أسماء الممثلين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
أسماء الممثلين
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الإيمان
الإيمان
رواية تاريخية مصرية
تأليف
أوجين بريو
ترجمة
صالح جودت
أوجين بريو
EUGÈNE BRIEUX «العضو بالأكاديمية الفرنساوية ومؤلف الرواية».
ولد أوجين بريو بباريس سنة 1858 واشتغل بالصحافة، وتأليف الروايات التمثيلية، وبدأت شهرته فيها برواية «بلانشيت
Blanchette » التي مثلت سنة 1892 وأعيد تمثيلها سنة 1903 وفيها أظهر المؤلف خطر التعليم إذا لم يتناسب مع أحوال النفوس والبيئات، وظهر فضله فيما وضع بعد من الروايات ذات المرامي الفلسفية والاجتماعية ولا سيما رواية «الرداء الأحمر
La Robe Rouge » التي مثلت سنة 1900 وأنحى فيها باللائمة على القضاة الذين يأخذهم الطمع في الارتقاء فلا ينتصرون للأبرياء. ثم روايتي «المصابون
Les Avariés » و«النائبات
Les Remplaçantes » اللتين مثلتا سنة 1901 وفيهما استصرخ بالجمهور لحماية الأطفال الرضع من شر المراضع المرضى والمهملات، ولبريو غير ذلك من القطع التمثيلية البديعة التي تعد قطعة «الإيمان
La Foi » تاجها المرصع، وستقرأ عنها شيئا كثيرا في المقدمة، وقد قدرت الأكاديمية الفرنساوية فضل الرجل فانتخبته في سنة 1910 عضوا فيها، واستقبله المركيز ده سيجور بخطاب أنيق حسب العادة المتبعة في ذلك المجمع العلمي الكبير عدد فيه ما له من الفضل على العلم والأدب.
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وسائر النبيين
وبعد؛ فقد خلق الإنسان ضعيفا، وغلبه على أمره القدر، بعد أن كادت له قوى الطبيعة وكاد لها، وهو في كل طور من أطوار حياته يجاهد ويكافح لاتقاء شر تخبئه له الأقدار علم به أم لم يعلم، أو لنوال خير لا يدري أيصيبه أم تخيب دونه أمانيه، حياة كلها كد، شعر المرء في خلالها شعورا طبيعيا بأن هنالك قوة مسيطرة على كل القوى، ويدا مدبرة لكل الأمور، وإرادة فوق كل إرادة، فتوجهت لتلك القوة نفسه راجية أو مسترحمة أو مستغيثة، وهكذا عبد المرء من قديم الزمن ما رجا، استدرارا للخير، وما خشي، دفعا للشر.
هذا الشعور الفطري وتلك الحاجة الطبيعية كانتا أساس الإيمان قبل أن تأتي به الرسل ويوحى به إلى الأنبياء.
قال جوستاف لبون في كتابه حقائق الزمن الحاضر:
1 «ضعف الإنسان عن الحياة بلا يقين، ففضل المعتقدات وإن ضعف أساسها عن الزندقة وإن وضح برهانها.»
ذلك ما تجلى لبريو؛ إذ كان ذات يوم في معبد من المعابد، فألفى المصلين قائمين يضرعون لتمثال معبودهم، يلتمسون منه قضاء الحاجات، وكان من بينهم مرضى وذوو عاهات وبؤساء تعلقت آمالهم بربهم تعلقا اتصلت به سعادتهم، فتأثرت نفسه، وجال في خاطره أنه لو استطاع أن يرشد هذا الجمع إلى كذب ما يعتقد، وإلى أن معبوده لا يسمع ولا يعي لما فعل؛ حرصا على هذا الأمل أن يزول، وهذا الخيال الكريم أن يتبدد، ومن ثم خطر له أن يضع رواية في هذا الموضوع فاختار لها مصر الفرعونية، لما اشتهر به ساكنوها قديما من التمسك بمعتقداتهم، وتقديس معبوداتهم، وتعليق آمالهم على حياة أخرى بها ثواب وعقاب. فقدم مصر واستعان بمسيو لجران رئيس مهندسي معبد الكرنك على وضع روايته «الإيمان
La Foi »، ولما عاد لأوروبا مثلها أولا على مرسح مونت كارلو، ثم بمرسح الأوديون بباريس، وترجمها الإنكليز ومثلت على مرسح «جلالة الملك بلندن» باسم «الآلهة الكاذبة» وقد اسقبلتها الصحافة الفرنساوية بترحيب وإعجاب عظيمين، فمما قالته جريدة الطان عنها بقلم محررها الشهير مسيو بريسون: «إنها رواية تصدت لمسألة اجتماعية كبرى كانت من القدم مثار الأفكار ومحل الخلاف بين الناس، وهي مسألة الإيمان، ولقد مثل لنا فيها كاتبها صورة العذراء الطاهرة «يوما» وهي تسعى إلى الموت فرحة سكرى برحيق الإيمان، وصورة الحكيم المصلح «ساتني» وهو يحاول تطهير النفوس من الخرافات وإرشادها إلى الفضيلة المجردة، وصورة الشعب الغشوم وقد استسلم لإيمانه الأعمى، وصورة الكاهن الماكر وقد تولى قيادة تلك القوة العمياء إلى حيث تخدم مطامعه وأمانيه، وصورة الإيمان البصير في نفس «مييريس العمياء» التي «لا تؤمن بآلهة باسمهم يقتلون الناس» وهي الكلمة التي ختم بها المؤلف روايته.»
