيها.
وهذه تركيا مثل قوي من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة. ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة، وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني. وكلما ازداد الغرب والشرق اشتباكا، شعر الناس بأن العلم وما يكشف عنه من مخترعات جديدة وما يضعه من نظم اقتصادية وقواعد للعيش، وهو القدير على أن يهبهم من نعم الحياة جديدا وأن يرفع عنهم من بؤسها ما رزحوا تحت أعبائه سنين طويلة، إذن فسيبقى السلطان ونظام الحكم في يد رجال العلم. وستبقى الخصومة بينهم وبين رجال الدين قائمة. ولكن من شأن هذه الخصومة أن تكمن إذا قويت إحدى الطائفتين قوة تضطر الثانية للإذعان والخضوع، وأن تظهر إذا بدت للطائفة الضعيفة بارقة أمل من قوة.
وليس محققا أن تبقى السلطة أبدا لرجال العلم. فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه، فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدا. صحيح أن رجال العلم لا يقرون اليوم بهذا، إذ يذهبون إلى أن العلم يمتد سلطانه إلى كل ناحية من نواحي الحياة، وقد تكون دعواهم هذه صحيحة، لكنها قد تكون مبالغا فيها كذلك، فمن قبلهم قال الميتافيزيقيون: إن الميتافيزيقا تحل كل ما في الحياة من رموز وتصل إلى ما فيها من حقيقة. ومن قبل هؤلاء قال المتكلمون (التيولوجيون) مثل قولهم. واليوم يقوم جماعة الروحانيين وأضرابهم يقولون: بتفسير ما في الحياة على طريقة غير الطرائق العلمية المقررة. ولئن كان هؤلاء الروحانيون يتمسحون بالعلم وبطرائقه اليوم فقد تمسح العلماء من قبل بالميتافيزيقا وبالدين. فلما اطمأن العلماء إلى شيء من القوة نادوا باستقلالهم التام وأعلنوا طرائقهم الخاصة.
فإذا شعر الروحانيون وأضرابهم يوما بعقم العلم وبجمود العلماء واقتصارهم على المحافظة على القديم وعدم اجتهادهم لإحداث جديد، وإذا شعروا يوما بأن الناس قد أترعوا بآثار العلم فتاقت نفوسهم إلى جدة روحية أو نفسانية لا يستطيع العلماء في جمودهم تقديمها لهم - إذا شعر هؤلاء يوما ما بهذا - وقد يأتي هذا اليوم أو لا يأتي - فقد يعلن هؤلاء الروحانيون وأضرابهم استقلالهم عن العلم وطرائقه، وقد يتقدمون للناس يطلبون الثقة بهم وإيلاءهم الحكم ليتمكنوا من تقديم الغذاء الروحي الطامحة نفوسهم له. ويومئذ تقوم خصومة جديدة بين طائفة العلماء وطائفة الروحانيين وأضرابهم على السلطة والاستئثار بنظام الحكم، كالخصومة التي كانت وما تزال قائمة بين رجال العلم ورجال الدين.
على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدا. ولئن كانت بعض النزعات تقوم في الغرب لمحاربة القواعد الواقعية، فإن هذه القواعد ما تزال خصيبة في الإنتاج، وما تزال طوائف العلماء المختلفة تتجاذب كل منها الحكم إليها كما كان يتجاذبها أصحاب المذاهب المختلفة في الدين. وهذه المذاهب الاشتراكية والشيوعية التي تحارب المذهب الفردي في الاقتصاد ما تزال بعيدة عن أن تحقق أيا من الأسس التي قامت لتحقيقها. وما تزال غزوات العلم في الشرق في أول عهدها. وما يزال الأمل واسعا في أن يحقق العلم في الشرق من الرفاهية والنعمة والسعادة ما يمكن لحكمه زمنا طويلا.
وسواء لدينا أكان الحكم لهؤلاء أم أولئك من أهل الطوائف المختلفة، فنحن لا نملك من أمر ذلك شيئا. وكما أن الأصلح للبقاء بين الأفراد هو الذي يبقى، كذلك فإن الأصلح من الطوائف للحكم هو الذي يحكم. وكما أن النزاع بين الأفراد كان ولن يزال، كذلك فالنزاع بين الطوائف كان ولن يزال. وما دام العلم في تطور دائم فالنضال سيكون قاعدة هذا التطور. وإن أمكن أن يتطور النضال نفسه فيصبح سلميا بعد أن كان دمويا. لكن الأمر الذي لا نزاع فيه، والذي عرضنا من أجله لهذا البحث، هو أن الخصومة لم تكن يوما بين الدين والعلم وإنما كانت وستكون بين رجال الدين ورجال العلم، وسيكون أساسها وقاعدتها الاستئثار بالسلطة ونظام الحكم.
2
ما الدين وما العلم وما تعريف كل منهما تعريفا جامعا مانعا؟
الإسلام على خلاف سائر الأديان يتناول أمور الدين وأمور الدنيا ويحض على طلب العلم؛ فالعلماء عند المسلمين هم رجال الدين.
أساس العلم التطور والتجديد؛ ولذلك لا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد أو أن يجمد رجاله؛ ومن ثم سيسد أبدا حاجات البشر.
هذه وأمثالها هي المسائل والردود التي أدى إليها مقالنا عن الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم، وقد دلت هذه المسائل والردود على صدق نظريتنا من أن الدين والعلم لا خلاف بينهما؛ لأن لكل منهما ميدانا غير ميدان الآخر؛ وأن الخلاف منحصر بين رجال الدين ورجال العلم على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وقد تظهر المسألة الأولى، مسألة تعريف الدين والعلم، بريئة من الدخول في خصومة ما بين رجال الدين ورجال العلم لو أنها طرحت للبحث النظري ليس غير. لكنها وردت على لسان أقوام ظاهر من بقية عبارتهم اشتراكهم في الخصومة. ففقدت بذلك طهرها وبراءتها أن شابها الغرض وأدت إليها الخصومة.
ونحن لم نعرض للمسألة في مقالنا الماضي؛ لنثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم، ولكن لننفي الخصومة بين الدين والعلم ولنثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس هو في الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منهما، وأنها خصومة غايتها التسلط والحكم قبل أن تكون لها أية غاية أخرى. ونفي الخصومة بين الدين والعلم قد يحتاج إلى بعض إيضاح للمسائل التي ناقش بها بعضهم رأينا. ونعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الذين باحثونا أو أرادوا مباحثتنا سينتهون إلى الاتفاق معنا اتفاقا تاما وسيسلمون، سواء أكانوا من رجال الدين أم من رجال العلم، بأن الخصومة بينهم خصومة مادية محضة، العلم لذاته منها بريء، والدين لذاته منها بريء.
وأول ما نتقدم به للتدليل على رأينا الجواب عن سؤال السائل: ما العلم؟ وما الدين؟ ولا نريد منذ الآن أن نضع ما يسمونه تعريفا جامعا مانعا لكل منهما؛ لأن التعاريف كثيرا ما تجني على البحث الذي يؤدي إلى تصوير حقيقة واقعة من الوقائع، والدين والعلم واقعتان تاريخيتان في حياة الإنسانية. كما أن التعاريف كثيرا ما تؤدي إلى مناقشات جدلية لا طائل تحتها ولا نتيجة لها إلا زيادة التشعيب في المسائل التي يتناولها البحث تشعيبا لا ضرورة له، وكل أثره أن ييسر السبيل إلى الضلال.
على أنا نبادر من الآن لنقول: إنا لم نقصد بالعلم مجرد المعرفة، وإنما قصدنا به العلم الوضعي أو الواقعي كما يسمونه
Science Positive
ولم نقصد بالدين ديانة خاصة، بل قصدنا الأديان جميعا من غير تفريق بينها. ولو أنا قصدنا بالعلم مجرد المعرفة لكان الدين علما في رأي الوضعيين الذين ينظرون إليه كواقعة اجتماعية تاريخية؛ ولكان العلم بعض آثار الدين الذي أحاط بكل شيء علما.
ولا ريب في أن العلم قديم؛ لأن أبسط المعارف هي أولى درجات العلم، فمنذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها، ومنذ رأى المغرب والمشرق يتكرران كل يوم فعرف أن هذا بعض نواميس الوجود وإن لم يدرك سره، ومنذ رأى النجوم ولاحظ ثبات بعضها في اتجاه معين فاتخذ منه هاديا في مسراه - من ذلك الحين كانت هذه المعارف الأولى؛ وما تزال؛ نواة العلم. وعلى توالي الأجيال تكاثرت وتداولت هذه المعارف التي تقع تحت الحس، والتي استنبط الإنسان منها نظام حياته بين الموجودات الكثيرة المختلفة التي تقع تحت حسه وملاحظته. وبتكاثرها وتداولها استطاع الإنسان التقريب بينها ومقارنتها واستنباط قوانين الوجود وسننه منها، واستطاع أن يستفيد بعلمه هذه القوانين والسنن ما يزيده سلطانا على الوجود وتحكما فيه واستمتاعا به.
والدين قديم أيضا. فمذ رأى الإنسان الأول مشرق الشمس ومغربها وسبح النجوم في أفلاكها
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ، ومنذ رأى نظام هذا الكون العظيم نظاما عجيبا يعجز عقله الضعيف، وعلمه المحدود عن إدراك كنهه أو تفسيره، من ذلك اليوم آمن بأن هذا الكون المملوء بالمخاوف والآمال، والذي ينتهي هو فيه إلى الموت قبل أن يحيط بكثير من أمره خبرا؛ لا بد لوجوده ولتدبيره من قوة أعظم من الكون ومن كل ما فيه أضعافا مضاعفة، وبأن هذه القوة الخالقة المدبرة لا تحيط بها الأفهام ولا تدرك كنهها العقول.
العلم والدين - الوقائع التي تقع تحت الحس وتحيط بها الملاحظة، والإيمان الذي ينبعث إلى النفس حين مشاهدتها عظمة الكون ونظامه بأن لا بد لوجود الكون وتدبيره من قوة لا حدود لقوتها - العلم والدين قديمان، إذن متجاوران في النفس الإنسانية منذ الأزل الإنساني. وسيظلان متجاورين فيها ما بقي في الكون غيب لا بد للإنسان معه الالتجاء إلى الإلهام حين تفسير الوجود. والإنسانية حريصة على تفسير الوجود؛ لأنها حريصة على أن تطمئن لمكانها منه ومستقبلها فيه.
ولما كانت المشاهدات الإنسانية، سواء منها ما أحاط به الحس وحدده وما أحاط به وعجز عن تحديده؛ هي مصدر العلم ومبعث الإيمان. ولما كانت هذه المشاهدات في بداية أمرها قليلة محدودة يسهل على عقل الرجل أن يدركها جميعا - فقد نشأ من تجاور العلم والدين في النفس الإنسانية ما يكاد يكون تضامنا بل تمازجا؛ فالمعلومات التي تقع تحت الحس تقاس إليها المعلومات التي لا يحيط بها الحس إحاطة كافية، وينهض الكل دليلا ملموسا على ما هدى إليه الإلهام، والإلهام يفسر ما تعجز الحواس عن تحديده تفسيرا يكفل للإنسان الهوى في حياته. وكذلك تضامن الشعور والإدراك، القلب والعقل، والإيمان والعلم، في وضع سنن الحياة الإنسانية التي تكفل سعادة الإنسان في الحياة وبعد الموت.
وكان هذا التعاون والتضامن في أول الأمر تعاونا وتضامنا بين قوتين غير متكافئتين. فإن علم الإنسان المحدود ومعارفه القليلة كانا ضئيلي الفائدة جدا إلى جانب ما يفيده إيمانه في الحياة من قوة على الحياة، فلم يكونا ليدفعا عنه غائلة المعتدي ولا ثوران الطبيعة، ولا كانا يؤديان إليه من نعمة الحياة المادية أكثر مما تهديه إليه سجيته الفطرية. أما الإيمان فكان يحل له - فيما يظن - كل العقد ويبلغه كل الغايات ويرشده إلى الوسيلة إليها. والجماعات تخضع في نظام حكمها لطريقة التفكير التي تهديها السبيل لتحقيق غاياتها ومآربها؛ لذلك خضعت للإيمان الصادر عن الإلهام وأسلمت رجال الدين ولاية الأمر.
ولما كانت الإنسانية بحاجة مع ذلك إلى الاستفادة من علمها المحدود ومعارفها القليلة، فقد كانت معارف الحس بعض ما انصب عليه الإيمان الملهم وسلكه في نظامه. وبهذا التطابق سارت الإنسانية قرونا طويلة يحس المجموع فيها السكينة إلى العيش والطمأنينة إلى الحياة وإلى الموت وإلى ما بعدهما.
في هذه القرون الطويلة أسلمت الإنسانية قيادها إلى أولئك الدعاة الصالحين الذين هدوها سبل الخير، وكان العلماء بعض طوائف هذه الإنسانية السعيدة. وقد أسلموا هم الآخرين القياد إلى الهداة؛ لأن علمهم كان أقصر من أن يقدم للإنسانية غذاء ماديا كافيا أو غذاء قلبيا كافيا أو غذاء روحيا كافيا، لكنه كان مع ذلك نواة العلم الوضعي أو العلم الواقعي الذي أنتج اليوم من الثمرات أغزرها مادة وأقواها سلطانا. •••
وفيما كان رجال العلم - وأقصد العلم الواقعي - قانعين دائما بحظهم هذا، راضين بقناعتهم أو كارهين لها، قائمين في خدمة السلطان، دائبين على طرائقهم في البحث في هذا الكون وأسراره وسننه، يؤمن منهم من يهدي الله قلبه إلى الإيمان، ويداخل منهم من يداخله الشك في هذا الهدى إن وجد فيه ما لا يقبله عقله ولا يطمئن إليه تفكيره، ثم يعلن شكه وإن تعرض من أجل ذلك إلى ضروب القسوة وألوان العذاب - في هذه الأثناء، وكانت هذه الأثناء أجيالا وعصورا وقرونا ترجع إلى القدم هي الأخرى ، قام جماعة التجريديين (الميتافيزيقيين) وسطا، أو بالأخرى صلة، بين الطرفين. والذي يستطيع أن يتوسط أو أن يصل بين الإيمان بالوحي وتقرير الواقع هو العقل؛ لذلك كان العقل المحض هو أداة التجريديين للوصول إلى ما سموه الحقيقة المطلقة. فما أقره العقل ولو أعوزه الدليل المحسوس كان حقا، وما نفاه العقل ولو أيده الوحي كان مفتقرا للدليل كي يثبت. وواسطة العقل في التدليل المنطق؛ ولذا كان المنطق من أقدم العلوم الإنسانية، أو الفنون الإنسانية إن شاء العلماء الواقعيون.
وكثيرون من التجريديين كانوا مؤمنين إيمانا صادقا، وعليهم وعلى أدواتهم في البحث والتدليل اعتمد رجال الدين أزمانا طويلة. على أن من هؤلاء التجريديين من كانوا كذلك ملحدين إلحادا صريحا، ومنهم من كانوا يؤمنون بأن في العلم مادة حياته ووجوده، كما يؤمن المؤمنون بأن الله خلق العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش. وقد قوي سلطان التجريديين بعد أن تعددت الأديان واتخذ بعضهم من تعددها وسيلة للمقارنة بينها والتشكيك فيها. ومن هؤلاء التجريديين (الميتافيزيقيين) من كان يؤيد دينا بعينه، ومنهم من كان يؤيد الإيمان بالله وبالروح وخلودها وبالبعث والحساب. وأنت واجد من هؤلاء التجريديين - أو الفلاسفة كما كانوا يدعون - عددا غير قليل إلى جانب كل دين يؤيده ويعززه. فثم فلاسفة إسلاميون وفلاسفة مسيحيون وفلاسفة إسرائيليون وفلاسفة غير هؤلاء يؤيد كل منهم الدين بحجة العقل المحض. وأنت واجد كذلك من الفلاسفة عددا غير قليل يؤيد الإيمان لذاته، يثبت الله والروح والبعث، ثم يداخله الشك في الأديان على أنها منزلة من عند الله، وإن كان يعترف لأصحابها بكل عظمة وسمو وتفوق، ويراها ظاهرات اجتماعية آمن الناس بها؛ لأن قلوبهم في حاجة إلى الإيمان؛ ولأن موضع الإيمان من نفوسهم لا يمكن أن يبقى خلاء لا يملؤه شيء.
وقد ازداد التجريديون - أو الفلاسفة إن شئت - شوكة في أوروبا بعد عهد الإصلاح وتضاعفت قوتهم، وقويت شوكتهم بعد انقسام المسيحيين إلى كثالكة وبروتستانت وأرثوذكس وما جاور هذه من المذاهب الأخرى. ذلك بأن أهل هذه المذاهب بدءوا يتناحرون ويهدم بعضهم بعضا . وكان مما يطعن به بعضهم على بعض أن مذهبا من المذاهب لا يسلم به العقل. خذ مثلا المسألة الجوهرية التي قام عليها النزاع بين لوثر وخصومه والتي أدت إلى الانقسام: مسألة حق الغفران وبيع براءاته. فهل يسلم العقل أو لا يسلم بأن لرجال الدين أن يغفروا ذنوب غيرهم؟ وامتد النزاع إلى غير هذه من المسائل فتقدم التجريديون كل ينصر جانبا بحجة العقل المحض ومنطقه. وأدت هذه النهضة في الفلسفة إلى تقدم في التفكير وإلى سعي في استنباط الأدلة من الواقع المحسوس، فإلى تقدم في العلم الوضعي الذي كان إلى ذلك الحين ما يزال في خدمة الدين والفلسفة، وكان أصحابه ما يزالون طائفة ضعيفة الحول والسلطان. وشجعت هذه النهضة قوما على الإنكار والإلحاد وعلى التبرم بكل هذه المضاربات النظرية التي يصوغها منطق العقل حججا وبراهين، بل قواعد ومذاهب، والتي لا تستقيم ولا تقوى على الوقوف إلا ريثما يهدمها منطق العقل بحجج وبراهين مثلها. وقام النزاع بين التجريديين (الفلاسفة) حادا قويا. هذا يثبت وذاك ينفي، هذا يقيم مذهبا وذاك ينقضه. وبقي رجال الدين بعيدين عن المعركة لا يشتركون فيها اشتراكا يلفت إليهم النظر أو يستهوي إليهم الأفئدة، ولا يقومون فيها بعمل أكثر من إصدار القرارات والأحكام ضد الفلاسفة الذين يعتقدونهم لهم خصوما.
واتجه الناس إلى الفلاسفة؛ لأنهم رأوا طريقة تفكيرهم أقرب إلى هداهم في سبيل الحياة لتحقيق مآربهم منها. ومعنى هذا الاتجاه أنهم أسلموهم قياد الحكم. ورأى رجال الدين ذلك فعز عليهم أن يفلت الحكم من يدهم. لكن استبقاء الحكم لم يكن أمرا ميسورا لهم بعد الذي كان من جمودهم وعجزهم عن أن يقدموا للإنسانية غذاء جديدا. فقاموا بحركة دوران لا تخلو من مهارة. ذلك أنهم رأوا بين التجريديين مؤمنين بالدين حريصين على تأييده. ورأوا الملوك أكثر إلى هؤلاء الفلاسفة المؤمنين ميلا فانضموا إليهم وأيدوهم واثقين من أن اشتراكهم وإياهم في الإيمان يستبقي لهم شيئا من السلطة غير قليل، وما داموا لم يستطيعوا الاستئثار بها جميعا فبعض الشر أهون من بعض. وفي مقامهم هذا وجهوا كل قوتهم لمحاربة الفلاسفة الذين لا ينصرون الدين المسيحي. وكانت حربهم المؤمنين من هؤلاء الفلاسفة الذين يقفون عند تأييد الإيمان بالله والروح والبعث من غير أن يؤيدوا الدين أشد من حربهم الفلاسفة الملحدين. ذلك بأن هؤلاء الفلاسفة كانوا يحاربون من القواعد التي وضعها رجال الدين وجعلوها من الدين ما لا يثبت أمام العقل، وكانوا في نفس الوقت يؤيدون الإيمان الذي لا غنى للمجموع عنه. وهذه الطريقة أشد خطرا على سلطة رجال الدين من طريقة الملحدين؛ لأن الملحدين يهدمون الإيمان الثابت ولا يقيمون بناء غيره يحل محله؛ فهم بذلك بعيدون عن أن ينالوا تأييد المجموع، بعيدون عن أن يصلوا لثقة المجموع بهم كي يحكموه، وطبيعي وهذه هي الحال أن يوجه رجال الدين قوتهم لمقاتلة أمثال ديكارت وروسو وغيرهم من المؤمنين الذين ينافسون المتدينين في الوصول إلى تأييد المجموع إياهم وحكمهم إياه. وكيف لا يجزع الدينيون من المؤمنين، وقد حاول غير واحد من هؤلاء المؤمنين أمثال روسو أن يقيم دينا جديدا يحله محل الأديان المقررة.
على أن وصول الفلاسفة المتدينين للحكم دفع طبقة الفلاسفة كلها للصف الأول من طوائف الجمعية. ولم يكن من تأييد رجال الدين الفلاسفة المتدينين إلا أن زادت المعركة بين الفلاسفة أوارا وشدة، وفي سبيل النصر فضح الفلاسفة المؤمنون والفلاسفة الملحدون جميعا مخازي الكثيرين من رجال الدين، وأظهروا المجموع على شره هؤلاء وشهواتهم وحبهم المال، وتهالكهم على الملاذ وحرمانهم المجموع من كثير من أسباب نعمته وسعادته. وفي هذه الأثناء كلها كان العلم يزداد انتشارا ورجاله قوة، ويفكرون في الوسيلة لإسعاد المجموع من طريقه. •••
لم تكن المباحث العلمية إلى ذلك الحين بعيدة عن المباحث التجريدية (الفلسفية)، ولم يكن العلم ورجاله طائفة محددة تأبى الخضوع لغيرها والفناء فيه. بل كانت العلوم الوضعية التي استقلت فيما بعد وأصبحت جزءا من مجموع الفلسفة الوضعية - ولا نقول: الديانة الوضعية أو ديانة الإنسانية كما قال أوجست كومت؛ لأن أحدا لم يؤمن بهذه الديانة - كانت العلوم الوضعية في خدمة التجريد بعد أن كانت قبل ذلك في خدمة اللاهوت (أو الكلام أو الثيولوجيا ). لكن هذه العلوم بدأت منذ القرن السادس عشر تستقل بنفسها استقلالا صحيحا. وقد عاونها على هذا الاستقلال أن غزرت مادتها، واتسع مدى بحثها فاستطاعت أن تتوقع إخضاع المعارف كلها لطريقتها: طريقة الملاحظة والمقارنة والاستنتاج لمعرفة سنن الكون الثابتة بالدليل المحسوس، والتي لا سبيل فيها إلى خلاف أو جدل. على أن فروعا من المعارف كانت إلى ذلك الحين - وما يزال بعضها إلى اليوم - أقرب إلى الفنون منها إلى العلوم، وإن كانت كفنون أقرب إلى العلوم منها إلى التجريد (الميتافيزيقا)؛ لأن موضوعاتها مما يمكن تصور وقوعه تحت الملاحظة.
هذه الفروع من المعارف هي الخاصة بالإنسان وبالجماعة الإنسانية، كالمباحث النفسية وكالاقتصاد السياسي وكالاجتماعيات. (ولست بحاجة إلى أن أبين هنا الفرق بين الفنون في هذا السبيل من البحث والمعلومات الفنية والفنون الجميلة، فهو فرق يعرفه كل من درس المبادئ الأولية في البحث العلمي).
قضى حسن الطالع أن يقرر الاقتصاد السياسي نظرية تقسيم العمل والتخصص فيه. وإن كانت هذه النظرية مقصورة في أول أمرها على الأعمال المادية عموما وعلى العمل الصناعي خصوصا. فلما انفرج أمام العلم وأمام العقل أفق البحث والنظر تسربت النظرية الاقتصادية إلى ميادين العمل العلمي والعمل العقلي، وترتب عل ذلك أن تخصص كل عالم وكل مفكر لما يسر له. فترتبت على ذلك نتيجته الطبيعية وازداد إنتاج البحوث العلمية والعقلية ازديادا عظيما، وجاء الوقت الذي قضى بتقسيمها وتقديم الصالح للجماعة ونظامها وحكمها على ما هو أقل منه صلاحا، وعلى ما لا يحتاج إليه الإنسان إلا لرياضة عقله ورياضة نفسه.
وسنحت فرصة هذا التقسيم على أثر الثورة الفرنسية. فقد جاءت هذه الثورة في وقت بلغ فيه النضال بين التجريديين من متدينين ومؤمنين وملاحدة أشده، ووقف فيه رجال الدين وراء التجريديين المؤمنين ينصرونهم بالطعن على عقيدة خصومهم، ووقف هؤلاء الخصوم يظهرون الناس على ما خفي من فضائح رجال الدين ومخازيهم، ويدلونهم على أن أولئك الذين يتظاهرون بالورع والتقوى وبالزهد في الدنيا، وباطل زخرفها وغرور متاعها أكثر الناس رذائل وخطايا، وأحرصهم على اكتناز الأموال وإن أظهروا التعفف عنها، ويشيرون لهم باليد واللسان إلى انكداس الأموال المرصودة على الكنائس والتي يتخذها رجال الدين وسيلة إلى لذتهم وإلى إفساد الضمائر والذمم، ويطلعونهم من الأمور على ما يؤكدون معه أن القلنسوة والطيلسان لا يستران إلا نفاقا وكذبا وإلا ذمما خربة، ونفوسا خاوية من كل فضيلة وضمائر معروضة للبيع عرض السلع. وقضى الحظ أن يكون صاحب إنجيل الثورة الفرنسية السياسي جان جاك روسو ... وروسو كان مؤمنا أشد الإيمان، ولكنه كان مع احترامه التام لأصحاب الأديان، يعتبرهم عظماء هدوا العالم في عصورهم على النحو الذي كان يمكن هداية الناس من طريقه، كما كان خصما لرجال الدين في عصره لدودا. وكان له إلى جانب تعاليمه السياسية الحرة التي اهتدى الناس بها إبان الثورة نظرية في الدين جديدة هي نظرية الديانة الطبيعية التي تقف عند الإيمان بالله وبالروح وباليوم الآخر، وتذر لصاحب السيادة في الدولة تدبير طقوس هذه الديانة كما تذر له تدبير شئون الدولة السياسية، وفي طبائع المجاميع إذا وثقوا بزعيم أن يتبعوه في كل أفكاره؛ لذلك كانت سياسة روسو وديانته الطبيعية التي وضعها ونظرياته في التربية وآراؤه في الحرية تطبق إبان الثورة الفرنسية في أوسع دائرة ممكنة. على أن أمد ذلك لم يطل إلا ريثما استغل نابليون هذه الثورة لمجد نفسه، فوجه النفوس غير اتجاهها الأول، وإن جاهر بأنه إنما ينشر بحروبه مبادئ الثورة ويقضي على خصومها. فلما قضى نابليون وانقضى بانقضائه سحره الناس وبهرهم به، عادوا يفكرون في أمر الثورة ويريدون جني نتائجها. وفي سبيل هذه الغاية انصرف كثير من المفكرين يضعون من صور أنظمة الحكم ما يرونه كفيلا بحل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أدت إلى الثورة. على أن واحدا من هؤلاء المفكرين ذهب غير مذهبهم، ورأى أن تصور النظم لا يكفي ما دام طريق التفكير لا يتفق وهذه النظم. هذا المفكر العظيم هو أوجست كومت صاحب الفلسفة الوضعية أو الواقعية. وأول من نظم عقد العلوم الوضعية في النظام الذي ساد أوروبا من ذلك الحين، والذي ما يزال صاحب السيادة برغم الحملات العنيفة التي توجه إليه، والتي تكاد ترج أساسه من حين إلى حين.
ونظرية كومت الأساسية هي ما يسميها قانون الحالات الثلاث
2
ويفسرها بأن العقل الإنساني في تصويره الوجود مر بحالات ثلاث: الأولى: الحال الثيولوجية أو اللاهوتية والثانية: هي الحال التجريدية وهاتان هما ما مر بك بيانه. والحال الثالثة: هي الحال العلمية التي تبحث من طريق الملاحظة والمقارنة والاستقراء عن سنن الكون وقوانينه الثابتة. وهذه الحال لا تثبت ولا تنفي من قواعد الإيمان، ومقررات الأديان ما لا يخضع لطرائق البحث العلمي. بل للعالم أن يؤمن أشد الإيمان وأن يكون متدينا أشد التدين من غير أن يجني ذلك على علمه شيئا؛ لأن ميدان الإيمان والدين غير ميدان العلم ولا ينقض مقررات العلم الثابتة، فلا محل لأن يحارب العلم ما ليس من خصائصه وما لا تتناوله طرائق بحثه.
وقد نظم كومت العلوم الوضعية فجعل الرياضة مبدأها وعلم الاجتماع غايتها؛ فاشتملت بذلك كل ما يحتاج إليه الفرد وما تحتاج إليه الجماعة لنظامها المادي والعقلي في الحياة ولحسن صلاتها بالكون كله. ولم تدع جانبا إلا المضاربات النظرية فيما وراء المادة - أو ما وراء الطبيعة - مما لا يخضع للطرائق العلمية. وقد أراد أن يقيم على أساس هذه العلوم (الديانة الإنسانية) لهذه المجاميع؛ لكنه لم ينجح لأن طبيعة العلم دوام التطور، في حين أن طبيعة الدين تقتضي الثبات والاستقرار. ولذلك بقي اسم كومت مقرونا بالفلسفة الوضعية. ودخلت ديانة الإنسانية ودين الطبيعة الذي وضعه روسو في صف المضاربات النظرية.
استقر هذا النظام الفكري الذي وضعه كومت، وانتشر في العالم المتحضر كله وأخصب في نتائجه وانضوت تحت كنفه كل البحوث الاجتماعية والنفسانية، بل انضوت البحوث الروحية هي الأخرى تحت كنفه، وعلى مقتضاه تكيفت نظم الحكم في العالم، وأصبح رجال السياسة وأرباب الدولة من أنصاره وأعوانه، وتضاءل التجريديون، واكتفى رجال الدين بميدانهم يقومون فيه بالإشراف على حياة الإيمان في النفوس وقوة العقائد في القلوب، وقيام الناس بالفروض والسنن إشراف إرشاد وهداية لا إشراف حكم وسلطان.
أترى رجال الدين راضين بهذا الحظ من الحياة العامة؟ ليس الجواب سهلا. ولكنهم قانعون به راضون بقناعتهم أو كارهون لها قائمون اليوم في خدمة السلطان وذوي السلطان، قيام رجال العلم يوم كان السلطان لرجال الدين. وستظل الحال كذلك ما دام العلم قادرا على إرضاء عقول الجماعة، قديرا في نفس الوقت على سداد حاجاتها المادية. فمن الحق علينا أن نقول: إنه منذ فتحت العلوم للصناعات المختلفة الأبواب واسعة، وأتاحت للإنسان العادي من أسباب النعيم والترف ما لم يكن يطمع فيه رئيس قبيلة أو ملك من ملوك العصور الأولى، آمن الناس بأن العلم هو وحده الذي يقوم بسداد حاجات الفكر وأغراض الحياة المادية معا، وأن نظام الحكم وتصوير غايات الحياة يجب لذلك أن تتفق معه، وأن رجاله يجب أن يمسكوا بيدهم تصريف مقاليد الدولة وأن يلوا أمورها. وإلى أن يقفل في العلم باب الاجتهاد ويجمد، ويبقى رجاله حفاظا لتراث الماضي، فستبقى الحال كما هي اليوم.
على أن الحظ الذي قسم لرجال الدين ليس من شأنه أن يجعلهم أبدا راضين. وهم إذا وجدوا يوما من الأيام للسلطة منفذا نفذوا منه. وإذا كانت الحرب بينهم وبين رجال العلم اليوم هادئة، فذلك لما قدمنا في مقالنا السابق من أن الغلب غير مأمول اليوم فيه. •••
هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا، فرجال الدين فيه هم كذلك العلماء؟ وهل يسد العلم أبدا حاجات البشر؛ لأن أساس العلم التطور والتجديد فلا يمكن أن يقفل فيه باب الاجتهاد، ولا يمكن أن يجمد رجاله؛ هاتان المسألتان نتناولهما بالبحث فيما تبقى من هذا الفصل.
3
قبل الحديث عن الإسلام وهل هو على خلاف سائر الأديان إذ يشمل أمور الدين والدنيا، فرجال الدين هم فيه العلماء كذلك. وعن العلم الوضعي، وهل يسد أبدا حاجات البشر - أريد أن أوضح فكرتي الأساسية من أن الخلاف ليس بين الدين والعلم، ولكنه بين رجال الدين ورجال العلم بعدما رأيت من بعض الكاتبين ما شعرت معه بأن أساء تقدير حدود الفكرة، فظن أنها تعني أن كل رجل من رجال الدين إنما ينصر الدين ويعززه ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم، وأن كل عالم من العلماء إنما يعمل لزيادة العلم بسطة وقوة؛ ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم. فتوجيه الفكرة هذه الوجهة والاعتراض عليها بأن الغزالي أو ابن رشد أو «كانت» أو «أوجست كومت» لم يكن ينصر الدين أو العلم ليسود هو ويصل إلى ولاية الحكم بعيد كل البعد عن حسن تفهمها وإدراك حدودها. فخصومة رجال الدين ورجال العلم خصومة طائفة لطائفة، أو عقلية لعقلية - على حد تعبير بعضهم. وابن حنبل وروسو وكومت إنما كان ينصر كل منهم فكرة معينة تلتف حولها طائفة الدينيين أو طائفة التجريديين أو طائفة العلماء. وتغلب طائفة من هذه الطوائف معناه خضوع الجمهرة الكبرى من الناس لتيار تفكيرها. وإذا تغلب تيار فكري وضع أصحابه نظام الحكم وأقاموه وتولى أنصاره تنفيذه.
فسواء أكان هؤلاء الأفراد في نضالهم لسؤدد فكرتهم مدركين أم غير مدركين في سبيل تنظيم الحكم وولايته، فتلك نتيجة محتومة لنضالهم. وما أكثر ما يعمل الناس لتحقيق غايات محتومة بالطبيعة ثم هم لا يدركون - أو بالأحرى لا يكادون يدركون - أنهم يعملون في سبيل هذه الغاية. أوليس الحب في أدنى درجاته مثله في أسمى درجاته، إنما يرمي لغاية طبيعية محتومة هي تخليد النوع وتحسينه؟ •••
والآن نعود إلى موضوعنا. فهل الإسلام دين كسائر الأديان في أسسه وغاياته، أو هو يختلف عن سائر الأديان أن كان يشمل أمور الدين والدنيا، والعلم بعض أمور الدنيا؛ فرجال الدين الإسلامي هم لذلك العلماء؟
يقص القرآن الكريم نبأ من سبق محمدا
صلى الله عليه وسلم
من الأنبياء والمرسلين، ويبين في وضوح أنما كان يرسل الله لقوم رسولا بالهدى والبينات إذا فسق هؤلاء القوم وضلوا السبيل، واتخذوا من دون الله أربابا. ولقد كان مبعث الرسل - عليهم السلام - ينحصر في قسم ضيق من المعمورة المعروفة في ذلك الحين؛ لأن كثيرا من سائر الأقسام كان في درك من الهمجية فلا يستطيع أهله الوصول لإدراك ما في الأديان من معاني الإيمان، وكان الرسول يبعث بعد أن يحرف المتكلمون كلام الرسول الذي سبقه عن مواضعه، ويدخلون عليه من الأباطيل والخرافات ما يفسده ويضل تابعيه، وكان كل دين ينقسم إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. فأما العقائد فظلت واحدة في الأديان كلها: الإيمان بالله وبالروح وبالبعث. وأما العبادات فتحورت بعض الشيء بتسلسل الأديان وإن بقيت قريبة الشبه بعضها من بعض؛ فالصلاة والصيام والزكاة والحج تراها في اليهودية والنصرانية والإسلام مع فرق قليل أو كثير في الطقوس التي يقوم بها أهل كل دين عنها فيما يقوم به أهل الدين الآخر، والعقائد والعبادات فروض واجبة الأداء على كل متدين وإلا كان مقصرا في دينه وفي حق الله. والعقائد غير قابلة بطبيعتها للتطور؛ لأنها قائمة لما بين الفرد وربه غير متعلقة بالجماعة؛ وهي لذلك واحدة في الأديان جميعا. أما العبادات فهي وإن قامت بين الفرد وربه إلا أنها تتصل بالجماعة في أن الأفراد من أهل الدين الواحد يؤدونها لله وتيرة واحدة؛ وهي لذلك دليل على أن الفرد على دين الجماعة، ويمكن لها إذن أن تؤمن له.
وقد تناولت الأديان جميعا الأخلاق على خلاف بينها في الشدة والهوادة في الأمر بها أو النهي عنها، وإن جعلت المثوبة عليها والجزاء عنها في الدار الآخرة لا في هذه الدار الدنيا.
فأما المعاملات فاختلفت الأديان في مبلغ تناولها إياها. فمنها من لم يمسسها إلا مسا خفيفا كالمسيحية ف «لا تزن ولا تسرق» وما إليها من الأوامر المتصلة بعلاقات الناس بعضهم ببعض هي بعض ما يعتبر من المعاملات. لكن المسيحية لم ترتب على مخالفة هذه الأوامر عقابا دنيويا، بل رتبت عليها عقابا دينيا. أما اليهودية والإسلام فتناولا المعاملات أكثر مما تناولتها المسيحية؛ وإن كان تناولهما إياها لم يتعد الحدود والقواعد العامة؛ لأن المعاملات تتطور بتطور الجماعة. فوضع أنظمة محدودة لكل دقيقة وجليلة لا يتفق مع هذا التطور.
وهذه العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات مما اشتملته الأديان، إنما نزل به الوحي على الرسل من عند الله؛ وهي لذلك ثابتة في أصولها لا يصح أن تخضع لحكم التطور.
وكالأديان المنزلة سائر الأديان. فالبوذية والبرهمية وغيرهما تنقسم كل منها إلى عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات. وبعض هذه الأديان تحدث عن المعاملات أكثر مما تحدث عنه أي دين منزل.
ولقد يكون الإسلام بين الأديان المنزلة أكثرهم تنظيما للمعاملات، وإن كان ما ورد في القرآن الكريم عنها لم يتعد القواعد العامة كما قدمنا. وكان تنظيم المعاملات التي تعاقبت بعد انقضاء عهد الخلفاء الراشدين خاضعا لتطور الجماعات الإسلامية في حدود كتاب الله وسنة رسوله.
هذا وأما العلم الوضعي القائم على أساس الملاحظة والاستنباط، فيتناول ما يتناول من أمور الوجود لمعرفة السنن والقوانين العامة التي تحكم نظام الوجود. وقد اصطلح العلماء على تقسيم العلوم النظرية التي تتناول هذه السنن والقوانين تقسيما يتفق مع نظام تدرجها من العموم والبساطة. فما تناول من هذه العلوم كل الوجود كان أعمها وما لم يحتج إلى غيره من العلوم لاستنباط سننه وقوانينه كان أبسطها. وقد اختلفوا بعض الشيء في طريق التقسيم، ولكن خلافهم لا يؤثر في نظام تدرج العلوم وتبويبها بما يجني على هذه العلوم، أو يؤثر في سنن الوجود التي تقررها.
وأعم العلوم وأبسطها في نظر أوجست كومت الرياضيات، فهي في غير حاجة إلى أي علم آخر لاستنباط سننها، وهي تتناول الوجود وما فيه جميعا. ويلي الرياضيات في العموم والبساطة الفلك، فالطبيعة فالكيمياء فالفسيولوجيا فعلم الاجتماع. ويسير عليك إذا قرنت هذه العلوم التي تقوم عليها الفلسفة الواقعية (أو الوضعية) إلى ما جاءت به الأديان من عقائد وعبادات وأخلاق ومعاملات، ثم قرنت أصل الدين وهو الوحي إلى أصل العلم وهو الملاحظة والاستقراء أن ترى اختلاف الميدان الذي يتناوله كل منهما، وأن تحكم بأن هذا الاختلاف لا يدع بينهما مجالا لخلاف، إلا أن يتحكك رجال العلم في تفاصيل ليست من أصول الدين وقواعده في شيء، أو أن يتحكك رجال الدين في تفاصيل ليست من أصول العلم وقواعده في شيء.