وقد يطول بنا المقام لو أردنا أن نسرد ما جاء في الجرائد الأخرى مثل الإلوستراسيون وكوميديا والسييكل والفيجارو والإيكو ده باري ... إلخ؛ تقريظا لهذه القطعة البديعة ، إنما نقتصر على القول بأنها من أنفس ما كتب الكاتبون ومثل الممثلون، ولا سيما لما اختصت به من التأثير الكريم في نفوس الجمهور؛ إذ يتأكد بالحس «أن الديانات - كما قال جوستاف لبون - أفادت الأمم بإحداثها الأمل في الحياة الباقية أكثر من جميع من خلق الله من الفلاسفة والحكماء، وأن الديانات قوة ينبغي الانتفاع بها لا معارضتها، وأن الأمم قلما تعيش بعد موت معتقداتها.»
وفي هذه الجمل اندمج مغزى الرواية: فهي تشير إلى أن الإيمان عماد القلوب يعين المرء على الصبر على مضض الحياة الدنيا طمعا في نعيم الآخرة، وأنه الوازع للنفوس يردعها عن ارتكاب الجرائم واقتراف الآثام، وتظهر ما ارتكبه الشعب الجاهل في مصر من الكبائر لما تزعزعت معتقداته وفقد إيمانه، وأن حقيقة ديانة المصريين كانت التوحيد، وموضوع الرواية: مزيج من الخيال والتاريخ والفلسفة قائم على ما روي عن قدماء المصريين من أنهم كانوا يقربون فتاة عذراء للنيل كل عام؛ ليفيض فيضانه السنوي المعروف.
وعلي قبل اختتام هذه المقدمة أن أؤدي فروض الشكر لحضرة صديقي العالم العلامة والأثري الكبير أحمد بك كمال، أمين المتحف المصري لمساعدته إياي على ضبط الأعلام الهيروغليفية التي جاء ذكرها في سياق الرواية وتحقيق وقائعها الأثرية بتطبيقها على ما جاء في الآثار الصحيحة.
وقد ذيلت صحف الرواية بما جمعته من المباحث العلمية المتعلقة بأساطير قدماء المصريين وعاداتهم مما اقتضاه الموضوع إتماما للفائدة وتبيينا للمصادر والحقائق.
صالح جودت
مصر، القاهرة، في 13 أبريل سنة 1914
هوامش
منظر الفصلين الأول والثاني: قصر رحيو من أعيان طيبة على النيل.
منظر الفصل الثالث: منزل باخ صانع الفخار.
منظر الفصلين الرابع والخامس: معبد آمون بطيبة.
أسماء الممثلين
الذين قاموا لأول مرة بتمثيل رواية الإيمان على مرسح الأوبرا الخديوية بمصر القاهرة في ليالي 13 و14 و16 أبريل سنة 1914.
الممثلون
ساتني: (كاهن مارق وحكيم، ابن باخ، وخطيب يوما) جورج أبيض أفندي.
فرعون: (ملك مصر من ملوك الدولة الوسطى) أحمد حافظ أفندي.
رئيس كهنة آمون: ... فؤاد سليم أفندي.
رحيو: (من أعيان طيبة، زوج مييريس، وولي يوما) حسن وصفي أفندي .
وكيل رحيو: ... عبد المجيد شكري أفندي.
باخ: (صانع فخار، من خدام رحيو، ووالد ساتني) عمر وصفي أفندي.
نرم: (رجل من الشعب متصل بقصر رحيو) توفيق ظاظا أفندي.
سوكتي: (رجل من الشعب متصل بقصر رحيو) محمود رضا أفندي.
بتيو:
القزم (رجل من الشعب متصل بقصر رحيو) عبد العزيز خليل أفندي.
الضابط، الساحر، مساعدا الساحر، كهنة، خدم رجال من الشعب.
الممثلات
مييريس العمياء: (زوجة رحيو) الست ألمز أستاني.
يوما: (خطيبة ساتني وعروس النيل) الست إبريز أستاتي.
كريبا: (زوجة باخ وأم ساتني) الست ماري كافوري.
دليثي: (جارية بقصر رحيو) الست ماتيلد نجار.
تايا: (جارية بقصر رحيو) الست ماري إبراهيم.
حنو: (جارية بقصر رحيو) الست سارينا إبراهيم.
ستسنيت، نجاوو، رحاسي، موينه، نوريت (جوار في قصر رحيو) النائحات. (الواقعة بطيبة بصعيد مصر في عصر الدولة الوسطى الفرعونية.)
الفصل الأول
يمثل المرسح منظر الحوش الداخلي لمنزل رحيو بمدينة طيبة، على اليمين باب كبير موصل للطريق، وبجواره سطح مرتفع عن الأرض ببضع درجات، ويفصلهما جدار قصير أعلاه غير منتظم، وفي صدر الحوش سطح آخر مثله، ويصعد إليه ببضع درجات أيضا ويطل على النيل، ويرى منه قلع مركب راس، ويرى من خلفه ضفة النيل الأخرى بنخيلها وأشجارها، وعلى يسار المرسح جدران المنزل المعد للسكن وبابه، وعلى جانبي الباب عمودان قاعدتهما على شكل سيقان السوسن (اللوتس)
1
وتاجاهما على شكل زهرته، وبجوار العمود الذي على يمين الداخل شبه محراب فيه تمثال صغير للمعبودة إيزيس فوق قائمة من الخشب، وعلى جوانب السطحين مما يلي السلمين تماثيل للمعبودات آمون وتوبريس وغيرهما، وكذلك على جانبي الباب الخارجي من الداخل.
الواقعة الأولى (يوما - تايا - حنو - ستسنيت - نجاوو - دليثي - رحاسي - موينه)
دليثي بيدها قيثارة تضرب على أوتارها وأمامها نجاوو ترقص على نغماتها، ورحاسي تتفرج عليهما، موينه تلاعب عصفورا في قفص معلق على جدار المنزل، يوما على السطح الأمامي وتايا بجوارها، ويوما متكئة بمرفقيها على الجدار تنظر للنيل شمالا، ستسنيت مكبة على وجهها فوق حصير في وسط الحوش، وبجانبها دواة وفي يدها مرود وشم تنقش به صورة إيبيس على ذراع حنو الأيسر وهي مكبة أمامها مثلها.
أثناء التمثيل يخرج خدم من المنزل لقضاء بعض الحوائج، ويدخل بعضهم حاملا أواني من فخار بها ماء «بلاليص» وسلال من فاكهة «برتقال»، وعند دخول حاملة البرتقال تكون نجاوو قد فرغت من الرقص فتأخذ رحاسي برتقالتين من السلة، وتلعب بهما. (الموسيقى وراء المرسح.)
ستسنيت (تخاطب حنو) :
أما كنت تعلمين يا حنو أن من تنقش صورة إيبيس
2
على ذراعها الأيسر تظل سعيدة يومها كله؟
حنو :
سعيدة اليوم كله! حقق الله فألك! إذن ربما أكون الفتاة التي تصطفيها الآلهة هذا المساء؛ لتكون قربانا للنيل، وعروسا لأوزيريس.
دليثي (تخاطب نجاوو) :
تباطئي، تباطئي، وأشبهي في حركاتك تمايل ورقة السوسن على وجه الماء، إذا أراد النيل جرها معه في تيار ضعيف، فتميل حينا حتى تلطم وجه الماء ثم تستقيم.