والمقارنة تظهرك كذلك على أن موقف الإسلام من العلم كموقف الأديان الأخرى سواء بسواء. فالعلم لا يمس العقائد والعبادات إلا على أنها مواضع درس وبحث كظاهرات اجتماعية قامت بين الجماعات الإنسانية منذ كانت الجماعات الإنسانية، من غير تعرض إلى ما تحتويه هذه العقائد والعبادات من حقيقة مطلقة أو غير مطلقة، بل العلم لا يقر المضاربات التجريدية فيما وراء الطبيعة مما كان يقيمه الميتافيزيقيون على أساس ما يسمونه منطق العقل وحده. وقد عقد هربرت سبنسر فصلا في المجلد الأول من مجلدات (فلسفته التوفيقية) وهو المجلد الذي جعل عنوانه (المبادئ الأولية)، وجعل لهذا الفصل عنوانا «ما لا يمكن العلم به
Un Knowable » تناول فيه الخلق والخالق، وأثبت بمنطق العقل المحض أن لهذا الخلق خالقا مستقلا عنه مريدا في خلقه قائما بتدبيره. ثم أثبت بمنطق العقل المحض أن هذا الخلق لا يمكن أن يكون له هذا الخالق المستقل عنه، وأن القوة والمادة ليستا منفصلتين ولا هما من جوهر مختلف، وأن العالم تديره سنن الضرورة. وأنت إذ تقرأ هذا الفصل الذي لخص فيه سبنسر حجج المؤمنين والطبيعين، تنتهي وإياه إلى أن منطق العقل المحض لا يستقيم معه الدليل العلمي في هذه المسألة وفي أمثالها، وأن هذه المسائل ليست إذن من تناول العلم، وإن العلم في غير حاجة لتناولها بالإثبات أو النفي، وإن تناولها كظاهرات للدرس والتبويب واستنباط السنن وقوانين الاجتماع.
أما الأخلاق والمعاملات فيتناولهما العلم تمام التناول، وينفي فيهما ويثبت ما شاء له النفي والإثبات. ولقد تنتهي مقررات العلم في هذا الباب الذي لم يبلغ بعد حد الكمال العلمي إلى ما يخالف مقررات الدين فيه. مثال ذلك مسألة الربا وتحريم الدين له وتحليل العلم الاقتصادي إياه، ومسألة العقوبات التي وردت في الكتب المنزلة كقطع يد السارق، ورجم الزاني مما ورد في القرآن الكريم، وما قال العلم الجنائي بتحويره. على أن هذا الخلاف ليس خلافا بين الدين والعلم؛ لأنه لا يتناول أصول الدين ولا ينقض سنن العلم، بل هو خلاف على تفاصيل ليس الخلاف عليها محرما في الدين ولا في العلم، وكيف يكون خلافا في أصول الدين، وقواعد الإسلام خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا؛ وليست المسائل التي قدمنا من هذه القواعد في شيء. وكيف يكون خلافا في أصول الدين لا يتسامح الناس فيه، وقد قال تعالى:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك . فمثل هذا الخلاف مما تقع عليه المغفرة قطعا، وهذا الخلاف لا يمس كذلك أصول العلم الاجتماعي وما ينضوي تحته مما لا يزال في سبيل التطور، ثم هذه المسائل التي عليها الخلاف لا تمس أصلا ثابتا من أسسه ولا قاعدة مقررة من قواعده.
ولقد أورد صديقي الدكتور طه حسين في بحثه الذي نشر في الأسبوع الماضي
3
أمثلة على الخلاف كمسألة خلق الإنسان الأول بالإرادة على ما يقرر الدين، وبالتطور على ما يقول العلم وكغير هذه من المسائل التي يراها أساسية. وقد يكون هذا الخلاف صحيحا لو أن طرائق الدين والعلم كانت واحدة، وأن تصور الدين والعلم للحوادث كان واحدا. أما والطرائق مختلفة والتصور مختلف والغايات مختلفة - والميدان لذلك مختلف - فتصوير الخلاف بين الدين والعلم مثله مثل تصوير الخلاف على بيت بين رجلين؛ لأن أحدهما رآه من ناحية والآخر رآه من ناحية أخرى، البيت هو هو. والرجلان هما المختلفان.
ثم إن الدين يرى الرياضيات والطبيعة والكيمياء إلخ علوما، ويفرض معرفتها ولكن فرض كفاية لا فرض عين؛
4
لأنها ليست من جوهر الدين. والعلم يرى المباحث الفلسفية فيما وراء الطبيعة مما يتناوله الدين على أنه جوهري، ويفرض معرفتها فرض كفاية لا فرض عين؛ لأنها مما يسلك في نظام العلم. فما هو فرض عين في كل من الدين والعلم هو فرض كفاية في الآخر. وما كان الخلاف على فرض الكفاية خلافا في الجوهر.
لكن الخلاف كان وما يزال قائما بين رجال الدين ورجال العلم. وهو خلاف على السلطة ونظام الحكم - كما بينا من قبل - وقد انتصر رجال العلم، ونظموا الحكم واستأثر أنصارهم به في كل أنحاء العالم المتمدن، وبقي لرجال الدين الإشراف على قيام ما هو جوهر الدين في النفوس إشراف نصيحة وإرشاد لا إشراف حكم وسلطان.
والمسلمون في ذلك كغير المسلمين؛ لأن طبائع الأديان واحدة كما تقدم. •••
هل يسد العلم أبدا حاجات البشر فيبقى العلماء وأنصارهم مستأثرين لذلك بالسلطة وبتنظيم الحكم؟
هذه هي المسألة الثالثة التي أثارها بحثنا في الدين والعلم. ورجال الدين الذين يرون أن المادة والقوة ليستا منفصلتين، وأنهما من جوهر واحد، وأن المادة تستحيل إلى قوة كما أن القوة تستحيل إلى مادة، وأن العالم وحدة في الوجود والمكان والزمن، وأن أساس الإيمان هو ضعف الفرد وضعف الجماعات التي لم تقف من أسرار الكون على كثير ينجيها من الخوف من الموت، ومما يجر إليه هذا الخوف من ألوان التسليم والإيمان أما هؤلاء فيرون أن العلم لن يفلس، وأنه سيسد حاجات البشر كلها، وسيصل يوما في القريب أو في البعيد إلى هتك حجب الغيب أو على الأقل؛ لإثبات أن هذا الغيب ليس حقيقة تخشى، بل هو وهم يخافه الناس اليوم؛ لأنهم لم يؤمنوا بعد بأنه وهم. ويقيم هؤلاء دليلا على صدق نظريتهم أن المشتغلين بعلم الأرواح في هذه الأيام يأخذون أخذ العلماء الواقعيين في طريقة البحث، فإذا وصل هؤلاء إلى إثبات علمهم الروحاني، وإلى استنباط قوانينه وسننه وإلى وضعه الوضع العلمي الذي يبيح لكل إنسان يريد الوقوف على الحقيقة أن يقف عليها من طريق أدواته العلمية - يومئذ توضع مسألة الأرواح من نظام العلوم فوق مسألة علم الاجتماع وعلم النفس، أما إن عجز الروحانيون أخيرا وتبين أنهم يدورون حول تصورات الطريق إلى إثباتها بوسيلة من الوسائل الكثيرة التي ما يزال العلم يبدعها كل يوم، فيكون ذلك دليلا على أن ليس لهذا العلم الذي يريدون إثباته قوام، فيزول لذلك خطره وينقشع عن الناس كابوسه، ويقتنعون بأن ليس بعد الحياة شيء، وبأن الحياة غاية الحياة، وأن الحياة تطور أزلي أبدي الإنسان فيه كفرد ذرة تافهة سريعة التطور؛ وكجنس لا يمتاز كثيرا عن سائر الأجناس إلا من حيث إنه - فيما نظن - أرقاها في سبيل التطور ، وأدناها إلى مرتبة أسمى من مرتبته الحالية، ومن كل ما في الوجود من مراتب.
أما الفلاسفة المؤمنون فيرون العلم في صورته وبطرائقه الوضعية أقصر من أن يحيط بأسرار الكون، وبالغيب العظيم الذي يكتنف الإنسان، ويذكرون أن الإنسانية، وإن بلغت ما بلغت من الرقي، وإن تفتق عقلها عما يتفتق عنه من ذكاء ومهارة، وإن أحاطت بما أحاطت به مما حولها من الكائنات، فستظل أبدا عاجزة عن كشف سر الوجود. ذلك بأن الإنسانية جزء صغير من الكون. هي جزء صغير في الكم وفي الحيز الذي تشغله وفي الزمان الذي بدأت فيه، والذي تنتهي إليه إذا قدر للكون من صور التطور ما يجعل غيرها من الكائنات أسمى منها مقاما ومكانة. فمحال عليها وهذه حالها أن تحل لغز الوجود حلا وضعيا بطرائق العلم الحالية. ثم إن العلم يقرر أنه لا يبحث عن أسباب الأشياء ولماذا كانت فحسب؛ وإنما يبحث عن كيف الأشياء والقوانين والسنن التي تحكم هذا الكيف، وأسباب الأشياء ولماذا كانت تشغل تصور الإنسان وخياله وتطلب إليه دائما أن يجد ما يرضي هذا التصور الذي لا يطمئن إلى الظلام، كما لا يطمئن العقل إلى الجهل. وإذا كان الناس قد شغلوا بالعلم الوضعي وبلغ من شغفهم به أنهم زعموه، يوما، قديرا على حل كل معضلة؛ فذلك لأنه كشف عنهم ضر الجمود في عصر كان الجمود فيه قتالا، وكان رجال الدين هم مثال الجمود وصورته. أما وقد حطم الجمود وقد بالغت المعاول في تحطيمه حتى بلغت ذلك النور الذي كان يضيء ظلمات الغيب والذي اختفى في هذه الهياكل الخربة التي كانت معدة في الماضي لتكون المنارة التي يشع منها ويضيء من خلالها، فقد صار واجبا أن تقوم منائر أخرى غير خربة ينبعث الإيمان من خلالها حيا قويا نزيها عن شبهات المادة وظلمها متصلا بأسمى أسباب الكون، فتسير الإنسانية على هداه، ولا يضل السواد السبيل بارتكاسه في حمأة الحيوانية الدنيا التي ارتكس فيها أولئك الجامدون الذين عبدوا المال أكثر من عبادتهم ربهم.
ومحاولات الفلاسفة والعلماء الوضعيين في هذا الباب دليل قاطع بصدق هذا الرأي في نظر أصحابه. فدين الطبيعة الذي حاول روسو وضعه؛ وديانة الإنسانية التي أراد أوجست كومت أبو العلم الواقعي بعثها. هما بعض هذه المحاولات. ثم إن الذين يشتغلون بالروحيات والروحانيات في الوقت الحاضر، وإن اشتغلوا بها على طرائق العلم فليس لهم من دافع إلى هذا الاشتغال إلا من يحيط بهم من ظمأ النفوس إلى الإيمان ونفورها في نفس الوقت من رجال الدين وإيمانهم. يؤيد ما سبق في نظر أصحابه دائما هذا الاتجاه الذي تسير نحوه أوروبا - منشأ العلم ومهبطه - منذ وضعت الحرب أوزارها، والذي تبتغي به أن تجد في الشرق مهبط الوحي ومبعث الديانات هدى دياجير ظلمة القلوب. فلو أن العلم كان يسد أبدا حاجات البشر لظل إيمان الناس به على ما كان في منتصف القرن التاسع عشر، ولما اضطرب الناس في أوروبا ومن بينهم عدد كبير من العلماء يريدون إيمانا كإيمان العجائز. •••
ونحن لا نقطع أي الرأيين حق. فنحن لم نؤت ذكاء يخترق حجب المستقبل، ويكشف ستاره ولم نؤت جرأة العليم بالإيمان وبالعلم وبالدين، فنقضي قضاء الجريء الذي لا يعرف التردد. لكنا قانعون بموقف الشك بين هذه المضارب الفكرية الظريفة. وكل الذي نقطع به أن الخلاف ليس بين هذه المضاربات لذاتها، ولكنه خلاف كان ولن يزال على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. فالسلطة إنما يليها الذين يستطيعون سداد حاجات الجماعة العقلية والنفسية والمادية. وولاية الحكم غريزة في النفس يسعى إليها الإنسان ما استطاع لذلك سبيلا. وأنت ترى الرجل الساذج من القرية إذا سمحت له ظروفه يوما من الأيام أن يكون له على غيره سلطان سعى لذلك سعيه، وعمل للظفر منه بغايته، وكالرجل الساذج غيره من الناس. فتلك فطرة عامة لا تقتصر على الإنسان وحده، وسبيل تحقيقها في الجماعات أن تسد حاجة الجماعات. والعلم ورجاله يسدون اليوم هذه الحاجة؛ ولذلك ولي هؤلاء الرجال وأنصارهم الحكم. فإذا ظلوا في مثل موقفهم ظل الحكم لهم. وإن تغلب غيرهم عليهم انتقل الحكم إلى هذا الغير.
وكذلك كانت الخصومة بين الرجال لا بين العلم ولا بين الأفكار من حيث هي. كانت الخصومة للاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم. وكل الذي ترجوه الإنسانية في تطورها أن يسير بها أولو الأمر فيها إلى أسمى ما ترجوه من غايات النظام والتقدم والسلام.
الفصل الثاني
أوجست كومت وفلسفته1
«لقد أخلصت حياتي لأستنبط من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها.» (1) أسس فلسفة كومت
كل مذهب جديد في الفلسفة يمت؛ وإن ظهر فذا غريبا؛ بلحمة نسب ضيقة للمذاهب التي سبقته، كما يرتبط بما حوله من الأصوات العامة ارتباطا يعدل تلك اللحمة متانة واتصالا، وإن كان أقل منها ظهورا ووضوحا. فهو متضامن مع الشئون الاجتماعية كافة تضامنا يجعل تأثره بما في البيئة المحيطة به من المظاهر الدينية والفلسفية والاقتصادية والعقلية لا يقل عن أثره فيها؛ لذلك ليس يكفي درس المذهب الجديد على أنه وحدة قائمة بذاتها مستقلة عما سواها. بل يجب النظر إليه ضمن المجموع العام الذي لا تتضح أهم أركانه إلا به.
وهذه القاعدة - وهي إحدى قواعد الطريقة التاريخية التي أكثر كومت من ترديدها - تنطبق تمام الانطباق على مذهبه. فمراجعة نصوصه وحدها لا تكفي لفهم نظريته فهما تاما، ولا لتقدير فكرته العامة على وجه الضبط، ولا تكفي لمعرفة الأسباب التي أدت بالمؤلف ليجعل لبعض نظرياته خطرا خاصا. وللوصول إلى ذلك كله يجب أن نقف مع مراجعة النصوص على الظروف التاريخية التي ظهر المبدأ في أيامها، وعلى حركة الأفكار العامة التي عاصرته، وعلى المؤثرات التي أثرت في نفس الفيلسوف أيا كان نوعها.
فالعصر الذي ظهرت فيه الفلسفة الواقعية (الوضعية) كان متأثرا بالثورة الفرنسية أكثر مما كان متأثرا بأي حدث آخر. وذلك ما قرره كومت صراحة. فلولا الثورة ما ظهر مبدأ التقدم ولا كان العلم الاجتماعي الذي بني عليه، ولا الفلسفة الواقعية التي جاءت على أثرهما. لكن هذه الهزة الاجتماعية غير العادية أحدثت حركة كبيرة في دائرة المضاربات الفلسفية والسياسية ، وقد اختلفت نتائج هذه الحركة باختلاف قوة الأذهان التي صادفتها وعبقريتها، وإن كانت بعض الظواهر الخاصة قد لفتت كبار المفكرين وضعافهم على السواء. من ذلك مثلا أن كان كل مفكر من الذين ظهروا في بدء القرن التاسع عشر يسائل نفسه: أي نظام يجب أن يقوم على أثر الثورة؟ ولم يكن الشكل الذي يريدونه للحكومة كل همهم من سؤالهم، بل كانوا يريدون أيضا الاهتداء إلى المبادئ الأساسية لنظام الاجتماع، وكانت هذه المسألة لا تحتمل في نظرهم إمهالا من الوجهة العلمية كما كانوا يحسبونها أم المسائل من الجهة النظرية. وهذه المسألة في صورها المختلفة هي التي شغلت «شاتوبريان» كما شغلت «فورييه» «وسان سيمون»، وتعلق بها «يوسف دمتر» كما عقلها «كوزن كومت».
على أنهم كانوا جميعا متفقين على نقطة أولية هي وجوب التجديد. فالعصر المضطرب الذي تداعى يجب أن يعقبه عصر نظام. وعبارة سان سيمون في هذا المعنى قوية غاية القوة إذ قال: «لم تخلق الإنسانية لتقيم في الخرائب والأطلال الدارسة». لكن الاضطراب الثوري والرجة التي تلته والهزة الاجتماعية التي جاءت على أثرهما كانت كلها من القوة والشدة، بحيث لم يستطع أحد معه أن يقدر نتائج الثورة تقديرا دقيقا. فكم من النظم كان يظن أنها تحطمت فإذا هي لم يصبها إلا بعض الاضطراب. وكثير من النظام القديم تخطى الأزمة سليما لم يصب بأذى. غير أن هذه الظاهرة التي لم تفت رجال سنة 1830 كانت لا تزال غامضة أمام الجيل الذي سبقهم، فلم يميزها وخيل إلى أهله أن النظام القديم دكت أعاليه وأسافله وأن واجبا عليهم لذلك أن يعيدوه، أو يخلقوا نظاما اجتماعيا جديدا، وكانوا في ظنهم هذا محتفظين بروح الثورة التي اعتبرها أهلها كما اعتبرها العالم المتمدن فاتحة لتشيد الإنسانية نظاما سياسيا واجتماعيا جديدا، لكن هذا المطمع العظيم لم يتحقق برغم أعمال الجمعيات الثورية وكفاية النوابغ الذين كانوا في الكنفنسيون
Convention ؛ بل تعاقبت الديركتوار
Le Directoire
والإمبراطورية بعد ذلك وبقيت المسألة كما كانت: كيف السبيل إلى تنظيم الجمعية بعد ما انهار النظام القائم؟
لذلك انصرفت المضاربات الفلسفية في مبدأ القرن التاسع عشر إلى المسائل الدينية والاجتماعية. صحيح أن تقدم العلوم الواقعية تقدما واضحا مطردا كان أمرا لا ريبة فيه، ولا يجوز إنكاره في بحث غايته استظهار فلسفة أوجست كومت. لكن عناية كومت بالمسائل العلمية كل تلك العناية إنما كان يقصد بها إلى حل المسألة الاجتماعية، وكانت كل غايته من الفلسفة أن يضع الأسس العقلية لبناء الجمعية، وأن يضع كذلك قواعد دين يحل محل الكثلكة التي كانت قد أتمت في نظره مهمتها.
قال رانك: «القرن التاسع عشر قرن إصلاح»، وتلك عبارة دقيقة تصور أحد مظاهر هذا القرن الخطيرة من جهته التاريخية. ولقد أراد به أهله أن يكون عصر إصلاح حقا. فكان الإصلاح وجهة معظم المبادئ الفلسفية التي صورت كنه طبيعة ذلك العصر، على أن هذا الإصلاح كان يثبت غير قليل من النتائج التي اكتسبت في أثناء الأزمة ويعضدها، كما أن نظريات جديدة استدعاها تقدم الصناعة الكبرى، جعلت بعيدي النظر من المفكرين يحسون تمام الإحساس بأن العصر الذي رغب الناس أشد الرغبة في انتهائه لم يكن في الحقيقة إلا عند أوله ومبتدئه.
واعتقد أوجست كومت كما اعتقد كثير من معاصريه أنه مبعوث لوضع «النظام الاجتماعي الجديد». لكنه كان يخالف من سواه في النظر. فكل من أولئك المصلحين كان يبدأ ما يرتئيه من مشروعات النظم صالحا لحل المسألة الاجتماعية، ويصرف كل مجهوداته بعد ذلك لتبرير رأيه. ولما كانت هذه المسألة في نظرهم لا تحتمل إمهالا، فقد قصروا أفكارهم عليها، أما كومت فكان يرى هذه الطريقة عقيمة محققة الخذلان. ذلك بأن المسألة الاجتماعية لا يمكن حلها مباشرة، بل يجب قبل التعرض لها حل مسائل أخرى نظرية صرفة، وهي هاته المسائل التي يجب البدء بها إذا كان للإنسان هم غير الاستكثار من الأحلام السياسية والأوهام الاجتماعية.
فالنظم عند كومت تابعة للأخلاق، والأخلاق تابعة للعقائد. ومن العبث وضع مشروعات نظم جديدة ما لم تكن الأخلاق قد رتبت، ونظمت وما لم يكن أساس هذا النظام مذهبا فكريا قد تم وضعه وقبلته النفوس كلها على أنه الحق، وآمنت به ما آمنت أوروبا بآي الكثلكة في القرون الوسطى. والمسألة الاجتماعية تبقى لا حل لها ما لم توضع فلسفة جديدة تكون أساسا لحلها.
لهذا نزع كومت إلى الفلسفة وقصر نفسه أول الأمر عليها، وكان مما كتب في سنة 1824: «إني أعتبر كل مناقشة تقوم بشأن النظم من أتفه السفاسف، ما لم يكن نظام الجمعية من الوجهة الروحية قد كمل أو قارب الكمال».
2
طرافة كومت أنه جعل يبحث في العلم والفلسفة عن المبادئ التي يبنى عليها النظام الاجتماعي الذي كان غاية كل مجهوداته؛ وبذلك خالف معاصريه من المصلحين في الوسيلة، وإن اتفق معهم في الغرض. فهو مثلهم يريد وضع سياسة معينة. لكنه يريدها سياسة وضعية أساسها نظام أخلاقي ومذهب فلسفي وضعيان كذلك. ولئن كانت هذه السياسة هي علة وجود المذهب، ومن أجلها وضعه كومت فإنها إذا فقدت مبرر وجودها ومصدر سلطانها، وأصبحت من شوارد الخواطر. فالفلسفة لازمة لتكون أساسا للسياسة، كما أن السياسة لازمة لتكوين الفلسفة وبعث روح التناسق والوحدة فيها.
والآن فأي سبب دعا كومت ليتعرض لتلك المسألة الكبيرة التي شغلت أذهان كل معاصرية على نحو اختص به هو من دونهم؟ ليس في مقدورنا بسط ترجمته هنا بسطا مستفيضا يفيض على هذه المسألة نورا يجلوها، ولكنا نكتفي فنذكر أنه كان من أسرة كاثوليكية ملكية. وعلى الرغم مما ذكره من تركه عقائد عشيرته السياسية والدينية لأول ما بلغ الثالثة عشرة من عمره، فإن العقائد الدينية لم تمح من نفسه بمقدار ما كان يظن. فقد بقي كل حياته شديد الإعجاب بالكاثوليكية، وهو لا ينكر ذلك ولكنه يعزوه إلى ما تأثر به من كتابات جوزف دمتر. غير أنه مهما يكن قد تذوق كتاب (البابا) فإن هذا الميل الخاص يرجع بعضه إلى ما تركته الطفولة من آثار بقيت مستكنة في نفس حساسة سريعة التأثر.
وكانت الرياضيات أول ما اشتغل به ذهنه بطريقة جدية. فلما دخل مدرسة الهندسة؛ وقد قبل فيها وسنه دون السن القانونية بسنة، بدأ يدرس العلوم الطبيعية وجعل في الوقت نفسه يفكر فيما كتب مونتسيكو وكوندورسيه، ثم مال إلى الفلسفة بمعناها الحقيقي وانصرف إلى قراءة الأيقوسيين وفرجيزن وآدم سمث وهيوم، وتبين أن هذا الأخير أرقى من سائرهم بكثير. فلما خرج من مدرسة الهندسة بقي في باريس وجعل في وقت واحد يلقي دروسا تقوم بمعيشته، ويكمل دراسته العلمية بالتلقي على دلامير وبلانفيل والبارون تنار، وبإدمان قراءة فونتنل ودالمبرت وديدرو؛ ويمعن بوجه خاص في قراءة كوندورسيه الذي استجمع مادة فلسفة القرن الثامن عشر وأوضحها. وفيما كان يقرأ ديكارت ومن جاء بعده من كبار الرياضيين كان يتتبع بتمعن والتفات أعمال الطبيعيين والبيولوجيين أمثال لامارك وكوفييه وجال وكابانيس وبشا وبروسيه وكثيرين غيرهم، على أن علمه نما لهذه العلوم الجديدة من الأهمية الفلسفية مما أشار إليه ديدرو من قبل لم ينسه درس المسائل التاريخية والاجتماعية. فقد قرأ الأمليين
Les idéologues
أمثال المسيو بونالد - المفكر العظيم النشاط - وجوزف دمتر الذي ترك في نفس كومت أكثر من كل كاتب آخر، أعمق الأثر وأبقاه.
وإذن فلقد كان كومت، من قبل أن يعرف سان سيمون، ملما بقسم عظيم من المادة التي كانت قوام مبدئه في المستقبل. وذلك ما تشهد به رسائله إلى صديقه فالا. ولكن مؤلفاته لم تخرج إلى ذلك الحين عن موضعين مختلفين. فكان بعضها خاصا بالمسائل العلمية (الرياضيات والطبيعة والكيمياء والعلوم الطبيعية) والبعض الآخر أميل للمسائل السياسية (كالتاريخ والسياسة والمسائل الاجتماعية).
وقد التقى كومت بسان سيمون سنة 1818 فسحر به وتهالك عليه، وجعل يشتغل معه أربع سنوات كان في خلالها يحبه ويحترمه احترام التلميذ أستاذه، ويغذو نفسه من أفكاره ويشترك وإياه في مؤلفاته ومشروعاته، ويدعو نفسه (تلميذ المسيو سان سيمون)، لكنه انفصل عن هذا الأستاذ المحترم المحبوب في سنة 1822. فماذا ترى كان قد حصل؟
إن الأسباب التي تقدم بها كومت لم تكن إلا ذات أهمية ثانوية. ولكن الأستاذ وتلميذه كانا لا بد مفترقين عاجلا أو آجلا لما بينهما من التباين المطلق. فلقد كان سان سيمون لنبوغه وحدة خاطره يلقن بالكثير من الأفكار والآراء الجديدة التي ينتج في المستقبل أكثرها ويفرخ . ولكنه كان سريع الإثبات، قليل التدليل، ليس عنده من الصبر ما يسمح له بالوقوف طويلا عند موضوع معين؛ ليتعمق في النظر فيه نظرا مرتبا. أما كومت فكان على العكس من صاحبه يرى رأي ديكارت أن الفهم واجب كل الوجوب في المسائل العلمية، وأن (التماسك المنطقي) آكد دليل للحقيقة؛ لهذا لم يكن له أن يكتفي بمقالات سان سيمون المتقطعة زمنا طويلا، ولكنه أخذ ما صح من تلك الإلهامات المتواترة غير المرتبة، وإن حسب أن مذهبه إنما هو الذي أثبت لها قيمتها العلمية؛ لأن مذهبه هو وحده الذي استطاع أن يرتبها ويردها إلى أصولها.
من ذلك يظهر أن أثر سان سيمون في كومت كان عظيما، وأن عبقرية كومت الفلسفية مؤكدة لا يأتيها الشك. وأكثر ما كان من أثر سان سيمون أنه أوحى إلى كومت بمجموع من الأفكار العامة والآراء الخاصة التي أخذ بها فيما قرر من فلسفة التاريخ، كما أنه عرف كيف يجمع بين الفرعين اللذين ألف فيهما من قبل مفردا كلا عن الآخر، وذلك باستنباط علم يكون اجتماعيا وسياسة تكون علمية. ولولا سان سيمون لما جال بخاطر كومت أن يوفق بين هذين الفرعين من فروع العلم بعد أن كان يعمل في كل منهما مستقلا، أو لجاءه هذا التوفيق متأخرا. لهذا ليس لنا أن نغمط سان سيمون ما يعترف له به كومت نفسه من أنه وجه تلميذه في أكثر السبل موافقة لذهنه ولنبوغه.
ولم تتم الخلطة الفكرية بينهما يوما ما. وإذا كان كومت قد وصل إلى دخيلة أفكار سان سيمون (وإن لم يكن قد أخذ بها جميعا)، فإن سان سيمون أساء فهم طرف من فكرة كومت لضعف تربيته العلمية، حتى إن ما كتبه عن قانون الجاذبية التامة لا بد أن يكون قد استثار اشمئزاز كومت. لهذا لم يترك كومت دراسته الرياضية حتى حين كان متحمسا لسان سيمون متهالكا عليه بكل ما فيه من شباب وعطف. ولقد كتب لفالا في 28 سبتمبر سنة 1819 يقول له: «إني اليوم وسأبقى دائما أعمل في فرعين من فروع البحث: الفرع العلمي والفرع السياسي. ولولا ما أذكره دائما من فائدة العمل العلمي لبني الإنسان لما اهتممت له، بل لعدلت به حل الألغاز اللفظية. ثم إن بي لبغضا شديدا لما لا أرى له فائدة من الأعمال العلمية قريبة كانت هذه الفائدة أو بعيدة. أما الأعمال السياسية فيأخذني إليها أنها تستهوي الفكر وتشحذ الذهن ولولا ذلك لكنت أكثر هوادة في الاشتغال بها برغم كل ما عندي من ميل للإنسانية»،
3
فلما أرسل لصديقه بعد سنة من ذلك مجموعة كراسات سياسية ميز فيها بين ما له، وما لسان سيمون أخبره أنه فضلا عن هذا يشتغل بجد في أعماله الرياضية، وأنه يريد الدخول في منافسة أعلنتها (الأنستيتو
L’institut )، وقد كان يطمع من ذلك في الدخول في أكاديمية العلوم.
وفي سنة 1822 ظهر كتيب كومت (فكرة عن المسائل العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية)، وفيه ذلك التوفيق بين فرعي العلوم. وقد ذكر في مفكرة كومت مبنيا على اكتشافه: ترتيب العلوم وقانون الحركة الاجتماعية
Dynamique Sociale . ولئن لم يكن الكتاب هو السبب الأهم فإنه كان الفرصة التي حدثت عندها القطيعة ما بين كومت وسان سيمون. فقد رأى كومت تلك اللحظة حاسمة في تاريخية تفكيره إذ حوى هذا الكتيب مجموع نظريته المقبلة. ثم دلت المقدمة التي وضعها له سان سيمون على أنه لم يفهم مرماه. فاستقل كومت بعد إذ عثر فيها على ما كان يبحث عنه من سنين من غير أن يتبينه، وكرس بقية حياته لما وصل إليه وما كان قد وضع له فكرته، ولم يبق له أن يتساءل كيف يوفق بين بحوثه العلمية ودراسته السياسية. وقد وضع تدرج العلوم الفلسفي جاعلا الطبيعة الاجتماعية في مركز التاج منها.
كتب كومت في 8 سبتمبر 1824 ما يأتي: «عن لي في أثناء أعمالي الفلسفية الكبرى أن أنشر بعض كتب خاصة عن النقط الرئيسية للرياضيات مما كنت قد تبينته من زمن طويل، ثم وصلت أخيرا لربط هذه النقط بأفكاري العامة عن الفلسفة الوضعية، فسمح لي ذلك أن أستظهرها من غير أن تنقطع وحدة الفكرة عندي. هذه الوحدة اللازمة لحياة كل مفكر».
4
وكتب في 27 فبراير سنة 1826 في خطاب شائق إلى ديلانفيل يشرح شرحا واضحا الفكرة التي تولد منها مذهبه قال: «إن فكرتي في اعتبار السياسة طبيعة اجتماعية، وذلك القانون الذي اكتشفته عن أحوال العقل الإنساني الثلاثة ليسا إلا فكرة واحدة نظر إليها من جهتين مختلفتين: جهة الطريقة وجهة العلم. ومتى تقرر ذلك فسأبين أن هذه الفكرة تكفي تمام الكفاية، وبطريق مباشر لسد الحاجة العظيمة التي تحسها الجمعية الحاضرة من جهة النظر ومن جهة العمل معا. وأظهر أن ما من شأنه أن يبعث إلى المستقبل التماسك والمتانة بإقامة نظام ترتاح إليه الأذهان هو أيضا ينظم الحاضر قدر المستطاع، إذ يقوم أمام رجال السياسة كأساس يبنى عليه العمل المعقول».
5
ومن ذلك الحين أصبحت حياة كومت مكرسة لإنفاذ برنامجه إنفاذا مرتبا متينا، فجعل يؤلف وينشر بانتظام تام فلسفة العلوم والتاريخ والأخلاق والسياسة والديانة الوضعية. وليس معنى ذلك أن فكرة كومت بقيت جامدة فقد تطورت فيما بين سنة 1822 وسنة 1857. ولكن تطورها كان بحيث يستطيع الملاحظ الدقيق الذي قرأ (فكرته عن المسائل العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية) أن يترسم خطاها من ذلك الحين. فلم يكن لكومت إلا مبدأ واحد تطور. وتمت فكرته فيما بين ما نشره حين كان في سن العشرين إلى يوم أن ظهر كتابه عن (التوافق الذاتي)
La synthese subjective .
ولقد طعن على تناسق هذا المبدأ ووحدته، وإن كومت نفسه ليميز في حياته بين حالين متعاقبتين. كان هو في أولاهما - على حد قوله من غير تواضع باطل - أرسطو؛ ثم صار في الثانية القديس بولس. وإنما هيأ مؤسس الفلسفة الأسباب لوضع الديانة «فقد أخلصت حياتي لأستخلص من العلم الثابت الأسس اللازمة للفلسفة الصحيحة التي تسمح لي أن أقيم الديانة الحقة على موجبها».
على أن جماعة من أكبر أصحاب كومت، وأكثرهم مناصرة له في مبدئه أمثال لتريه، قد وقفوا عن اتباعه في حالته الثانية ولم يقنعهم ما عندهم من الإعجاب بالفيلسوف لينضموا إلى القديس.
ولتريه وأصحابه أحرار في الوقوف عن ترسم كومت إلا إلى حد معين ، وهم أحرار أن يقبلوا فلسفته ويرفضوا ديانته، ولو أنهم وقفوا عند ذلك لما كان لكومت إلا أن ينعي سوء منطقه، ويبرأ من (أولئك الوضعيين غير الناضجين الذين لا تزيدهم دعواهم الذكاء ذكاء ولا فطنة). ولكنهم على العكس من ذلك هم الذين اتهموا كومت بالخطأ والتناقض قائلين: إنه خان مبادئه الأولى وإن الطريقة الذاتية
Méthode subjective ، التي لجأ إليها في الثانية أفسدت ما أوصلته إليه الطريقة الموضوعية في حاله الأولى من ثمين النتائج، مدعين أنهم في وقوفهم عند (دروس الفلسفة الوضعية) أكثر إخلاصا لفكرة كومت الرئيسية من كومت نفسه، وأنهم فيما يقولون من ذلك إنما يدافعون عن الفلسفة الوضعية الحقة في وجه مؤسسها ومنشئها.
ولقد دفع كومت عن نفسه هذه التهم التي حزت في كبده، وبلغت من نفسه لصدورها من أولئك الذين عدهم أشد أصحابه إخلاصا وأكثر أصدقائه وفاء. وإن ما سنجيء به في هذا الكتاب قمين أن يظهر خطأهم ويبين أن طريقتي كومت ليستا متنافيتين، بل تكمل إحداهما الأخرى كما تكمل حاله الثانية حاله الأولى.
صحيح أن أفكار كومت وكتاباته أخذت صبغة صوفية في السنين العشر الأخيرة من حياته، وأن صلته القصيرة بمدام دفو، ثم موت هذه الصديقة «القديسة» هزا مشاعره هزة شديدة، وأن هذه المشاعر والعواطف تحولت في نفسه إلى أفكار دخلت خلال طريقته ومذهبه في وقت كان يعمل فيه لتأسيس ديانة للإنسانية، زعم أنه سيكون لها على النفوس سلطان يعدل ما كان للمسيحية عليها، وأن اهتياج عواطفه واهتمامه بالديانة الجديدة التي يقيمها وشعوره بالرسالة القدسية الملقاة عليه شعورا متحكما كان من شأنها أن تؤثر في المبدأ الذي قرره في المدة السالفة؛ لهذا لم تظهر فلسفة العلوم والتاريخ في (السياسة الوضعية) على الطريقة التي ظهرت بها في (الفلسفة الوضعية). ولكن ذلك كان مقصودا. وإن كومت ليفسر اختلاف العبارة وطريقة الشرح والعرض في هذين الكتابين باختلاف الغاية التي رمى إليها كل منهما. أما المبدأ الفلسفي فقد بقي فيهما واحدا لم يتغير، وكل ما يمكن موافقة لتريه عليه أن عرض المبدأ من الجهة الدينية في (السياسة الوضعية) أفسد ظاهره فلا يستطيع من قصر قراءته على هذا الكتاب أن يصل إلى فكرة المبدأ الدقيقة التي وضعت في (دروس الفلسفة الوضعية)؛ ولهذا السبب عينه أشار كومت على كل من قرأ كتاب السياسة أن يرجع إلى كتابه «الرئيسي الأكبر».
على أن المدقق الذي يطلع على (الدروس) يجد فيها إشارات وعلامات تنبئ عن كتابه السياسة وتبشر به. ولو أن كومت اكتفى بالإشارة إلى ما جاء من ذلك في «الدروس» لكفى ذلك ردا على أصحابه الخارجين عليه. لكنه عمل خيرا من هذا. فلقد طبع في آخر الجزء الرابع من كتاب السياسة الوضعية ست رسائل مما كتب في أيام صباه ما بين 1818 و1826 حوت، خلا النقط الجوهرية لفلسفته، فكرته في أن الفلسفة ليست إلا مقدمة بسيطة، وأن العمل الأهم والغاية العليا إنما هما الديانة الوضعية التي أعدت الفلسفة لتكون أساسا لها ترتفع فوقه. بل لقد كانت هذه روح كل تلك الرسائل. ومن ثم صحت حجة كومت وقوي مركزه فيما يتعلق بوحدة مبدئه وكسب الخصومة من منازعه لتريه.
بين كومت غير مرة في رسائله لجون ستوارت مل - وكانت فيما بين سنة 1841 وسنة 1846 أي: في الفترة التي تشمل ختام حاله الأولى وبدء حاله الثانية - محل تماسك قسمي أعماله وموضع تباينهما. وقد يكون مفيدا أن ننقل هنا نص ألفاظه، قال: «يجب أن يختلف القسم الثاني من حياتي الفلسفية عن القسم الأول منها اختلافا عظيما، وبالأخص في العواطف. إذ يجب أن تحتل من نفسي محلا حقيقيا، وإن لم يكن ظاهرا يضارع ما يحتله العقل منها، فإن التنظيم العظيم الذي اختص به عصرنا يجب أن يشمل العواطف كما يشمل الأفكار، بل إن هذه الأخيرة هي التي يجب تنظيمها أولا، وإلا فاتنا تكوينها تكوينا صحيحا فترتكس في نوع من التصوف فيه ما فيه من إبهام لا حد له؛ ولهذا كانت وجهة كتابي الرئيسي مخاطبة العقل دون سواه، فبنيته على أساس من البحث وما يلزمه من المعارضة والمناقشة، وغايتي من ذلك اكتشاف المبادئ العامة الصحيحة، وتكوينها بالتدرج من أبسط المسائل العلمية إلى أرقى المضاربات الاجتماعية»،
6
فلما تم ذلك لكومت انتقل لتنظيم العواطف على اعتبار أنها (النتيجة اللازمة لتنظيم الأفكار والأساس الذي لا أساس غيره لقيام الأنظمة).
وإذن فهذا القسم الأخير عمل قائم بذاته، ولقد ظن كومت أن شخصا سواه كان يستطيع أن يقوم به فتنتهي مهمته هو عند تأسيس الفلسفة التي تضع حدا (للفوضى العقلية)، ثم يكون بناء الأخلاق والديانة على أساس من هذه الفلسفة، ووضع حد للفوضى الخلقية والسياسية من عمل صاحب يخلفه. على أن إدمان العمل والحظ الحسن قد سمحا له هو بإتمام هذا العمل. وقد رأى منذ سنة 1845 (تحت تأثير مدام دفو الصالح) مجموع حاليه والفرق بينهما، وقدر في الثانية وجوب جعل الفلسفة ديانه كما جعل من العلم فلسفة في الحال الأولى.
وغرضنا من هذا الكتاب درس فلسفة كومت من غير تعرض إلى التحول الذي طرأ على هذه الفلسفة فجعلها ديانة، وليس اختيارنا هذا الغرض اختيارا تحكميا. فلدينا - تبريرا له - ما رأينا من تقرير كومت نفسه أن فلسفته وديانته قد يقوم بوضع كل منهما شخص مستقل عن الآخر.
قد يتساءل بعضهم عن الفرق بين المركز الذي اخترناه لأنفسنا، ومركز لتريه (والوضعيين غير الناضجين). وجوابنا أن الفرق بيننا وبينهم هو الفرق بين نظر المؤرخ والمقرر. فإن لتريه وأصحابه قد نظروا من هذه الجهة الأخيرة، ورفضوا لذلك فكرة (تنظيم العواطف) والطريقة الذاتية وديانة الإنسانية، وأخذوا كوضعيين، القسم الأول من المبدأ ولم يأخذوا القسم الثاني. أما نحن فقد وضعنا أنفسنا موضع المؤرخ، وللمؤرخ الحق في تحديد موضوعه من غير أن يترك دقيقة، ولا جليلة من المبدأ الذي يعرضه. ونحن أبعد من أن ندعي مع لتريه أن الشطر الثاني من مذهب كومت يضعف الشطر الأول ويناقضه، بل لقد قررنا أن مجموع القسمين يكون كلا واحدا وضع كومت فكرته في كتاباته الأولى، وأنه كان على حق حين وضع في صدر كتابه (اسياسة الوضعية) تلك الكلمة الجميلة التي قالها الشاعر الفيلسوف: إنما الحياة العظيمة فكرة يصورها الشباب وتنفذها الرجولة .