نجاوو :
حسنا فأعيدي (تعيد دليثي النغمة). (تدخل في هذه الأثناء حاملة سلة البرتقال فتتناول منه رحاسي اثنتين وتلعب بهما.)
رحاسي :
لا تلبث نجاوو أن يذهب بها التيار! انظرن كيف تحمست.
موينه :
نعم، أخشى أن يذهب بها التيار، فقد علمت أنها تذهب بعد كل أصيل، إلى ضفة النيل؛ لاستماع أناشيد صانع السلال.
دليثي (تخاطب نجاوو) :
أحسنت يا نجاوو، وأراك تستطيعين الليلة أن ترقصي مع الراقصات عند الصلاة الكبرى للإيزيس.
حنو (تخاطب ستسنيت) :
وقد تعطرت هذا الصباح بالكبا
3
بعد أن خلطته بالدراصيني والمر والحبة الخضراء.
نجاوو (تخاطب موينه) :
نعم أذهب وأسمع الأناشيد، أما أنت فلا تزالين صغيرة لا تعبأ بك الأبصار، ولا يهتم بك صانع سلال ولا بائع فخار.
موينه :
أتظنين؟ اقتربي وانظري، من أعطاني هذا العصفور الجميل؟ (تخرج من القفص عصفورا مربوطا ساقه وتخاطبه)
من صادك أيها الطائر وأهداني إياك؟ لينطق لسان حالك الفصيح، أما أنت فحاذر أن تبوح، حاذر أن تبوح.
حنو (تنظر في مرآة من المعدن) :
يا ستسنيت، أجد الخط الذي على صدغي مما يلي العين قصيرا فهل لمرودك أن يطيله فأزداد حسنا، ولعل حظي يساعدني فتختارني الأرباب عروسا؟ أليس كذلك يا تايا؟ ولكن ما لك مبتعدة عنا لا تتكلمين؟
تايا :
أنظر طائفة من الطير تتضاءل كلما أوغلت صاعدة إلى القبة الزرقاء، أما أنت فلا تعلقي الآمال على أن تكوني عروس الآلهة هذا المساء.
حنو :
ولم؟
تايا :
لا أعنيك فقط بل أعني أيضا كل الحاضرات في هذا المكان؛ لأن الآلهة لا تأخذ الضحية من مدينة واحدة مرتين في عامين متواليين.
حنو :
مطلقا؟
تايا :
قليلا ما تفعل.
حنو :
يا للأسف! ألا تأسفين لذلك يا نجاوو؟
نجاوو :
لا أدري.
ستسنيت :
لعلك ترغبين عن المجد؟
نجاوو :
كلا، ولكني أفضل أن أكون عروسا لمن أحب.
دليثي :
وي! والنيل إلهنا أترفضين خطبته؟
حنو :
طوبى لمن تصبح عروسه!
موينه :
أما أنا، فأفضل البقاء في الحياة.
ستسنيت :
ولكن إذا وقع اختياره عليك؟
تايا :
ألا تعلمين أنه يجوز لها الرفض؟
دليثي :
نعم، ولكن يتحتم عليها إذ ذاك أن تبرح الديار، وهل يستطيع ابن النيل أن يبرح واديه؟ (تخاطب يوما)
ما قولك يا يوما؟
يوما (إلى نفسها) :
ربما ...
رحاسي :
ما تقولين يا يوما؟
يوما :
لا شيء، إنما أحدث نفسي.
موينه :
تكاد يوما تخنقها العبرة، فقد أجهدت نظرها طويلا في استطلاع الأفق فلم تظهر لها سفينة من تنتظر.
يوما :
اسكتي يا صغيرة.
تايا (تخاطب دليثي) :
ولكن لا بد للسفينة المقدسة من عروس.
دليثي :
نعم وبدون التضحية لا يفيض النيل فتجدب البلاد.
حنو :
ولا تنبت الحنطة والفول والذرة والسوسن.
دليثي :
فيموت القوم جوعا.
حنو :
إذن فالتي تقدم نفسها قربانا للنيل إنما تحيي أمة بأسرها، ألا ترين يا نجاوو أن ذلك خير من جلب السعادة لرجل واحد؟ (سكوت)
يوما (إلى نفسها) :
ربما ...
حنو :
ثم تؤخذ من هيكل المعبود يوم العيد، في موكب مشهود، وفرعون قواه الإله وعافاه ...
دليثي :
إنك لا تدرين يا حنو، وأراك تهرفين بما لا تعرفين.
حنو :
كلا، وما قلت إلا حقا. أليس كذلك يا تايا؟ إن تايا لا تجهل شيئا من تلك الطقوس، حيث كانت أختها في العام الماضي هي العروس.
موينه :
حدثينا يا تايا بما يكون.
رحاسي :
نعم، صفي لنا ما يحدث .
تايا :
في اليوم الخامس من شهر بابه ...
موينه :
لا لا، اليوم، اليوم، ماذا يحدث اليوم؟
رحاسي :
نعم، ماذا يفعلون اليوم؟ نحن نعلم أنهم يصلون لإيزيس، ولكن ماذا يفعلون قبل الصلاة وبعدها؟ (تجتمع الجواري حول تايا.)
تايا :
عند الأصيل، وقبل أن تغيب الشمس بقليل، يسمع القوم نداء من الهيكل، فيهرعون إلى أسطحة المنازل مرتلين نشيد إيزيس العظيم، ولا يسمح بترتيله إلا مرة في العام في ذلك العيد، وتجتمع الكهنة في الهيكل يرتقبون النداء باسم التي يصطفيها المعبود قربانا للنيل؛ ليفيض فيضانه السنوي العميم، فيصيح صائح من أعلى الأسوار معلنا اسمها للناس، وعلى من سمعه أن يجهر به ليعلمه من لم يسمع فيبلغه لغيره، وهكذا تتناوله الأفواه والأسماع، حتى يعم المدينة الخبر، فيتقاطر الناس إلى المنزل الذي باركه آمون، فتتجلى لأنظارهم الفتاة واقفة، وأهلها من حولها ركع وسجود، فيهلل لها القوم ويكبرون، ويحيون في شخصها عروس المعبود.
الجميع (مبهوتات) :
أوه!
دليثي :
وبعد أن يمضي شهر التطهير، يأخذونها إلى بيت المعبود.
نجاوو :
ويوم المعجزات؟
رحاسي :
نعم، ويوم المعجزات؟
تايا :
تكون العروس أمام القوم لدى المحراب، فتصلي مع المصلين ضارعة، فيتزحزح الحجر الذي يحجب صورة إيزيس.
دليثي :
فترى إيزيس عن كثب ويمكنها أن تمسها.
الجميع :
أوه!
تايا :
وتضرع إليها في مقدمة الناس، أن تحني رأسها إشارة إلى أنها ستحمي مصر وساكنيها عاما آخر، فإذا تضرع القوم وابتهلوا وصلوا صلاة حارة، تحني المعبودة رأسها وتكون تلك أولى المعجزات.
دليثي :
إذا أحنت المعبودة رأسها وهي من حجر، فتلك إحدى المعجزات.
تايا :
فإذا كان في جموع المصلين عمي فقد يبصرون، أو صم فيسمعون، أو بكم فينطقون.
دليثي :
وربما شفيت مولاتنا الكريمة مييريس من عماها، فأبصرت عيناها.
حنو :
وعندما تخرج العروس من الهيكل ... خبرينا يا تايا كيف تخرج من الهيكل؟
تايا :
قبل اليوم المحدد بثلاثة أيام، تأخذ المدينة؛ بل الأقاليم كلها في إقامة معالم الأفراح، وفي ذلك اليوم يجتمع الناس من كل صوب وحدب لدى الهيكل، فتصطف الجنود الليبية لمنع الزحام وحفظ النظام. فتخرج العروس المصطفاة محلاة بثياب حمر وذهب ، على محفة عالية ينطلق منها البخور، ويحيط بها كبار كهنة آمون، فتمر بين تلك الجموع وأبصارهم حائمة عليها، وأكفهم مرفوعة إليها، ونغمات الأبواق والمزامير ممتزجة بأصوات التهليل والتكبير.
الجميع :
أوه!
دليثي :
ويذهبون بها إلى النيل؟
تايا :
نعم، يذهبون بها إلى النيل، فتقلها سفينة آمون، وتلك السفينة يؤتى بها من أقصى المحراب.