ولم ندرس إلا الشطر الأول من حاليه؟ لم لا نحترم مجموع ذلك الكل، ونحن نرى أن لتريه قد أخطأ في إنكار تناسقه؟ أجل إنا لنحترمه فلا نجتزئ من المبدأ استبدادا شيئا مما جعله كومت قسما منه، ولئن جعلنا الفلسفة الغرض الفرد من ذلك الكتاب فإنا سنجعل حاضرا أمام الذهن دائما ذلك المجموع الأعم الذي وضعه كومت فيه، فذلك شرط لازم لا يكون بدونه هذا البحث دقيقا وافيا. ولكنا متى التزمنا بهذا الشرط فنحن في دائرة حقنا، إذا نحن وجهنا إلى الفلسفة وحدها كل مجهوداتنا.
لتصوير تاريخ مبدأ من المبادئ طريقتان: فإما أن يقف المؤرخ نفسه في الموقف الفكري للفيلسوف الذي يدرسه مستعيدا أفكار ذلك الفيلسوف الرئيسية على الوجه الذي كان قد رآها به، ثم يقدر على طريقته أيضا أهمية المسائل المختلفة من غير أن يخرج عليه في التمييز ما بين المهم والثانوي منها، ويكون التأريخ في هذه الحالة أشبه شيء بترجمة عقلية للمؤلف. وإما أن يعمل المؤرخ لاستجلاء دخيلة المذهب قصد الوقوف على ما بنى من مبادئ وأفكار، ثم يضع نفسه بعيدا عنه وفوقه ويجتهد ليمركزه في محله من التطور الفلسفي العام، وبهذه الطريقة يتيسر فهم المذهب في مجموعه فهما دقيقا حيث يراه الإنسان، ويرى مبلغ اتصاله بما سبقه وما عاصره، وما جاء بعده من المبادئ. ثم إن الإنسان ليستطيع في هذه الحالة الأخيرة أن يفرق ما بين الأفكار الثانوية الأهمية القليلة البقاء مهما يكن من رأي صاحبها فيها. وإنا لنأخذ عن كومت في هذا المقام تفرقة كان يكثر من تقريرها، فكان يعطي أولى هاتين الطريقتين الأفضلية لمن أراد البحث والتنقيب، ويعطي هذه الأفضلية ثانيتهما فيما يتعلق بالتأريخ.
وتطبيق الطريقة الأولى في النظر إلى مذهبه يسوق المؤرخ؛ ليكون معه في اعتبار الفلسفة الوضعبة تمهيدا، وتحضيرا لديانة الإنسانية التي كانت الغرض والغاية من مجهودات تلك الفلسفة. ومهما وجب على المؤرخ في مثل هذه الحالة أن يوسع بهذه المقدمة اللازمة المؤلف الأساسي الذي وضع فيه كومت الأساس الفكري لمبادئه السياسية والدينية، فهو مكلف أن يجعلها تابعة لهذه المبادئ وأن يضع في المكان الأول فكرة (إعادة نظام الجمعية) وآي ديانة الإنسانية وبناء سلطان روحي، وسائر ذلك القسم من عمل كومت الذي أراد أن يقوم مقام (برنامج الكاثوليكية في العصور الوسطى)، وكله الثقة أنه سيؤدي غرضها خيرا مما قامت هي بأدائه.
ولكن عبقرية كومت لم تظهر على أكملها في هذا القسم من عمله. كلا! ولا كان هذا القسم أخصب مواضع فكرته. فإن مسألة إعادة نظام الجمعية لم تكن من وضعه هو بل كانت منتشرة في البيئة التي ظهر فيها أول شبابه، إذ كانت كل آمال الجيل الذي نشأ معه متجهة إلى إعادة النظام ووضع شروط التقدم وتحديد الصلات بين مقتضيات الخلق، وضرورات السياسة وإقامة ديانة تملأ ذلك الفراغ الذي خيل للناس أن الكثلكة تركته وراءها، وكل ما جاء في (السياسة الوضعية) لا يزيد على مشروعات المدرسة السان سيمونية التي ظهرت في سنة 1830، وإن اختلف الأساس الذي قامت عليه كل من الفكرتين. فكل ما عملته هذه السياسة أنها تأخرت ثلاثين سنة عن المشروعات المماثلة لها لا لشيء إلا أن كومت أراد إقامة نظامه على أساس من الفلسفة ومن الأخلاق، فصرف في هذا المجهود النظري زهرة شبابه وعنفوانه، ولكن الفكرة ذاتها ترجع في نفسه إلى الثلث الأول من ذلك القرن كما تدل عليه النشرات التي أعاد كومت طبعها. فلما ظهرت فيما بين سنة 1850 وسنة 1857 لم تكن من الجيل الجديد الذي نشأ في ظروف سياسية واجتماعية مخالفة لظروف جيل كومت، فلم تجد إلا نفوسا غير مكترثة لها لاشتغالها بمسائل أخرى ظهرت، فاستلفتت الأذهان واستشعر الناس الحاجة إلى حلها على عجل. وبذلك لم يبق لفلسفة التاريخ أن تستفز من النفوس ما كانت تستفزه من قبل، وضعف ما كان في النفوس من شوق لظهور ديانة جديدة، وبرهنت الكثلكة أن قوة الحياة فيها لا تزال موفورة لم تصب بسوء.
لهذا فإن عبقرية كومت والاحتياطات التي ظن أنه اتخذها لإقامة نظامه الاجتماعي على أساس معقول، كل ذلك لم يمنع فكرته أن يصيبها ما أصاب غيرها من الأفكار المشابهة لها مع بعض اختلاف في الزمن الذي لزم لذلك. حقا أن (السياسة الوضعية) وغيرها من الكتب التي كتبها كومت في حاله الثانية تكثر فيها الآراء الثاقبة الدقيقة. ومن المفيد أن يبحث الإنسان عما يصل إليه تفكير العقل الكبير في أي موضوع من الموضوعات، ولكن هذا الجزء من عمله، وإن حسبه هو صاحب المركز الأول أبعد من أن يحتفظ بهذا المركز في نظر المؤرخ.
وسبب ذلك أن كومت لا يمثل فيه إلا جيله، أما في فلسفته فهو ممثل عصره والقرن بأجمعه. ولسنا بحاجة إلى إقامة الدليل على ذلك؛ فإن تاريخ الحياة الفكرية لذلك القرن تشهد به كل خطوة من خطاها؛ إذ كان هذا المذهب من بين المذاهب التي ظهرت في فرنسا في القرن التاسع عشر الوحيد الذي تخطى حدود هذا الوطن ورسم بطابعه المفكرين الأجانب. فقد لقيت فلسفة كومت أول ظهورها في إنجلترا وهولندا عطفا لم تلقه في فرنسا نفسها، واستمد منها ستوارت مل وهربرت سبنسر وجورج لويس وجورج اليت وعدد غيرهم من فلاسفة الإنجليز وكتابهم، ثم هي لا تزال إلى اليوم تجد من بين رجال إنجلترا النوابغ من يدافع عنها. وإذا لم يكن من فلاسفة الألمان من اتصل بكومت صلة جان ستوارت مل به، فإن الروح الوضعية تمتد في الكليات الألمانية وتنتشر من نحو ثلاثين سنة. ويكفي مقنعا بذلك ملاحظة ما هناك من اطراح الأفكار المتافيزيقية (ما بعد الطبيعة) والمذهب الذي يقام على أساس العلوم الخلقية والاجتماعية، أما في الممالك اللاتينية في العالمين، فأثر كومت ظاهر على أشده، سواء في ذلك إسبانيا والبرتغال وأمريكا الجنوبية. ولم تخل أمريكا الشمالية من الجمعيات الوضعية. بل لقد لقي كومت فيها أيام حياته أصحابا أكثر ما يكونون لمذهبه إخلاصا.
أما السبب الأهم في إذاعة الفلسفة الوضعية في فرنسا، فكانت كتابات ذينك المؤلفين المحبوبين إلى الرأي العام تين ورينان. فلقد عملا من غير أن يكونا وضعيين لنشر مذهب كومت أكثر مما عمل لتريه وكل الوضعيين معا.
حقا لقد أفاد تين كثيرا من سبينوزا ومن هيجل. أجل أفاد من كندياك أكثر مما أفاد منهما. وهو يتصل من المعاصرين بستوارت مل وسبنسر. ولكنه إنما كان يصدر عن كومت متخذا إياهم بعد ذلك سبيله ووسيلته. ففكرته في تاريخ الأدب وفي النقد وفي فلسفة الفنون والمجهودات التي صرفها لينقل إلى العلوم الخلقية طريقة العلوم الطبيعية كل ذلك يرجع إلى أوجست كومت بنوع خاص. وكتابه في تاريخ أدب الإنجليز هو تطبيق للنظرية الوضعية التي تجعل تطور الفنون والآداب خاضعا لأحكام معينة وقوانين محتومة تجعلها متضامنة مع تطور الأخلاق والأنظمة والعقائد. أما نظرية الزمن والوسط، وهي إحدى نظريات تين الرئيسية، فلم تكن مجهولة في القرن الثامن عشر، ولكن فضل تعميمها يرجع إلى كومت في مقاربته ما بين لاماركه ومونتسكيو. وكومت هو الذي أفاد تين التعريف العام لفكرة الوسط تعريفا جامعا بين أن يكون بيولوجيا واجتماعيا.
وأما ما قاله رينان عن كومت فكان غاية في القسوة، ويمازجه شيء من التحقير والازدراء. وعلى الرغم من ذلك فقد اعترف أن كومت سيكون بلا شك من أعلام ذلك العصر كما أنه لم يسلم من التأثر به أعظم الأثر. ولئن كان واجبا ألا ننسى المصادر الأخرى الفرنسية والأجنبية التي أوردها ذلك العقل الكبير، فإن اعتباره التاريخ (علم الإنسانية الأقدس) وانتظاره منه أن يحل الإيمان بفكرة التقدم الوضعية محل آي الكثلكة القديمة عن القدرة العليا، وإدراكه أن الحقيقة والخير ليسا حقائق خالدة جامعة، بل هما يتحققان رويدا بمجهودات الأجيال المتعاقبة، كل ذلك يرجع الفضل فيه إلى كومت بمبلغ ما يرجع إلى هيجل.
ونحسب هذين المثلين يكفيان لإظهار ما وصلت إليه الروح الوضعية من سعة الانتشار.
وقد بلغ من اختلاط هذه الروح بالفكرة العامة في عصرنا الحاضر حتى أصبح الإنسان لا يكاد يلاحظها، مثلما أنه لا يهتم للهواء الذي يستنشقه. فتأثر بها التاريخ والقصص والشعر ثم عادت هذه الفروع كلها، فزادت في تلك الروح انتشارا. وكذلك عن كومت صدر علم الاجتماع الحاضر؛ وعنه إلى حد ما صدر علم النفس بطريقته العلمية ؛ ولهذا كله فلا يكون مجازفا من يعتبر الفلسفة الوضعية مظهر الميول والأفكار المميزة لعصرنا الحاضر.
وإذن فوقوفنا من عمل كومت عند الفلسفة التي تكون أكثر أقسامه عبقرية وحياة وخصبا، ليس هو إلا الأخذ بالحقيقة التي يرى بها التاريخ. ولا يهمنا إن لم يعتبر كومت هذا القسم إلا مقدمة بسيطة. فكم كان المجهود النظري يقوم به أحد المفكرين لينشئ فوقه عملية أكثر فائدة وأخلد أثرا من تلك النتائج نفسها. (2) المسألة الفلسفية
يرى كومت أن القصد من الفلسفة أن تقوم أساسا للخلق وللسياسة وللدين. فهي ليست غاية لذاتها ولكنها وسيلة لغاية لا يمكن الوصول إليها بدونها. ولو اعتقد كومت يوما أن في الإمكان إعادة نظام الجمعية من غير البدء بنظام الأخلاق أو إقامة الأخلاق من غير أن يسبقه تنظيم العقائد، إذن لما ألف - على الأغلب - ستة أجزاء في دروس الفلسفة الوضعية التي شغلته ما بين سنة 1830 وسنة 1842، بل لتخطاها إلى ما كان أسمى منها فائدة وأكثر جدوى.
ولكنه اقتنع من أول أمره أن أقصر الطرق أسوؤها، ورأى أن كل مجهود يصرف لإقامة النظام الديني أو السياسي أو الخلقي يذهب عبثا إذا لم يسبقه إعادة النظام العقلي؛ لهذا جعل أول همه إقامة فلسفة جديدة لا غنى عنها للوصول إلى الغاية الاجتماعية التي كان يرمي إليها. وبذلك أصبحت هذه الفلسفة غرضا في ذاتها ولو مؤقتا.
إذن فسينظم كومت العقائد. ومعنى ذلك أنه سيحل إيمانا مبنيا على الحجة والدليل محل الإيمان الموحى به والذي خبا ضوءه. ولن يكون ذلك الإيمان المتعقل مشابها في شيء للديانة الطبيعية التي قامت في القرن الثامن عشر، فإن تلك الديانة لم تكن إلا نوعا مختلا ضعيفا من أنواع الإيمان بما فوق الطبيعة تظهر الفكرة الدينية من خلال منطقه الميتافيزيقي عن الألوهية. أما الإيمان المتعقل فيستمد أصوله ومسوغات وجوده من العلم الوضعي، (الواقعي). ويومئذ لا يكون التنافر الذي يرى بين كلمتي (الإيمان) و(الدليل) إلا تنافرا ظاهريا وإن كان ما سيوضع من القواعد يراد به أن يكون موضع (إيمان)، نظرا لما يجب للأغلبية العظمى من الناس من الأخذ بالنتائج التي قررتها الفلسفة الوضعية. وسيبقون دائما قلائل أولئك الرجال الذين يجدون من الوقت ويصلون من كمال العلم إلى ما يمكنهم من فهم هذه النتائج واستقصاء أدلتها. أما من سوى هؤلاء فلن يكون منهم لها سوى الخضوع والاحترام. ولكن الفارق بين هذا الإيمان المتعقل وبين ما عرفته الإنسانية إلى يومئذ من آي الدين أن الأول لا يحوي شيئا لم يثبت بعد تمحيصه بالطريقة العلمية ولا شيء فيه يخرج عن دائرة المعلومات النسبية، وأن كل ما فيه يمكن في لحظة إثباته أمام كل ذي بصيرة يستطيع تتبع ما يدلي به من الحجة والدليل.
وهذا النوع من الإيمان حاصل بالفعل فيما يتعلق بعدة حقائق علمية. فجميع المتمدينين يؤمنون اليوم بنظرية (النظام الشمسي
Système Solaire ) التي يرجع الفضل في اكتشافها إلى كوبرنيك وكبلر ونيوتن، وقل منهم من هو بحيث يفهم الإيضاحات التي بنيت النظرية عليها. ولكنهم يعلمون أن ما هو موضع إيمانهم هذا هو موضع علم وبحث عند الآخرين، وأنه يكون كذلك بالنسبة لهم لو أنهم وصلوا من العلم لما يؤهلهم له. إذن فليس معنى الإيمان هنا التنازل اختيارا عن تعقل طريقة تفوق مدى العقل، بل التسليم الذي لا يضيع على صاحبه حق التعقل. وأساس هذا التسليم أن ليس في وسع إنسان في كل لحظة أن يستعمل حق النقد. ومن رأي كومت وجوب قصر هذا الحق في العمل عند أضيق حدوده. وإن كان الأصل وجوده لكل رجل ذي بصيرة ما بقي. وعلى ذلك يكون معنى الإيمان المتعقل هو هذه الفكرة: (لو أن الناس جميعا كانوا بحيث يستطيعون استقصاء آياته لوصلوا جميعا وبلا استثناء لفهم مبادئه ونظرياته، ولسلموا بها كلهم).
فيجب إذن ألا تكون كلمات (العقيدة) و(الإيمان) مثارا هنا لشبهة. فإن ما اشتغل به كومت من (تنظيم العقائد) لم يشمل منها إلا ما كان ممكن التوضيح والاستظهار. وهو هنا متفق مع فكرة سان سيمون الذي كان يعتبر الديانة كأساس من أسس النظام السياسي، ثم إن كومت - في أول حاليه على الأقل - لم يدخل في الإيمان شيئا من المسائل الغيبية أو العواطفية أو غير العقلية التي تنطوي عليها هذه الكلمة عادة، وتجعلها لذلك معارضة في أغلب الأحيان للتعقل، بل قصد بالإيمان كل ما يعتقده الإنسان خاصا بأي مسائل يمكن أن يصل إليها علمه. وانما حدا به إلى ذلك ما ظهر من عدم اكتفاء العقل الإنساني بتلك التفاسير المثلية أو الميتافيزيقية التي كان يعلمها الفلاسفة والقساوسة الناس عن العالم وعن الإنسان، والتي كانت موضوع العقائد إلى حينئذ. فاتخذت الفلسفة الوضعية طريقا غير ذلك الطريق، وجعلت تحل العرفان بقوانين الحوادث محل هذه التفاسير. ومن ثم أصبحت المسألة عند كومت ... الوصول من طريق العقل لإقامة مجموعة حقائق خاصة بالإنسان والجمعية، والعالم يسلم بها الناس جميعا.
وقد وقر في نفس كومت على أثر ذلك فكرتان: أولاهما: أن الأفكار والعقائد والتصورات الخاصة بهذه الأمور كانت في ذلك اليوم فوضى، والثانية: أن حالتها الطبيعية المعقولة أن تكون منظمة.
أما النقطة الأولى فغنية عن كل دليل. ويكفي أن يلقي الإنسان نظرة على الجمعية الخاصة ليعلم أن الاضطرابات التي تهز جوفها وتهددها بالخراب، إذا هي لم تهتد إلى أساس ثابت يقوم بناؤها عليه ليس مرجعها أسبابا سياسية فحسب، بل هو نتيجة اضطراب خلقي يرجع هو الآخر إلى اضطراب فكري منشؤه عدم وجود قواعد مشتركة بين كل العقول وعدم قيام مبادئ وعقائد يسلم بها الناس جميعا. وليس يكفي لوجود جمعية إنسانية وبقائها وجود شيء من الشبه بين العواطف، كلا ولا قيام المصلحة المشتركة بين أفرادها، بل يجب مع هذا وقبل كل شيء وجود اتفاق فكري تحققه مجموعة عقائد مشتركة.
فإذا رأيت جمعية من الجمعيات يعمل فيها فساد مزمن لا تظن أن طرق العلاج السياسية تنتج في شفائه، فاعلم أن السبب الأصيل لذلك الفساد إنما هو اختلال النظام العقلي، وأن المفاسد الأخرى ليست إلا مظاهر لهذا الاختلال. وتلك في رأي كومت هي حال جمعيتنا الحاضرة؛ فلم تبق تحكمها سلطة عقلية ولا روحية، وبلغت من ذلك حتى فقدت مجرد الشعور بانحلال تلك السلطة. فلم يبق بين العقول نظام مشترك تقره ولم يبق النقد السلبي الهادم مبدأ، إلا أتى عليه وأقام الفرد نفسه الحكم الأوحد في كل مسائل الفلسفة والخلق والسياسة والدين يأخذ منها ما يشاء، ولو لم يكن عنده من العلم ما يؤهله لهذا الاختيار، ويحسب أن ما أخذ به ليس أقل مما أخذ به سواه، وأنه لا يصدر إلا عن نفسه. وهذا التشتت بين العقول (أو ما يقول عنه كومت أخيرا هذه الثورة فيها) هو ما نسميه حالة الفوضى.
ولكن مثل هذه الحال هي الحال العادية الصرفة للجمعيات الإنسانية. وإن الحال النظامية لا تظهر إلا نادرا وبصفة استثنائية. وهذا زعم فاسد الأساس، ولو أنه صح يوما لما بقيت الجمعيات ثم لما تقدمت، وإنما الصحيح أن أزمنة الفوضى العقلية هي أزمنة استثنائية، وأن الناس في كل جمعية عادية يربطهم معا خضوع عام لمجموع معين من المبادئ والعقائد. والتاريخ شاهد يؤيد هذا الرأي. فإن جمود مدنيات الشرق الأقصى مرجعه الأول ما يمتازون هم به عنا من الثبات العقلي. وقد اطمأنت الجمعيات القديمة (اليونانية والرومانية) إلى فكرة معينة عن الإنسان وعن المدنية وعن العالم لم يطرأ عليها طول مدة بقاء هذه الجمعيات إلا قليل من التغيير. ثم كان للمسيحية في أوروبا سلطة عجيبة في مدى القرون المتوسطة، فأقام النظام الكاثوليكي (الذي يعتبر منتهى ما تصل إليه الحكمة السياسية) بناء من العقائد اطمأنت له كل النفوس، وأسلمت قيادها له وانحلال هذا البناء أقوى من معظم الشرور التي نتخبط في حمأتها. من ذلك يتبين أن الفوضى العقلية حال غير عادية، ومرض سماه كومت (لمرض الغربي) ولو طال أمد هذا المرض لأصبح قاتلا فإما أن تستسلم الجمعية له فتهلك، وإما أن تعاود العقول توازنها بالخضوع لمبادئ مشتركة والتسليم بها.
من ذلك يظهر أن مسألة إعادة نظام العقائد تزدوج، فيصبح ثمة من جهة مسألة فلسفية صرفة ترمي إلى إقامة مجموعة مبادئ عقائد صالحة ليسلم بها الناس جميعا، ومن جهة أخرى مسألة اجتماعية تبحث في الوسيلة لجمع العقول والأذهان إلى هذا الإيمان الجديد، على أن هذه الفكرة ليست إلا ظاهرية. فإن حل المسألة الأولي يجر حتما إلى حل المسألة الثانية؛ ذلك لأن صفة النظام عند المجموع أساسها الأول ما في نفس كل فرد من الاضطراب، وانقسام العقول فيما بينها أصله انقسام كل عقل على نفسه. فلو أن عقلا واحدا أمكنه أن يقيم التوازن في نفسه لانتقل هذا التوازن بفضل المنطق وحده إلى ما حوله ومن جاوره. وإذن متى أنشئت الفلسفة أصبح أمر تحقيق الباقي موكولا ليد الزمن. وحسبنا بحث الأفكار والعقائد القائمة في إحدى النفوس، والنظر فيما يلزم لإحلال التوازن محل الفوضى فيها بمعنى أن يحل فيها «توازنا منطقيا كاملا».
لما أراد ديكارت أن يبلو معلوماته بمبدأ الشك لم يحتج إلى أكثر من تعرف المصادر التي جاءت هذه المعلومات عنها. وكذلك فعل كومت. فإنه لما أراد تحقيق التوافق المنطقي لآرائه اكتفى بالنظر في الطرائق التي أوصلتها إياه، حتى إذا اكتشف أن أيا من بينها لا تتفق مع سواها كان قد وجد سبب الاضطراب العقلي، ومنشأ المفاسد التي تثقل كاهل الجمعية الحاضرة، وكان كذلك قد وجد الدواء. والدواء هو السعي لاستبعاد هذا التناقض؛ فإن الوحدة والتوافق هما أول ما يتطلبه الفكر الإنساني بطبيعته، والفهم متناسق بفطرته فلا يكتفي بآراء محشودة في الذهن ولا تتفق مع المنطق، ومهما يكن التناقض مجهولا من صاحبه فإن ذلك لا يمنعه من أن يحس به، وكل فكرة عندنا تستدعي وجود مجموع أفكار مرتبطة بها وصلت إلينا من نفس الطريق الذي وصلت منه تلك الفكرة، وهذا المجموع جزء من كل أعظم منه يتم في أنفسنا، وتجمعه فكرة عامة عن العالم.
وقد وجد كومت في نفسه وفي نفوس معاصريه طريقتين عامتين من طرائق التفكير لا يتفق وجودهما معا من غير تعارض ولا تناقض. ولم تستطع إحداهما إلى يومنا هذا التغلب على الأخرى تغلبا حاسما. فهو يفكر عند النظر في عدة مجموعات من الحوادث تفكير عالم نشأ في مدرسة هيز وجاليليه وديكارت وتابعيهم، فلا يفكر في تفسير هذه الحوادث بأسبابها، ويقنع أن أوصلته الملاحظة أو أوصله الاستقراء لمعرفة قوانينها لما تسمح له به معرفة تلك القوانين من المداخلة أحيانا في شأن الحوادث؛ ليحل محل النظام الطبيعي نظاما صناعيا أكثر اتفاقا مع حاجاته، وهذا هو ما صير المظاهر الميكانيكية والفلكية والطبيعية والكيماوية، بل البيولوجية في نظره، موضوعات للعلم النسبي والوضعي (الواقعي).
ولكن متى كانت المسائل المراد النظر فيها راجعة أصولها إلى دخيلة ضمير الإنسان، أو متعلقة بالحياة التاريخية والاجتماعية، فهنالك تغلب على النفس وجهته مناقضة لتلك الوجهة الأولى. فلا يقتصر الذهن عندئذ على البحث وراء قوانين الظواهر، بل يزعم لنفسه القدرة على تفسيرها، ويندفع يريد الوصول لماهيتها وسببها. فهو يبحث في أمر الروح الإنسانية وفي علاقتها بحقائق العالم الأخرى، وفي الغاية التي يجب على الجمعية أن ترمي إليها وفي أحسن الحكومات الممكنة، وفي العقد الاجتماعي وفي غير ذلك من المسائل التي يرجع في كلها إلى طريق التفكير (الميتافيزيقي). وهذا الطريق لا يتفق مع الأول بحال من الأحوال. ومع ذلك نراهما قائمين اليوم معا في كل النفوس.
وإن سير الجماعات ليظهر لنا كيف حدث ذلك. ولكن أيا كانت أسبابه التاريخية فإن حقيقته ثابتة للعيان. فلا يستطيع الذهن الإنساني اليوم أن يتقبل كلا، ولا أن يرفض بتاتا أيا من هاتين الطريقتين من طرائق التفكير. فهو يشعر تمام الشعور أن ما قررته العلوم الوضعية لا يمكن رفضه أو التخلص منه. وأن لا سبيل للرجوع إلى تفاسير ميتافيزيقية أو دينية للظواهر الفلكية أو الطبيعية. ولكن يرى أيضا أن الصور الميتافيزيقية والدينية لازمة عنده ولا غناء له عنها. وذلك طبيعي ما دام العقل الإنساني يريد لسد حاجته إلى الوحدة والتناسق اللذين هما مطلبه الأعلى فكرة عامة تحيط بكل أنواع الظواهر. وهذه الفكرة هي ما سماه كومت جماع التجارب، أو هي في كلمة واحدة (الفلسفة).
ولم تثبت طريقة التفكير الوضعية إلى اليوم قدرتها على سد هذه الحاجة، إذ إنها لم تنتج إلا بعض علوم معينة، ولما كان العلم الوضعي خاصا وجزئيا فقد قصر بحثه على مجموعة محدودة من الظواهر وقف عليها كل أعماله التحليلية والتنسيقية بدقة محمودة كانت أساس قوته، ولم يقدم يوما ما على تنسيق كل الحقائق التي وصل إليها علمنا. بل اختص الديانات والميتافيزيقيات بهذا العمل الذي لا يزال إلى يومنا هذا سبب وجودها الأهم، ذلك بأنه عمل يجب القيام به لما يطمح إليه العقل الإنساني بالضرورة، وبطبعه من الوحدة وما يرجوه من تحصيل فكرة عن العالم. فخير له إذن أن يبقى متعلقا بهذه الحلول التي تقدمها له الديانات والميتافيزيقيات، مهما تكن حلولا خيالية من أن يترك المسائل الفلسفية معلقة أمامه ولا جواب عليها. ومما تقدم يظهر أن الروح الوضعية في زمننا الحاضر (حقيقة)، ولكنها (خاصة) والروح الدينية الميتافيزيقية (عامة) ولكنها (خيالية). وليس في إمكاننا أن نضحي (حقيقة) العلم ولا (عمومية) الفلسفة. فكيف السبيل إلى الخروج من هذا المأزق.
لدينا لذلك ثلاثة حلول لا رابع لها: (1)
فإما أن نصل إلى توفيق يمكن معه وجود طريقتي التفكير من غير تضارب. (2)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الدينية الميتافيزيقية. (3)
وإما أن نقيم الوحدة بتعميم الطريقة الوضعية. •••
يظهر الحل الأول لأول وهلة مقبولا أكثر من الأخيرين. إذ لم لا يتفق بحيث الأنواع المختلفة من المظاهر الطبيعية على طريقة وضعية مع فكرة ميتافيزيقية أو دينية عن الوجود. وأي مانع يمنع تصور المظاهر بسنن لا تبديل لها، وأن نبحث في الوقت نفسه من طريق آخر السبب الذي يجعلنا نفهم العالم والطبيعة على عمومها. ومتى كان ذلك وتحرر العلم الوضعي من حكم الدين والميتافيزيقية، ضمن ذلك العلم لهما مثل ما وصل إليه من الاستقلال، وتحددت بذلك على طريقة تزداد كل يوم دقة، النطاق الصحيح للعلم الوضعي من جهة ونطاق التطورات التي تتعدى التجارب من الجهة الأخرى.
وإن كومت ليخبرنا أن هذا التوفيق ظهر معقولا زمنا طويلا، وأن الأفكار الدينية والميتافيزيقية لا تزال إلى يومنا هذا هي الصور الجامعة التي قامت في النفس الإنسانية عن الوجود. ولقد أدت هذه الأفكار بذلك وظيفة ضرورية لولاها لما وجد العلم الوضعي ولما تقدم. ولكن لما كان هذا العلم هو وارثها فهو كذلك عدوها، وتقدمه يجر حتما تدركها. وما في التاريخ من تراجح آي الدين والميتافيزيقية من جهة والمعلومات الوضعية من الجهة الأخرى يدل على أن التوفيق بينهما لا يمكن أن يدوم.
ولا يكون انقضاء التناقض بين طريقتي التفكير نتيجة معركة منطقية فاصلة تنهزم فيها الديانات والفلسفات؛ فليس على هذا الشكل تنتهي الآيات والفكر ولكنها تختفي بإهمالها، كما يقول كومت، اختفاء الطرق غير المستعملة. وهل هي كانت إلا كطرائق للذهن الإنساني الذي أراد أن يحيط مجموع الأشياء بنظره من قبل أن يتم درسها. ولم يكن للعقل أن يتقدم للإنسان بهذه المعلومات الحقة إلا متأخرا، وبرغم الجهود الطويلة التي قام بها العلم، ولقد كانت المعلومات التي تقدم بها متواضعة كل التواضع ونسبية كلها؛ لهذا لجأ الإنسان إلى الخيال طالبا هذه المعلومات دفعة واحدة ومطلقة كلها. ولكنه ترك هذه التفسيرات الدينية والمنطقية رويدا رويدا على نسبة تقدمه في بحث المظاهر بحثا وضعيا، وعود نفسه أن يردها إلى مناطق تزداد بالزمن بعدا من غير أن يهمل قطعا التنقيب عن أسباب الأشياء. ولكنه أصبح لا يهتم بتقدير الأسباب للظواهر التي وصل فيها إلى فكرة وضعية بحتة، وصار يكتفي بما يعلم من خضوع هذه الظواهر لقوانين معينة. ومتى اعتادت الأذهان تصور كل الظواهر من كل الأنواع على هذا النحو، وأصبحت فكرة قوانين هذه الظواهر أيا تكون متعارفة كذلك لا يبقى لطريقة التفكير الميتافيزيقية وجود، وبالاختصار فمتى أصبح العلم كله وضعيا أصبحت الفلسفة وضعية كذلك.
فإنا لا نملك النظر للأشياء إلا من جهة واحدة، وكل ما كان من معلوماتنا «حقيقيا» ينصب على الظواهر وقوانينها. فإذا أصبح نظرنا لكل أنواع الظاهرات مأخوذة واحدة بعد الأخرى مكيفا على الطريقة الوضعية لم يبق لنا، إذا أخذناها معا ونظرنا إلى مجموعها، أن نفكر فيها بطريقة مختلفة عن الطريقة الوضعية بل معارضة لها.
والواقع أن وجود هاتين الطريقتين من طرق التفكير معا سيبقى ما دامت الروح الوضعية لم تصل إلى تمام انتشارها، وما بقي جزء قل أو كثر من الظاهرات الطبيعية يفسر بماهيته وسببه وغايته. ولكن هذه الحال لن تدوم إلى الأبد. بل كلما تقدمت الروح الوضعية اضمحل مركز الصورة الدينية الميتافيزيقية من العالم وتلاشى. فعلينا إذن أن نختار بين الطريقتين إذ لا سبيل إلى وحدة التفكير، ولا إلى التماسك المنطقي التام إلا هذا الاختيار.
وهذا الاختيار الذي ألجأنا إليه عدم إمكان التوفيق يدفعنا للنظر في الأخذ بطريق التفكير الوضعي كلا أو اطراحه كلا. ولقد رأى المحافظون
traditionalistes - وأخصهم يوسف دمتر - هذا الوجه من أوجه المسألة مما دعا كومت للاعتراف لهم بكبير الفضل. ودمتر لا يرى لجمعيتنا سلاما إلا في العودة التامة لطريق التفكير الديني. وهو لذلك يحارب الروح الفلسفية الحديثة في أصلها، وإن شئت ففي الأصول المتعددة التي أخذت عنها، فهو يناضل كومت مناضلته فلسفة القرن الثامن عشر التي أخذت عنها، ولا يراعي لباكون أكثر مما راعى للوك من حرمة، ولا يرحم أنصار الإصلاح الأول أكثر من رحمته باكون؛ ذلك لأنه علم أن القرن الثامن عشر إنما هو النتيجة الشاملة التي جهزها القرنان السادس والسابع عشر، وأن هذه القضية المنطقية العظمى المخربة ترجع أصولها إلى أعمال التحليل والإفساد التي بدأت منذ القرن الرابع عشر؛ ولهذا فهو متفق مع نفسه فيما سعى إليه من منازلة هذا العمل الشيطاني لإرجاع أوروبا إلى ما كانت عليه حالها العقلية الدينية في العصور الوسطى، فإن إعادة سلطان البابا الروحي يقطع الطريق على الفوضى العقلية والخلقية، وهناك ترجع الكثلكة إلى النفوس أرفع حاجاتها وهي الوحدة.
وهذا الحل يكفي أمام الخيال لمواجهة فروض المسألة. ولكنه غير ممكن الحصول في الواقع؛ لأن التاريخ لا يرجع إلى منبعه. ويجب لإخضاع الأذهان من جديد إلى السلطان الروحي الذي كانت تقبله طوعا في العصور المتوسطة أن نعيد حولها مجموع الظروف التي كانت تحيط بها في ذلك الحين. لكن كيف لنا أن نمحو من التاريخ اكتشاف أمريكا، واختراع الطباعة وغير ذلك من الأمور الاجتماعية الكبرى. ثم ما هو السبيل لنتجاهل وجود كوبرنك وكبلر وجاليليه وديكارت ونيوتن وسائر مؤسسي العلوم الوضعية. ولئن أمكن المستحيل واستطعنا أن نستعيد الوحدة العقلية والخلقية التي كانت قائمة في الجمعية المسيحية أيام العصور الوسطى، فكيف لنا أن نمنع القوانين الطبيعية التي وصلت إلى حل هذه الوحدة مرة أن تعود إلى مثل ذلك مرة أخرى.
وما دام ذلك غير ممكن فقد أصبح الإنسان مسوقا حتما لقبول الحل الثالث والأخير. ما دام التوفيق بين طريق التفكير الوضعية والطريق الأخرى غير ممكن. وما دام السلطان المطلق لا يمكن أن يكون لطريق التفكير الدينية الميتافيزيقية. وما دام واجبا للعقل الإنساني الأخذ بفلسفة، فلم يبق إلا أن تنشأ هذه الفلسفة من طريق التفكير الوضعي وحده. ولا شيء فيما نرى يمنع تحقيق ذلك. بل إن آخر قضايا الروح الدينية الفلسفية ليست من المتانة فلا تمحى. وهذه الروح (الخيالية) بماهيتها لا يمكن أن تصبح حقيقة يوما من الأيام. أما الروح الوضعية فليست (خاصة) إلا عرضا، ومن الممكن جدا أن تصل إلى العمومية التي تفتقدها. وإذ ذاك يمكن إقامة فلسفة جديدة تحل معها مسألة (التماسك المنطقي التام) المنشود.
فالصعوبة كلها إذن هي في تعميم طريقة التفكير الوضعية. ويجب للوصول إلى ذلك أن تمتد هذه الطريقة إلى الظواهر التي لا يزال الناس يتصورونها عادة على طريقة التفكير الدينية الميتافيزيقية. هذه هي الظراهر الخلقية والاجتماعية، وسيكون هذا العمل هو الاكتشاف الرئيسي لكومت. فإنه سينشئ (طبيعة اجتماعية)، ويكون بها قد نفى ما بقي للدين وللفلسفة من سبب في الوجود، وأقام على أساس من العلم الوضعي فلسفة وضعية كذلك، وعندئذ تتحقق (وحدة الفكر) ويكون من أثر هذا التوازن العقلي قيام التوازن الخلقي والتوازن الديني للإنسانية. (3) قانون الحالات الثلاث
قد يعتبر إنشاء علم الاجتماع في مذهب كومت بدء وغاية في وقت معا. فإنك لترى الطريقة الوضعية تصل معه من جهة إلى حكم أرقى الظاهرات وأشرفها وأكثرها تركيبا. وهنا يكون علم الاجتماع أرفع مراتب الروح الوضعية، وبذا يصل إلى أرقى درجات العلوم، ومن ثم يحكمها جميعا. ثم إنك من الجهة الأخرى ترى الفلسفة الوضعية، وقد أصبحت ممكنة الوجود تنشأ من عنده لتقيم مبادئ الخلق والسياسة.
قال كومت في أول «الدروس»: (إن إنشاء علم الاجتماع سيسمح للفلسفة الوضعية أن تكسب صفة العمومية التي لم تكن بعد قد أفادتها، وستصير بذلك قادرة على أن تحل محل الفلسفة الدينية والميتافيزيقية التي لا تمتاز اليوم بصفة حقيقية غير هذه العمومية).
7
ثم استنتج في آخر «الدروس» ما يأتي: (إن خلق علم الاجتماع أقام اليوم الوحدة الأساسية في مذهب الفلسفة الحديثة كله).
8
ولقد خلق هذا العلم الذي يرجع إليه كل ما سواه من يوم أن اكتشف كومت قانون الحالات الثلاث. فإن إقامة هذا القانون تخرج (الطبيعة الاجتماعية) عن أن تكون مجرد فكرة فلسفية لتصبح علما وضعيا. ولقد أحس بهذا القانون بل حدده في القرن الثامن ترجو ثم كوندرسيه ثم الدكتور بوردن. ولكن كومت ينسب - على الرغم من ذلك - اكتشافه لنفسه. على أنه إذا كان عدلا أن نعترف لسابقيه بما لهم من حق، فحق كذلك أن نقر كومت على أن أحدا منهم لم يتصور المدى العلمي لذلك القانون وشتان بين مجرد استنباط الوقائع، وبين فهم عظيم أهميتها والاهتداء من بينها إلى القانون الأساسي الذي يحكم مجموع تقدم الإنسانية. وإليك كيف يتقدم به كومت في (فكرة عن الأعمال العلمية اللازمة لإعادة نظام الجمعية - 1822):
إن طبيعة العقل الإنساني تقضي على كل فرع من فروع معلوماتنا أن يمر في أثناء سيره حتما، وعلى طريق التعاقب بثلاث أحوال نظرية مختلفة: الحال الدينية أو التخيلية، والحال الميتافيزيقية أو المطلقة - ثم الحال العلمية أو الوضعية.
9
ولقد ذكر كومت هذه الفكرة في الدرس الأول من دروس الفلسفة الوضعية، ثم أضاف إليها ما يأتي: (وبعبارة أخرى فإن الذهن الإنساني بطبيعته يستخدم على التعاقب في كل أبحاثه ثلاث طرائق من طرق الفلسفة يختلف كل منها في جوهره عن الآخرين بل يعارضهما. فالطريقة الدينية أولا ثم الطريقة الميتافيزيقية ثانيا والطريقة الوضعية أخيرا. وينشأ عن ذلك ثلاث فلسفات أو مذاهب عامة عن تصوراتنا لمجموع الظواهر تنفي كل منها ما بعدها. فالأولى هي نقطة البدء اللازمة للعقل الإنساني، والثالثة هي حاله الثابتة النهائية، وأما الثانية فلم تعد إلا لتكون سبيلا بينهما).