دليثي :
وتبتعد بها السفينة عن الشاطئ.
تايا :
وتبتعد بها السفينة عن الشاطئ حيث القوم ساجدون ... (تقف قليلا كأنها تريد إخفاء اضطرابها)
ثم تعود السفينة بدونها.
الجميع (بصوت منخفض) :
تعود السفينة بدونها؟!
تايا :
وبعد يومين ترتفع مياه النيل.
الجميع :
ترتفع مياه النيل؟!
تايا :
نعم ترتفع، وتفيض في الترع، وتعم كل أراضي حاكابتاح
4
فتخصب الحقول، وتنبت سنابل الحنطة والفول، سنابل الحنطة الذهبية والسوسن والفول.
دليثي :
وكلما جرى النيل؛ جرت الألسنة بشكر تلك التي فدت مصر العزيزة بنفسها.
حنو :
ليتني أكون هي!
الجميع (إلا يوما) :
ليتني أكون هي! (يوما تنتصب ثم تجلس.)
تايا :
لو تكونين هي يا يوما؟
يوما :
إذن لربما أبيت.
الجميع :
وي!
موينه (بتبسم ذي معنى) :
أنا أدري السبب، أنا أدري السبب.
دليثي :
أظنه ...
تايا :
تكلمي.
دليثي :
أظنه عين السبب الذي يأتي بك إلى هذا المكان منذ أيام، فتظلين واقفة تسائلين الأفق.
يوما :
نعم.
موينه :
إنها ترتقب ظهور السفينة الآتية بالمسافرين من الشمال، فإن من بينهم فتى كاهنا هو ابن صانع الفخار.
دليثي :
الفتى الكاهن ابن صانع الفخار، والذي سافر منذ عامين.
يوما :
إنه خطيبي.
رحاسي :
ولكن أتعلمين ماذا يقال؟
تايا :
يقال إن في تلك السفينة كاتبا يدعو الناس إلى آلهة آخرين.
يوما :
علمت.
دليثي :
آلهة كاذبة.
موينه (بخبث) :
إذن فسيحجز الكهنة السفينة، وتلبث يوما في انتظار خطيبها ثمانية أيام أخرى.
يوما :
سأنتظر. (يأتي وكيل صاحب الدار فيلقي كلمات في أذن دليثي.)
دليثي :
مولاتنا تنبهكن أن أزفت ساعة الدخول. (يخرجن من جهة اليسار، وتلتقط ستسنيت دواتها، ورحاسي برتقالها تلعب به، وتحمل موينه قفصها وتقفز به، وتتناول دليثي قيثارتها تداعب أوتارها وتترنم مع حنو ونجاوو.)
دليثي وحنو ونجاوو :
شعرها أسود طويل
يشبه الليل البهيم (يخرج الوكيل ثم يعود وفي يده سوط ووراءه رجل عجوز مسكين عاري الصدر ملطخ بالطين يحمل قصعة.)
الواقعة الثانية (الوكيل - باخ)
الوكيل (يقف أمام تمثال تويريس) :
ها هو، اقترب أيها الرجل وانظر، إن أذن المعبودة تويريس
5
قد انكسرت هذا الصباح، وأنت صانع فخار، فتستطيع لصقها قبل أن يراها رب الدار عندما يحضر لصلاة الاصطفاء، ها هي الأذن أرجعها مكانها.
باخ (مضطربا) :
أنا ... يجب ... اليوم يعود ولدي.
الوكيل :
ألست خادمنا؟
باخ :
نعم.
الوكيل :
وصانع فخار؟
باخ :
نعم.
الوكيل :
ألم تقل لي إنك قادر على عمل ما آمرك به؟
باخ :
ما كنت أظن أنك تكلفني رفع يدي إلى المعبودة تويريس.
الوكيل :
أطع.
باخ (يرتمي على قدميه) :
عفوا، عفوا، لا أستطيع ... ثم ... ولدي ... ولدي قادم من سفر طويل.
الوكيل :
سأقرعك عشرين عصا جزاء إجهادك لساني، فإذا لبثت على إبائك زدتها إلى مائتين.
باخ :
مولاي!
الوكيل (يضربه بالسوط) :
قم واشتغل. (يهم بالخروج فيجري باخ وراءه.)
باخ :
اسمع، اسمع، سأصنع ما تريد، ولكني لا أستطيع إنزال المعبودة من مكانها؛ لأن أطرافي لا تقوى على حملها.
الوكيل :
سوكتي يعينك. (يخرج فيصادف في طريقه سوكتي فيضربه بالسوط مشيرا له أن يلحق بباخ، فيسرع إليه سوكتي بدون أن يبدي تألما أو دهشة.)
الواقعة الثالثة (باخ - سوكتي - ثم بتيو القزم)
باخ :
يقول إنه يجب إنزال المعبودة إلى الأرض.
سوكتي :
أنا أنزلها؟
باخ :
بل نحن معا.
سوكتي (يرتعد ويقول بعد سكوت) :
إني أخاف.
باخ :
وأنا مثلك خائف.
سوكتي :
إذا مسسناها متنا.
باخ :
وسنموت تحت العصا إذا عصينا.
سوكتي :
لم لم يتركوني في عملي فقد كان خيرا لي.
باخ (بعد تفكير) :
اسمع، يجب أن نخطرها أننا إنما نفعل لرد أذنها لها.
سوكتي :
نعم، يجب أن نعلمها ذلك. (يجثيان)
باخ :
أيتها المعبودة وأم المعبودات، اغفري لنا رفع أيدينا الحقيرة إلى رأسك المقدس، وقعت أذنك ونريد ردها مكانها.
سوكتي :
وهم يجبروننا على إطاعة أمرهم، فأيتها الروح الإلهية المقدسة، خالقة الكون، اغفري لنا، إنما نريد إصلاح أذنك.
باخ (يقوم ويقول لسوكتي ) :
تعال. (يدخل بتيو القزم وهو صعلوك قصير القامة محدودب الظهر، فعندما يرى باخ وسوكتي يمدان أيديهما إلى التمثال، يرتد مسرعا جزعا فيقع، فيقوم فيقع، فيلتجئ إلى ركن ينظر منه إليهما، ثم يتقدم نحوهما رويدا رويدا أثناء ما يأتي.)
سوكتي :
إنها لم تقل شيئا!
باخ :
يجب أن نلقيها على وجهها.
سوكتي :
بتلطف.
باخ (يتناول الأذن) :
أمسك هذه (يذهب فيأتي بالقصعة، ويضع فيها قليلا من الطين، ويهيئ العجينة)
هات (يتناول الأذن ويلصقها)
لندعها حتى تجف، والآن فتعال معي لنرى هل قدمت السفينة التي تقل ولدي.
سوكتي :
لن تراه.
باخ :
لن أراه؟
سوكتي :
إنه كاهن.
باخ :
لما يدخل الكهنوت بعد.
سوكتي :
ولكنه تربى في الهيكل، فإلى الهيكل سيذهب.
باخ :
سيجيء إلى هنا؛ لأنه يود أن يرى أباه وأمه.
سوكتي :
وخطيبته يوما.
باخ :
وخطيبته يوما. (يقصد باخ جهة اليمين، فيقترب بتيو من التمثال حذرا، ثم يقف على مسافة منه.)
سوكتي :
أنى وصل نظري لا أرى شيئا.
باخ :
ولا أنا ... (فجأة)
أرأيت التمساح؟
سوكتي :
نعم، وها امرأة قادمة إلى النيل وجرتها على رأسها.
باخ :
هذه كريبا امرأتي، ها هي تنظر علها ترى السفينة التي تحمل ولدنا ساتني.
سوكتي :
إنها تعمقت في الماء!
باخ :
لتأتي به نقيا صافيا.
سوكتي :
ولكنها في المكان الذي ظهر منه التمساح!
باخ :
لا يهم؛ لأنها تحمل ريشة من ريش إيبيس ... وأنا أعرف الكلمات السحرية التي تبعد التمساح، اسمع (يترنم) : «إلى الوراء يابن ست
6
لا تظهر على الماء، لا تقبض. لا تفتح فمك. ليصبح الماء لهيبا من نار أمامك، وليلق سحر المعبودات السبعة والثلاثين في عينك. ربطتك، ربطتك، فقف يابن ست واحمها يا آمون يا زوج أمك.»
7
سوكتي (بغير دهشة) :
قد اختفى التمساح!