10
وكلمتا الدينية والميتافيزيقية يقصد بهما هنا معنى معينا أدق التعيين، فكومت يقصد بالدين مذهبا عاما في تصور مجموع الظواهر يرجع قيام هذه الظواهر إلى إرادة الآلهة، ولا يريد به المضاربات والتفكيرات الدينية التي يعتبرها الناس عادة علما منطقيا أو قدسيا. بل إنه لا يفكر أقل التفكير في درس الحقيقة الموحى بها. وإنما يشير بهذا الاسم إلى تفسير ظواهر الطبيعة بأسباب تحكمية فوق الطبيعة. فمعنى الديني التخيلي. وكومت يسمى هذه الطريقة في التفسير أيضا «التصورية» أو «المثالية». وعلى هذا المعنى نراه يتساءل: إذا لم يكن كل منا يذكر أن أفكاره الرئيسية كانت دينية أيام طفولته ميتافيزيقية في شبابه طبيعية في رجولته.
11
كومت لا يشير في ذلك إلى ما يأخذه الطفل من التعاليم الدينية عن أهله بل إلى ميله السليقي الذي يجعله يفسر الظواهر الطبيعية بإرادات لا بقوانين. إذن فالدين يرادف هنا تصور أسباب الأشياء كأثر قوي، وهي إن تكن علوية فهي تشابه الإنسان في تفكيره وإرادته.
كذلك لا يجعل كومت للميتافيزيقي ذلك المعنى الواسع الذي يعطى له عادة، ولا يتعرض إلا عرضا لعلم الموجود في اعتباره موجودا ولا للمادة ولا للعناصر الأولى، وإنما ينظر إليها كوسيلة لتفسير الظواهر التي تنتجها التجارب - فافتراض أثير لتفسير ظواهر الضوء والكهرباء في الطبيعة هو من أمثلة الميتافيزيقية. ومثله افتراض العنصر الحيوي في الفسيولوجيا، وافتراض الروح في البسيكلوجيا (علم النفس). فالميتافيزيقا ترادف الغرض المطلق كما يقول كومت، وهي ليست في حقيقتها إلا طريقة التفسير الأولى قد ذهب لونها، واعتراها الذبول والذهول وهي تزداد تدرجا في ذلك كلما أنتجت زيادة الدقة في ملاحظة الظواهر الطبيعية التباعد عن إسناد هذه الظواهر إلى إرادات خاصة، وإخضاعها لقوانين معينة.
لنحذر إذن من أن نعطي كلمتي (الميتافيزيقا) و(الدين) كامل معنيهما. إذن فلو استنتج مستنتج من قانون الحالات الثلاث أن تدرج الإنسانية يزيدها كل يوم بعدا عن التدين؛ لتنتهي عند حالة أخيرة لا يكون فيها للدين محل مثلا لكان ذلك أغرب الخلط في فهم مذهب كومت. فإن تقدم الإنسانية سيسوقها إلى حال ستكون دينية قبل كل شيء، وترتب فيها الديانه حياة الإنسان كلها، ولا نحسب كومت يأبى أن يعرف الإنسان بما عرفه كثيرون غيره من أنه حيوان متدين، وقد يمكن تطوير تاريخ الإنسانية من بعض وجوهه تطورا يسيرا من الديانة الأولى (ديانة عبادة الأصنام)؛ ليقف عند (الديانة النهائية). لكن الغرض من قانون الحالات الثلاث ليس هو تصوير تطور الإنسانية الديني، وإنما هو خاص بسير العقل الإنساني؛ فهو يذكر الفلسفات المتعاقبة التي أخذ ذلك العقل بها في تفسير الظواهر الطبيعية، وهو بالاختصار قانون تطور «الفكرة».
ولا شك في أن الذين أخطأوا الفهم لم ينظروا إلى ذلك القانون إلا في الدرس الأول من «الدروس»، حيث ذكر منعزلا عن تطبيقاته. ولكن هذا الخطأ لا يبقى له محل إذا رجع الإنسان إلى الجزء الرابع من «الدروس»، حيث وضع ذلك القانون في المكان الواجب له عند الكلام عن الحركة الاجتماعية، فإذا رجع الدرس الثامن والخمسين من الجزء السادس ارتفع كل إبهام.
على أن تقرير كومت لهذا القانون في الصحائف الأولى من (دروس الفلسفة الوضعية) لم يكن عن غير حكمة. فإن قانون التطور العقلي للإنسانية، أعني قانون الحالات الثلاث هو بالنسبة لعلم الاجتماع كما يتصوره كومت القانون الأهم للحركة الاجتماعية، وبالتالي للعلم الاجتماعي كله. فإن العامل العقلي هو أهم كل العوامل الاجتماعية التي ينشأ تقدم الإنسانية عن تطورها المصطحب المتضامن. فهو بذلك حاكمها جميعا بمعنى أنها كلها تتعلق به أكثر بكثير مما يتعلق هو بها. وعليه فتاريخ الفنون والأنظمة والأخلاق والحقوق والمدنية على العموم لا يمكن فهمها من غير الرجوع إلى تاريخ التطور العقلي، أي: تاريخ العلم والفلسفة، في حين أن هذين يمكن مع شيء من التدقيق فهمهما من غير الرجوع لما سواهما.
فهذا التطور هو إذن العماد الأهم الذي تترتب حوله باقي أنواع المظاهر الاجتماعية. والقانون الذي يعبر عنه هو كذلك القانون (الأساسي) الأول و(الأعم) بالمعنى الذي قصده كومت من هذه الكلمة الأخيرة. فالإشارة إلى هذا القانون وذكره، فيه التقدم بتبرير العلم الاجتماعي كله، وتدليل واقعي على أن العلم الاجتماعي ليس ممكنا فحسب، بل إنه موجود بالفعل، ومن هنا تلك المكانة العليا التي يضع كومت فيها قانون الحالات الثلاث. •••
يقدم كومت إثبات هذا القانون في شكلين متغايرين؛ فهو يستند لذلك على التاريخ أولا. والتاريخ يشهد حقيقة أن كل فرع من فروع معلوماتنا مر بهذه الحالات الثلاث من غير أن يرجع القهقرى أبدا، ولئن كان صحيحا أن الأكثر منها لم يصل بعد إلى الحالة الوضعية، فإنه قد لوحظ أن هذه قد سارت حتى الآن في الطريق الذي سار فيه غيرها مما وصل إلى تلك الحالة.
والتحقيق التاريخي يكفي لإثبات ذلك عند الضرورة على شريطة أن يكون كاملا، ولكن كومت لا يكتفي به ويدعي إلى جانبه استنتاج قانون الحالات الثلاث من الطبيعة الإنسانية. ويتقدم لإثبات ذلك من طريق مباشر مستقل. بل إنه ليرى التاريخ على ما فيه من حجة ودليل غير واضح الصورة في هذا الباب، ويرى الاستعانة بالبسيكولوجيا للوصول إلى الوضوح المطلوب. قال: (يجب أن ندقق في تحديد العوامل العامة المختلفة المأخوذة من معرفتنا الطبيعة الإنسانية معرفة مضبوطة، والتي جعلت التعاقب المحتوم للظواهر الاجتماعية غير ممكن اجتنابه من جهة وضروريا من الجهة الأخرى، ما دام نظرنا متجها بكله إلى تطورها العقلي الذي يحكم سيرها العام أكثر من كل ما سواه).
12
فلم يكن الذهن الإنساني قادرا أن يبدأ بتفهم الطبيعة إلا على الشكل الديني من أشكال الفلسفة؛ ذلك لأن هذا النوع هو الوحيد الذي يظهر فجأة ولا يحتاج أن يسبقه غيره. وعليه ترى الإنسان أول ما يتصور القوى يتصورها على مثال نفسه، ويتفهم الظواهر بجعلها شبيهة أعماله حيث يحسب نفسه عليما كيف تنتج هذه الأعمال، نظرا لما عنده من إحساس بمجهوده وشعور بإرادته. وهذا التفسير التصويري ملازم لطبيعتنا حتى لنرانا في كل لحظة على أهبة الاستسلام له. ولو أنا اليوم نسينا النظام الوضعي لحظة وتقنا للبحث عن طريقة حدوث بعض الظواهر، فسرعان ما يجيئنا خيال مبهم من قوة تشابه قوتنا إلى حد ما. وإن أولئك الميتافيزيقيين الذين يجعلون من الله شخصا لهم عند كومت أشد من كل أمثالهم، الذين يدعون معرفة صورة الله، تمشيا مع أنفسهم.
وما أكثر ما عادت به الفجأة التي يمتاز بها طريق التفكير الديني من الفائدة. ولا يرى الإنسان كيف كان ممكنا تقدم العقل الإنساني بدونها. فإن الذهن محتاج إذا أراد تكوين نظرية علمية عن الظواهر الطبيعية إلى ملاحظات يكون قد حصلها من قبل مهما كان من تواضع النظرية المذكورة، وجزئيتها. لكن الملاحظة العلمية لا تكون ممكنة هي الأخرى إذا لم تكن نظرية أو افتراضا على الأقل. والتحكم المطلق هو عند كومت عقيم، بل لا يمكن لدى التدقيق تصوره. وليس لمجرد مجموعات الوقائع مهما قدر لها من كثرة العدد، أي مدلول علمي بذاتها. مثال ذلك التقريرات المثيورولوجية التي تملأ أعمدة القوائم وصحائف المجلدات، والتي لن تكون ملاحظات إلا إذا عمل الذهن حين جمعهما على تفسيرها مسوقا بفكرة تحقيق فرض من الفروض، سواء أكان ذلك الفرض مبهما أم معينا وحقيقيا أم خياليا.
فإذا أحرج الذهن بين هاتين الضرورتين المتساويتين في تحكمهما مع ضرورة البدء بالملاحظة للوصول إلى (صورة معقولة)، والبدء بتصور نظرية أيا ما تكون للوصول إلى استنباط ملاحظات متتابعة لجأ إلى طريق التفكير الديني حيث لا يحتاج تخيل قوى مشابهة لقوته منتشرة في أرجاء الطبيعة لأي ملاحظة تسبق هذا الخيال، ولكن متى تمخض الخيال عن هذا الفرض تبعته الملاحظة لتأييده أولا ثم لمحاربته بعد ذلك، ومن ثم يفسح الطريق ويبدأ تطور العلوم والفلسفة سيره خلال المبادئ تتعاقب بعد ذلك على نظام محتوم.
وذلك هو الحال أيضا من الجهة الخلقية. فلقد كانت الفلسفة الدينية هي الوحيدة التي استطاعت أول الخلق أن توحي إلى الإنسانية الضعيفة الجاهلة من الإقدام والثقة بالذات ما كفى لإنهاضها من غفلتها الأولى. ولو أن الإنسان علم في تلك العصور ما يعرفه إنسان اليوم من خضوع ظواهر الطبيعة لقوانين لا تبديل لها، لما دار في خلده أن معرفة هذه القوانين تجعل له على الطبيعة سلطانا ، بل لكان جهله قوة العلم داعية احتلال اليأس نفسه وعجزه دون القيام بأي مجهود. لكن طريقة التفكير الثيولوجية كانت أكثر تشجيعا. فقد تخيلت الظواهر ممكنا تحويرها وقدرت كل شيء ممكن الحدوث، وقررت أن لا مستحيل وأن لا محتوم وأن حدوث شيء أو عدم حدوثه هو رهن بإرادة الآلهة. وإذا كان الإنسان لا يقدر بنفسه من أمر الطبيعة على شيء، فإنه يقدر على كل شيء إذا هو نال رضا الآلهة أولي الشهوة الحاكمة؛ وكذلك كان الإنسان أشد ما يكون ثقة بسلطانه وقوته يوم كان ضعفه وعجزه على أشدهما.
ولقد كانت الفلسفة الثيولوجية لازمة من الوجهة الاجتماعية أيضا لبقاء الجمعية الإنسانية وتقدمها. ذلك بأن تبادل اشتراك أفراد الجمعية في العواطف، وتوافقهم في المصلحة لا يكفي لقيامها ولا لتقدمها، بل يجب لذلك اشتراكهم في الإيمان بعقائد معينة. ولا وجود لجمعية إنسانية بغير مذهب مقرر يتضمن أفكارا مشتركة. ولكن كيف لنا أن نتصور قيام مثل هذا المذهب إذا لم يكن ثمة نظام اجتماعي قائم؟ تلك حلقة مفرغة أخرى لم يكن للخروج منها سبيل إلا الفلسفة الثيولوجية التي وضعت من بادئ الأمر مبادئ مشتركة يدافع عنها أعضاء الجمعية طرا، ويزيدهم في دفاعهم هذا تحمسا أن بها تتعلق آمالهم ومخاوفهم لهذا العالم وللعالم الآخر إن كانوا من قد اعتقدوا به.
ولقد كان من أثر هذه الفلسفة الثيولوجية أيضا أن كونت في الجمعية طائفة معينة اختصت بالفكر والنظر.
وما أسرع ما قامت هذه الطائفة، وانفردت عن سائر الجماعة حتى أقامت التفرقة بين النظر والعمل تفرقة عادت لا شك بالتقدم العظيم برغم أنها كانت لا تزال صورة غير منظمة. ولا شك أن هذا التقدم كان بطيئا جدا، فإنا لا نزال نرى الناس إلى اليوم لا يقبلون راضين أي جديد لا يرون فيه فائدة عملية قريبة. وقد كان في يد هذه الطائفة بطبيعة وظيفتها سلطة أفادت الاجتماع في تقدمه أثمن الفائدة، كما أنها كانت تتمتع بالفراغ اللازم للإمعان في البحوث النظرية. قال كومت: (ولولا أن أنشئت هذه الطائفة فجأة لوقفت قوانا، وقد أصبحت عملية كلها عند حد من التقدم ما أسرع ما يقتصر على بعض طرق وآلات حربية وصناعية).
13
وهذه الخطوة الأولى هي التي استتبعت كل ما تلاها من أقسام العمل. فعلماؤنا وفلاسفتنا ومهندسونا هم أخلاف القسيسين الأولين والسحرة ونذر المطر.
إذن فطبيعة الإنسان تقتضي ظهور الفلسفة الثيولوجية فجأة، وظهورها هذا لا غنى عنه ولا سبيل لاجتنابه. وبعبارة أخرى فهو محتوم، ويجيء على أثره ما قد نسميه منطق التاريخ العقلي للإنسانية، ومن ثم تكون الفلسفة الثيولوجية قد مهدت السبيل لملاحظة الظواهر ملاحظة تدخل إلى العقول رويدا رويدا فكرة السنن الثابتة، وتجعل الفلسفة الثيولوجية بذلك محفوفة بالخطر حتى ليجيء عليها وقت تظهر فيه بالية مضرة. هنالك يبدأ الفكر يحل نفسه محل الخيال في توضيح الطبيعة وتفسيرها. وكلما سار هذا التطور إلى الأمام تبين ميل العقل الإنساني إلى طريقة التفكير الوضعية، وتفضيله إياها تفضيلا يصل في مختلف فروع العلوم إلى الاستئثار والتفرد بها بعد خلاف قد يطول أو لا يطول.
والحقيقة أن الحالة الثيولوجية لمعلوماتنا تحوي حتى في تلك اللحظة التي تكون فيها في ذروة السلطان (وذلك يكون بعد قليل من نشأتها) جراثيم تحللها وفسادها؛ وذلك لأنها لم تكن تامة التناسق في يوم من الأيام، فإن من بين الظواهر ما لم يغلب يوما على الناس نظامها، ولا هم تصوروها يوما تحت تصرف إرادات مطلقة التحكم، من ذلك ما ينقله كومت عن آدم سميث حين يلاحظ أن إله الثقل لم يوجد في أي زمن ولا في أي مكان. وكذلك فلقد أحس الإنسان من أول وجود الجمعية بشيء من أثر القوانين البسيكولوجية، وذلك لاضطراره أن يتفق مع أمثاله في طريقة الإحساس والعمل. من ذلك ينتج أن البذرة الأولى للفلسفة الوضعية ترجع في القدم إلى ما ترجع إليه بذرة الفلسفة الثيولوجية، وإن لم يكن نماؤها وتقدمها قد أبطأ أي إبطاء. ولما لم تكن الفلسفة الثيولوجية لذلك عامة لم تكن إلا مؤقتة. وإنما تكون خاتم الفلسفات أو طرائق تفسير الظواهر الطبيعية تلك التي تنطبق عليها جميعا، وبلا استثناء من أبسطها إلى أكثرها تركيبا. ذلك بأن هذه الفلسفة هي وحدها التي تحقق الوحدة التي لا غنى للذهن عنها.
لكن الانتقال من الفلسفة الثيولوجية إلى الفلسفة الوضعية لا يتم بالطفره أبدا. فإن التعارض بينهما بين وواضح، وعقلنا لا يحتمل تغييرا ذلك مبلغه دفعة واحدة؛ لهذا قامت الحال الميتافيزيقية وسيلة بينهما. وتمتاز هذه الحال عن الآخرين بأن ليس لها مبدأ معين تعرف به. فبينا نرى الفلسفة الثيولوجية مكتفية بنفسها ذات وحدة متناسقة، تبقى لها ما دامت الجرثومة الوضعية الكمينة فيها لم تتحرك ولم تعمل عملها. وبينا ستكون الحال الوضعية تامة التناسق كذلك. إذ الحال الميتافيزيقية ليست في تعريفها إلا خليطا منهما معا، قال كومت في سنة 1825: (إن الضرورات الميتافيزيقية ترجع إلى الثيولوجيا والطبيعة جميعا في وقت معا، أو هي على الصح ليست إلا الأولى قد حورتها الثانية).
14
فالميتافيزيقية في أشكالها الدائمة المتغيرة المستمرة التدرج إنما تقوم بالتوفيق الذي يستدعيه وجود الفلسفتين الثيولوجية والوضعية معا في النفوس، حتى تصل الفلسفة الوضعية حد كمالها. ولقد تسنى للطريقة العلمية أن تتقدم في غزواتها تحت ستار من الافتراضات الميتافيزيقية من غير أن تزعج أنصار الفلسفة الثيولوجية؛ وفضلا عن ذلك فإن للميتافيزيقية قوة نقدية غاية في النشاط كان لها فضل غير قليل في دهورة العقائد القديمة؛ ولهذا ينظر كومت إلى الأكثرين من فلاسفة القرن الثامن عشر الفرنسيين كأحسن الممثلين للروح الميتافيزيقية.
على أنه إذا كان يجب رد هذه الحال الوسط إلى أي من الطرفين، فإن كومت لا يتردد في ردها إلى الحال الثيولوجية، ذلك بأن الفلسفة الميتافيزيقية تحل الوحدات محل الإرادات والطبيعة محل الخالق، ولكنها تجعل وظيفة وحداتها وطبيعتها مشابهة أكبر الشبه لإرادات الثيولوجيا وللخالق فيها. إذن فتفسير الواقع يبقي الغرض الذي ترمي إليه، وإن كان قد أضعفه ذلك الشعور المتزايد بضرورة وجود القوانين الطبيعية. وتكون هذه الطريقة العقيمة بذلك قد استبقت الثيولوجيا، وإن كانت قد قتلت الركن العقلي الأهم منها بإنكار نتائجها باسم المبادئ المقررة؛ ولهذا لم يكن ثمة ما يضمن عدم عودة الصور الثيولوجية عودة عدوانية إذ لم تكن الأفكار الوضعية قد حلت محلها. وسيرى القارئ أن المعركة الفاصلة بين الروح الثيولوجية والروح الوضعية ستضم الميتافيزيقيين والإلهيين جميعا في «مركز التقهقر»؛ مما يحقق ما قاله كومت من عدم وجود أي تضامن، سواء في التاريخ أو في المبادئ بين الفلسفة الوضعية، وتلك الفلسفة السلبية فلا تستطيع الأولى أن ترى في الثانية إلا تطورا أخيرا تمهيديا من تطورات الفلسفة الثيولوجية.
15
فالحال الميتافيزيقية لا يمكن أن تكون إذن إلا صلحا غير ثابت. وبقاؤها إنما يكون رهنا باستمرار تغيرها وتبدلها. وإن ما ينشأ عن ذلك من عدم وجود مبدأ يكون قوامها ليجعلها نقدية بحتة. ومن ثم فلا يكون لدينا أصليا إلا فلسفتان أو طريقتان من طرائق التفكير وهاتان الفلسفتان الثيولوجية والوضعية هما وحدهما اللتان تسمحان للعقل بإنشاء مذهب من أفكار منطقية متناسقة يصلح أساسا للخلق وللديانة، فالروح الثيولوجية خيالية في سيرها، مطلقة في تصوراتها، تحكمية في تطبيقها. وأما الروح الوضعية فتحل طريقة الملاحظة مكان الخيال والأفكار النسبية محل الأفكار المطلقة. وهي لا تدعي لنفسها سلطانا لا حد له على ظواهر الطبيعة، بل تعلم أن قوتها إنما تقاس على مقدار ما تصل إليه من العلم. وتاريخ الإنسانية هو الذي يرينا الخطى التي تدرجت هي بها من طريقة التفكير الأولى إلى الطريقة الثانية. •••
يعتبر كومت قانون الحالات الثلاث ثابت الأساس. وإليك ما كتب في سنة 1839: (إن سبع عشرة سنة قضيتها دائم التفكير في هذا الموضوع العظيم مقلبا إياه على جميع وجوهه، آخذا فيه بكل احتياط ممكن تسمح لي أن أقرر من غير أي تردد علمي أن هذه القضية التاريخية ستكون ثابتة أبدا، وأحسبها الآن قد بلغت من كمال الثبوت ما بلغه أي أمر من الأمور العامة المسلم بها في الفلسفة الطبيعية).
16
ولن يمكن أن تكون يوما موضع شك إلا إذا عثر الإنسان على فرع من فروع معلوماتنا ارتد من الحال الميتافيزيقية إلى الحال الثيولوجية، أو من الحال الوضعية إلى أي من الحالتين السابقتين. لكن ذلك أمر لم يعرض أبدا، كما أن إثبات هذا القانون من الوجهة النظرية قد دل على أنه لا يمكن أن يعرض مطلقا.
ولقد أظهر هذا الإيضاح أن تعاقب هذه الأحوال الثلاث في نظام لا يتغير هو السبيل المحتوم لترقي الذهن الإنساني في تعرف الظواهر، وأنه حاصل بطبيعة العقل. ومن رأي كومت أن قانون الحالات الثلاث بسيكولوجي بمقدار ما هو تاريخي.
وليس المراد هنا بالبسيكولوجيا تلك البسيكولوجيا الداخلية التي تستخدم الضمير الفردي وسيلة للبحث. فإن كومت لا يعترف بأية قيمة علمية لهذه الطريقة، كلا بل وهو ينكر إمكان وجودها. على أنه ولو أمكن للشخص أن يلاحظ نفسه لما أفاد ذلك شيئا فيما نحن بصدده. فإن هذه الملاحظة لن تبين له إلا عن الحال الحاضرة لعقله الفردي لا عن قانون تطور الذهن الإنساني. ولا سبيل لظهور هذا القانون إلا بالنظر إلى الجنس لا إلى الفرد، وذلك بأن يقلع الذهن عن إنفاق مجهودات عقيمة مرماها أن يشاهد بنفسه حركته؛ ليحيط بوجوه التقدم المتعاقبة التي تظهر فيما أنتج. والتاريخ الفلسفي لعقائدنا وتصوراتنا ومذاهبنا هو ذلك الضمير الذي يجب أن يجعله العقل موضع نظره. ففي هذا التاريخ لا في سواه يرى الفيلسوف القوى التي احتوى ذلك العقل جرثومتها تدخل في الحياة العملية واحدة بعد الأخرى، وكلها ترمي إلى «التناسق الدائم». فإذا ما وصلنا في ذلك لاكتشاف قانون الحالات الثلاث أمكن لنا أن نفهم التطور العقلي لكل فرد في طريقه. ومن ثم يزيدنا درس كل فرد زيادة في التحقق من صحة القانون. قال كومت: «مهما أكن قد أخذت من النظر إلى الفرد، فإن الفكرة الرئيسية التي بنيت عليها نظريتي وما تلا ذلك من تكون هذه النظرية وتقدمها إنما يرجع مباشرة لأبحاثي المتعلقة بالمجموع».
فقانون الحالات الثلاث هو إذن الضابط العام لتقدم العقل الإنساني لا منظورا إليه في شخص فرد معين، ولكن في الشخص العام الذي هو الإنسانية.
وهو ذلك الشخص العام الذي درسه كومت في «نقد العقل المجرد ». لكن طريقته كانت طريقة مطلقة وميتافيزيقية صرفة، نظر فيها إلى الشخص العام الذي بحث عن قوانينه على اعتبار أنه العقل الإنساني «لذاته منظورا إليه من جهة ماهيته». لكن كومت يخالف ذلك كل المخالفة، ويتمثل الشخص العام كأنه وحدة مجسمة تتحقق على الزمن، ويرى أن بحث قوى الإنسان العقلية لا يصير وضعيا إلا إذا أخذ فيه من الجهتين التاريخية والاجتماعية؛ ولهذا كان اكتشاف قانون الحالات الثلاث حدثا عظيم الأهمية جاء مبشرا بالعلم الوضعي في تطبيقه على الإنسانية بشرى يعد تحققها الشرط الأساسي لقيام الفلسفة الوضعية. وإن هذا الاكتشاف تأكد فيه «كمال التماسك المنطقي» ببحث كل الظواهر على طريقة واحدة. وهذا القانون من قوانين الحركة الاجتماعية هو حجر الزاوية لكل المذهب الوضعي.
الفصل الثالث
المعرفة أساس إيمان المستقبل1
«إن ما لا نعرف من الغيب أبعد في حياتنا النفسية مدى مما نعرف من العلم.»
1
يضطرب العالم اليوم بشعور عام يبدو أثره في ظاهرات من الفوضى تارة، ومن الإباحية تارة أخرى، ويتمخض ثالثة عن ثورات اجتماعية أو اقتصادية غير معينة المطالب والنتائج. ويعزو الأكثرون هذا الشعور الذي ترتب على ما أحدثت الحرب الكبرى من انقلاب إلى اضطراب الدعائم الاقتصادية العالمية، سواء في البلاد التي اشتركت في الحرب اشتراكا فعليا أو في البلاد التي بقيت على الحياد في أثنائها. وكل الظواهر تعاون على الاقتناع بصحة هذا القول. فاضطراب العملة في البلاد المختلفة؛ وكساد كثير من الصناعات، وما نشأ عنه من مشكلة العطلة في كثير من الأمم، واختلاف وسائل النقل عما كانت قبل الحرب - كل هذه عوامل اقتصادية هي مصدر القلق العالمي الحاضر. والثورة البلشفية في روسيا ومساعيها المتصلة لتقلب العالم شيوعيا كله ليست إلا هدما للنظم الاقتصادية القائمة. وعلى هذا الأساس تعقد الدول المؤتمرات، وتسعى بمختلف الوسائل لتثبت نظم التبادل وإعادة الثبات الاقتصادي الذي ظل العالم مطمئنا إليه عصورا طويلة قبل الحرب. وهؤلاء الأكثرون يذهبون إلى أن العالم متى عاد إلى مثل حالته الاقتصادية السابقة على الحرب زال قلقه، وزالت منه الفوضى واطمأن إلى ما كان مطمئنا إليه من قواعد.
ولا ريب في أن الانقلاب الاقتصادي كان له أثر كبير في هذا الشعور العام. لكنا نعتقد أنه ليس العامل الأساسي الذي يتوقف كل شيء على تطوره، وإن هناك عاملا نفسيا ترتب هو الآخر على الانقلاب الذي أحدثته الحرب، ولا مفر من علاجه إذا أريد بالعالم أن تعاوده الطمأنينة. هذا العامل النفسي يرجع إلى عقائد الجماعات، وتقديرها قواعد الخلق، وبحثها عن مثل أعلى يكون مطمح الإنسانية الذي تشعر به وتجد لتحقيقه، فإذا اطمأن الناس إلى عقيدة اجتماعية عامة، وإذا تواضعوا على قواعد للخلق تتفق مع مظاهر حياة العالم في العصر الحاضر، وإذا عرفوا لأنفسهم مثلا أعلى، راجعت الإنسانية سكينتها وعادت للعمل في جد وسلام تضيء لها عقيدتها وأخلاقها المتعارفة، ومثلها الأسمى سبيلا مفيدا بعيدا عن الاضطرابات.
ربما كان السعي الجد لإعادة الطمأنينة الاقتصادية إلى العالم بعض وسائل الهدوء النفسي الذي تتلمسه الإنسانية اليوم فلا تجده. فقديما كان الاضطراب الاقتصادي سبب الحروب والثورات، وسبب المذاهب والعقائد الجديدة. لكن الطمأنينة الاقتصادية لم تكن يوما غاية اجتماعية لذاتها. إنما هي أبدا وسيلة لرخاء العالم رخاء يمكن له من المتاع بكل ما في الوجود من أسباب النعمة والسعادة. والنعمة والسعادة اللتان يدأب الإنسان في طلبهما غير يائس من الوصول إلى حظ قل أو كثر منهما، إنما يتعلقان بالنفس الإنسانية عند الفرد وعند الجماعة على السواء. والنفس الإنسانية ليست بحاجة إلى أن تترع بنعيم المادة لتنال حظها من السعادة. وإنما هي بحاجة إلى أن تكون فوق مستوى العوز المادي الذي يضطرها لإنفاق كل وقتها في السعي للعيش. وكل ساعة فراغ من هذا السعي تنالها هي سعادة مكسوبة إلى الحياة الإنسانية المتطلعة لمعاني الوجود العليا بمقدار ما تطبق النفس تصور هذه المعاني. والجماعة في ذلك كالفرد سواء بسواء.
وقد غيرت الحرب من تصور الناس لمعاني الوجود تغييرا كبيرا هو الانقلاب بعينه. وإذا عمت الحرب العالم كله، فتناولت آسيا وأمريكا وأستراليا وأفريقيا كما تناولت أوروبا نفسها؛ فالانقلاب الذي حدث في هذا الشأن عالمي عام. وأنت تقدر مدى الانقلاب، إذ ترى هذا الإخاء بين أهل الأديان المختلفة في بلاد كالهند كان يظن هذا الإخاء فيها محالا، وإذ ترى الأمم الأوروبية التي كانت تفاخر؛ إلى ما قبل الحرب: بأنها اهتدت إلى سبيل الحق من طريق العلم تشعر الآن بتداعي كثير مما آمنت به وتلتمس في ماضي الشرق الروحي وسيلة للإيمان على أنه سبيل السعادة. وهذا الإخاء الديني الذي ظل زمنا في الهند، وهذا الوهن في العقيدة بالعلم مما لا يزال في أوروبا ليسا إلا مظهرين لظمأ النفس إلى أخلاق جديدة، وإلى مثل عليا غير تلك التي كانت تؤمن بها. وهذا الظمأ بالغ اليوم غاية الشدة، وهو السبب في الفوضى وفي الإباحية وفي الاضطراب، وفي كل ما يشكو الناس منه وما يرونه شرا، ثم ما يعجزون عن وصف الدواء له؛ ذلك بأنهم يشعرون أن التماس الدواء في الماضي لا فائدة منه بعد هذه الخطى الواسعة التي خطاها العالم منذ الحرب إلى عصرنا، فباعد ما بينه وبين الماضي بما لا يبقي بينهما صلة نافعة؛ ولأنهم لما يتبينوا الخلق والإيمان الجديدين اللذين يملآن الفراغ الحاضر، ويكونان دعامة الحياة الاجتماعية في المستقبل.
ولعلك إذا أردت أن تعرف السبب الصحيح لانقطاع الصلة، ولو انقطاعا مؤقتا بين الحاضر والماضي موفق إلى ذلك فيما كان من اختلاط أمم العالم وأجناسه في أثناء الحرب اختلاطا أظهرها إلى عقائد وأخلاق وعادات ومعارف جديدة، ودلها على سوء تقديرها الماضي لما كانت تسمع عنه من ذلك عند الأمم والأجناس الأخرى. فهذه الألوف من جنود الهند السذج الجهلاء الذين كانوا معتقلين في سياج حصين من عقائد بلادهم وأخلاقها، قد رأوا في مصر وفي أوروبا، وفي مختلف الجهات التي مروا بها شيئا غير الذي ألفوه وألفه آباؤهم وأجدادهم. ومثلهم جنود السنغال وجنود الروس. وقد وقف الأوروبيون من هؤلاء على تصور جديد لمعاني الوجود لم يكونوا يألفونه بل كانوا يحسبون أن جماعة من الجماعات الإنسانية لا يمكن أن تقوم به. وهذه الألوف من الجنود السذج الجهلاء من أهل الأمم المختلفة هي التي يتكون منها السواد، والجماهير أكثر ثقة بها وبما ترويه منها بمنطق الفلاسفة وبحوث العلماء وتجاربهم؛ لذلك ليس عجبا بعد ما عاد هؤلاء وقصوا ما رأوا وما سمعوا أن تبهم عليهم، وعلى من يستمعون لهم صور الحياة التي ألفوا، وأن يلتمسوا جديدا يحسبونه أدنى إلى حظ من النعمة والسعادة أوفى مما كانت الصور القديمة تتيحه لهم. وإذا كانت الشهوات الدنيا هي أقرب ما يتصوره الإنسان العادي من سعادة الحياة، فقد كانت الإباحية في العالم وكان ما ترتب عليها من الفوضى ومن الاضطراب.
إلى جانب ما أحدثت الحرب من الاختلاط بين أمم العالم وأجناسه قربت الاختراعات بين أجزاء العالم تقريبا، لم يكن يدور بخلد أحد إلى ما قبل الحرب بزمن قليل، حتى لقد أصبح العالم ضيقا، وأصبح صغيرا تستطيع ان تقف على مختلف ما يدور فيه بأوفى وأسرع مما كنت تستطيع في الماضي القريب أن تقف على أخبار أمة من أممه، بل مقاطعة من مقاطعات تلك الأمة. وقد تناول هذا التقريب بين أجزاء العالم كل ما يمكن تصوره من أسباب. فأنت مستطيع أن تنتقل بين جوانبه المختلفة في وقت قصير، وأنت قدير على معرفة أخباره جميعا بالدقة والتفصيل في الساعة التي تقع فيها، أو بعد ذلك ببضع ساعات قليلة. ولم يصبح أمر إمداد الناس بالأخبار مقصورا على الصحافة، بل تعددت الأسباب وصرت ترى على شريط السينما أو تسمع من طريق الراديو ما يحدث في أكثر بلاد العالم بعدا عنك كما لو كان إلى جانبك. هذا بعد أن كانت تلك البلاد خيالات وأحلاما، فإذا سمعنا عنها سمعنا مثل أقاصيص ألف ليلة وليلة، وانتهينا إلى أن ما نسمع ليس إلا خيالا يقصد به إلى التسلية لا أكثر ولا أقل، فلم يزعزع ذلك من تصورنا للوجود ولا من إدراكنا لمعانيه.
ولم يقف الأمر عند اختلاط الأجناس وتقارب الممالك. بل لقد تقاربت أفلاك الوجود كلها بما كشف، وما لا يزال يكشف العلم عنه من كنه هذه الأجرام وصلاتها بالأرض. ولم تبق معرفة مقصورة على طائفة محصورة، بل أصبح كل يستطيع الوقوف على كثير منه بما تنشره الكتب والمجلات والصحف والمحاضرات التي أصبح سماعها ممكنا في أنحاء العالم المختلفة عن طريق الراديو. ولئن لم يقف سواد الجماهير بعد على تفاصيل هذا وعلى دخائله، فإنه يتصور وجوده على نحو أزال من نفسه الصورة القديمة التي كان يؤمن بها على أنها حقيقة هذه الأفلاك. ومجرد زوال هذه الصورة القديمة كاف ليزعزع من قواعد الاعتقاد والخلق شيئا كثيرا.
هذا الاختلاط بين الأمم وهذا التقارب بين البلاد وبين الأفلاك نفسها لم يكن ذائعا قبل الحرب ذيوعه اليوم، ولم تكن جماهير الأمم المختلفة قد اقتنعت به اقتناعها اليوم. وقد زلزل هذا الاقتناع كثيرا من قواعد إيمانها القديم، وإن لم يضع مكانها قواعد أخرى: وإذ كانت الجماهير لا تطيق العيش من غير قواعد ومثل عليا، فقد تدافعت إلى ما تدفعها سلائقها إليه من الاستمتاع بالحياة، وبكل ما فيها في أبسط صور الاستمتاع وأقربها لإشباع الشهوات. ولما كان هذا خروجا على متعارف الناس إلى العصر الأخير، فقد ذاعت دعوة الفوضى والإباحية.
طبيعي أن ما أحدثت الحرب من انقلاب لم يحدث فجأة، وأنه يستمد أصوله من تطورات العالم في الأجيال الأخيرة. بل إن كثيرا مما يقع اليوم ليتصل اتصالا مباشرا بما خلفت الثورة الفرنسية الكبرى وثورة سنة 1848 من آثار. لكن هذه الأصول لم يظهر أثرها قبل الحرب إلا في بيئات خاصة هي البيئات المستنيرة. فلما كانت الحرب انتشرت تلك الآثار بين سواد الجماهير، وزادها انتشارا تزايد المكتشفات والمخترعات، وتقريبها مبادئ العلم وقواعده من أفهام السواد؛ لذلك تقبل الكل الانقلاب من غير أن تقف في سبيله فطرة المحافظة التي تهاب كل جديد وتقف في وجهه وتحاربه. وهذا هو السر في أن الانقلابات العظيمة التي حدثت في روسيا وفي إيطاليا وفي تركيا لم تلق من جماهير العالم حربا لها إلا ما اتصل منها بمصالح أصحاب الأموال مما هددته البلشفية. فأما الانقلابات الاجتماعية فقد تمت في كل هذه الأمم على صورة لم تكن تخطر بحلم الحالمين، وتمت مع ذلك من غير أن تثير من عداوة الدول المختلفة ما أثارت مبادئ الثورة الفرنسية، مما أدى إلى تألب ممالك أوروبا عليها والعمل لمقاومتها والاضطرار آخر الأمر للأخذ بها؛ لأنها كانت المبادئ التي تتفق والتطور النفساني الكمين في أرواح الشعوب.
وثم انقلاب في تقدير الأفراد للنظام الاجتماعي يتصل بهذه الانقلابات العامة، بل يتقدمها. فقد كان الناس، إلى زمن قريب، يقدرون لطوائف الجماعة المختلفة حدودا خلقية يعتبر تخطيها جناية على الشرف وعلى الكرامة، وتحاربه كل طائفة بكل ما أوتيت من وسائل. وها نحن أولاء لا نزال نسمع من بقايا هذا التقدير تقرير الحكومة الرومانية نزول البرنس كارل عن ولاية العهد، وعن عرش أبيه، ورفع ابنه الطفل ميخائيل إلى هذا العرش، لإطاعته عاطفة الحب وعدم إخضاعه إياها لموجبات السياسة. على أن تصرف كارل في اتصاله بامرأة يعتبر المسئولون عن مصير رومانيا الاتصال بها مزريا بملك هو لذاته أثر من آثار الانقلاب العالمي؛ فالناس ينظرون اليوم إلى هذا التصرف الذي أتاه الأمير من غير أن تأخذهم دهشة. بل ربما كانت دهشتهم من إنزاله عن عرش لآبائه أكبر من دهشتهم للسبب الذي أدى إلى هذا القرار، ولو أن تصرفا كهذا تم منذ سنوات لاضطربت له بلاطات الملوك، ولاعتبر حادثا خارقا لقوانين الطبيعة. وما أتاه البرنس كارل ليس إلا مثلا مما يحدث اليوم من غير أن تثور له نفس أو تهتز له عاطفة. ألم تخبرنا الصحف أن ابنة أخت الجنرال هندنبرج رئيس الجمهورية الألمانية تقوم بالتمثيل السينمائي؟ أولم تفعل زوج ابن السلطان عبد الحميد مثل تلك الفعلة؟ وهذان مثلان من كثير يقع في عالم السينما وفي عوالم الفن والعلم المختلفة. ولو أن شيئا من مثله حدث في الماضي القريب لكان أعجوبة الأعاجيب، ولكان خروجا على قواعد الدين ومبادئ الخلق، ولاستحق مجترحوه حرمان الكنيسة وزراية الناس.
ومن العبث الآن محاولة العود بالعالم؛ ليخضع إلى ما كان خاضعا له قبل الحرب من عقائد وأخلاق وعادات. صحيح أن كثيرا من هذه سيعود قويا كما كان. لكنه في عودته سيضطر إلى الاصطباغ بلون حياة العالم العقلية والروحية الجديدة، وهذه الحياة الجديدة هي ما يفكر اليوم فيه العلماء والمفكرون، وإن كانوا لما يهتدوا إلى شيء صالح. ويخيل إلينا أن الإنسانية ما تزال بعيدة عن هذه الهداية، وأنها ستظل سنوات طويلة في اضطرابها الحاضر إلى أن يتاح لها رسول جديد من العلماء والفلاسفة يهديها طريق الحق. وآية هذا البعد عن الهداية ما يبدو على أدب العصر من الانحلال والاضمحلال، وعلى تفكيره من القصور عن تناول المسالة العالمية بصورة جريئة واضحة يصيح بها صاحبنا في الناس بما يؤمن هو به أنه الحق، أي: أنه أقوم طريق يمكن للإنسانية من تحقيق أكبر حظ مستطاع من السعادة في ظروفها الحاضرة.
في انتظار اليوم الذي تعلو فيه صيحة الهدى والحق يجب تمهيد الإنسانية لسماعها، وهي في اعتقادنا لن تخرج عن دائرة العقل والعلم. قد تظل الشئون الروحية فوق متناول هذه الصيحة. لكن ما كانت هذه الشئون الروحية تعتبره داخلا في نطاقها من قواعد السلوك ومبادئ الخلق والجزاء عن العمل، وما إلى ذلك مما يتصل بتصرفات الأفراد أو الجماعة الماسة بحياتهم سيصبح غير روحي، وسيخضع لقوانين العلم ومبادئه. بل ربما لا يكون محالا أن ترتبط هذه الصيحة المنتظرة ارتباطا وثيقا أو غير وثيق بصيحات أوجست كومت وفلناي وروسو وغيرهم، ممن أرادوا أن يجعلوا العقل والعلم وحدهما المدبرين لحياة الأفراد والجماعات والمنظمين لكل شيء فيها.
وما دام ذلك هو الشأن فتمهيد الإنسانية للصيحة المرجوة لا يكون إلا بكشف قناع الوهم عن عيون الجماهير، وإظهارها على كل آثار العلم ونتائجه. يجب ألا يعتبر أمر من الأمور سرا يتحتم ستره من عيون الأطفال في أثناء تعليمهم، وعن عيون السواد في حياته العامة، بل يجب أن يعرف كل فرد ما يستطيع أن يعرفه، وأن يعرفه على طريقة علمية صحيحة. وأن يبني على هذه المعرفة عقائده وعاداته وأخلاقه. ويجب كذلك أن يعلم أن ليس شيء من هذا الذي يلقي به إليه مقدسا غير خاضع للتطور أو التغير. وإن عقائدنا الأخلاقية والاجتماعية ليست أمرا واجب الطاعة لذاته؛ ولكن لأنها هي التي تقربنا من السعادة؛ وعلى الأقل تبعد عنا هموم الحياة وآلامها. وأن الحقيقة الإنسانية هي ما أدى إلى هذه الغاية.
فإذا تقررت هذه القاعدة وأخذ بها المعلمون في مدارسهم والكتاب في كتبهم وصحفهم تفتح عقول جمهور الإنسانية، فأفاد من هذه الثروة العلمية العظيمة التي تكدست على القرون، والتي ظلت مع ذلك ولما تنظم نظاما يجعلها نافعة، ويقربها من المجاميع إلا قليلا في العصور الأخيرة. إذا تقررت هذه القاعدة، وعرف كل فرد الأسباب الاجتماعية والعلمية لما تحرمه القوانين، ولما تنصح به التعاليم وأدرك الطفل والساذج أن ليس في الحياة سر من الأسرار، وأن ما وضع وما يوضع من قواعد السلوك ومبادئ الخلق ليس شيئا خارقا للطبيعة، ولا أجنبيا عن الإنسان، وأن الإنسان هو كل شيء، يسر ذلك لكل فرد أن يشعر شعورا صحيحا بأنه ذرة حية من الوجود الإنساني في تعاونها مع سائر أفراد المجتمع ما يكفل فائدتها وفائدة المجتمع. ثم كان أساسا صالحا لتفسير كثير من العواطف الإنسانية التي يحسبها الناس غرائز وهبات لا سبيل لتغييرها، بينا هي إن تكن غرائز وهبات، أو تكن شيئا آخر فهي قائمة بالنفس لفائدة الفرد؛ ولفائدة الجماعة والجنس على السواء.
إذا تقررت هذه القاعدة في حياتنا العملية، وهتكت المعرفة حجاب السر، وأصبحت الجماهير تدرك أن قداسة الأشياء والمبادئ راجعة إلى أنها هي التي جعلتها مقدسة؛ لأنها سبيل سعادتها الممكنة ووقف الأفراد على ما للطبيعة من قوانين، وما للإنسان على الطبيعة من سلطان، وسار العلم في نفس الوقت بالخطى الواسعة التي يسير اليوم بها، إذا حدث ذلك أمكن تمهيد الإنسانية للصيحة المنتظرة، ولقواعد العقيدة والأخلاق الجديدة.
2
تفضل المسيو جورج دوهامل الكاتب الفرنسي الكبير الذي زارنا بمصر أخيرا، وكان لي حظ تقديمه إلى سامعي محاضراته بالجامعة الأمريكية، تفضل فبعث لي من باريس مهديا روايته الأخيرة «ليلة عاصفة
Une nuit d’orage »، وروايته هذه تتلخص في أن شابا ولد في أسرة انتبذت العقيدة، واتجهت إلى العلم وحده ونشأ في دراسات علمية بحتة؛ تزوج من فتاة نشأت علمية هي الأخرى وأنكرت الفأل والطيرة وكل مظاهر العقيدة جميعا. وبعد زمن قضاه الزوجان المتحابان في هناءة ونعمة، سافرا إلى تونس وقصدا إلى بعض الأماكن التي تجاور الصحراء، واحتفرا فيها بعض آثار عادا بها إلى فرنسا. وفيما كان عم الفتى يتفرج على هذه الآثار استوقفته إحداها، ففحصها وقرر أنها مشئمة وطلب إليهما أن يدفعا له بها. واعتذر الزوج عن إجابة طلب عمه؛ وعاد إلى العيش مع زوجه عيشا ناعما يزيده ما بينهما من حب، ومن اتصال عقلي وعلمي قوة ومتاعا، لكن أسابيع انقضت وإذا الزوج تشعر بانحطاط في قواها، وإذا ابتسامتها تغادر شفتيها، وإذا الضعف يندس إلى وجودها. فذهب بها زوجها إلى الطبيب الذي فحصها فلم يجد للمرض عندها علامة أو مظهرا. وكذلك كان رأي طبيب آخر استعان بزميلين له إخصائيين في الأمراض العصبية، إذ اتفق الثلاثة على أن لا مرض ولا أثر للمرض، وأن حالا عصبية هي سبب هذا الضعف ما تلبث أن تزول حتى يزول الضعف معها، وحتى تعاود الزوجة قوتها وابتسامتها.
2
وعكف الفتى يفكر فيما عسى أن يكون سبب ما أصاب زوجته. ليس شيء مما يعترينا إلا ويكون عن سبب يعرفه العلم، وإن لم يعرفه العلم اليوم فسيعرفه غدا؛ وهؤلاء هم الأطباء يقررون أنهم لا يجدون لما أصاب زوجته سببا. وهي مع ذلك ما تفتأ تزداد ضعفا يوما بعد يوم برغم ما يوليها من عناية، ويحيطها به من عطف وحب، أفلا يمكن أن تكون هذه المشئمة التي أتيا بها من تونس هي سبب المرض؟ ولكن أي علاقة يمكن أن تكون لسن ملبسة فضة وموضوعة في درج مكتب على صحة إنسان بعيد عنها غير متصل بها؟ على أنه لم يقع جديد منذ تزوجا، ومنذ سافر إلى شمال إفريقية غير هذه السن التي قال عمه عنها: إنها فأل سوء. وإذا كان للعامة وسواد الناس أن يؤمنوا بفأل السوء وبفال الخير وبالتميمة والمشئمة، فليس من حق أهل العلم أن ينزلوا إلى هذا الدرك، أو أن يتوهموا للحادث أسبابا غير ما في الطبيعة مما يتناوله فهمنا أو يمكن أن يتناوله، ويظل الفتى كذلك في حوار مع نفسه يغالب الإشفاق على زوجه إيقانه بالعلم ويكاد يغلبه، فيرى واجبا عليه أن يحطم هذا الفال وأن يلقي به بعيدا، ثم تنتصر كبرياء العلم على عاطفة الإشفاق، إبقاء على عقله أن تدنسه مثل هذه الترهات. ويصل حينا إلى ذكر قول باسكال: لنتراهن على وجود الله. فأما الذين يتراهنون على أنه موجود فلا يخسرون شيئا إن لم يكن موجودا وكان العالم كله هباء، وهم يكسبون كل شيء متى كان موجودا قادرا على كل شيء. كذلك فلنحطم هذا الفأل. فإن يك من أثره ما أصاب الزوجة العزيزة، فهي عائدة إلى صحتها وإلى ابتسامتها وإلى نعيم الحياة وطمأنينتها، وإن لم يكن له في المرض أثر فلم نخسر شيئا. ولكن أين هذه الأوهام من العلم التجريبي الواقعي الذي يؤمن الزوج وتؤمن الزوجة به؟ بل أليست هي تجديفا في حق العلم وردة عن الإيمان به وتطليقا لحكم العقل وخضوعا لخداع الوهم؟ ويظل صاحبنا في هذا الجدل العنيف بينه وبين نفسه حتى يتغلب الإشفاق على العلم والعاطفة على العقل، فيتسلل جوف الليل إلى الغرفة، حيث المكتب الذي حفظت المشئمة فيه، وما يكاد يدخلها حتى يقف ذاهلا مرتجا عليه. ماذا يرى؟ زوجته أمام المكتب؟ هي إذن تفكر هي الأخرى كما يفكر، وتحسب أن قد يكون في هذه السن الملبسة فضة سبب همها وما أصابها. وهي إذن تعتزم هي الأخرى أن تلقي بها بعيدا حتى تتخلص من أثرها فتعاودها صحتها. وتتقابل نظرات الزوجين في ضوء الغرفة الضئيل، فتسأل الزوجة صاحبها: ماذا جاء به إلى حيث هو؟ أفتراه يذكر لها أن إشفاقه غلب علمه، وأنه جاء يبحث عن فأل السوء؛ لينجو بها من سوء أثره؟ كلا بل تعلو كبرياء العلم في نفسه من جديد ويخبرها بأنه أحس بها تهبط الدرج، فتبعها خيفة أن يصيبها مكروه، وتعلو كبرياء العلم في نفسها هي الأخرى فلا تخبره بشيء، ويظل كل واحد منهما يخترع الأسئلة والأجوبة يرجو أن يضعف صاحبه أولا، فلا تتحطم كبرياؤه هو . ويعودان أدراجهما مكدودين ولم يرض أيهما أن يظهر بأنه قد تزعزع إيمانه بالعلم لحظة واحدة.
ويزداد الزوج إصرارا على كبريائه ويرجو أن تضعف زوجه قبله، فيطلع على فتحة الدرج بنقطة من سائل الشمع، ثم يعود بعد ذلك لعله يرى أن الشمع زال والدرج فتح وفأل السوء ذهب، وأن كبرياءه انتصرت فيرتد على عقبه جريحا أن يرى امرأته العزيزة ما تزال أقوى منه كبرياء، وأشد على كبريائها حرصا. لكنها هي المريضة وهي التي تتأثر ما لم يسلم الزوج. ولكن من يدري، فلعلها فتحت الدرج وألقت بالمشئمة ثم ألقت نقطة من الشمع أخرى! وإذن فليفتح الزوج ولير! ها هي ذي السن التعسة ما تزال في موضعها. وها هو ذا قد أسلم كبرياءه العلمية، وخضع لحكم الوهم. وها هو ذا يريد أن يزداد خضوعا فيأخذ السن ليلقي بها في نهر بعيد أو يقذفها إلى أمواج البحر إن أحوج الأمر أن تزول الزوال الأخير. وفيما هو في تفكيره ومحادثته نفسه دخلت خادم! فما كاد يلمح دخولها حتى دفع الدرج بقوة، وخرج وراء الخادم تاركا فأل السوء حيث كان.
وبعد أيام من هذا جاءت زوجه من سفر كان الأطباء قد نصحوا به ولم يفدها شيئا. ولكن لم تمض أيام أخرى على حضورها حتى إذا قواها قد بدأت تعاودها، وترد إليها من الحياة ما يزيل هزالها ويعيد تورد وجناتها وابتسام ثغرها! وعادت إلى الدار كل حياتها وكل سعادتها. وبعد ذلك بسنتين فيما كان الزوج يرقب في ليلة عاصفة خطف البرق وقصف الرعد وتهتان المطر حلا له أن يذهب إلى غرفة كانت زوجه بعد عودة صحتها قد نقلت إليها المكتب المشئوم، ففتح الدرج الذي عرف فأل السوء فيه، فلم يجد شيئا وفتح الدرج الذي تحته، فإذا الفأل ما يزال فيه.عند ذلك ادكر حين دفع الدرج عندما فاجأته الخادم، أن قاع الدرج تزحزح من مكانه تاركا بينه وبين جدار الدرج الأمامي فراغا سقط الفأل منه . إذن لم يبق شك في أن الزوجة عادت إلى الدرج بعد عودها من سفرها، فلم تجد المشئمة فيه فاطمأنت كبرياؤها العلمية إلى أنها لم تضعف. وإذ كانت هذه المشئمة سبب ما أصابها من اضطراب عصبي كاد يأتي على حياتها، فقد زال الاضطراب بزوالها وعادت إليها القوة والصحة.
وابتسم الشاب في هذه الليلة العاصفة أن أنقذت المصادفة كبرياءه وكبرياء زوجته جميعا، وإن ردت المصادفة الصحة الغالية إليها، فأعادت السكينة لدار هجرتها السكينة طوال العام الأول من أعوام زواجهما، وآمن أن الحياة ما يزال فيها مغالق تثير الوهم في أقوى النفوس إيمانا بالعلم، وتجعل العلماء كثيرا ما يجيبونك على ما تسألهم عنه: «قل ما ندري».
هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم هو إذن مدار قصة دوهامل كلها. وهو ينتهي إلى أن ضعف الوهم أقوى أثرا من كبرياء العلم، وأن ما لا نعرف من الغيب أبعد في حياتنا النفسية مدى مما نعرف من العلم؛ وأنا يجب لذلك أن نقيم للغيب في حياتنا وزنا، ونفرد له منها مكانا، وأن نعترف له أمام عقلنا بحق الوجود أن يصيبنا من إنكارنا إياه ما أصاب هذين الزوجين من بأساء عاما كاملا، بأساء لم ينجهما منها إلا مصادفة هي بعض الغيب الذي يحاولان إنكاره، الذي يخضعان مع ذلك له، ويضعفان أمامه ثم يجدان آخر الأمر فيه حصن الطمأنينة وموضع الرضا والنعيم.
ولست أدري ما عسى أن يكون رأي القراء في هذا الضرب من الفلسفة. بل لست أعرف لنفسي رأيا ثابتا فيه، وإن كنت لا أسيغه فلسفة للحياة وحكمتها. فأما الذي أعرفه فذلك أن لنا جميعا ساعات ضعف ننكر فيها علمنا، ونتنكر لماضينا، ونخضع فيها خضوعا أعمى للكمين في أعماقنا مما ورثنا عن أسلافنا، أو مما يقوله المحيطون بنا ولم يكن لرأيهم من قبل أي احترام عندنا. وكما أن السعيد بجهالته الكافر بهذا العلم الذي غير وجه الأرض القانع من العيش بإيمانه بكل ما نسميه الخرافة والوهم الناسب المرض، والعلة للحسد والجن - كما أن هذا الإنسان يذعن أحيانا ، فيذهب بمريضه إلى الطبيب منكرا إيمانه بأن الطبيب هو الله. كذلك يقع أن يذعن المؤمن بالعلم الشديد الاعتزاز به المنكر لكل شيء سواه، فيرضى أن يستمد العون أو الشفاء أو الهداية لنفسه أو لذويه من قوى كان من قبل يسخر منها ويزدري المؤمنين بها. وكثيرا ما حدث لبعض أكابر العلماء في مختلف الأمم أن أهوت عليهم مصائب من نواح مختلفة، فلم يجدوا آخر الأمر عاصما منها إلا الالتجاء لزيارة الأولياء والمقربين، ومن العلماء من نذر النذور ومنهم من أقرا أهله على نذرها. وهؤلاء الذين يقومون اليوم بتجارب مخاطبة الأرواح إنما تدفعهم إليها - في أكبر ظني - عاطفة كهذه العاطفة التي تذهب بالعالم لزيارة ولي أو النذر له. وهل زيارة الناس أجداث موتاهم لا تنطوي إلا على لذع من هذا الشعور الذي لا نجد له تفسيرا في العلم الواقعي، علم المشاهدة والتجارب، وإن وجدت له تفسيرا في هذا الضعف الإنساني الذي يبلغ في كثير من الأحايين من القوة ما لا تبلغه كبرياء العلم.
والحقيقة أن العلم قد كشف لنا عن كثير مما في الحياة، وأتاح لنا الاستمتاع بنعيمها إلى حد لم يكن يخطر بخيال أحد من قبل. والحقيقة كذلك أن الظمأ للمعرفة بعض طبائع الإنسان، فهو ما يكاد يقف على شيء ويكتنه بواطنه حتى تدفعه الطلعة؛ لكي يقلب في هذه البواطن أو يبحث عن جديد لما يخضع لعلمه. لكن الحقيقة كذلك أن المعرفة لا تلقي سببا للسعادة، بل إنها كثيرا ما تكون داعية قلق النفس واضطراب الخاطر. والسعادة، هذا الحلم الجميل الطائر أمام أعيننا بأجنحة من نور، هذا الأثير المحسن نتنسم في الجو ذراته، ونريد أن نستنشقها ملء صدورنا فلا نجد منها أبدا ما يكفينا، السعادة هي ما يجري بنو الإنسان وراءه من عهد آدم إلى اليوم. يجرون وما يكاد أحدهم يحسب نفسه أدركها حتى يجذبه من خلفه شيطان الشقاء فيصده عنها. هذه السعادة ليست في العلم؛ لأن العلم شهوة وليس من وراء شهوة سعادة، وكثيرا ما أكب علماء على العلم فأفنوا فيه حياتهم حتى إذا كانوا عند خاتمة المطاف منها لذعتهم الحسرة أن زادوا أنفسهم بعملهم هما، فأوصوا أن ينشأ أبناؤهم في الإيمان وأن يعمدوا وأن يرسلوا في الحياة على سجيتهم، وألا يطلبوا إلى العلم حل طلاسم الغيب. فعلمنا وإن اتسع المدى ضيق إذا قيس إلى مدى الوجود الذي لا نهاية له. بذلك أوصى تين وغير تين من أكابر العلماء الذي آمنوا صدر شبابهم بأن العلم هاتك حجب الغيب لا محالة، حتى إذا رأوا حجب الغيب لا تنتهي ضعفوا، وخيل إليهم أنهم كانوا يسعون وراء سراب لا حقيقة له، وإن كانت غاية هذا السراب كل الحقيقة.
ضعفوا فضعفت كبرياء العلم فيهم فنصحوا بالإيمان. وكثيرا ما قيل: إن الإيمان مظهر من مظاهر الضعف الإنساني، وأن النفس كلما كانت أشد قوة كانت أقل للإيمان حاجة. ولقد يكون هذا صحيحا، ولكنه إن صح لا ينفي أن الإيمان كمين النفس كمون الضعف فيها. وكما أنك ما دمت في مقتبل شبابك صحيحا قويا لا تعني بالقلب أين موضعه، ولا يهمك غير القلب من الأعضاء، ولا أن تعرف مكانه ولا تكوينه ولا ما يؤثر فيه ويتأثر به، فإذا دب إليك الهرم أو المرض ذهبت تستقصي عن هذه الأعضاء وخصائصها وما يتعلق بها وظهر أمام بصيرتك هذا الكمين المخبوء في أطواء جسمك، كذلك تراك من الإيمان والوهم أو الخرافة أو ما شئت فقل.
أنت لا تعرف من ذلك شيئا ما دمت قوي النفس جلدا على مكافحة الحياة. فإذا دب إلى نفسك هم أو بأس أو أضعفك هرم أو مرض، رأيت هذه الكامنات النفسية تظهر أمام بصيرتك من مخبئها في أطواء جوانحك، ورأيت وأنت العالم المنكر لهذا كله تشعر بمثل ما يشعر به من ليس له بعض علمك وفضلك. وكثيرا ما تعترض كبرياؤك العلمية على ما يثير الضعف من إيمان، ولكنك ترى نفسك في هذا النضال بين كبرياء العلم وضعف الوهم لأن تسلم لأيهما أقوى، أو لأيهما أشد صبرا وأقدر على المثابرة في السجال. وكثيرا ما تنتهي الغلبة للإيمان .
لقائل أن يقول: إن العلة ضعف والهم ضعف واليأس ضعف، وأن هذه كلها حالات مرضية تنكرها الصحة السليمة، فالإيمان المترتب عليها هو لذلك حالة مرضية هو الآخر. وإذا كان للمرض أن يغلب الصحة وأن ينتهي بنا إلى الموت، فليس معنى هذا أن المرض هو الحق، وأن الصحة ليست حقا، فالحياة والحق عدلان، والحياة والصحة عدلان، وكل حالة مرضية لا يمكن أن تعبر عن حقيقة الحياة. فالعلم إذن هو الذي يعبر عن هذه الحقيقة دون الإيمان. وكبرياء العلم هي كبرياء الحياة في عنفوان صحتها، وضعف الوهم وما يترتب عليه من آثار نفسية هو في الواقع مقدمة الانهيار إلى الموت وإلى الفناء. ونحن في كل مباحثنا العلمية إنما نجري وراء مظاهر الحياة نريد أن نثبت سننها، ولا نعني بالموت إلا بمقدار ما يمكن أن تتجدد به في صورة حياة أخرى.
ولهذا الاعتراض ظاهرة من الوجاهة. لكن الحال المرضية هي بعض حالات الحياة كحال الصحة سواء بسواء. والموت حقيقة واقعة هو الآخر له عند الناس حسابه، بل له عندهم جميعا أكبر الحساب. ولو أن الحياة لم يكن يشوبها المرض ويختمها الموت لكان لنا فيها سلوك غير سلوكنا الحاضر وآراء غير آرائنا وعقائد غير عقائدنا، بل لكان علمنا بما فيها مخالفا لعلمنا اليوم، ونظرنا لها مختلفا عن نظرنا في حياة يعتريها المرض ويتربص بها الموت في الخاتمة. هذا وإن كثيرا من مظاهر الضعف ليست من الحياة المرضية في شيء. فقصة دوهامل التي قصصنا في صدر هذه الرسالة بعيدة كل البعد عن أن يكون الضعف فيها ناشئا عن مرض. والفجيعة التي تودي بعزيز لديك أو تفقده وتترك ما تترك في نفسك من ضعف ليست مرضية بالمعنى المادي للكلمة، وأنت قد تشهد حادثا من الحوادث لا صلة له بك ولا أحد من ذويك، فيترك هذا الحادث في نفسك من عميق الأثر ما يثير فيها كمين الإيمان، ولو كنت أنت من أشد الناس انتصارا للعلم واقتصارا على طرائقه. ثم إن كثيرين من العلماء المؤمنين بالعلم، والذين كشفوا فيه عن جديد ذي قيمة كبرى يؤمنون بالغيب إيمانهم بالعلم؛ أو إيمانا هو في نفوسهم أكثر عمقا وأبعد أثرا، وهم بعد لم يصابوا ولم تجر عليهم تصاريف الدهر بما يسوء. وهذا ما أشار إليه مسيو دوهامل في قصته حين ذهب الزوج المسكين في مرض زوجه يسأل عالما من العلماء تقدم في السن، وكثرت أبناؤه: أهو يعتقد بالخرافة؟
s’il est superstitieux . فكان جواب العالم بالإيجاب. فليس ممكنا، وهذه هي الحال، أن نرى في الإيمان حالة مرضية حتى مع التسليم بأنه يقوم في النفس الإنسانية على جوانب الضعف فيها.
وفي رأينا أن الإيمان والعلم لا يتناقضان، وأن في النفس الإنسانية ما يتسع لهما جميعا، حتى لو أنك أخذت الإيمان في درجاته التي تنزل إلى الوهم وإلى الخرافة. فالعلم هو مجهود أفراد الإنسانية المتصل المتتابع؛ ليكشفوا رويدا رويدا عن حقائق الوجود، وهذه الحقائق لا تتناهى. وأنت كلما كشفت منها عن جديد تبدى لك بعده ما كانت الحقائق التي كشفت عنها تحجبه قبل أن يقع نور العرفان عليها، فأما الإيمان فما تتصوره نفس الفرد أو الجماعة الإنسانية من أثر هذا الوجود الرهيب فيها، وقد يتغير الشعور من فرد إلى فرد ومن جماعة إلى أخرى. فجوانب رهبة الوجود متعددة في غير حد، كما أن جوانب العلم به متعددة إلى غير حد. وما دامت حياة الإنسان محدودة، وما دام كل واحد منا يبدأ جهادا جديدا للوقوف على ما أورثه أسلافه من العلم، ثم يرى نفسه بعد كل مجهوداته أمام غيب لا يقل عن العلم قوة ولا جلالا، ويرى أن عمر الحياة أقصر من أن يصل به إلى الكشف عن هذا الغيب؛ وأن الموت له بالمرصاد - ما دام ذلك كله فسيظل في النفس الإنسانية ضعف قد لا يعرف الإنسان الجانب الذي يكمن فيه، ثم إذا حادث من الحوادث قد جلى هذا الضعف وأبرزه واضحا صريحا.
وليس لدينا من سلطان نتغلب به على هذا الضعف إلا أن نعترف به ونذعن له، لا إذعان خضوع واستسلام، ولكن إذعان رضا وسلام، وما عسى يفيدنا، أو يفيد الإنسانية عن جهودنا، أن نقف حياتنا على مقاومته والعمل للتغلب عليه والاندفاع بذلك في سبيل من الأثرة التي لا جدوى لها ولا طائل تحتها! وإن لنا من ذلك عزاء وعنه سلوى في أن نوجه كل جهودنا للقيام بالواجب الذي تفرضه الحياة علينا، فليس منا إلا من تفرض عليه الحياة واجبا شريفا يستطيع أن يجد الطمأنينة الممكنة في الحياة بأدائه. هذا الواجب الشريف وسعينا المتصل في سبيله هو عوضنا عن كل ضعف يصيبنا، وهو قوتنا على الحياة والوسيلة لملكنا إياها فإذا مرت بنا في الحياة عاصفة حالت بيننا وبين القيام بواجبنا فلنطأطئ الرأس للعاصفة، ولنذعن لوحي إيماننا في الوسيلة لاتقائها، ولنا بعد ذلك من العمل الجد النزيه ما يرد إلينا القوة، ويذهب عنا الضعف والخوف. ولو أذعن بطلا قصة دوهامل لوحي ضميرها لما أضاعا سنة كاملة في نضال مستمر بين كبريائهما وإيمانهما، ولما تركت الحياة في نفسيهما جرحا إن اندمل يوما، فهو لا بد تارك أثره مذكر إياهما بضعف لا يلذ النفس ذكره.
3
أشعر اليوم بأن ما تخيلته في زمن من الأزمان عن العلم التجريبي واقتداره المطلق على حل كل ألغاز الكون، والحلول بذلك في نفس الجماعات محل الإيمان ليس يبلغ من نفسي إلى مكان العقيدة واليقين بمقدار ما كان يبلغ منها في صدر شبابي. بل إن شعوري هذا ليزداد كلما اتصلت بالحضارات القديمة، وبالحضارات الفرعونية منها بنوع خاص، وكلما رأيت ما كان لهذه الحضارات من قوة وأيد، وما كانت ترتكز مع ذلك عليه من صور الإيمان التي تحفز الجماعات إلى مضاعفة السعي والعمل في الحياة، وتصل بهم لذلك إلى أن يخلدوا على الزمن من آثار علمهم ما لم يقدر الزمن على إخضاعه لناموس البلى والتجدد، وما لا يزال حتى اليوم وحتى ألوف سنين مقبلة شاهدا على قوة حضارة شادت هذه الآثار الخالدة.
3
ولقد ازددت إيمانا بصدق هذا الشعور في أثناء مقامي بالأقصر وأسوان في أسبوع عيد الفطر الأخير، وحين شاهدت للمرة الثالثة معابد الأقصر وخوفو وآمون بالكرنك ومقابر الملوك والملكات، ومعابد الدير البحري والروماسيوم ومدينة هابو وتمثالي ممنون بطيبة ، ومعبد إيزيس الغريق في مياه الخزان عند الشلال فيما وراء أسوان. ازددت إيمانا بصدق هذا الشعور؛ وتبدى لي أن حضارة جديدة لا بد سيبزغ فجرها عما قريب، وستكون حضارة الفراعنة هذه، وحضارة الشرق والإسلام بعدها، هي العامل الأكبر في هذا البعث، وكما أن غزو الأتراك مدينة قسطنطين وإجلاءهم الكثير من علماء النصرانية إلى اليونان وروما، قد كان سبب البعث (الرينسانس) في الغرب وأساس هذه المدنية الغربية التي ظلت قوية قاهرة أكثر من أربعة قرون، فإن غزو الغرب للشرق واقتحام علم الغرب أبواب مقابر الملوك الأجداد وكشفه عما في هذه المقابر من أسرار تاريخ تلك العصور، وفتح هذا العلم عيون أبناء مصر والشرق على هذه النفائس المحدثة عن حضارة كملت لها كل أدوات الحضارة، وإثارة عواطفنا ودفعها لتنهل من هذا التراث الذي كشف، ولن يعود إلى الظلماء من بعد - سيكون هذا كله بسبب البحث (الرينسانس) في الشرق وأساس حضارة جديدة يتزاوج فيها العلم والإيمان، فيرتوي منها العقل والنفس جميعا، وتجد فيهما الروح الإنسانية غذاء يجمع لها بين الرخاء والسعادة وبين النعمة والطمأنينة.
ولعلك تتساءل: كيف توحي الآثار المصرية بهذا الشعور؟ والجواب عندي أن هذه الآثار تحدثك عن علم لأهلها غزير، علم استطاعوا به خلق معجزات ما يزال عصرنا ينظر إليها في شيء من البهر والإعجاب. فهذه الهياكل الضخمة والمعابد العظيمة لم تقم عمارتها على أساس من المصادفة ولا على تجارب للفن وكفى، بل إن في كل منها لآثارا هندسية يحدثك علماء اليوم عنها حديث معجب بها أشد إعجاب. وهذه الأهرام القريبة منا في القاهرة لم تكن مدافن وكفى؛ بل إن في عمارتها ومقاييسها واتجاهاتها الفلكية ما يدل على معارف هندسية وفلكية دقيقة غاية الدقة. وليس هنا مكان تفصيلها؛ لأنها تستوعب صحفا وصحفا من شرح فني لم يقصر علماء اليوم في وضعه تحت أنظارنا، ثم إن ما تراه على جدران المعابد من صور الحياة؛ ليدلك على أن هؤلاء الأقدمين كانوا يفهمون الحياة فهما واقعيا بحتا على نحو ما تملي به قواعد العلم والطريقة التي وضعها ديكارت، ونظمها وهذبها من جاء بعده من العلماء. وإنك إذ ترى على جدران الكرنك من صور الطير والوحش والإنسان ما لا مزيد بعده لدقة، لتدهش (للريالسم) القوي الذي كان قاعدة الفن في تلك العصور البعيدة. وقد أطلعت في أحد أعداد مجلة الالستراسيون الفرنسية على صورة جدارية مأخوذة عن آثار بني حسن تصور مصارعة بين رجلين تصويرا سينماتوغرافيا ترى فيه تسلسل الحركات واضحا جليا إلى حد دفع المجلة الفرنسية لإظهار عظيم إعجابها بهذا التصوير الفرعوني السينمائي، في حين ما يكاد الغرب يحتفل بمرور ثلاثين عاما على السينما فيه بإعتبارها أثرا من آثار العلم الحديث. ومع ما ترى من غزارة علم أرباب هذه الحضارة القديمة؛ فإنك ترى في نفس الوقت مظاهر إيمانهم القوي بادية كذلك في نقوشهم وتماثيلهم، دالة على أنهم كانوا يحسون ما نحس به من قوى الغيب، وما لا يزال علم الإنسان عاجزا عن تكييفه وإدراكه واستنباط قوانينه. ولكنهم كانوا لا يتجاهلون هذه القوى كما نتجاهلها ولا ينسونها كما ننساها، ولا يقفون من إيمانهم بها عند الانتظار إلى أن يقتحم العلم خفاياها ويستظهر سننها؛ لأنهم كانوا يشعرون أن حياة الإنسان القصيرة تتمثل الغيب كما تتمثل الواقع، ويجب أن تستلهم غرائزها وحي الغيب كما تستلهم حواسها ومداركها، وعقلها الصورة المضبوطة الدقيقة للواقع.
وإلى هذا النحو من تمثل الحياة تميل نظريات كثيرة من فلسفة الغرب اليوم، وفي مقدمتها نظريات الفيلسوف الفرنسي الكبير هنري برجس. وأحسب أنا جميعا نرانا - بحكم عقولنا نفسها - مضطرين لتمثل الحياة على هذه الصورة لو أننا تركنا وإلهام عقلنا غير متأثرين بالنظريات الأخرى، التي نرى واجبا علينا محاربتها ولو أدى بنا التطرف في الحرب إلى شيء من الغلو وإنكار الواقع. فليس عالم من العلماء إلا يشعر بأن العلم الإنساني على عظمة ما كشف عنه من نواميس، وما أخضع للإنسان من قوى، وما يزال يحيط به حظ من الغيب عظيم له كما للمحسوسات والمدركات نفسها أثر كبير في الحياة وفي سيرتنا فيها، وإذا كان ممكنا في حكم التفكير المجرد أو الجدلي أن يصل العلم يوما من الأيام إلى الكشف عن كل ما في الوجود وإخضاعه لحسنا وإدراكنا، فإن ذلك لن يكون - على ما نظن - في مستقبل قريب. بل هو لن يكون إلا إذا تطور الناس طورا آخر، وأصبح لهم من الحواس وأسباب الإدراك أكثر مما لهم اليوم، واستطاعوا أن يستعينوا بوسائل العلم أضعاف ما يستطيع إنسان عصرنا. والحضارة، وهي طريق حياة العالم وسبيل سعيه إلى الرغد والسعادة، لا تستطيع أن تنتظر حتى ذلك اليوم البعيد، أو حتى تصبح الإنسانية في صورة أخرى غير الصورة التي نعرفها، ويعرفها آباؤنا وأجدادنا من ألوف السنين. وما دمنا جميعا نشهد في حضارة الغرب شيئا من مقدمات القصور عن أن تؤدي للعالم ما تشعر الإنسانية أنه طلبتها في الحياة من رغد وسعادة، فلا مفر لهذه الحضارة من أن تسمح لحضارة غيرها - رويدا رويدا بطبيعة الحال - من أن تقوم بما قصرت هي عن القيام به.
ومقدمات القصور من جانب حضارة الغرب عن أداء الرسالة التي يطلب إلى كل حضارة أداؤها؛ أكثر وضوحا من أن تحتاج إلى طويل بحث أو جدل. ويكفيك مقنعا بل إيمانا بقصورها أن تسأل عن الرسالة النفسية التي أخذت حضارة الغرب على عاتقها أن تقوم بها، وأن تجد الجواب عن سؤالك هذا سلبيا أو في حكم السلبي. فحضارة الغرب شرقية الأصول في روحها يونانية الأسس في مظاهرها، هي تقوم على المسيحية في جانبها الروحي، وعلى اليونانية في جانبها العقلي والفني. وقد كان بين هذين الجانبين من جوانبها، وما يزال بينهما نضال غايته أن يكون لأحدهما على الآخر الغلب. فمنذ القرن السادس عشر قام الثائرون على سلطان الكنيسة بالحركة الفكرية والعلمية التي طبعت حضارة الغرب في العصور الأخيرة بطابعها. وككل حركة جديدة مضطرة للنضال، كانت هذه الحركة العلمية والفكرية ترمي إلى هدم الكنيسة، وتقويض أركانها ومسح قواعدها وأسسها. وإذ كان العلم قد أسفر عن نجاح قوى سريع قلب نظام الحياة، ودخل إلى الناس في دورهم ومساكنهم، ويسر لهم من ألوان العيش والحياة ما لم يعرفوا شيئا مثله حين حكم الكنيسة، فقد صفق الجميع لرجال العلم، وانزوى رجال الدين في ناحية قانعين بالهزيمة التي أصابتهم منتظرين يوما أحسن. وطال برجال الكنيسة الانتظار أن كان العلم يطفر من نجاح إلى نجاح، وأن كانت القوى التي كشف عنها تضع في متناول الناس كل أسباب الرغد رخيصة جميلة فيها ما يلذ وما يستهوي، ثم إن كانت الكنيسة ورجالها قد أحاطت تعاليمها بحجب كثيفة من الأوهام التي كانت محسنة السواد أيام جهل السواد، والتي جعلت تتداعى بانتشار النور بين الناس وبمداومة العلم الكشف عما في هذه الأوهام من سخف وترهات. على أن هذه الحجب من الأوهام والأباطيل إن سترت ما كانت رسالة الكنيسة تضفي عليها بيئة من نور، فهي لم تطفئ ضياء الروح الذي ينبعث هذا النور عنه. ألست ترى الجاهلين من الناس يلفون الشخص الذي يعزونه في خلق يريدون أن يتقي هذا الشخص به البرد، فإذا الخلق يحوي من أسباب الضعف ما يجعل العزيز يتألم. وبدلا من أن يكشف أهله الخلق، ويزيلوا الهدم البالية تراهم يضيفون عليها خلقا وأثوابا بالية قذرة تزيد عزيزهم ضعفا. لكنه ما دام على قيد الحياة فهو قدير على أن يعود إلى قوته إذا هو أزيلت عنه الأثواب المحيطة به. كذلك جعل العلم يهدم ما أحاطت به الكنيسة روح المسيحية من خرافات وأباطيل، وجعل البعض يتوهمون أن هذه الخرافات متى انكشفت كلها فلن يبقى تحتها من شيء. لكن جماعة من العلماء أنفسهم شعروا بأن هذا الضياء الذي كانت المسيحية تريد أن تنير العالم به تمهد به السبيل بين شقاء الحياة وآلامها هو بعض حاجات النفس الإنسانية، فيجب أن تصل إليه، إن لم يكن عن طريق العلم فمن طريق آخر غير العلم، وجاهد العلماء يريدون أن ينبعث عن العلم هذا الضياء. وهم إلى اليوم لم يصلوا من ذلك إلى غاية. ولعل السر في هذا أن لهذا الضياء مصدرا غير التفكير ؛ وأن طرائق العلم قد جعلت التفكير وحده، التفكير القائم على أسس المشاهدة الحسية، هو الوسيلة لاستنباط ما يمكن استنباطه من سنن الكون. والمشاهدة الحسية والتفكير الإنساني لم يستطيعا حتى اليوم أن يقفا على سنن الكون جميعا، وإذن فلا بد لنا من حاسة غير الحواس المعروفة تنير لنا ما لم ينر العلم من طريق الحياة، وهذه الحاسة هي ما يسميه برجسون الإلهام، وما تسميه الأديان البصيرة أو النور أو هداية الله.
لم يستطع الجانب العقلي والفني أن يقضي على الجانب الروحي؛ وبكلمة أخرى: لم يستطع الجانب اليوناني أن يقضي على الجانب المسيحي في الحياة الغربية، وإن كانت حضارة الغرب الحاضرة ما تزال تدل بأنها يونانية الأصول. على أن ما طورت وأكبرت من أصولها اليونانية، قد وصل، أو كاد، إلى الحد الذي يقف عنده ولا يتخطاه قبل أن يطعم بروح جديد. ولسنا نحن الذين يقولون هذا أو يبتدعونه. فغاية الحضارة اليونانية، فيما يقول كثيرون من كتاب الغرب: الكمال والجمال، وعلى حد تعبير بعضهم: كمال الجمال وجمال الكمال، وهاهم أولاء الغربيون أنفسهم قد أصبحوا ينظرون إلى فنونهم باعتبارها مظهر الجمال آسفين على أنها تتدرج إلى عصر من الانحلال بما يتسرب إليها من نظريات جديدة، كالتكعيب
cubisme
وغير التكعيب، كما أنهم ينظرون إلى معنى الكمال، كأنه خيال سعوا وراءه فإذا سعيهم وراء آل لا حقيقة ولا وجود له. ولئن كان البعض من مفكريهم ينشدون في تضامن الإنسانية معنى جديدا يريدون به أن يدفعوا إلى حضارة الغرب قوة تعادل ما يخافونه عليها من ضعف، فذلك غرض معناه أن ما حاول الغرب من إقامة مدنية غربية يونانية الأصول قائمة على العلم وحده، لم يصادف من النجاح ما كان يطمع فيه المفكرون والعلماء الصادقو العزيمة ممن سعوا إليه في الماضي. فلا بد إذن من مدد جديد يبحث الباحثون عنه في الشرق، وفي غير الشرق لمنع التدهور والانحلال.
على أن الحضارة اليونانية التي اتخذ منها الغرب أساس نشاطه في القرون الأخيرة كانت تمسكها روح من الخلق أهملها الغرب إلى حد كبير كأساس من أسس حياته، وإن لم يهملها مفكرو الغرب في مضارباتهم النظرية التي لا يستطيع أحد أن ينكر قوتها وغناءها.
أهمل الغرب روح الخلق هذه؛ لأن طريقة العلم لا تعتمد على شيء غير الحس. وقد انتقلت هذه الطريقة من العلم إلى الفن، وبالغ الفن فيها حتى جعل من الحس كل شيء، وحتى خضع لسلطان الحس وشهواته خضوعا تراه واضحا في الأدب كما تراه واضحا في الصور والتماثيل. ولما كان العلماء يعزون طرائقهم إلى اليونان القديمة، فقد عزا الفنانون طرائقهم كذلك إلى اليونان القديمة. ولقد أذكر بحثا قرأته منشورا في مجلة (المركير دفرانس) منذ سنوات يبين البون العظيم بين تصوير الفن اليوناني للحياة، وتصوير الفن الأوروبي الحاضر لها. فمن النظريات التي خرجت مجرى الحقائق عند أرباب الفن أن الجمال العريان يوناني قديم، وهو لذلك طاهر عفيف. وأخذا بهذه النظرية جعل كثيرون من كبار المصورين والمثالين في القرون الأخيرة الجسم العاري للرجل والمرأة موضع دراستهم وبحثهم وتصويرهم ونحتهم. وأنت إذ تعود إلى كتاب ككتاب ريشين عن الميثولوجيا الإغريقية القديمة ترى فيه صورا بديعة لأنجز ورمبرانت ورويفس وغيرهم، وأكثرها يمثل آلهة اليونان وإلاهاتهم عارية يبهر جمال عريها الإحساس والإبصار.
وتطبيقا لهذه القاعدة أصبح تمثيل الجمال العريان ممتدا على أوسع جبهات ميادين الفن في العصور الأخيرة جميعا. على أن صاحب البحث الذي أشرت إليه في (المركير دفرانس) يعارض هذه القاعدة وينقضها نقضا علميا. فالجمال العريان ليس قديما، وليس هو لذلك طاهرا ولا عفيفا. والدليل على ذلك ما خلف السلف اليونان أنفسهم من آثارهم. فأنت لا تجد من الصور العارية التي تمثل الآلهة ذكورا كانوا أم إناثا إلا تمثالا واحدا للزهرة. أما ما سوى هذا التمثال فكاس، وبالغ كساؤه حد الحشمة والوقار. ويشير الباحث كذلك إلى أن الفن المصري القديم الذي سبق اليونان وفنها كاس هو الآخر. ولم نعرف التماثيل العارية إلا للمرانة في الألعاب الرياضية؛ لأن جسم هؤلاء وتكوينه هو في الغالب فيهم على الروح وجمالها. وإنما اختط القدماء في الفن هذه الخطة؛ لأنهم كانوا يتوسمون في الجمال صورة غير ما تصبو إليه رغبات الحس وحدها، هذه الرغبات المادية التي تنسى سامي مطامح النفس إلى المثل الأعلى، والتي تحرك في المجموع من وضيع الشهوات ما قد يقمعه العلم في نفس العالم أو الفن في نفس الفنان؛ أو قد يتهاون العالم أو الفنان فيه حين يكون هو لسواد الجماعة سبب شقوة وتعس. والحضارة الصحيحة هي التي تغلب بوسائلها الفعالة على أسباب الشقوة والتعس.
لا بد إذن من مثل أعلى تؤمن به الجماعة، وتجد من تطلعها إليه وهيامها به ما ينسيها ما في الحياة من هم وبأساء. وهذا المثل الأعلى لم يكن يوما من الأيام مطمع العلم. إنما كان مطمع العلم الوصول إلى الحقيقة المحسوسة. وليس في أي من المحسوسات ما يستلزم تطلع الجماعة إليه وهيامها ببلوغه؛ لذلك جعل الدين في الدار الآخرة موضع الأمل الأسمى والرجاء الذي لا رجاء بعده؛ ولذلك تضافرت الأديان كلها على وصف ما في الدار الآخرة من نعيم يعوض عن شقاء الحياة ومتاعبها. فقليلون أولئك الذين يجدون في صور الحياة التي نحياها، وفي آداء الإنسان واجبه في الحياة ما يكفي لنسيان المرء نفسه في واجبه، وفي القيام بأداء هذه الواجب. ولئن رأى بعضهم في هذا التصوير للحياة الآخرة تصويرا ماديا، ورأوا لذلك أن السعادة كل السعادة في إدراك كل ما تحتوي عليه المادة من جمال وحق وتحصيله، ورأوا لذلك في جهود العلم كي يخضع قوى الكون لسلطان الإنسان ومتاعه محققا في هذا العالم لما يصبو إليه في العالم الآخر، فإن ذلك لن يروي ظمأ النفس الإنسانية، وظمأ الجماعة بنوع خاص، إلى مثل أعلى قد يكون محالا أمام العقل إدراكه؛ ولكن في هذه الاستحالة نفسها موضعا لطمأنينة النفس إلى أنها تجاهد في سبيل ما ترجو من سعادة، وأنها بقوة إيمانها لا تحكم عقلها؛ قد تصل يوما إلى بلوغ هذه السعادة المنشودة. «إذا ملأ الإيمان قلبي وقلت لهذا الجبل: انتقل من مكانك ينتقل». وقد ملأ الإيمان بالعلم قلوب أهل العصور الأخيرة ، فنقلوا الجبال وملكوا عنان الجو، وسخروا الكثير من قوى الوجود. لكن هذا ليس هو الحضارة المأمولة التي تملأ قلب الإنسان بالإيمان ليطلب السعادة فيكون سعيدا، هذا الإيمان بالسعادة يجب أن نبحث عنه في آثار الفراعنة، ومن تأثروا بحضارة الفراعنة، فخلدوا من آثارهم ما خلد نفوسهم وأرواحهم. ويجب أن نبحث عنه بعد ذلك في الحضارات والأديان التي تلت الحضارة الفرعونية والديانة الفرعونية، وأن نرى الصلة بين هذه الحضارات والحضارة الأولى. نعم يجب أن نبحث الإيمان على أنه واقعة اجتماعية لا حياة للجماعات بدونها، وعلى أنه لذلك حقيقة اجتماعية وجدت في كل الأزمان والأماكن، فإذا شذت عنها طائفة من الناس، فقد كانت هذه الطائفة وما تزال أقلية صغيرة. ولم تقل هذه الأقلية يوما إن ما تقف عليه من العلم كفيل بسعادة الإنسانية، وبتهوين آلام الحياة على الناس فيها.
مثل هذا البحث والوصول فيه إلى شيء قمين أن يصل بنا لأن نضع أمام الجماعات الإنسانية مثلا أعلى يصبو إليه الإيمان الإنساني، ويتعلق به ويرجو من ورائه بلوغ السعادة التي ينشدها.
وليس كمصر ميدان لهذه المباحث: ففيها نشأت الحضارة الأولى، وعليها تقلبت كل الحضارات والأديان التي تبعتها. عرفت مدرسة الإسكندرية فلسفة الإغريق وحضارتهم. ثم انتقلت إليهما المسيحية مع الحكم الروماني، وكان للحضارة الإسلامية فيها مظاهر قوية غاية القوة. وهذه الحضارات التي تعاقبت على مصر تأثرت كلها إلى حد كبير بالحضارة الفرعونية الأولى، وأثرت فيها وما تزال آثارها باقية إلى اليوم، لا في البرديات والمقابر وكفى، بل في نفوسنا نحن الذين نعمر مصر بعد الفراعنة بكل ما مضى عليهم من ألوف السنين. كذلك كنا أجدر بأن نقوم بهذه الدراسة، وكان من حقنا أن نطمع في هذا التوفيق بين العقل والروح نقيم من هديهما الحضارة التي يلتمسها العالم اليوم في أبحاثه المختلفة.
مثل هذا المجهود الذي نطالب أبناء وطننا به مجهود ضخم هائل قد ينوء به جيل كامل. لكن فخر إقامة حضارة تعم العالم أكبر من أن يهتز أمام أعبائه جيل أو أجيال. فسيكون فخر مصر في عصورها جميعا؛ وسيكون لأبنائنا وحفدتنا موضع زهو وإعجاب، ثم هو يكون للعالم نورا يهديه الطريق إلى ما يستطاع بلوغه من السعادة.
كنت أود لو أذكر شيئا عن واجب الجامعة المصرية في هذا الشان ... ولكني أشعر بأني ألقيت من قبل على الجامعة تبعات كثيرة لما تقم بها، فليفكر الأفراد بادئ الأمر في ما أدعو إليه، وإني مؤمن بأن ما أدعو إليه عظيم.
الفصل الرابع
القدرية والجبرية أو الاختيار والاضطرار1
«الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها.»
1
لم يشتغل العقل الإنساني بشيء مثل اشتغاله بمسألة القدر والجبر. فمن أول ما بدت تباشير الفكر وقدر لنا أن نقف على أخبار المتقدمين أهل التاريخ الأول سمعنا بهذه المسألة. فهي قديمة وربما كانت أعرق في الوجود من كل فكرة أخرى. ولما جاءت في الأديان جعلتها موضع نظر ولكنها لم تتوصل إلى حلها بل تركتها بحذافيرها تنتقل من جيل إلى جيل حتى وصلت إلينا، ولم تزل الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة. بل لا نغالي إن قلنا: إنها من الأسس الأولى التي تبنى عليها اليوم أقسام كبيرة من الفلسفة والعلم. فمسائل التشريع والقواعد الاقتصادية والأفكار الاجتماعية كلها تمس هذه الفكرة وتعتد بها. وكلنا في أعمالنا اليومية ومعاملاتنا مع الآخرين لا ننسى مبلغ ما يترتب على عملنا من المسئولية الشخصية، ولا مقدار المسئولية التي تقع على عاتق غيرنا بانين ذلك على أن الإنسان حر مختار. وكلنا نحس أن الأفراد لا يتساوون في هذه المسئولية، بل تصغر عند قوم وتكبر عند آخرين على نسب مختلفة للعمل الواحد.
ولم يصل كثير من الباحثين إلى نقطة عملية عامة في هذه المسألة. بل تراهم يميلون إلى الاعتراف بقسط من الاختيار لكل فرد من الأفراد لم يخرج عن عقله، كبر ذلك القسط أم صغر. وتراهم يقولون: إنه لولا ذلك لما ساغ لنا أن نستاء من عمل غيرنا ولا أن نفرح له. لكنا نستاء ونفرح. ولا شك أن معنى هذا أننا نقدر أن هذا الشخص كان يستطيع أن يعمل غير ما عمل فيستحق منا إحساسا مخالفا للإحساس الذي أبديناه حين رأيناه عمل ما عمل. ولا بد لنا أيضا من الاعتراف بقسط من الجبر أو الاضطرار يختلف قدره باختلاف الأفراد. وهذا هو السبب في أن الإحساس الذي نقابل به عملا معينا من زيد ليس هو بعينه الإحساس الذي نقابل به العمل نفسه من كل شخص غيره.
هذه هي الأفكار العملية العامة في الموضوع. ولسنا ندري هل تتغير قريبا؟ ولكن ما لا شك فيه أنها تشكلت بأشكال كثيرة، وليست مع الأحوال المختلفة لبوسا جمة. فبالنسبة لقيم الاختيار والاضطرار، وبالنسبة لمصدرها راجت أفكار وأوهام كثيرة على مدى الأزمان المختلفة. فجبرية اليوم يرجعها المعاصرون من كتاب أوروبا إلى تأثيرات الوراثة والوسط في حين كان يرجعها أهل الزمن القديم إلى القدرة الإلهية. والاختيار المطلق والاختيار النسبي شغلا من الأبحاث آلاف الصحائف. وكذلك مقدار الاختيار. ولسنا نريد بما نكتب تحليل هذه الأبحاث، ولا التنقيب عما كان واستظهاره، بل إثبات رأي نعتقده وإظهار أثر هذا الرأي في بعض جهات العلم والفلسفة، ولا سيما ما اختص بفكرة المسئولية وتقدير الخير والشر.
وقبل الشروع في ذلك نرى أن نوضح هذا الرأي في ذاته وموضعه بالنسبة للآراء الأخرى. ولا يلمنا أحد بالتعجب في ذلك، فإن أول ما نطلب أن يكون القارئ عارفا بمرامينا حتى إذا قرأ ما نكتب كان قادرا على اتباع أسباب الحجة التي ندلي بها وطرقها ومسالكها، فيصل بها معنا إلى الغاية التي نراها من غير أن يكلف نفسه الرجوع إليها؛ ليرى مواضع الضعف منها.
أما رأينا فهو أن الاختيار معدوم من الوجود جملة، وإنما تصرفنا قوانين مرتبة نعرفها ومصادفات واتفاقات ربما كانت تسير على قوانين لا نعرفها. ولسنا نقصد بالاختيار هذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نستطيع معها أن نسير إلى اليمين لا إلى اليسار، ونأكل صنفا دون آخر، ولكنما نقصد به مجموع القوة المصرفة للحياة والمتسلطة على هامة الحرية الجزئية، نقصد به روح الحياة ذاتها. فهذه الروح أو تلك القوة أو ما شئت فسمها معدومة الاختيار من جميع الجهات، سواء كان ذلك من جهة تكوينها المباشر بالذات، أو من جهة الظروف الخارجية التي تعيش وقتيا في وسطها. وهي مدفوعة في طريقها بعوامل لا دخل لها مطلقا فيها، أو إن كان ثمة لها دخل فهو ضئيل إلى درجة معدومة الأثر. وهذه الحرية الجزئية الضئيلة التي نعتقد أننا نملكها بيدنا، وأنا نتصرف على مقتضاها في حياتنا اليومية معدومة أيضا وما نراه منها إنما هو خيال ووهم.
كلما تيسر لي أن أفصل بذلة جديدة يدخل رأسي تصميم أن أغير الألوان المعتادة التي ألبسها، وأدخل محل الخياط على هذا التصميم. وبعد أن أقلب خمسين قطعة من القماش أقف عند اختيار لون لا يخرج مطلقا عن ألواني المعتادة. وقد خرجت مرة عن هذا الجمود لعلي أرى في الجديد طلاوة. فلما لبست بذلتي الجديدة شعرت بعدم ارتياح لما عملت كأنه خالف اختياري. فهل أنا مختار في المرات الأولى، وهل أنا مختار في هذه المرة الأخيرة؟ وأعتقد أن كثيرين مثلي لاحظوا من ذلك ما لاحظته.
نجد هذا أيضا عند اعتيادنا اختيار الطعام. نجد هذا الاختيار محدودا لا يتعدى أصنافا معينة، فإذا تعداها الإنسان حسب نفسه خرج على نفسه أي حسب نفسه غير كامل الاختيار. ويكون ذلك إحساسه في غير هذه الجزئيات كل مرة يخرج فيها عن معتاد اختياره، اللهم إلا إذا نسي نفسه مع أصحاب أو جماعة أيا ما يكونون. وهو لا شك في هذه الحالة مسلوب الاختيار في أغلب الأحيان.
ونظن القارئ في غنى عن أن نضرب له الأمثال لذلك. ومن هذا نرى أن هذه الجزئيات البسيطة من متعارف ما في الحياة، ومما نظن لأنفسنا كامل الحرية فيه إنما حدد اختيارنا لها ظروف خارجة عنا كونت عندنا عادة أعدمت هذا الاختيار، وبالتالي قتلت هذه الحرية.
وإذا ارتقينا فوق هذه الدرجة، وجعلنا أعمالا أكبر من الأعمال اليومية موضع نظرنا تجلى لنا انعدام الاختيار عند الإنسان بشكل أوضح. وليست الأمثلة هي التي تعوزنا هنا. فنادر هو الرجل الذي لم تجئه حادثة خارجة عن انتظاره، بل عن اعتقاده فاضطرته أن يتبع مسلكا من مسالك الحياة لم يكن يحلم به. ونادر من لم تؤثر في حياته أو أعماله صداقة رجل معين أو حب امرأة معينة. ونادر من لم تغير خطته مقابلة في قطار أو سفرة إلى بعض المكان. ونادر منا من لم يكن لمرضه أو لزواجه أو لنسله تعديل عام لطريق سيره. وربما كانت كلمة نادر غير كافية، فأقول: ليس في الوجود إنسان لم يذعن لحكم كل هذه الظروف أو بعضها على أنها حين تقابل الواحد منا تحدث عنده أثرا غير الأثر الذي تحدثه عند الآخر، وربما كان على عكسه والواحد منا لا يستطيع أن يغير فيها أو يبدل، وإنما يخضع لها مجبرا غير مختار.
ومركز الواحد منا في الحياة - كونه ابن زيد لا ابن عمرو، وكونه ولد في بلد وفي قطر معين وفي عصر معين - أي اختيار له في هذا؟ من غير شك لا اختيار له، وإنما هو يحتل هذا المركز مجبرا سواء أراده أم لم يرده. ومن لنا بالرجل الذي يقدر على اختيار مركزه.
ربما قيل: إنه مهما أمكن التسليم بصحة ما تقدم فإن في نفي الاختيار إطلاقا مغالاة. وأن من الواجب الاعتراف باختيار نسبي للفرد يميز به بين الخير والشر والحسن والقبيح، ويمكن معه احتمال مسئولية العمل الذي يعمله. وإن هذا الاختيار النسبي الذي هو أساس المسئولية ونتيجة من نتائج الإرادة حرية نسبية، وهو متعلق بالفرد ملتصق به بل هو جزء منه.
ولا شك في أن هذا الكلام غير خلو من المعنى. فإن لنا إرادة نسبية نميز بها أعمالنا اليومية، وتجعلنا مسئولين أمام أبناء عصرنا عما يصدر منا من الأعمال، وهذه الإرادة هي التي تعطينا الحق في مؤاخذة غيرنا، وفي مؤاخذة أنفسنا. لكن هذه الإرادة النسبية هي كما قدمنا محكومة بظروف خارجة عنها مؤثرة فيها باعثة إياها حتما لتسير في طريق معين. أي: إن إرادتنا ليست حرة في أن تريد. فالأحكام التي تصدر عنها والتصميمات التي تتبعها إنما هي مدفوعة إليها بعوامل خارجة عنها، ربما كانت قوانين الطبيعة، وربما كانت المصادفة التي لا نعرف قوانينها، وربما كانت أيضا روح الوجود الخفية والقوة المصرفة له التي لا تدرك ماهيتها. وربما كانت مجموع هذه الأشياء.
ففي الأمثلة البسيطة التي قدمنا عن اختيار اللون في الملبس والمطعم، رأينا أن هذا الاختيار مقيد بقيود كثيرة منها الوسط الزماني والوسط المكاني، ونوع التربية ومبلغ الصحة أو المرض والقوة أو الضعف، التي عند الفرد وعوامل كثيرة أخرى ليس من السهل حصرها، وقد رأينا أيضا حين ترقينا فوق هذه الأمثال أن هذه القيود لا اختيار لنا في وجودها. وكون الرجل ابن شخص معين ولد في بلد معين، وفي زمن معين وفي أمة معينة أمور كلها بعيدة جدا عن أن تكون من اختياره. ومع ذلك فلها تأثير بين واضح في آخر درجات الاختيار؛ لأنها هي أسباب الإرادة.
وهذه الأسباب نفسها غير مختارة؛ لأنها غير متعلقة بإرادة عاقلة تعرف ماهيتها. فوجود زمن من الأزمان أو مكان من الأمكنة على صورة معينة أمر لا دخل لإرادة معينة فيه، بل هو نتيجة لعوامل بعيدة عن إرادة الناس أفرادا كانوا أو جماعات. وكل جيل من الأجيال يحتمل غير مريد نتيجة أعمال آلاف الأجيال التي سبقته، ويحتمل غير مريد شر أعمال الأجيال المعاصرة له. وإذا كان ذلك شأن الجيل فإن الفرد الذي هو ذرة منه يحتمل تأثير ملايين من إرادات معاصريه وملايين الملايين من إرادات الأجيال الماضية. فهل يبقى مع ذلك صاحب إرادة خاصة، ويستطيع أن يقول حين يعمل عملا معينا: إني قمت به؛ لأنني أردته؟
ليتصور القارئ معي نفسه: هو الآن يقرأ هذه السطور. فهل هو مريد في ذلك؟ وإذا كان مريدا فما هي قيمة اختياره في هذه الإرادة. أولا من أجل أن أكتب ما أكتب مررت بآلاف بل بملايين من المؤثرات التي شكلت إرادتي على ما أردت هي لا على ما أردت أنا. ثم كتبته بعد ذلك. وكتبته في أوقات ربما كان يكفي أن تتغير هي لتغير ما أكتب. ثم نشرته في هذه المجلة بعد تفكير في ظروف لا دخل لي فيها هي التي استوقفت عزمي عندها. فلم لم أنشرها في غيرها؟ لأسباب خارجة عن إرادتي إذا نحن اعتبرنا مطلق الإرادة. وقرأها القارئ في هذه المجلة؛ لأنه من قرائها؛ لا لأنه يريد أن يقرأ كلامي.
ثم ما هو الإحساس الذي يجده القارئ حين القراءة؟ أهو الانبساط أم الامتعاض أم عدم الاهتمام؟ لا شك أن ذلك كله يختلف كثيرا ما بين قارئ وقارئ. فمن الممكن أن يثني القارئ عطفه قائلا: وما نتيجة هذه الأبحاث في الحياة؟! ومن الممكن أيضا أن يقول: لقد أحسن الكاتب فإن في بحث هذه النظريات ما يؤثر في تقدير المسئولية الاجتماعية والمسئولية الفردية. ومن الممكن كذلك أن يمر بما أكتب ثم يلقي المجلة من يده متثائبا. هذا كله إذا لم ير في طرق باب مثل هذا الموضوع ما لا يسمح به الدين. وكل هذه الأحكام التي يصدرها يحسب أنه مريد كل الإرادة في إصدارها مع أنها إنما تتعلق بنوع تعليمه وبالمدرسة التي نشأ فيها، وبالقراءات التي قرأها وبطرق التفكير التي مر بها، وبالحوادث التي واجهها. ولو أن شيئا من ذلك كله تغير لتغير هذا الحكم وبكلمة أخرى لتغيرت الإرادة.
وظاهر من ذلك أن الإرادة لا تعمل بذاتها مجردة، ولكن تحت مؤثرات كثيرة هي التي تكونها على نحو خاص، وتجعلها بذلك تصدر أحكامها على هذا النحو محكومة بقوى تلك المؤثرات. ولا يمكن أن يقال مع ذلك: إنها حرة في أن تريد، بل ظاهر أنها مجبرة على السير في الطريق الذي رسمته لها هذه المؤثرات. وبكلمة أخرى مجبرة في اختيارها.
ومن الممكن أن نلخص العوامل التي تؤثر في الإرادة، وتحكمها في الاختيار على الطريقة الآتية: (1)
حكم الوسط الزماني والمكاني: فهذا الوسط الذي تكون على مدى الأجيال المتعاقبة من تفاعل ملايين الإرادات الإنسانية مع عوامل الطبيعة الأخرى له في إرادة كل فرد منا أعظم تأثير. فإن منها تتكون الأفعال الاجتماعية، والأنظمة السياسية والقوانين الإجبارية، والاعتبارات الأخلاقية. وهذه كلها وما سواها من الأفعال الاجتماعية تشترك في صفة مميزة هي إكراهها كل فرد على اتباعها، وجعلها إرادته تتكيف على النحو الذي تقتضيه. (2)
حكم الوراثة: وله في كل منا أثر مباشر في تكوينه الجسمي والعقلي. ومعلوم أن هذا التكوين له شأن كبير في حركاتنا وسكناتنا، وفي جميع تصرفاتنا، وفي نظرنا إلى الحوادث والأشياء وسائر ما في الحياة. وبكلمة أخرى في أحكام إرادتنا على كل ما جل ودق من الأعمال. (3)
حكم العادة: فلكل فرد على حسب ما كونته الأوساط التي نشأ فيها، وعلى حسب تأثير وراثته عليه وما انتابه من حوادث المرض والزواج، والوظيفة التي يؤديها في الحياة نظم يسير عليها، وتؤثر فيه أشد التأثير. هذه النظم هي عاداته الفردية التي كونها لنفسه، والتي أصبحت - كما يقولون - طبيعته الثانية. وهو كلما فكر في أمر من الأمور حكمته تلك العادات في التفكير وفي اتجاه إرادته. خذ مثلا لذلك شخصا اعتاد التدخين أو اعتاد تناول أدوية معينة في أوقات معينة، فترى أن هذه العادات لها في تصرفاته أثر كبير. كم ترى معتاد التدخين منحرف المزاج ضيق الصدر مسرعا في الحكم إذا هو لم يجد سيجارته حاضرة تحت يده عند طلبه إياها، وكم تراه ساعة التدخين ميالا في تفكيره إلى طريق الأحلام والأماني. ثم كم ترى السقيم المعتاد تناول المورفين بعيدا عن الابتهاج بالحياة وما فيها إذا منع عنه. (4)
حكم المصادفة: ليس من ينكر أن مصادفات في الحياة غير منظورة خلقت له مركزا خاصا جعله ينظم حياته على شكل دون آخر، من غير أن يكون له دخل في تلك المصادفات مطلقا.
فهذه العوامل التي تؤثر في حياتنا وإرادتنا، وتتأثر هي بأعمالنا وتنتقل إلى الجيل الذي بعدنا محملة بماضي الإنسانية الطويل مؤثرة في ذلك الجيل الجديد، تترك الفرد منا وشأنه في وسط هذا العالم الهائل شأن أي ذرة أخرى من ذراته تسير في نظامه محكومة بقوانينه الخالدة غير مستطيعة لنفسها نفعا ولا ضرا.
قد يرد على هذه الحجج كلها اعتراض يجب عدم إهماله. وذلك أننا في كل اعتباراتنا المتقدمة كنا دائما ننظر إلى الإرادة المطلقة، كأنها مثال الإرادة التي تطلب للإنسان. وأنا كنا نمثل الشخص الكامل الاختيار كأنه الشخص الذي يسير على غير قانون ونظام. وفضلا عن هذا فكأنا أغفلنا فكرة الإرادة النسبية إغفالا تاما. فإذا صح ما قدمنا من أن الإرادة الفردية محكومة بقوانين تحدد اختيارها إلى حد كبير، فإن في هذه القوانين من السعة والتسامح ما يجعل لهذه الإرادة مجالا في العمل واسعا.
وفضلا عن ذلك فقد كان بحثنا كله دائرا حول الفرد معتبرا إياه ذرة من الوجود متأثرة بما حولها. وما دام ذلك فلا يمكن إلا التسليم بأن كل إرادة يجب أن تخضع لمقتضى قوانين الحياة. ولكن الواجب أيضا أن ننظر إلى الفرد كوحدة قائمة بذاتها مؤثرة في الحوادث مصرفة لها على نحو معين ومشكلة إياها بشكل خاص. أي: إنه يلزم لمعرفة مقدار حرية الإرادة أن ننظر إلى هذه الإرادة حين تفاعلها مع الحوادث كمؤثرة فيها قبل أن تكون متأثرة بها، ونقدر مبلغ ما لها من التصرف في هذا التأثير. وذلك يتحتم أكثر إذا علمنا أن العوامل المؤثرة في الإرادة هي عوامل عامة على الغالب مشتركة بين كل الأفراد. فإن ما سميناه نحن حكم المصادفة يسير هو نفسه إلى حد كبير على نظام يصيب الأفراد منه بالنسبة لأثره في إرادتهم - لا في حظهم - قدر غير قليل. فإذا نحن أخذنا هذه العوامل المؤثرة على اعتبار أنها متساوية في فعلها في الإرادة، ونظرنا إلى الإرادة بعد ذلك مجردة عنها كان لنا أن نحكم أن لها في الحياة اختيارا يصرف حياة الفرد، وكثيرا ما يمسك بيده تصريف حياة الكون كله في مدة غير قصيرة من الزمن.
وقد يضرب المعترض مثلا إرادات مصرفة يجدها قاومت نظام الكون، وغالبت قوى الطبيعة وتمكنت من إخضاعها، ووصلت من ذلك إلى المدنية الحالية وما فيها من المخترعات والعجائب، ولو أنها اتبعت نظام الطبيعة وسارت على قانون أقل مجهود لبقي العالم متلمسا في ظلامه القديم. لكن تلك الإرادات القديرة عملت ونجحت في إخضاع أقسى ما نعانيه في الحياة. فدعاة الأديان أثروا في العالم بتعاليمهم تأثيرا كبيرا، وكذلك نابليون بونابرت بحروبه وأعماله وقانونه المدني. وجوستنيان في التشريع الروماني. فهل هذه النفوس التي أقامت المدنية، وأحيت تاريخ الإنسانية ونشرت العلم والنور والهدى والحضارة ذرات تسير في نظام الكون محكومة بقوانينه الخالدة لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا، وهل هذه الإرادات القوية التي غلبت حياة الوجود لم تكن إلا عجينة شكلتها ظروف الوسط وأحكام العادة، ومؤثرات الوراثة من غير أن يكون لها في نفسها أثر.
هذا وجه الاعتراض الذي يوجه في مثل هذه الأحايين. ولسنا نقف دون هذا الاعتراض أو نحسبه يغير شيئا من صحة ما قدمناه. فإن تحليلا بسيطا لهاته النفوس الممتازة، وما أحاط بها يجعلنا نؤمن تمام الإيمان بأنه لم يكن لأصحابها من الإرادة في عملهم إلا بمقدار ما أجبرتهم على السير فيه ظروف الحياة، كما أن الوقوف عند الإرادة الفردية لذاتها وتجريدها من العوامل المشتركة التي تؤثر فيها تظهر لنا هذه الإرادة قوة عمياء لا تتحرك بنفسها، ولا تتصرف باختيارها، ولكنها تنتظر عوامل خارجية تدفعها للسير في الطرق التي نرسمها لها.
ومن أجل أن نصل إلى ذلك بحجج بينة واضحة يجب أن نفهم أولا ما هي الإرادة وكيف نريد؟ كان الكتاب الأقدمون يحسبون الإرادة قوة من قوى الروح، والروح عندهم شعاع لطيف خارج عن مادة الجسم سرى فيها سريان الريح في الورد، والزيت في الزيتون، والنار في الفحم، مؤثر فيها غير متأثر بها. وكأن ريح الورد وزيت الزيتون ونار الفحم كانت في نظرهم قوى خارجة عن المواد التي تسري فيها، وعلى ذلك كانت الإرادة عندهم قائمة بذاتها تكافح ثورات الجسم أحيانا، وتناهض ما قد تتجه نحوه شهواته ورغائبه، وكما أن ذلك في مقدور هذه القوة، فقد بنوا عليه تكليف الإنسان اتباع الخير وتوجيه إرادته نحوه، واجتناب الشر وتوجيه إرادته ضده، واعتقدوا أنه مهما كانت الميول الإنسانية شريرة بطبعها، فإن قوة الإرادة تكفي لتقويم عوج الطبيعة بمكافحة هذه الميول ومناضلة الطبيعة. وهذا هو عندهم أساس المسئولية.
لكنهم كانوا يرون في الواقع أشياء كثيرة تقف دون تعميم فكرتهم هذه وإطلاقها، فكثيرون يوجهون همتهم إلى جهة معينة ويريدون عملا معينا، ثم تراهم وقد أسقط في يدهم في كل ما أرادوا. كثيرون يريدون عيش التبتل ويعملون جهدهم له ولكن مصادفة منحوسة في اعتقادهم تقابلهم بامرأة تستغويهم وتضلهم سبيلهم. كثيرون يريدون عمل الخير للناس على نحو خاص، ويبذلون قصد الوصول إلى تحقيق غرضهم كل ما لديهم من الوسائل، ثم ينقلب سعيهم وبالا عليهم وعلى من يريدون به الخير لظروف خارجة عن إرادتهم وترتيبهم. وكثيرون لا همة لهم ولكن خطأ غير منظور يرفعهم إلى درجات العلى، ويخرج من بين أيديهم المعجزات. كان الكتاب الأقدمون يرون ذلك كله، ويشعرون بأنه يتفق مع فكرة الإرادة المطلقة الخارجة عن مادة الجسم المصرفة لحركاته وسكناته حسب تدبير خاص، فلا يستطيعون بغير الاتجاه إلى ضعف الإنسان وجهله تفسير عجزهم عن إطلاق فكرتهم على كل ما في الحياة، ووسيلة ذلك هي التسامح مع قوى خارجة عن الوجود وعن عالمنا؛ لتتداخل تداخلا غير منظور لنا وبالتالي غير معروف منا. وعن طريق هذه المداخلة من جانب تلك القوى تحدث هذه العجائب التي لا تسير على سنة، ولا يحكمها قانون. فصورا مداخلة الشيطان لإغوائنا في جهة الشر، وجعلوا أفعال الخير التي تصدر عنا أثرا من آثار الإلهام الإلهي ووحي خالق الروح والإرادة، فلما أحسوا أن مثل هذه المداخلة إذا أطلقت تصل إلى ملاشاة الإرادة، وملاشاة الإرادة تفسد عليهم فكرة المسئولية في الدنيا وفي الآخرة؛ لأن مبناها عندهم هو حرية الاختيار، جعلوا الرجل مريدا وغير مريد معا، وحكموا أنه مختار ومضطر في وقت واحد.
وبعد تقلب كثير في الأفكار والفلسفات، اطمأنت الأفكار إلى فكرة الاختيار النسبي لتضعها أساسا للمسئولية.
والاختيار النسبي هو افتراض الفرد مجبرا في مجموع حياته مختارا في جزئياتها. ولما كانت معاملاته مع الناس متعلقة بهذه الجزئيات كانت مسئوليته أمام أمثاله تامة؛ لأنه يتمتع بهذه المسئولية بحرية تامة.
2
ظاهر مما تقدم أن الأبحاث التي جرت في هذا الباب هي أبحاث تصويرية أكثر منها علمية، فإنها لا ترمي إلى تعرف حقيقة الإرادة، ثم بناء فكرة المسئولية عليها بل إلى الاعتراف بفكرة المسئولية، والإحساس بها واقعة ملموسة، وتلمس أسبابها في أنواع من الصور والخيالات أقامها الذهن الإنساني ليعتبرها مصدرا لتعليلاته المنطقية. ولا شك أن هذا الطريق هو طريق الحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها؛ لأنك لا تستطيع أن تميز في هذه الأبحاث تمييزا دقيقا واضحا هل فكرة المسئولية هي التي انتزعت من وجود الإرادة الحرة، أو أن فكرة الإرادة الحرة هي التي خلقت لتقوم دعمة المسئولية الموجودة والمحس بها. ولولا تقدم العقل الإنساني لبقينا في تيهاء غامضة يغشانا نور لا ندري أين مصدره.
والحقيقة عندنا أن الإرادة ليست قوة خارجة عن الجسم متعلقة بالروح؛ لأن الروح ليست شعاعا مستقلا عن الجسم على نحو ما كانوا يقولون، وإنما الحياة أثر تفاعل المواد المركب منها الجسم الإنساني بعضها مع بعض وتفاعلها مع المواد الأخرى في العالم، وهذا التفاعل هو مصدر كل القوى بما فيها الروح والإرادة.
وليس معنى ذلك أن الحركات والسكنات التي تصدر عنا ليس لها نظام خاص، أو أنا نحن لا نسير على ناموس في تصرفاتنا غير ناموس المصادفة البحت، بل إن كل حركة من حركاتنا أيا كان نوعها تصدر عن مركز خاص، لكنها قبل أن تصل إلى هذا المركز، ثم تصدر عنه تمر بأجهزتنا المختلفة وتتوزع بعد ذلك على حسب أنواعها على المراكز المعدة لتلقيها وإصدارها. وتصرف هذه المراكز في التلقي والإصدار تصرف آلي بحت؛ فالحركة العنيفة يصدر في المركز المقابل لها أثر عنيف يظهر في الخارج في هذه الصورة، والحركة الضعيفة قد تصل من الضعف بحيث لا يظهر لها في الخارج أثر على الإطلاق، وأثر الجسم ومراكزه المختلفة لا يختلف في شكله عن أثر التفاعلات الكيماوية في المعامل، ولا عما نراه في المواد غير الحية التي تقابلنا عرضا في الحياة. أنت تضغط قطعة من الخشب أو تجر خيطا في لعبة، فإذا يد اللعبة أو عيناها أو أسنانها تتحرك. وتضغط زرا أمامك فإذا جرس يدق بعيدا متأثرا بهزات الكهرباء ، وتضع المادة القلوية على ورق اللتموس، فتحوله من الحمرة إلى الزرقة. ثم تضع حامضا عليه بعد ذلك قتنقلب زرقته حمرة من جديد. في هذه الأحوال الثلاث يوجد تيار مختلف يحدث حركة ضعيفة. فالتيار الذي يحرك اللعبة هو تيار مادي صرف هو الخيوط أو الأسلاك التي تصل بعض أجزائها بالبعض الآخر. والتيار الذي يحرك الجرس تيار لا يمكنك أن تراه ولا أن تسمعه، ولكنك تحس به إذا لمست الأسلاك التي يسير فيها، ويصبح جزءا منها ما دام مصدره موجودا. والتيار الذي يحدث الانقلاب الكيماوي باختلاف المادة المضافة إلى اللتموس من قلوية إلى حمضية تيار غير محسوس بالكلية. ولكن يظهر لنا أثره كما سمعنا الجرس، وكما رأينا تحرك اللعبة، ولكنا لا نعرف سببه على النحو الذي عرفنا به سبب الأثرين الآخرين.
ثم أنت ترى عدسة الفتوغرافية تلقي الصور التي أمامها في لوح الزجاج (المصنفر)، إذا وضع على بعد معين منها مستعينا في إحداث هذه الصور بخيوط النور التي تصل ما بين الكائنات ولا تستطيع تعريفها. وتميز دقات التلغراف اللا سلكي في العدد المقابلة منقولة إليها بأثير الهواء وتموجات تياره. ونسمع من الفونوغراف أصواتا مضبوطة تظهر إلى الوجود من سير الإبرة فوق موجات أسطوانية. وكذلك تنقل هذه التيارات المحسوسة المعروفة أو غير المعروفة لنا آثارا معينة، هي نتيجة مرور صور معينة عن طريقها بآلات أو أجسام معينة.
مثل الإنسان في حركاته وحياته مثل هذه الآلات وتلك الأوتار، ولكن نظامه مركب دقيق يصل أحيانا إلى حد التعقيد، فيقف الفهم والتصور دون إدراك حقيقة بعض ما فيه بل دون الوصول إلى خيال يكاد يقنع المنطق الإنساني بمشابهته لهذه الحقيقة. في تلك اللحظات يرجع الرجل منا إلى ذلك الملجأ الحصين الذي طالما احتمى فيه آباؤنا الأقدمون، قبل أن ينير العلم بشعاعه الضئيل بعض أركان عالمنا الناقص الغريب. يلجأ إلى الغيب والقوة والقدرة الغائب عنا علمها، والتي لا تدنو منا لنتعرف شيئا من ماهيتها .
ولكن جهلك الشيء لا يدل على صدوره عن مصدر خارج عنه، وعن أشباهه ونظائره. بل كل ما يدل عليه أنك تجهله في حين أن غيرك ربما يعرفه أو في حين أن جيلا آخر ربما يصل لاكتشافه والوقوف على حقيقة أمره. ولئن بقي هذا الشيء غامضا أبد الدهر، فإن القوانين العامة التي تحكم العالم تكفي لتفسيره، ولو على طريقة الأخذ بأمثاله. وقد دل العلم على أن أشياء كثيرة كانت لا تزال بعيدة عن تصور الإنسان، ولكنه كان يدركها بإلهام خاص حين كان يردها إلى أشباهها ونظائرها إدراكا لم يكن بعيدا عن الحقيقة كثيرا.
اعتقد الفلاح الساذج أول ما رأى قطار السكة الحديد أو الترام أو «الأوتوموبيل»، يسير من تلقاء نفسه من غير أن يجره ثور أو حصان أن قوة غريبة تسيره، أو أن شيطانا يسكن في داخله، فلما أفهم على التوالي السنين وبمشاهدته وابورات المياه التي تجاور مزرعته أن النار والماء هما المصدر لكل تلك الحركة بدأ يتصور أن هناك قوى معروفة لدى بني الإنسان ممن (شافوا الدنيا)، ولا علاقة لها بالشياطين ولا بالملائكة، وأن هذه القوى هي التي تسير تلك الأحجام الهائلة التي يراها. وعلى ذلك فلما سمع بالطيارات لم يحتج أن يلتجئ إلى قوى خارجة عن العالم؛ لأنه رد حركة الطيارة إلى مشابهاتها التي معه على الأرض.
فالحركة التي تصدر عن الإنسان، وتظهر لنا هي أثر الموجودات الخارجية منعكسة على الأجهزة المختلفة المعدة لتلقيها. واتصال هذا الأثر بطريق أجهزة، وتيارات مادية متصلة بمركز الحركة الإنساني، إما مباشرة وإما بطرق وتيارات أخرى تجعل هذا المركز يحدث هذه الحركة على نحو ما أحدث ضغطك الخشبة في اللعبة من تحرك يديها، وعلى نحو ما حصل حين ضغطت زر الكهرباء فدق الجرس، وعلى نحو الآثار المختلفة التي تقدم ذكرها وآلاف آلاف غيرها مما يرى الإنسان في المحيط الخارجي. ولما كانت أجهزة الإنسان وتياراته أول نشأته متشابهة كل التشابه، كانت الحركات التي تصدر عن الأطفال متشابهة أتم الشبه؛ فالطفل أول ما يولد يبكي أو بالأحرى يحدث صوتا يشبه البكاء. وهذا الصوت ناشئ من تأثر رئتيه بالهواء الخارجي . كذلك هو يدافع عن نفسه في أول أيامه بالطريقة الآلية الصرفة التي حبته إياها الطبيعة، فهو يستنجد عن طريق البكاء أو هو يدفع بيديه. وتبقى هذه الحالات العكسية الصرفة
étâts reflexes
عنده زمنا غير قليل، بل منها ما يبقى يصاحبه طول حياته.
ولكن انقضاء زمن الطفولية الأولى يقضي معه على هذا الشبه، وينتقل الأولاد حينذاك من الحالة الانعكاسية التي يكونون فيها مثل مرآة تعكس ما يقابلها من الصور والموجودات والحوادث إلى ما يسمونه بحالة الرغبة
étât de desir ، وهي الحال التي يكون الطفل فيها أسير شهواته ورغباته، بمعنى أنه إذا رأى شيئا استهواه ورغب في الحصول عليه تحكمت فيه فكرته هذه حتى يهون معها كل شيء، وحتى يهون معها تلف نفسه.
وهذه الحال لا تختلف عن الحال العكسية الصرفة، إلا من حيث الكم والاتجاه. أما من حيث الكيف فهي وتلك الحال الأولى سواء، وسبب هذا الاختلاف في الكم والاتجاه لا يرجع إلى إرادة خاصة، ولكنه محكوم بقوانين قاسية تتمشى على الإنسان وعلى الجماد، وعلى سائر ما في هذا الكون مما يقع تحت عيوننا، وأظهر هذه القوانين بقاء الأصلح وتلاشي ما لا فائدة منه، وقانون آخر متفرع عن القانون الأول، وهو أن استعمال الشيء يزيده قوة وصلاحية، وإهماله يضعفه ويفنيه. فإذا كانت بعض الأجهزة والتيارات في طفل أضعف منها في طفل آخر بطريق الوراثة أو لسبب من الأسباب، أو كانت هذه الأجهزة على تساويها قوة فيهما مرنت في أحدهما، وأهملت في الآخر، نتج عن ذلك على مرور الأيام اختلاف أجهزتها في التلقي والإصدار، وكان لما يتلقاه الجهاز القوي من شدة الأثر في نفس الطفل ما يحرك في نفسه أشد الرغبة في حين يمر ما يتلقاه الجهاز الضعيف غير محس به فكأنه لم يكن.
ولنضرب لذلك مثلا واضحا: طفل عمي بعد ثلاث سنوات من ولادته. هذا الطفل لا يمكن أن تنتج عنده الرغبة لهفة على منظور من المنظورات؛ ذلك لأن الحاسة التي تتلقى هذه المنظورات وتبعث بها عن طريق التيارات الأخرى إلى المصادر التي تحرك النفس، وتستدعي الرغبة تلاشت. وما يقال هنا يقال عن تلاشي أي جهاز معد لتلقي وإصدار أي حركة أو أي محسوس. هذا طبعا إلا إذا أمكن الاستعاضة عن الجهاز المفقود بجهاز آخر لو إلى حد محدود. وفي هذه الحالة يكون التأثير الذي تحدثه الأشياء الخارجية في الأجهزة - أو على نحو ما يقال عادة: في النفس - متناسبا مع قوة هذه الأجهزة وضعفها. وهذا يدل أتم الدلالة على أن حالة تحكم الرغبة لا تفترق عن الحالة العكسية الصرفة إلا في الكم وفي الاتجاه، مع اتفاقها معها في الكيف، وسيرى القارئ أن حالة الإرادة
L’étât volontaire
هي أيضا طور خاص من أطوار الحالة العكسية يظن أنه أرقى من تلك الأطوار، ولكنه لا يغير شيئا من نوع تلك الحالة.
فإرادة الواحد منا لا تتحرك من نفسها، بل إجابة لمؤثرات خاصة تستثير منها الحركة. وهذه المؤثرات هي الأشياء الخارجية التي تمر بأجهزتنا وتحركنا. وحركتنا التي نعتقدها اختيارية صرفة ليست إلا نتيجة تأثر الأجهزة والتيارات التي تحركت بانعكاس الحوادث والأشياء الخارجة عليها. وغاية الأمر أن هذا الانعكاس إما أن يقابل أجهزة معدة لتلقيه، فتتأثر به مسرعة وبذلك ينتقل أثره سريعا ويحدث الحركة، وهذا ما يحصل حينما تكون الحوادث والأشياء مما اعتادت أجهزتنا وتياراتنا تلقيه وإصداره. ومعلوم مما سبق أن التكرار يورث العضو أو الجهاز الذي يحدث فيه قوة ومتانة وسرعة. وهذه الانعكاسات المتواترة هي ما نسميه بالعادات. وإما أن يقابل تلك الانعكاسات أجهزة قليلة الاستعداد لهذا التلقي والإصدار. فحين ذاك تخترق الصورة حجب تياراتنا مترددة، وعلى مهل كما يخترق شعاع النور الضئيل غرفة من خلال زجاج غير شفاف. نرى هذا الشعاع كأنه تائه وسط الغرفة لا يستقر في مركز من الحائط المقابل، إلا بعد أن يزداد مصدره قوة وثباتا. هنالك يستقر أخيرا ويثبت. كذلك الصورة المنعكسة على أجهزتنا التي لم تتعود تلقيها وإصدارها تجد من هذه الأجهزة ارتباكا في نقلها إلى التيارات المعدة لنقلها إلى مركز الحركة، الذي يسمونه مستقر الإرادة. وفي أثناء هذا التردد تنهال علينا عاداتنا القديمة، وتذكاراتنا الماضية وتعاليمنا الخاصة وحالنا الوراثية، وما نحن فيه من صحة ومرض، وظروف الوقت التي تحيط بنا والمصادفات التي تصرف إلى حد كبير حياتنا، فتثبت إرادتنا في ناحية من النواحي. وبكلمة أخرى تعدل تياراتنا الناقلة للحركة إلى الطريق الملائم لهذه الظروف والأحوال التي لا عداد لها، والتي لم يكن لنا دخل إرادي في تكوينها. فهل مع وضوح المسألة إلى هذا الحد يمكن القول: بأن الحال الإرادية هي شيء آخر غير الحال العكسية وجهت جهة خاصة غيرت في كمها واتجاهها، ولم تغير مطلقا في نوعها وكيفها؟
على أن لدينا دليلا آخر أبلغ ما يكون في الإقناع بأن حالنا الإرادية، ليست إلا أثر تفاعل المواد المركب منها جسمنا مع نفسها ومع المواد الأخرى. وهذا الدليل يستنتج من حالتي السكر والمرض. ها هو ذا صديقك مصمم كل التصميم على القيام بعمل خاص، ولقد رجوته كثيرا أن يعدل عن رأيه أو يغير إرادته، فرفض رفضا باتا مع تقديم أقوى معاذيره. وإنكما لتسيران في الطريق، وإذا بالمطر ينزل فاضطررتما أن تميلا إلى (قهوة) من المقاهي. وطاب لكما المجلس واستمر المطر يهطل وخيم الليل، وأضاءت مصابيح الكهرباء ولذ لكما تناول شيء من الكونياك أو الوسكي. ووجدتما صنف المشروب الذي قدم لكما جيدا فاستزدتما منه. أفترى صديقك باقيا على تصميمه الأول؟ أم ترى فعل المشروب سرى في نفسه، وعدل آراءه وجعله شخصا آخر غير الذي كنت تراه منذ ساعتين مضتا. فقد تراه إذا عرضت له فكرة أخرى يبدي فيها رأيا ربما كان نقيض الرأي الذي أبداه قبل نزول المطر. كذلك ترى هذا الحال عند إصابته بمرض. فإنه يصاب بضعف في الإرادة وفتور في تحول التيارات الفكرية إلى حركات عملية، وهمود عام يصير روحه ضعيفة مبلغ ضعف جسمه.
وقعت على بعض أمثال مما كتبه بعض كتاب الإنجليز والفرنسيين في هذا الباب أريد إيرادها هنا دليلا على ما قدمت.
أدمن الكاتب الإنجليزي دكونسي الأفيون حتي بلغ من ذلك ما لم يبلغه غيره، فوصلت به الحال الإرادية إلى حال من الضعف كادت تتلاشى معه. فكان يود من كل قلبه إنفاذ عمل يراه ممكنا، ويحس أن إنفاذه واجب عليه، ولكن حركته الفكرية كانت تتخطى قوته العملية إلى حد يعجز فيه عن إنفاذ ما يريد، بل عن الشروع في ذلك. فكأنما كان تحت سلطان كابوس يرى معه ما يريد القيام به دون استطاعته كما يشهد رجل أقعده الضعف المهلك عن مغادرة فراشه المساءة موجهة إلى موضع من مواضع حبه وعطفه، فيلعن المرض الذي أقعده ومنعه الحركة، ويود أن يخلص نفسه من الحياة لو استطاع أن يقوم أو يمشي، ولكنه عاجز عجز الطفل ولا يقدر أن يقف على قدميه. (كتاب اعترافات آكل الأفيون صفحات 186-188.)
وذكر الطبيب الإنجليزي «بنت» حالة رجل كان لا يستطيع إنفاذ ما يريد إنفاذه. فكثيرا ما كان يود خلع ملابسه، ثم يبقى ساعتين عاجزا عن القيام بهذا العمل مع أن قواه العقلية خلا الإرادة كانت كاملة، ولقد طلب يوما كوب ماء، فقدم إليه فلم يستطع تناوله برغم رغبته فيه فترك الخادم واقفة أمامه نصف ساعة قبل أن يستطيع التغلب على هذه الحال. وكان يقول: إنما يخيل إليه أن شخصا آخر ممسك بإرادته.
ولقد ناضل الفيلسوف الفرنسي مين دي بيران؛ ليتغلب في نفسه على ما فيه من ضعف الإرادة ووجه لذلك كل همه، وكان كل ما يرمي إليه من فلسفة هو تغليب الإرادة على النزعات الجسمانية. لكنه اضطر أخيرا أن يعترف «أن الحرية ليست إلا الإحساس بحال معينة من أحوال النفس نود لنفسنا أن تكون عليه، ولكن هذه الحال متعلقة في الواقع باستعداد الجسد الذي لا نقدر من أمره على مسها، وأن كل الميول والعواطف التي يظنها الناس مصدر السعادة ليست إلا أثرا من آثار نظامنا الجسمي كالسعادة نفسها» (أفكار مين دي بيران ص117 وص 119).
فذلك كله يحمل على الاعتقاد بأن أعصابنا وتياراتنا المادية، هي التي تصدر عنها أفعالنا التي تبعث بها إرادتنا، وأن أي مادة أخرى يمكن أن تؤثر في هذه الأعصاب والتيارات تغير من اتجاه الإرادة والعمل؛ لذلك فما تقدم لا يدع مجالا للريب في أن الحالة الإرادية ليست إلا طورا خاصا من أطوار الحال العكسية، وأنها متعلقة تمام التعلق بتأثر أجهزة الجسم، وتياراته بالآثار الخارجية. وهذه الآثار هي المحيطات الزمانية والمكانية. ومعنى هذا أن الإرادة الحرة لا وجود لها. فكيف والحالة هذه تمكن مثل مشترعي الأديان ومثل نابليون وأضرابه أن يغيروا في وجه العالم بإرادتهم ما غيروا، وأن يقيموا دعامة المدنية الحاضرة على الشكل الحالي إذا لم تكن إرادتهم إلا صدى الحوادث الخارجية عنهم.
هذا هو القسم الثاني من الاعتراض الذي رأينا أن نرد عليه. ومبنى هذا الاعتراض عند أصحابه أنهم يفترضون الفرد الإنساني وحدة قائمة بذاتها مؤثرة في العالم قبل أن تكون متأثرة به. كلا بل هي روح العالم كله على ما قالوا:
وتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
وعلى هذا الافتراض الوهمي الصرف بنوا نظرتهم في حرية الإرادة مستندين إلى هذه الإرادات العليا، ولكنهم أكبروا شأن الإنسان إكبارا لا محل له، ليس الإنسان إلا ذرة من ذرات هذا العالم العظيم الذي لا ندري فيه حدود الزمان ولا المكان، ولا نفقه لهما معنى وهو ذرة ضئيلة لا يعبأ الكون بوجودها ولا يهتم بفنائها. فلو أن له قيمة خاصة في وجود العالم لما حقرت الطبيعة من شأنه إلى حد أن لم تكترث له، ولم تهتم به أكثر من اهتمامها بأي جرذ وبأي حجر وبأي قطرة ماء في المحيطات الواسعة، ثم هي بمدنياته أقل اهتماما إن كان للتناهي في الأقلية محل، أفترى أن المدنيات المتعاقبة حادت بكوكب عن فلكه، أو قدمت كسوف الشمس أو أخرت خسوف القمر، أو قلبت المد جزرا والجزر مدا، أم ترى أن ما تغيره المدنيات ليس هو إلا حركة متناهية في الأقلية وصغر الشأن، إذا قيست بالبعوضة التي وقفت على قرن الثور. فإذا كان ذلك لم يبق محل لاعتبار الإنسان مركز دائرة الفلك، وإنما يجب وضعه في الموضع اللائق به. ذرة تتحول من جماد إلى نبات إلى حيوان هو الإنسان ثم إلى جماد إلى نبات آخر وهلم جرا.
إذن ما هي الإرادات العليا؟ سمعنا كثيرا أن باخرة من البواخر استطاعت أن تقطع تيار التلغراف اللا سلكي الذي تبعث به باخرة لأخرى. وعرفنا أن السر في ذلك أن تيار تلغراف هذه الباخرة أقوى من تلغراف الباخرتين المتراسلتين. فإذا أرادت هي أن تخاطب إحداهما لم يحل دون ذلك حائل؛ لأن تموجات الأثير تساعد تيار معداتها؛ لأنها أقوى والطبيعة تساعد القوي وتجور على الضعيف.
والقوي هو المخلوق الأكثر ملاءمة للزمان والمكان اللذين يوجد فيهما، والضعيف هو الأقل ملاءمة لها. تلك الإرادات العليا التي يقولون عنها: هي مجموع تيارات قوية أكثر من غيرها استعدادا للتلقي والإصدار. فإذا وقعت عليها الصور الخارجية، وانقلبت عن طريق تياراتها إلى حركة كانت هذه الحركة بحيث تأخذ بالأنظار، وتستدرج التيارات الضعيفة نحوها لتتلقى عنها على نحو ما أخضع تيار الباخرة القوية الباخرتين الضعيفتين. وهذه القوة هي سر البطولة أي: النبوغ والعبقرية، ولكن القوة في التلقي والإصدار ليست دليلا على الحرية، بل على حسن الاستعداد للوسط المحيط بالأجهزة العبقرية. فإذا نحن نسبنا الحرية إلى هذه الأجهزة كنا كمن ينسب إلى شخص قوي الحافظة قصيدة يرويها لمجرد سماعها مع أنه لم يكن إلا آلة بسيطة في ترديدها. وكذلك فهؤلاء الأبطال يرددون بقوة صدى الوسط الزماني والمكاني الذي يعيشون فيه متأثرين بعوامل ذلك الوسط نفسه، فيصبح ذلك الصدى قوة جديدة تؤثر مع المؤثرات المحيطة بها.
وهذا التفسير الموجز يسمح لنا أن نقول: إن العظماء والأبطال هم أكبر الناس استعدادا للبقاء والتغلب على أمثالهم من الذرات الأخرى التي تنافسهم؛ لأنهم الأقوى والأصلح للبقاء. وهو يسمح لنا أيضا أن نقول: إن إرادتهم القوية لا تفرق في كيفها عن الإرادات الأخرى، وإنما الاختلاف في الكم وفي القوة والضعف، وقد رأينا أن الإرادة في الإنسان ليست إلا طورا من أطوار الحال العكسية في اتجاه خاص. إذا فالحرية مفقودة من العظماء مبلغ ما هي مفقودة من عامة الناس.
يتبين مما سبق أن ما يسمى بالإرادة ليس هو إلا المظهر الذي تنقله الحركات الخارجية عن طريق أجهزتنا وتياراتنا المادية، أو المتعلقة بما فينا من مادة حسب تكوين تلك الأجهزة والتيارات، وما توالى عليها من التقلبات والتغيرات من وراثة ومرض، وعادات خاصة ووسط اجتماعي وغير ذلك من الآثار المادية، وأن ليس هناك شيء خارج عنا مصرف لنا غير المادة التي تكوننا، وما في هذه المادة من قوة ملازمة لها متعلقة بها لا يمكن أن تنفصل عنها مهما بولغ في تحليلها.
ولقد جعلنا وجهتنا فيما اتخذنا من الأمثلة استظهار أبسط ما يصل إليه الحس، مما وصلت إلى تحليله يد الإنسان. ولو أنا أردنا تلمس المثل من عالم الحيوان أو عالم النبات لما أعوزنا. بل لو أنا طرقنا باب ما أوصلت إليه مبادئ لمبروزو في كتاب الفلسفة الجنائية لرأى القارئ كم تؤثر المظاهر الجسمية في الأخلاق. وكيف توجه الإرادة وجهة خاصة. ولكنا لم نر محلا للدخول في مسائل ربما أدى تعقيدها، ودقتها بالشك إلى أن يتسرب إلى نظريتنا، فاكتفينا بأبسط الأشياء، وكانت نعم المساعد لنا على توضيح غرضنا.
وإلى هنا نرى أننا أثبتنا مبدأ الجبر المطلق وأقمناه على أساس متين، ولكن هل معنى ما تقدم انعدام المسئولية وهدم الاعتبارات الأخلاقية، وإن لم يكن ذلك فعلى أي أساس تقوم المسئولية، وكيف لنا أن نفرق بين الخير والشر، وأن نمدح فاعل الأول ونذم مرتكب الثاني؟ ذلك ما سنبينه في كلمتنا الثانية عن المسئولية.
3
المسئولية: طبيعة فكرتها وكيفية تكوينها في النفس
كلمة المسئولية من الكلمات المعقدة الدقيقة؛ ذلك لأن مدلولها ليس شيئا محسوسا نحيط بجميع نواحيه، ونستطيع الوقوف بالدقة على ظواهره وخوافيه، ولا هو معنى بسيطا قائما بالذهن كما يقوم به معنى كلمة الصدق مثلا. ولكنه أثر ونتيجة لإحساساتنا وعقائدنا وأعمالنا فيما بيننا وبين أنفسنا، وفيما بيننا وبين سوانا بل فيما بين غيرنا ممن نعول ونفسه وفيما بينه وبين سواه.
فالواحد منا يحس بمعنى المسئولية إن ارتكب خطيئة أمام ربه وكان متدينا، ويحس بهذا المعنى إذا أساء ظنه بغيره من الناس بغير حق، ويحس به أن رأى بائسا يستطيع تقديم المعونة إليه، ثم يحجم عن إعانته. ويحس به ولكن على شكل آخر إن هو أوصل الأذى إلى غيره. ويحس به على شكل ثالث إذا أتى ابنه وأخوه أو صديقه أمرا نكرا. يحس بالمسئولية أمام ضميره في الأحوال الأولى، وأمام الناس أيضا في الأحوال الثانية يحس أعمالهم على نحو ما يظن أنهم يحملونه تبعة أعماله.
ومع تشعب معنى هذه الكلمة وامتداده، فإنك ترى إحساس الناس به إحساس إيمان وتسليم بحيث لا يكاد يتسرب إلى أنفسهم شك في وجود هذه المسئولية، ولا في كمها وكيفها. وليس ذلك بغريب فيهم فإنهم كانوا ولا يزالون يسرعون إلى الحكم على أشد الأشياء دقة وأكثرها تطلبا للبحث والنظر بسهولة مدهشة، في حين تراهم يترددون إذا دعوتهم للحكم في مسالة بسيطة يمكنهم البحث في كل أجزائها، والوصول إلى معرفة ما جل وما دق منها. فمسائل الدين كلها: وجود الله، وخلود النفس والعقاب والثواب، والنظريات الاجتماعية والاقتصادية العليا كفكرة الأسرة، وحق العقاب، وفكرة الملكية ونحو ذلك - هذه المسائل المعقدة الدقيقة لا تحتمل لديهم مناقشة ولا جدلا، بل هم يرون من السخف النظر أو البحث فيها، ويطلقون على هذا السخف أنواعا من الأسماء، فيسمونه التجديف مرة والهرطقة أخرى والسفسطة ثالثة، أما ما انحط إلى أسفل من هذه المسائل بدركات، فهو يستدعي تفكيرهم وبحثهم لإمكان الحكم فيه، ككون زيد رجلا طيبا أو رجلا خبيثا. وكون عمل من الأعمال يستحق المدح أو الذم، وجمال حيوان أو قبحه، وغير ذلك من المسائل البسيطة.
وظاهر أن هذا تناقض غريب؛ لأن التردد في الحكم يزداد كلما ازدادت المسألة المطلوب الحكم فيها دقة وتعقيدا. فيجب من أجل الوصول إلى حكم مقنع تذليل جميع المصاعب، وحل كل العقد واستظهار كل الدقائق حتى تصبح المسألة مجموع مسائل بسيطة تحل كلها على طريقة واضحة مقبولة. فكيف يسوغ إذن حل مسألة دينية أو اجتماعية أو اقتصادية بكلمة في حين أننا ندقق ونبحث، إذا أردنا الحكم في أصغر الأمور وأضعف الأعمال. أفليس هذا هو التناقض بعينه؟
لو كان صحيحا ما يقال من أن الإنسان حيوان مفكر، وطالبنا جميع الناس بالتفكير لكان هذا تناقضا من غير نزاع؛ لأن مطالبتنا جميع الناس بالتفكير في كل مسألة تعرض عليهم مطالبة بالمستحيل. ولو وقف كل فرد منهم حياته على التفكير. لوقف دولاب الأعمال في العالم، ووقف بذلك ما يدعو للتفكير. وإنما يعيش المجموع الأعظم في كل الأمم وغذاؤه الفكري الإيمان. يعيش على وهم أنه فكر، ووصل من تفكيره إلى نتائج معينة اتخذها قواعد في الحياة، في حين أنه وجد هذه القواعد محضرة له بواسطة أفراد أعدتهم الطبيعة بما وهبتهم من الملكات الخاصة للقيام بوظيفة الفكر في العالم. هؤلاء الأفراد يضعون قواعد الحياة لا اعتباطا، ولا نتيجة شهوة من شهواتهم الفكرية، بل يضعونها محكومين بماضي الإنسانية الطويل، والقواعد التي يضعونها هم أو يضعها المتشبهون بهم، ولا يكون لها بالماضي لحمة نسب إنما هي قواعد ضيقة محكوم عليها مقدما بالبوار والفناء؛ لأن حياتها إنما تكون بدخولها في كتاب إيمان العالم. وفصول هذا الكتاب متناسقة فما كان دخيلا عليها لا يبقي بينها؛ لأنها تلفظه وتنفيه.
ولا شيء أشد تنافيا مع الإيمان من التحليل والتنسيب (إيجاد النسب بين الأجزاء المختلفة من الشيء الذي تحلله)؛ ذلك لأن أول ما يستدعيه التحليل والتنسيب هو إمكان الشك في مجموع ما نحلله، أو في نسبة شيء منه لشيء آخر. والشك وإلإيمان نقيضان لا يجتمعان؛ لذلك كان من أول خصائص الإيمان التسليم بالشيء جملة أو نفيه جملة.
وهذه النظريات الكبرى الدينية والاجتماعية والاقتصادية تستدعي من أجل تناول الفهم إياها تناولا دقيقا تحليلا طويلا، وملاحظة كثيرة يستلزمان الشك المرة بعد المرة حتى يمكن الوصول فيها إلى نتيجة تقنع العقل. وهذا التحليل وهذه الملاحظة هما من شان المفكر لا العامل. والنتائج الأخيرة التي يصل إليها المفكر هي وحدات إيمان كل فرد من أفراد المجموع يأخذها مقياسا للأعمال التي يستلزمها وجوده في الحياة.
هذه الوحدات الإيمانية يزداد عددها أو يقل بانحطاط الوسط أو رقيه، وبكثرة المفكرين وقلتهم. فكلما ارتقى الوسط قلت الوحدات الإيمانية. وكلما زاد المفكرون أمكن المجموع أن يرقى إلى مكانة من العقل تسمح له أن يشك في عدد أوفر من النظريات، وهذا هو السبب في «تطور» فكرة البطولة والألقاب التي كانت تعطى للعظماء والأبطال في متعاقب الدهور. فبينا كنت ترى لقب الألوهية يطلق على مفكرين، وعظماء أمثال (أودن) الاسكندنافي، وأمثال الآلهة وأنصاف الآلهة الكثيرين الحافل بهم تاريخ أثينا، ترى هذا اللقب يضعف ويتلاشى من عالمنا الأرضي، ويبقى وقفا على الإله الأعظم الذي لا تراه العيون، ولا تحيط بمكنون كنهه العقول. ويحل محل الآلهة، وأنصاف الآلهة الذين كانوا يشرفون الإنسانية في التاريخ الأول الأنبياء والرسل - عليهم السلام.
وهكذا ترى هذه الوحدات الجميلة التي كانت موضع القداسة والإجلال في الأزمان الأولى أزمان قصر العقل الإنساني، يرضى بعضها بالخلود في مستودع الماضي معززا مكرما في حين لا تستطيع الأخريات الوصول إلى هذا المركز من الإعزاز، ويكون كل نصيبها أن تذكر في تاريخ الإنسانية كموجود عقلي أخذ دوره على الزمان، ثم هرم وتلاشى.
وهذه «التطورات» تسير في حصولها على سنة معينة، تلك السنة هي الضرورة الاجتماعية. فما دامت فكرة معينة لازمة لبقاء الجمعية وتوازنها، فهذه الفكرة تدخل حتما في مجموع الوحدات التي يتكون منها القانون العام لبقاء الجمعية؛ لهذا كان الناس أكثر إيمانا بما وراء الطبيعة وبالقوى المصرفة للكون حين كانوا يعتقدون لهذه القوى أثرا فعالا في نزول المطر، وفي حركات الرعد والبرق، وفي الصواعق وفي غير ذلك مما يؤثر في حياة الاجتماع بالخير والشر. فلما بدت تباشير العلم وابتدأوا يوقنون أن الصواعق والمطر والخسوف كلها ظواهر تسير على قوانين ونواميس معينة قل إيمانهم الأول بما وراء الطبيعة، وأصبحوا يحسون بأن الصلات التي كانت تربطهم بتلك القوى تتلاشى شيئا فشيئا، حتى جاء مذهب الوضعيين (Les Positivistes)
في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وأساسه درس السنن والقوانين التي تحكم الطبيعة، وتصرف حياة الاجتماع من غير تعرض بخير أو شر أو احترام، أو تحقير للقوى الأصلية التي يقول بعضهم: بوجودها في حين ينكرها آخرون إنكارا تاما.
ولهذا أيضا تطورت الفكرة المسيحية في قداسة الزوجية. فبعد أن كان الزواج عقدا بين زوجين لا انفصام له ما بقيا، على اعتبار أن هذه الوسيلة هي الوحيدة التي تضمن توازن الاجتماع، تطورت هذه الفكرة بتطور الزمان، وبحكم الضرورة الاجتماعية، واضطرت الكنيسة أن تدخل إلى شريعتها فكرة الانفصال بين الزوجين. ثم أدخلت القوانين المدنية نظرية الطلاق. وكذلك قضي على الفكرة الأولى بعد إذ كانت آية من آي الاجتماع في العصور الماضية، ولقد صاحب هذا التطور في الإيمان بفكرة العائلة تطور آخر يختص باعتبار المرأة وتقديرها. ذلك أنه لما كانت رابطة الزوجية الأولى عقدة لا انفصام لها تقضي بوجود المرء وزوجه معا طول الحياة، عمل في هذه الرابطة قانون الطبيعة العام، قانون التنافس وسيادة الأصلح والأقوى، النفس الاجتماعية فكرة تحقير المرأة. والنفس الاجتماعية تشمل نفوس الرجال والنساء معا؛ لذلك كانت المرأة المسيحية في الأزمان الأولى محتقرة في عين الرجل وفي عين نفسها. فلما بدأ إحساسها بوجودها يتكون بدأت أيضا فكرة القداسة لرابطة الزوجية تتبخر وتتطاير، فلم يبق في الأذهان والعقول إلا ذكراها.
مثل هذه التطورات حصلت في كل الوحدات الإيمانية، وهي - كما قدمنا - النظريات التي يحس بها الضمير العام كضروريات اجتماعية لا غنى عنها لحفظ كيان الجمعية وحسن توازنها. والتطور تقدم أو تأخر وليس سكونا؛ لأن السكون والحياة لا يجتمعان. إذن فمحل كل وحدة إيمانية تتطور تحل وحدة أخرى لتصل؛ لتكون جزءا من مجموع النظريات التي يؤمن بها المجموع؛ ولكن على مقدار رقي هذا المجموع وانحطاطه يترتب بقاء هذه النظريات جامدة أجيالا من الدهر، أو يتسرب الشك إليها بين حين وحين.
وهذه الوحدات الإيمانية تدخل إلى نفس الفرد من يوم وجوده وسط الجماعة، وتتكون معه وتبلغ أشدها متى بلغ هو أشده وتصبح بذلك - قسما منه يسميه الناس ضميره. فضمير الفرد هو انعكاس الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجماعة على نفس الفرد، وهذا الانعكاس يحصل حتما؛ لأن حياة الفرد واغتباطه معلقان على اغتباط الجماعة في حياتها. فهو مكره على احتمال كل ما تتصوره الجمعية من ضرورات الوجود بالنسبة إليها .
هذا الانعكاس لقواعد حياة الجماعة في نفس الفرد يكون عنده إحساسا خاصا بأن مخالفته لهذه القواعد تجر عليه جزاء محتوما. وهذا الإحساس ناتج من إيمانه بضرورة هذه القواعد لحفظ كيان الجمعية، وأنه هو قسم من هذه الجمعية يتأثر بما تتأثر هي به في جهة الخير أو الشر؛ فلما كانت الجمعية تؤمن بالقوى التي فوق الطبيعة، وتعتقدها مصرفة للمطر والبرق والرعد والصواعق انعكس إيمانها هذا في نفوس الأفراد، وأصبحوا يحسون أمام هذه القوى بعبودية خاصة تستتبع استرضاء كل فرد لها، وإلا حل به الجزاء. كذلك لما كانت فكرة الأسرة والزوجية إحدى وحدات إيمان الجماعات، كان هناك في نفس كل فرد شعور خاص بأن مخالفة هذه الفكرة يجر حتما أوصابا ومصائب لا نهاية لها، وهكذا كانت كل وحدة إيمانية اجتماعية تبعث إلى نفس كل فرد نوعا من العبودية أمامها والتقديس لها، والاعتقاد بأن مخالفتها تؤدي إلى بوار كبير. وهذا هو الأساس التي بنيت عليه فكرة المسئولية في نفس الأفراد.
هذا التحليل لفكرة المسئولية يوضح السبب الذي يجعل هذه الفكرة معقدة ودقيقة. فإنها ترتكز على أدق مظاهر الإنسانية نعني بها الضمير الفردي القائم كما بينا على أساس وحدات الإيمان، التي تكونها ضرورات الحياة الاجتماعية. فمن أجل تفهم فكرة المسئولية يجب تفهم معنى الضرورات الاجتماعية، وطريق انعكاسها في نفس الفرد، وكيفية تكوينها لضميره الذي هو مصدر إحساسه بالمسئولية. ولما كانت فكرة الضرورات الاجتماعية التي هي أساس كل هذه النتائج تحتاج في تفهمها إلى التدقيق، وتحليل الوحدات الإيمانية، وكان هذا التحليل يستدعي افتراضات وشكوكا تتنافى مع طبيعة الإيمان، لجأ الأكثرون إلى نعيم الاغتباط والاستسلام، وضل آخرون في تيهاء الشكوك المنطقية، وجعلوا يتلمسون لفكرة المسئولية أسسا غريبة ترجع إلى طرق تعليمهم. فبينا يقول جماعة: إن أساس المسئولية حرية الإرادة، واختيار الفرد لأعماله في الحياة يقول آخرون: إنها مظهر من مظاهر الضمير على اعتبار أن الضمير وحدة قائمة بذاتها تخلق مع الفرد يوم يخلق. ويقول البعض: إنها فكرة العدالة. ويقول غيرهم: إنها منعدمة وإنما أوجدتها الضرورة الاجتماعية . ويقول غير هؤلاء وأولئك أقولا يشعر الإنسان أنها لم تصدر عنهم، يريدون بها الوصول لتحليل فكرة بالذات مخلصين لها بحثهم، ولكنها قيلت كمقدمة لغرض ثابت في نفوسهم يريدون الوصول إليه. وذلك شأن الكتاب الدينيين، وشأن بعض علماء القانون الجنائي الأقدمين، وشأن فلاسفة المنطق المجرد. ولكن التعمق في البحث والتحليل، واتخاذ الوقائع والحوادث الاجتماعية ومظاهر الوجود الفردي مواضع للملاحقة والاستنتاج، تبين لنا ما تحويه هذه الأفكار من نقص أو خطأ، وتدلنا دلالة واضحة أن المسئولية أثر ونتيجة للقوانين الطبيعية، التي تحكم حياة الجماعات وتصرف حياة الأفراد، فلا وجود لها في الحياة بذاتها، وإنما هي فكرة مجردة معلق قيامها على تفاعل هذه القوانين واحدا بعد الآخر طبق النظام الذي سبق بيانه.
والذي يوضح ما سبق ويؤيده ما نلاحظه في العالم الحيواني، فإن الحيوانات الانفرادية كالذئاب الضارية والأسود لا يدخل في طبيعة تركيبها شيء من معنى المسئولية أمام الموجودات الأخرى. وأدنى ما عندها الفتك بكل ما يقترب منها، ولو كان من بني جنسها. أما الحيوانات الأليفة والحيوانات التي تعيش أسرابا فإن فكرتها الاجتماعية تدخل إلى نفسها شيئا أشبه ما يكون بالمسئولية. وذلك ظاهر كل الظهور في بعض الدويبات الصغرى، إذ يشعر كل واحد من أفرادها كأن له حقوقا على الآخرين وعليه واجبات نحوهم، فهناك في خلايا النحل يلاحظ الناظر شبه مملكة يقوم كل فرد من الأفراد فيها بعمل خاص، يقتضيه نظام حياة الجماعة. فكما أن وظيفة ملكة النحل التناسل، ووظيفة ذكر النحل تلقيحها فوظيفة النحل العامل استجلاب الشمع والعسل لبناء الخلية ولغذائها. وفي كل خلية ملكة واحدة يقوم بتلقيحها ذكر النحل، فإذا تم واجبه من ذلك قتلته، فإذا صادف وجود ملكة أخرى هناك اقتتلتا حتى تقضي واحدة منها على الأخرى. ويبقى النحل العامل أمام هذه المعركة الناشبة بين الملكتين متفرجا لا دخل له فيها بشيء مطلقا؛ ذلك لأنه يشعر بفطرة الحياة فيه أن من الواجب لوجود الجمعية التي هو منها قيام ملكة واحدة في المملكة التي هي الخلية. وهو يشعر أيضا أن الملكة الغالبة هي الأصلح لحياة جمعيته، فيجب إذن ترك الملكتين تقتتلان كما تشاءان حتى تموت إحداهما. وكل واحدة من النحل العامل تقدم على الاشتراك في المعركة تلقى من غيرها ما لا تحب. وظاهر أن هذا نوع من الإحساس بالمسئولية قريب الشبه بإحساس جماعة البربر من بني آدم.
ومما يلاحظ على النحل يلاحظ على النمل. فإن طبقاته المختلفة تحس بما عليها من الواجبات، وبما لها من الحقوق إحساسا مرتبطا كل الارتباط بحياة الجمعية التي هي منها، فالنمل العامل يجد الصيف في اكتناز القوت لنفسه، وللأنثى التي تعمر القرية. وبعضه يقوم بوظيفة تربية ديدان النمل والمحافظة عليها مخافة الخطر. وهو يضحي من أجل ذلك كثيرا من راحته، بل قد يضحي حياته حتى لقد شوهد بعض النمل حاملا ست ديدان ومسرعا يطلب قوته، وذلك برغم انقصام ظهوره، ولم يشعر بالألم الذي جر عليه حتفه إلا بعد أن قام بالواجب الذي تطالبه به حياة الجمعية التي هو منها.
وإذا نحن ارتقينا في السلم الحيواني إلى درجة أعلى من النحل والنمل، تبين لنا ما نقره بشكل جلي واضح. فبعض الحيوانات التي تعيش مع الإنسان كالفيلة مثلا يتكون عندها إحساس الألفة لشخص دون آخر، ويخيل للإنسان حين يراها مع صاحبها كأنها تشعر بأنها جزء من مجموع المنزل الذي تقيم فيه عليها واجبات ولها حقوق. ولقد بلغ من شعور الناس بذلك حتى قرروا عليها جزاءات توقع حين ارتكابها هفوة من الهفوات، كما يوقع الجزاء على مذنب من بني آدم. ومعنى ذلك قطعا أن هذه الحيوانات تعتبر مكلفة باتباع النواميس التي تكون في النفس العامة اعتقاد ضرورتها للاجتماع. على أن هذا المعنى الذي بيناه يتضح أيضا من اعتبارات الناس لدرجات المسئولية، فإن اختلاف الأشخاص في درجات المسئولية يرجع إلى مقدار صلاحيتهم أو عدم صلاحيتهم لحياة الجمعية. فالمجرم الذي يقصى عن الناس طول حياته، هو ذلك الشخص الذي ارتكب ما يجعله غير أهل للمعيشة بين الناس من قتل أو قطع طريق أو سطو أو نحو ذلك، وأما الأشخاص قليلو الخطر على الجمعية، فتوقع عليهم جزاءات توازي مبلغ خطرهم كثرة وقلة، وتقدير هذا الخطر راجع دائما إلى ما يضعه الرأي العام من القواعد لحسن نظام الجمعية. وهذه القواعد هي الوحدات الإيمانية التي وصفناها. ولو أنك افترضت شخصا يعيش عيشة الوحدة منقطعا في جزيرة يجد فيها ما يعوله، لما استطعت أن تفترض له شيئا مما نسميه نحن الضمير، ولا أمكنك أن تتصوره شاعرا بأية مسئولية، فإن كل ما تكلفه إياه فطرته إنما هو الاحتفاظ بحياته، فإذا لم يكن على هذه الحياة خطر، ولم يكن في المحيطات به ما يطالبه مطالبة خاصة بعمل خاص، فإنه يقضي أيامه في سكينة البله ونعيم الغفلة راتعا وسط السعة التي حبته إياها الطبيعة. ولا تحسبه حينذاك مفكرا في شيء، أو حاسبا حساب أمر من الأمور. ولكن في اليوم الذي يجد له مشاركا يناقشه الحساب، ويقول له: ذلك لك وهذا لي وكما اعتديت علي يجب أن أدفع العدوان بالعدوان؛ في ذلك اليوم يبدأ يفكر في طريقة تضمن له طمأنينته الأولى من غير احتياج للنزاع الدائم مع جاره وشريكه. وهذه الطريقة هي قواعد حفظ الأمن والنظام. وهي هي أساس حياة الجمعية، والأصل الذي تبنى عليه في النفس فكرة المسئولية. فالمسئولية أثر ونتيجة لحياة الفرد في الاجتماع، وليس لها وجود مستقل في نفسه.
قد يظن البعض من قولنا: إن فكرة المسئولية يستمد أساسها من الضمير الفردي، الذي تكونه الوحدات الإيمانية الاجتماعية بانعكاسها فيه، ومن مثل الشخص الذي يعيش عيشة الوحدة، فلا يكون له ضمير ولا يشعر بالمسئولية - إن فكرة المسئولية فكرة صناعية خلقها الاجتماع، وليست طبيعية في الفرد من حين خلقه. ولكن هذا الاعتراض لا يكون وجيها إلا عند الذين يحسبون الفرد وجد وجودا مستقلا، وأنه اتفق مع أمثاله على ما سماه روسو العقد الاجتماعي، فخلقوا الجمعية. وهذه الفكرة الأخيرة فكرة تصورية بحتة تخالف نواميس الطبيعة أشد المخالفة؛ لأن الإنسان مدني بطبعه. وليست الوحدة والانفراد من غرائزه مطلقا. والشخص الذي يستوحش ويخرج عن الجماعات ويعيش متبتلا منقطعا لشخص مختل التوازن العقلي قطعا، وهو حيوان نادر الوجود؛ لذلك فلا يمكن أن يبنى عليه حكم مطلقا. أما الإنسان الطبيعي فهو مخلوق اجتماعي فيه كل الصفات والقوى اللازمة؛ لتؤهله للحياة مع بني جنسه، وتظهر هذه الصفات والقوى رويدا رويدا على قدر اشتباكه مع الحياة الاجتماعية، وأخذه منها بنصيب. وعلى ذلك تكون جرثومة المسئولية وبذرتها موجودة مستكنة في النفس الإنسانية من يوم خلقها، ومنتظرة احتكاكها بالعوالم الخارجية وبنظام الجمعية؛ لتظهر ويشعر الفرد بها. لكن هذا الاحتكاك بالذات هو الذي يوجه فكرة المسئولية وجهتها، ويرسم لها الطريق الذي تسير فيه لتحكم صاحبها بعد ذلك على نمط معين. وهذا هو السبب في اختلاف فكرة المسئولية كما وكيفا في الشعوب المختلفة والأزمان المختلفة، وعلى الأخص فيما يتعلق بتطبيقات هذه الفكرة عمليا. بل إنك لتجد في مثل البلاد المستحدثة مدنيتها التي تضرب فيها الفوضى، وتجعلك ترى في المدينة الواحدة، بل في القرية الواحدة أنواعا شتى من المدنيات المختلفة ميدانا فسيحا للملاحظة في هذا الباب. فإن فكرة المسئولية تختلف في الأفراد أنفسهم من جهة كمها وكيفها بشكل غريب. فأنت إذا وقفت على باب مسجد من المساجد في إحدى مدائن مصر، وكلفت نفسك مؤونة محادثة شيخ من أهل الورع الداخلين بيت الله يؤدون له الفريضة، وكان هذا الشيخ من أكبر علماء عصره رأيته ينكر أشياء ويقر أخرى، وينحي باللائمة على قوم ويرطب لسانه بالثناء على قوم غيرهم، وهو في كل ذلك يحكي لك عن عقيدة وإيمان، فإذا تركته وتركت المسجد وانحدرت إلى حان نظيف، وقابلت بعض المتعلمين من إخوان المدنية الأوروبية وحادثته في الموضوعات التي حادثت فيها صاحبك الشيخ رأيت بينهما بونا بعيدا. رأيت الثاني يذم مادح الأول ويمدح ما ندد به. وليس ذلك إلا صورة الجمعية انطبعت في نفس كل منهما بشكل خاص، فكونت فيه وحدات إيمانية خاصة جعلته الشخص الذي رأيت، وكونت في نفسه فكرة المسئولية على النحو الذي رأيت، فكأن هذه البذرة الأولى الموجودة في النفس الإنسانية بفطرتها المدنية إنما يكيف ظهورها ونموها وشكلها العقائد الاجتماعية، التي توضع في النفس التي تحوي البذرة في وسطها.
بل إن الشكل الذي تأخذه فكرة المسئولية في نفس الفرد يتحور تحورا عظيما بانتقال الفرد نفسه من وسط إلى وسط آخر. وكم رأينا من شيوخ كانوا مثال التقوى انطبعت في نفوسهم وحدات الدين الإيمانية انطباعا، فلما انتقلوا إلى أوروبا وإلى وسط آخر تختلف عقائده عن عقائد تداعت في نفوسهم مبادئ ووحدات قديمة، وصرت ترى فكرة المسئولية التي هي مجتمع عقائد كل فرد وعاداته تغيرت تغيرا سمح لهم بمناصرة ما كان في نظرهم من قبل جرما وإثما.
من هذا يظهر واضحا أن الوسط الاجتماعي هو العنصر الأقوى والمكون الأول لفكرة المسئولية في النفس الإنسانية. وأن طبائع الإنسان وغرائزه الاجتماعية تتشكل بالشكل الذي يريده لها الاجتماع مكرها صاحبها على اتخاذ هذا الشكل المعين. وأن الجرثومة الأولى الموجودة في نفس الفرد لا تعمل بذاتها، بل تعمل متأثرة بذلك الوسط، ولولاه لاضمحلت وفنيت، فبقي الإنسان أشبه الأشياء بالحيوانات التي تكتفي من كل ما في الحياة بالاحتفاظ بالحياة، ودفع ما من شأنه أن يلاشيها.
4
إذا كان الاجتماع هو المكون الأول لفكرة المسئولية، وكانت جرثومتها لا يقوم بناؤها إلا كما توجهه وحدات الاجتماع الإيمانية، فهل هذه الجرثومة هي هي بعينها في كل النفوس. فإذا أنت وضعت شخصين في وسط اجتماعي واحد، وعرضت عليهما صورا واحدة أيكون كم فكرة المسئولية وكيفها واتجاهها واحدا؟ وبكلمة أخرى هل فكرة المسئولية أمر اجتماعي بحت، يتأثر به الفرد من غير أن يكون لتكوينه هو الخاص أثر فيه. لقد سبق لنا فيما كتبنا عن الاختيار والاضطرار، أن أظهرنا أن هناك عوامل مثيرة تعمل في تكوين حياة الفرد الخاصة، كالوراثة وطوارئ الحوادث ونوع التربية، وبينا حينذاك أن الفرد وإن لم يكن له وجود خاص، وإنما هو ذرة تصرفها حياة العالم وهي تسير مكرهة في الطريق الذي يرسم لها، فإن في هذه العوامل الخاصة ما يكفي للتفرقة بين الأفراد في الوجهات التي توجههم إليها الحياة. هذه العوامل نفسها وأخصها الوراثة والطوارئ، وأحداث المصادفات ونوع التربية هي التي تجعل لصورة الحياة الاجتماعية في نفس الفرد لونا خاصا، وتجعله يتصور المسئولية على نحو خاص. صحيح أن مجموع الوحدات الإيمانية هو الذي يرسم الطريق الذي تتبعه هذه العوامل. ولكن هذه قد تبلغ من نفوس بعض الأفراد أحيانا، فتطمس عليه الطريق وتأخذ صاحبها إلى وجهة أخرى تجعله إما مجرما أثيما أو شاعرا كبيرا أو نبيا كريما. وفي الأحايين الأخرى والغالبة لا تصل إلى هذا، ولكنها تجعل دائما شيئا من التضارب يقوم بين الوحدات الإيمانية أو البعض منها وبين الفرد. وهذا التضارب هو ما يدفع به إلى ما يسميه الناس الخطيئة. والشخص الذي تنطبق نفسه تمام الانطباق على الوسط الذي يعيش فيه هو الشخص الذي اتبعت وراثته مجرى تطور الإنسانية، فلم تزد أطماعه على ما يريد الاجتماع أو يحبوه إياه، ولم يشعر بثقل حمل الواجبات التي يضعها الاجتماع على عاتقه.
وهذا النوع الأخير من الأفراد نادر جدا، إن لم نقل: إنه معدوم كلية وكأن ذلك الخيال القديم الباقي خيال آدم وهو خارج على الوسط الذي عاش فيه مرتكب تلك الخطيئة التي أخرجته وأبناءه من الجنة هو هو صورة كل واحد من بني آدم. وإنما يجب أن نلاحظ أيضا أن العوامل التي تؤثر في نفس الفرد لا تصل إلى ملاشاة صورة الجمعية من نفسه إلا في أحيان نادرة. فالمجرمون بالخلق والمجانين العظماء قلائل في العالم جدا. وأما ما عدا هؤلاء من الأفراد الذين يكونون سواد الإنسانية، فهم مرآة لصورة الجمعية التي يعيشون فيها. وعلى مقدار دقتهم أو عدم دقتهم في تلقي هذه الصورة تكون فكرة المسئولية في نفوسهم. وهؤلاء الأشخاص الذين لم يصلوا بالتربية؛ ليفكروا لأنفسهم ولم تخرجهم عوامل خاصة كالوراثة والمصادفات عن طريق الحياة المعتاد تنطبع في نفسهم صورة الجمعية التي يعيشون فيها انطباعا يكاد يكون تاما؛ ولذلك تقوم المسئولية في نفوسهم وحدة مكونة متماسكة مرتبطة أتم الارتباط بالصورة المذكورة. من هذا ما لوحظ من أن بعض القبائل المتوحشة يبلغ الندم على الخطيئة من نفوس بعض أفرادها، حتى لتراه نائحا منتحبا مهما قلت قيمة الخطيئة التي ارتكبها. كأن هذا الفرد يشعر بأنه جزء متضامن مع الكل الذي هو الجمعية، ومن أمثلة ذلك أن بعض قبائل أستراليا تحرم على الشبان منها أكل نوع خاص من أنواع الصيد النادرة، التي يحتفظ بها لتقدم للرجال والكهول تكريما وإعزازا. وبلغ من شأن ذلك التحريم أن من يتعداه يجازى بالقتل، ولقد شوهد من بين الشبان الذين انتهكوا حرمة ذلك القانون، ولو تحت أثر الجوع من يقدمون أنفسهم معترفين بذنبهم مظهرين أشد الندم عليه. وهذا الاعتبار للفرد كوحدة اجتماعية لا وجود لها بذاتها هو الذي سمح لقبائل العرب ولقبائل أستراليا أن يحسبوا جريمة واحد من قبيلة أخرى، تقع على قبيلتهم مستوجبة مسئولية كل فرد من أفراد تلك القبيلة الأخرى، حتى لتهدأ ثائرة الإنتقام في نفس من وقعت عليه الجريمة متى قتل أي فرد من أفراد قبيلة واتره, وقد استمرت هذه الفكرة فكرة تضامن الفرد في المسئولية مع الجماعة التي هو منها تتسلسل على العصور إلى ما بعد المسيحية. وإنا لنقرأ في هرودوتس أبي التاريخ قصص الملك كريسس (قارون) الذي ذهب يشكو إلى الإله أبولون ما لاقى من هزيمة وذل في موقعة سرديس، بعدما أفاض على هذا الإله من تحف وقرابين، فيجيبه رسول أبولون بما يأتي: محال أن تنجو حتى الآلهة مما قدر لها، ويجب أن يذكر كريسس أنه إنما لاقى جزاء خطيئة جده الخامس الذي كان فارسا في حرس كاندول أحد أبناء الهراقلة، ثم ترك نفسه تتسلط عليها امرأة تدفعه آخر الأمر لقتل سيده الملك، واغتصاب تاج لم يكن له. ولقد جاهد أبولون رجاء إرجاء مصيبة سرديس حنى تقع على رأس أخلاف كريسس، ولا تصيب إياهم فلم يقبل رجاؤه، ولا استطاع إخلاف القدر. وكل ما وصل إليه أن تأخرت سرديس ثلاث سنين. وإنما نال ذلك على كره لأحكام المقادير. وهنالك يعترف كريسس أن الذنب ذنبه الموروث لا ذنب الإله.
ومن ذلك كله يرى أن الفرد العادي يعتبر نفسه ذرة مماثلة لكل ذرات الجمعية الأخرى، ويشعر في أعماق نفسه أنه متضامن تضامنا تاما مع هاتيك الذرات؛ حتى ليسأل هو عن التكفير عما يقع منها. وليس شيء أبلغ من ذلك في الدلالة على أن الجمعية تطبع الأفراد بطابعها، وتعدم شخصيتهم لتقيم في قرارة قلوبهم شخصيتها، وتجعلهم بذلك يسيرون على السنن التي تسنها هي لهم من غير أن يكون لهم في تلك السنن أي اختيار.
ولكن ألوف القرون التي مرت بالإنسانية لم تترك فردا من أفرادها من غير أن تخلق له ظروفا خاصة، تكون في نفسه شيئا من الفردية الواقفة ظاهرا في وجه الجمعية البارزة ضد طابعها. فتعاقب الوراثات المختلفة وتنافس المدنيات المتناقضة، وتناقض المذاهب والملك وقيام الحروب الشعواء من أجل مناصرة هذه المذاهب وتلك المدنيات. كل ذلك وما سواه جعل الصورة الاجتماعية يداخلها في بعض المواضع شيء من الإبهام يسنح لقوى خاصة في نفس الفرد أن تقوم وتقوى وتصل من ذلك إلى مناهضة الجمعية، وقوانينها السائدة مناهضة يختلف مقدارها باختلاف الملكات والقوى، وباختلاف الظروف التي قامت فيها تلك الملكات وتكونت وقويت. ففي نفوس هؤلاء الأفراد تقوم فكرة المسئولية على أساس يتفق مع طابع الجمعية إلى الحد الذي تبدأ بعده تلك القوى، والظروف الفردية تناوئ الوحدات الإيمانية السائدة. أما بعد هذا الحد فتكون فكرة المسئولية مضطربة لا يحدها إلا الجزاء القانوني المقابل لما يبعثها من الأعمال والحركات الفردية.
وكلما ازدادت الظروف الخاصة، وسمحت للفرد أن يقوم بكله في وجه الجمعية تداعت في النفس فكرة المسئولية، وحلت محلها اعتبارات خاصة نرجئ بحثها إلى أن نصل للمقارنة بين فكرتي المسئولية والجدارة.
هذه القواعد التي قدمت تنطبق على الأشخاص الذين يتبعون فطرتهم، ويسيرون مع عواطفهم، سواء كانت هذه الفطرة وتلك العواطف اجتماعية أو ضد الاجتماع، وأما الأشخاص الذين يصلون من تربيتهم إلى حد التفكير الفردي الخاص، فأولئك يحللون مسئولياتهم في كل صغيرة وكبيرة مما في الحياة. وذلك لا يمنع إحساس بعضهم من أن يكون ميتا أمام الذنب الذي يرتكبه .
بل إن أولئك الذين يصلون من تفكيرهم الفردي إلى حد تحليل المسئوليات، التي تكونت في نفوسهم من نعومة أظفارهم يكونون في الغالب أقل إحساسا بعظم الخطيئة، كما يكونون أقل دهشة أو إعجابا أو تقديسا أمام الجميل العظيم. وسبب ذلك هو ما قدمنا من أن التحليل والتنسيب يستدعيان الاحتمالات والافتراضات التي هي أساس الشكوك. والشكوك إذا بدأت عملها في تحليل المسئولية اضطرت حتما أن تتناول الوحدات الإيمانية التي هي أساس المسئولية. وهذه الوحدات الإيمانية هي الغذاء الروحي الذي يدخل القلب والنفس، ويعطيها من القوة ما يعطيه الغذاء المادي للجسم. فإذا دخلها الشك ابتدأت النفس تنزعج ويعقب ذلك حتما ازدراء وتقزز منها. ومتى داخل النفس التقزز صغر أمامها كل شيء، واحتقرت الوجود وما فيه. فتضاءل الإعجاب وتضاءل الأسف، وخمد القلب وقلت نزعاته الكريمة. ولولا أن فكرة استبقاء الحياة قوية جدا تغلب على كل مفر منها لوصل الفكر إلى نتائج أتعس من الإذعان لاحتمال الحياة. ولكن هذه الفكرة القوية الفعالة تعيد كرتها عليه، وتغالب فيه دواعي استنكار الحياة بأنواع شتى من الحيل أبسطها أن يسأل المرء نفسه: وما نتيجة استنكار الحياة. هنالك يعاوده الأمل ويرى وجوب الأخذ في الحياة العملية بواجبات قريبة منة المتعارف تكون نظامه وطمأنينته. ولكنه يبقى حاسا بشيء من الوحدة يدفعه؛ ليجاهد في سبيل إدخال وحداته الإيمانية الخاصة في كتاب الاجتماع؛ ليجد في الناس إخوانا وأصدقاء. وهذا الجهاد هو نوع خاص من أنواع المسئولية نبينه فيما سيأتي ونوضح سببه ونتيجته.
ولكن هذه الصور التي جئنا بها في طريق تحليلنا لفكرة المسئولية، كالشذوذ الفردي والمجانين العظماء وخمود حاسية المفكر بالمسئولية أليست في ظاهرها تقف في وجه الفكرة الأولى فكرة انطباع صورة الجمعية في نفس الفرد، وتكوينها بذلك ضميره وإدخال مبادئها عليه، وتركها إياه يقدر المسئولية بمقدار هذه المبادئ. فكيف يكون ذلك مع ما عليه الجمعية من قوة تكاد تلاشي الفرد كل التلاشي؟ إن أول القوانين الطبيعية التي تعمل في كل المخلوقات الحية قانون بقاء الأصلح وفناء الشاذ. وهذا القانون لا يحتمل أي استثناء. فهو يستخدم كل الوسائل ليكون نافذا على كل المخلوقات. فهل اضمحل في الجمعية الإسلامية. وهل معنى القوانين والأنظمة محاربة الطبيعة ونواميسها. وإن صح ذلك فكيف يكون النظام الاجتماعي طبيعيا وهو بنفسه يحارب الطبيعة.
هذه مسائل واعتراضات يحار الذهن أمامها، إذا هو لم يستعن على حلها بمعلومات خارجة عن المنطق المجرد. وأهم هذه المعلومات معرفة قانون التطور وكيفية عمله وتفاعله مع قانون بقاء الأصلح. فإن الجمعية الإنسانية لم تكن من ألف ألف سنة ما كانته من ألف قرن، ولا ما هي عليه اليوم، بل هي تتطور وتدخل فيها عناصر وتنحل عناصر أخرى، وتنتقل بذلك من جيل إلى جيل محملة بماضيها مستعدة لانقلابات جديدة حاملة في جوفها بذور ثورات وأنظمة، واختراعات لا حد لها ولا نهاية. ولكن حصول هذه الانقلابات ليس معناه فناء ما سبقها، وقيام نظام جديد لا علاقة له بالماضي. فإن الطفرة مستحيلة استحالة تامة، ولكن الانقلابات معناها انهيار بناء متداع نخر السوس في أصله، وظهور أبنية جديدة كانت أسسها موجودة يشعر الناس بها، ولكنها لم تكن قد ارتفعت بعد وأعلنت عن نفسها. وحتى الأبنية القديمة التي تنهار لا تفنى فناء مطلقا، ومهما يكن من شدة حنق الإنسانية حين قامت فدكتها، فإن ذلك لم يمنع هذه الإنسانية نفسها حين تراجعها سكينتها من أن تبني لذكرى ذلك الماضي أضرحة جميلة من الرخام النقي، وأن تقيم حولها الأزهار وتخلدها بأشعار رائعة؛ ذلك لأن في الماضي مهما نخر أصوله السوس ذكرى آبائنا وأجدادنا وأعزة علينا، فيه ذكرى عظماء الإنسانية الخالدين. فيه ذكرى فرعون وموسى والمسيح ومحمد وشكسبير ونابليون، والماضي هو فوق ذلك فترة من عمر الإنسانية ذات أثر خالد في حاضرها ومستقبلها. ومن ذلك يظهر أن التطور ليس استحالة تامة، ولكنه فروع جديدة تنمو على الجذع الأصيل مكان فروع أخرى، ذبلت وسقطت وتركت في ذلك الجذع القديم الخالد الذي يعز كل جيل من أجياله آثارا مندملة لا يمكن أن تزول.
وحدوث هذا التطور راجع إلى ما يلقيه جماعة الذين ينظرون إلى الحوادث الاجتماعية نظرا سطحيا للتضارب بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. فهذه الحركة العظيمة التي يسعى إليها كل واحد من بني آدم للوصول إلى مركز عال، أو ثروة ضخمة أو متاع بالحياة كبير مضحيا في سبيل ذلك ببعض الاعتبارات الخلقية، واصلا أحيانا في هذه التضحية إلى ارتكاب ما تحرمه سنن الاجتماع الأدبية، بل قواعده القانونية - هي السلم الذي تتدرج عليه الجمعية من حالتها البربرية الأولى إلى مدنيات مختلفة، وصلت إلى ما نراه اليوم من عظمة السلام وعظمة الحرب. وهي السلم الذي ينتظر أن تصل عليه إلى أرقى مما نرى بكثير. لهذا فمهما تجاهد الجمعية بقوانينها ووحداتها الإيمانية، وإكراهها المادي والمعنوي تريد أن تخضع الأفراد لسلطانها، فسيبقى دائما في قرارة النفس الفردية شيء كأنه يثور على هاته القوانين والقواعد والوحدات، وعلى الرغم من هذا الإكراه؛ لأن هذا الشيء الكمين في النفس والإحساس الداخلي الذي يدفع الفرد مهما خضع لأوامر الجمعية التي هو منها؛ ليثور عليها أو ليفعل ما قد يضرها والموجود في كل الأفراد بكميات مختلفة هو أساس تلك الظاهرة الاجتماعية، التي يقوم عليها التطور الإنساني. هو نزعة الجنس إلى الكمال والتطلع الكمين في نفس الإنسانية. مأخوذة كوحدة قائمة بذاتها وسط وحدات الكون وعوالمه الأخرى، يريد بها أن تصل لتحتل مكان القلب والعقل والروح في نفس الوجود كله. على أن هذا الإحساس الدقيق العظيم تخمد جذوته في معظم النفوس، وتتحول في طريق لا يمكن أن يصل إلى الغاية المرجوة في نفوس أخرى في حين هو يوفق كل التوفيق، ويصل إلى أحسن النتائج في نفوس ثالثة، والخمود والتقهقر والنبوغ إنما تكون بمقدار استعداد تيارات الجسم للتلقي والإصدار، وللتفاعل مع الحوادث سلبا وإيجابا.
5
إن التطور الاجتماعي العظيم على سلم النزعات الفردية الذي وضعناه في الجزء السابق يرى مجسما في تاريخ الإنسانية، فالآلهة وأنصاف الآلهة القدماء والأنبياء من بعدهم والملوك والشعراء، والفلاسفة هم الذين كانوا المحور الذي دارت عليه المدنيات المتعاقبة. ولم يأخذ واحد من هؤلاء اسما في التاريخ كعامل من عوامل الرقي، أو التدهور الإنساني إلا بمقدار نزعاته الخاصة الخارجة على النظام الاجتماعي السائد في وجوده، بل إن تراجمهم لتدل على أنهم جميعا كانوا منظور إليهم بعين الاستغراب من الرأي السائد؛ لتفوقهم في القيام في وجه الوحدات الإيمانية الموطدة الأركان في النفوس. ولكن الذي لوحظ إلى جانب ذلك أن نزعات الأفراد الذين كانوا عوامل في رقي الإنسانية كانت نزعات تتفق مع قوانين حياة الاجتماع الطبيعية من حيث هي، وبكلمة أخرى إن هؤلاء الأفراد كانوا صيحة الجنس البشري نحو الكمال. وإن هذه النزعات على ما فيها من مصادمة الرأي السائد لم تكن إلا خطوات ضيقة جدا، وكانت جمعيتهم مهيئة لها، وإنما يقف في وجهها الماضي الذي قدس وحداته الإيمانية حتى صارت في نظر المجموع عقيدة لا يمكن أن تتحول. أما الأفراد الذين عملوا على تدرك الإنسانية، فكانت نزعاتهم ضد الاجتماع بل ضد الحياة - كانوا نذر الموت وأعلام الدمار. كانوا أفرادا ساعدتهم ظروف خاصة على الرجوع بالإنسانية إلى الوراء. ولكن الاجتماع أظهر القوة في كل الظروف التي حلت به فيها مثل هذه الكوارث، فلم يكن ينساق في تدركه؛ لهذا نرى استبداد ملوك الرومانيين لم يوقف سير المدنية إلا قليلا. بل لقد كانت شرور ذلك العصر سببا في إفاقات اقتضاها انفجار القوى المضغوطة برغم ما توصي به طبيعة الحياة.
والتاريخ لدينا حافل يشهد بما تقدم. ولنأخذ مارتين لوثر مثلا. ومارتين لوثر من الرجال الذين هزوا الإنسانية، وقسموا المسيحية إلى قسميها الكاثوليكية والبروتستانية. قام هذا البطل وسط العقائد والوحدات الإيمانية السائدة في القرن الخامس عشر لميلاد المسيح. وكانت سيادة هذه العقائد من القوة بحيث لم يكن لمن يقاومها إلا ملاقاة حتفه. فكم من أرواح أزهقت لا لشيء إلا أنها سمحت لأبسط الانتقاد أن يوجه صادرا منها إلى بعض شعب غير رئيسية مما تفرع عن هذه العقائد. ومثال هس وجيروم باق ينطق بما كان يلقاه المعارضون من أنواع التعذيب الذي كان ينتهي بموتهم حرقا. ولكن عصر لوثر لم يكن عصر هس وجيروم. فقد كانت النفوس في عصره مهيئة لقبول تعاليم جديدة، شعرت بها لازمة لحياة الجماعة؛ لهذا ما كاد ينشر تعاليمه حتى رحب به الأنصار والأشياع. فلما استدعى إلى مجمع ورمس ليناقش الحساب بعد ثلاث سنين من قيامه بنشر دعوته علت حوله الصيحات من كل جانب: «كن عند رأيك فأنا معك»، وكذلك كان، فجعل يدافع ساعتين عن آرائه في خطبة ألقاها كانت ما سميناه نحن صيحة الجنس نحو الكمال. ولقيت خطبة من أهل ذلك العصر استعدادا، فأقرها الناس وكانت فاتحة عصر جديد. ولكنها في الواقع لم تكن إلا خطوة ضيقة أعد الماضي لها الناس، فلما خطوها في عصر لوثر جاءت على أثرها خطوات، تأسست عليها مدنية أوروبا في العصر الحاضر.
ومارتن لوثر ليس إلا المثل المكرر من أمثلة المصلحين الذين قاموا في الإنسانية من يوم نشأتها إلى العصر الحاضر. ولكن الأكثرين من هؤلاء الأبطال المصلحين إن لم نقل: كلهم أقرب إلى الشعراء منهم إلى المفكرين؛ لأن من شأن المفكر أن تخمد القوة العملية فيه بمقدار ذكاء قوته الفكرية. فالفكرة التي تتكون في نفسه بدل أن تدفعه للعمل لإظهارها تنحل إلى فكرة أخرى، وإلى فكرة ثالثة وهلم جرا. وعلى ذلك تنقضي حياة المفكر في ملاحظات واستنتاجات، وتشكيك في الملاحظات والاستنتاجات، وردود على هذا التشكيك ومؤازرة للفكرة بأفكار أخرى. ولكن الأبطال المصلحين يقفون عند أفكار معينة تسمو على افكار الشعب الذي يقيمون بينه سموا محدودا في اتجاهه، وفي مقداره لاضطرار المصلح أن يلائم الوسط الذي يظهر فيه ملاءمة تسمح لسواد هذا الوسط أن يتبعه على طريق القياس ببعض ما عنده من الوحدات الإيمانية، التي أفلتت من القيود القديمة وسمحت لها مقتضيات الاجتماع أو أكرهتها ظروفه على التقدم بعض الشيء. ولكن المفكر لا يقف عند فكرة معينة، بل هو يتطلب دائما نتائج هذه الفكرة وآثارها، وارتباط النتائج والآثار بحياة الوجود العام وغير ذلك مما لا ينتهي، ومما هو مثار الشكوك الدائمة. كذلك تنقضي حياة المفكر في وسط خيالي لا يفهمه الناس ويتذوقه هو. ومحال أن يكون غير ذلك ما دام الفكر الإنساني محدودا والعالم غير محدود.
وضع المفكر العظيم أوجست كومت فلسفته الوضعية قضى في ترتيبها زهرة حياته. ولما اكتهل صادفته مدام دفو، فوصل من الإعجاب بها إلى حد تقديسها. وهنالك داخلت نفسه نزعة شعرية فانتقل من فلسفته إلى سياسته التقريرية آخذا النتائج التي وصل إليها من طريق الملاحظة والاستقراء ملبسا إياها نفسه، ثم نافثا لها في صيغة شعرية أشبه الأشياء بالصيغة التي تأخذها كتب العقائد. هنالك حكم عليه أنصاره أنفسهم بأنه قضى كمفكر؛ لأن النتائج العظيمة التي وصل إليها في فلسفته ليست خاتمة ما يمكن أن يصل إليه الملاحظ والمستقرئ؛ ولذلك وقفوا في مناصرته عند الذي وصل إليه من فلسفته، واستمروا في الطريق الذي كان هو سائرا فيه. استمروا يفكرون.
2
وهذا النوع من الحياة وأقصد إذكاء الفكرة، وجعلها تدفع إلى فكرة أخرى لا إلى عمل من أعمال الحياة يفقد هذه الأعمال قيمتها في النفس. وذلك هو السبب في ضعف إحساس المفكر بالمسئولية. فهو يترك الحياة المادية تسير كما يحلو لها أن تسير منقطعا إلى حياته العليا، فتصبح الأعمال عنده موضع ملاحظة، ونظر كأنها شيء آخر مستقل عنه، فلا تستدعي منه أسفا ولا غبطة. ولكن الذي يستوقفه ويستدعي إعجابه أو انقباضه هو الفكرة الجميلة أو الفكرة المجرمة.
يتضح مما تقدم أن أصحاب الشذوذ الفكري والمجانين العظماء والمفكرين هم شواذ في الجمعية، ولكنهم أثر من آثارها هم الملتقى الذي تصل عنده وحداتها الإيمانية المتضاربة في أغلب الأحيان، تضاربا إن اتفق مع الحياة فهو لا يتفق مع التقدم. والتقدم والارتقاء هما آثار التطور الذي هو أحد القوانين الرئيسية لنظام الجمعية وخلودها. وعلى اعتبار هؤلاء الأشخاص شواذ لازمين قطعا لوجود الجمعية الإنسانية، من حيث هي الجمعية الإنسانية في صورتها غير المحدودة بالمكان والزمان والقائمة بين الأزل والأبد - على هذا الاعتبار، سمح لهم الرأي السائد في كل العصور أن ينتهكوا حرمته، ويحولوا تياره؛ لأن الرأي السائد يحتوي جرثومة التطور والتقدم. هذا هو ما جعل فكرة المسئولية تنطبع في نفوس هؤلاء الأفراد على نحو مبهم، أقرب لأن يكون طابع المستقبل منه لأن يكون طابع الجمعية الحاضرة.
وهؤلاء الأفراد هم الذين أوتوا أجهزة وتيارات غير عادية، وسمحت لهم ظروف خاصة كالمصادفة والوراثة أن يوجهوها لخير الإنسانية، فوفقت أحسن التوفيق وكانت نزعاتهم الفردية حجر الأساس الذي شيدت فوقه المدنيات المتعاقبة.
ولكنا إذا حولنا النظر إلى الجهة المقابلة، حيث ترفع النزعات الفردية أعلام الموت، وترسل نذر الخراب، وأخذنا نيرون الظالم مثلا رأينا الفرد المجرد من معنى الاجتماع والعائش بنفسه لنفسه، ورأينا المخرب الذي يندفع ليدك قواعد الوجود إرضاء لشهوته، رأينا هذا المستبد الأحمق محرقا رومية ممسكا بيديه قيثارته يوقع عليها قصيدة خرقاء، جادت بها قريحته المجرمة، ولكن رومية عادت إلى الحياة ومات هو وطمس على قصيدته في حفرته.
ولذلك يعلو الاجتماع، ويبقى ويموت الفرد الخارج عن قوانينه تحت أقدامه.
نيرون هو المثل المجرم في الإنسانية، والمجرم شخص مجرد من العواطف والإحساسات البشرية لا يحس بالألم ولا بالسعادة، ويرى الوجود الذي أمامه عدوا له لدودا. هو حيوان من غير النوع الإنساني؛ لأنه غير مدني ولكنه ألبس صورة الناس ظاهرا؛ لهذا لم يكن لقواعد الحياة ووحدات إيمان الوجود أن تنطبع في نفسه الصلدة بل يبقى فؤاده جامدا ونفسه حيوانية لا تعرف من معنى الاجتماع شيئا، ولا تفهم من قوانين الطبيعة إلا القانون العام الذي يحكم الموجودات الحية إلى أدنأ أنواعها: قانون استبقاء الحياة. ولما كان الكد والكدح أثرين من آثار التنافس الذي لا يكون إلا بالاجتماع، وكان المجرم غير مدني رأيته يميل للكسل، ويفضل الإغارة على أمثاله من بني آدم يختطف أموالهم من يدهم كما يغير الأسد أو النمر على ما يجاوره، ويأخذ الفريسة التي تلوح له.
وجمود نفس المجرم عن تلقي آي الاجتماع ينتج عنده حتما جمود أمام الجزاء المقابل الذي تفترضه هاته الآي عقوبة لمن خرج عليها؛ لهذا لوحظ أن المجرمين المتأصلة جرثومة الإجرام في نفوسهم لا يعرفون معنى للتوبة، ولا يفقهون معنى التكفير عن الخطيئة. كما أنهم لا يشعرون في العقوبة بألم يردعهم عن العودة لما يستوجبها، بل هم يرتكبون الجريمة بالهوادة والطمأنينة التي يجدها غيرهم في أي عمل عادي مشروع؛ لأن الجريمة عمل عادي مشروع عندهم.
لكن هذا النوع من المجرمين قليل وغير منتشر. والغالبية العظمى ممن يخرجون على النظام أشخاص، تدفعهم ظروف خاصة توجه نزعاتهم الفردية وجهات غير موفقة، فيرتكبون ما يخالف التعاليم التي انطبعت في نفوسهم والتي هي وحدات الوجود الإيمانية. ومن هؤلاء تتركب طائفة المسئولين الكبرى. فمنهم المجرمون بالمصادفة، والمجرمون بالعادة، والمجرمون بدافع الشهوة، والمجرمون المتهوسون والمجرمون السياسيون وغير هؤلاء وأولئك ممن سيرجع بنا الكلام إليهم عند بحث المسئولية القانونية.
ووجود هذا النوع من المسئولين في الجمعية هو المقابل الطبيعي لوجود العظماء والمفكرين والمصلحين. فما دام الاجتماع الإنساني في تطوره نحو الكمال يستخدم النزعات الفردية لإتمام ذلك التطور، فستوفق بعض هذه النزعات للسير في الطريق السوي، وستضل أخرى وتنحدر في مهاوي الجريمة. ولكن أصحاب النزعات الضالة يلقون دائما جزاء ضلالهم، فتدوسهم الجمعية بأقدامها وتمر من فوقهم غير مهتمة بهم، ولا مكترثة لهم بل مستخدمة إياهم في أحايين لمساعداتهم في التقدم إلى الغرض الذي تسير إليه. ولم يستطع هؤلاء الضالون في عصر من العصور الماضية كلا، ولن يستطيعوا في المستقبل أن يقفوا في وجه الجمعية؛ لأن الجمعية وجود طبيعي أزلي خالد. والأفراد ذرات سريعة التحول والانقلاب. والجمعية كل والفرد ذرة متناهية في الصغر إلى جانب ذلك الكل ومسخرة لخدمته.
إذن فشأن الفرد في الجمعية شأن مسمار في ماكينة عظيمة. فذلك المسمار يبقى سالما ما دام قائما بأداء الوظيفة، التي وضع لها غير خارج على المجاورات التي حوله. لكنه يلقى جزاء محتوما إن هو وقف عن أداء وظيفته أو خرج عن المكان المعد له. فإنه يلقى قسما آخر من الماكينة أمتن منه، وأقوى يصادفه في سيره فيكسر رأسه أو يرده بالرغم عنه إلى مكانه. بل إن شأن الفرد لأضعف من ذلك وأحقر؛ لأنا مهما تصورنا من عظمة هاته الماكينة، ومن ضآلة المسمار إلى جانبها، فلن نبلغ في ذلك ما يقابل الجمعية والفرد.
وقد أحس الناس من أبعد الأزمان بهذا الإحساس، وفهموا تمام الفهم معنى الجزاء الذي تنزله بهم الجمعية حين خروجهم عليها. وبلغ من قوة إحساسهم به أن خلطوا بين فكرة الجزاء وفكرة المسئولية، وأحلوا الأولى محل الثانية، وترتب على هذا الخلط الفكري خلط آخر جر إليه التشابه اللغوي. فلما كانوا يرون الجزاء، وهو المقابل الطبيعي لعمل من الأعمال، يعرض صاحبه لسخط الجمعية، وكان الجزاء لغة هو المقابل للعمل بالأوامر، سواء أكان هذا اجتماعيا أم غير اجتماعي، وسواء أكان مضرا بالجمعية ويستدعي مسئولية فاعلة أم هو لا علاقة له بالجمعية مطلقا، وإنما هو عمل يستحق المدح من فرد معين من الناس على خدمة، وصلته من آخر - جعلوا هذه الأعمال غير الاجتماعية لما يقابلها في نظرهم من الجزاء داعية مسئولية، ولو في جانب ما يسمونه الخير. مع أن المسئولية إنما تتكون عند الفرد على أثر انطباع وحدات الإيمان المتعلقة بحياة الاجتماع في نفسه، ومخالفة هذه الوحدات من بعض الأشخاص.
ولكن إذا كان الخلط قد جر إليه الشبه اللغوي في استعمال كلمة الجزاء، فإن الذي مكن له في عالم الفكر، ومد في حياته حتى نراه باقيا إلى اليوم هو الإبهام الذي كان حاصلا في فهم الوحدات والقوانين اللازمة لحياة الاجتماع، حتى رتبت بعض العصور أضعف أعمال الفرد في جهتى النافع والضار والخير والشر ترتيبا لا يسمح لنزعة فردية من النزعات التي هي أساس التطور الاجتماعي أن تقوى، وتعمل عملها في الوجود. رتبتها وحكمتها فكان الميدان المسموح للفرد أن يتنفس فيه ضيقا إلى حد كاد يخنقه. فكان طعامه وشرابه وحركاته ونوع كلامه، بل اتجاه فكره كلها معتبرة من الوحدات الإيمانية اللازمة لحياة الجمعية. ولكن التطور الذي حصل على متعاقب العصور حلل بعض الشيء من هذه الدائرة، وسمح للأفراد بدائرة أوسع يتحركون فيها حسب ما توحي إليهم به نزعاتهم وظروفهم الخاصة، وإن حكمتهم دائما ظروف الوسط والزمان.
وهذه الحرية التي سمح بها الاجتماع لأفراده على اعتبار أنها لازمة للتطور وغير ضارة بحياته، هي التي سمحت لفكرة المسئولية أن ترجع بعض الشيء إلى معناها الطبيعي الأول. وتعني إحساس الفرد بمخالفة سنة الاجتماع مخالفة، يغلب أن تجر عليه الجزاء المقابل لها. لكن فكرة الجزاء هي المقابل لفكرة المسئولية، وليست هي هي بعينها كما قرر بعض الكتاب والفلاسفة. فقد يأمن الرجل كل الأمن وقوع الجزاء، ولكن ذلك لا يمنع تحرك ضميره حسبما تكون من قبل، ما لم يكن مجرما بالفطرة ميت الإحساس بطبيعته. وإن كثيرين من الأشخاص الذين يقدمون للقضاء، فيبرءون لعدم قيام أدلة كافية لإدانتهم يبقون برغم فرحهم بالنجاة من العقاب تحت تأثير وخز الضمير زمنا غير قليل. بل قد يبلغ الحال من بعضهم أن يجزي بنفسه نفسه. ولولا نعمة النسيان تسمح للأكثرين منهم بشيء من الهدوء لما برحهم ألمهم. كما أن فكرة التفكير والتوبة تريح نفوسا كثيرة قد تنوء لولاهما بفكرة المسئولية.
بل كم رأينا من كبراء الرجال من ارتكب على علم إثما أضر بجمعيته، ولكن ظروفا خاصة جعلته يرتكبه وهو مطمئن ساعة ارتكابه لكن الماضي لم يلبث أن تكدس كله، وغلب الحاضر وقامت فكرة المسئولية قاسية أليمة تعذب ضمير هذا الرجل أشد العذاب.
وأما إدخال عمل الخير تحت فكرة المسئولية، فذلك خطأ جر إليه الخلط اللغوي، وجر إليه تاريخ فكرة المسئولية ووطد أركانه ميل العقل الإنساني إلى فكرة المقارنة والمقابلة بين الأضداد. والحقيقة أن فكرة الخير والإحسان والفضيلة هي أفكار نسبية أبدعت في مختلف العصور للتعبير عن النزعات الفردية التي تسعى بالجنس في طريق تقدمه نحو الكمال، ولا يمكن أن تستثير الأعمال التي أطلقت عليها هذه الأسماء فكرة المسئولية في النفس، ولكن التعاليم القديمة كانت تجعلها تستثير فكرة الجزاء عند الله إن لم يكن عند الناس، فكان ذلك سببا للخطأ الذي أشرنا إليه.
ناپیژندل شوی مخ