باخ (كذلك) :
وهل كان يستطيع غير ذلك؟ (بتيو وقد أصبح على مقربة من تمثال المعبودة، يمد أصبعه إليها حذرا فيمسها، ثم يرتد ناجيا بنفسه، فيعثر ويقع، ثم يقوم فيقترب من باخ وسوكتي.)
سوكتي (مشيرا إلى المعبودة) :
أظنها جفت الآن.
باخ :
نعم، فيها بنا.
سوكتي :
لا أزال خائفا .
باخ :
وأنا أيضا، ولكن تعال نتعاون عليها. (يقيمان التمثال ويضعانه حيث كان، ثم يرتدان فيقفان بعيدا عنه ينظران إليه.)
سوكتي :
إنها لم تصبنا بسوء!
باخ :
كلا.
سوكتي (ضاحكا) :
هي هي.
باخ (ضاحكا) :
هي هي.
سوكتي (ضاحكا) :
هي هي هي.
باخ (ضاحكا) :
هي هي هي (يضحك بتيو معهما، يسمع من بعيد صوت بوق فيصعد سوكتي وباخ إلى السطح ينظران)
هذا أمير المقاطعة يحملونه إلى مدينة الأموات،
8
روحه الآن أمام محكمة أوزيريس والقضاة الاثنين والأربعين.
9
سوكتي :
لعلهم مجازوه بما فعل من السيئات.
باخ :
سيجزى عليها ألف مثل، وسيمر أولا على بحيرة النار.
سوكتي (ضاحكا) :
باخ، باح، أتتصوره وهو في الآخرة في الأمنتي؟
10
باخ (ضاحكا) :
نعم نعم، ويكون المحور القائم عليه باب الأمنتي في عينه اليمنى، وكلما فتح الباب أو أغلق يدور المحور في عينه فيفريها وهو يصرخ ويستجير.
سوكتي (مسرورا) :
وسيجزى على شراهته ونهمه، فيعلق الماء والخبز فوق رأسه، وكلما هم بتناولهما تنشق تحت قدميه هاوية تبعده عنهما.
باخ :
ذلك لأنهم يجدون سيئاته تربو على حسناته.
سوكتي :
ونحن، ونحن، قل ماذا يكون مصيرنا؟
باخ :
أما نحن فيرى القضاة أنا من الطاهرين.
سوكتي :
وبعد وبعد؟
باخ :
وبعد نذهب إلى الأمنتي، وبرزخ الأرواح.
11
سوكتي :
نعم، وفيه؟ قل ماذا نجد في برزخ الأرواح؟
باخ :
نجد عيونا من ماء غير آسن.
سوكتي (مقهقا) :
وماذا أيضا؟ غير ذلك؟
باخ (كذلك) :
وسنابل من بر قيد ذراعين.
سوكتي (كذلك) :
نعم نعم، سنابل من بر قيد ذراعين.
باخ :
وخبزا من الذرة وفولا.
سوكتي :
ومقامع وأسواطا، قل لي أهناك مقامع وأسواط؟
باخ :
أبدا.
سوكتي :
أبدا؟
باخ :
وننسى هناك كل ما أصابنا.
سوكتي :
وآكل حتى أشبع ... كل يوم.
بتيو :
أما أنا فتطول قامتي وتستقيم، وتصبح لي قدمان مثل باقي الناس.
باخ :
إنه ملك لا يعادله ملك الأرض. (يضحكون، يظهر الوكيل.)
الوكيل :
ماذا تفعلون؟ (يضربهم بالسوط)
ها، سيدتكم قادمة، فانصرفوا من هنا. (يخرجون، يطأطئ الوكيل رأسه أمام سيدته مييريس العمياء، وهي قادمة تحمل زهورا وتقودها يوما.)
الواقعة الرابعة (مييريس - يوما)
مييريس (برفق) :
دعيني يا يوما ، فأنا أعرف كيف أصل إليها وحدي.
يوما :
أمرك يا مولاتي (وتتبعها مخففة وطء قدميها).
مييريس (مبتسمة) :
أشعر بك خلفي، فلا تخافي علي (تتقدم نحو تمثال إيزيس الصغير)
أرأيت كيف بلغتها وحدي؟ لقد مضى علي زمن طويل، وأنا أجيء إليها كل يوم لأقدم لها الأزهار، فدعيني.
يوما :
حسنا يا مولاتي (تبتعد).
مييريس (تتلمس التمثال كما يفعل الأعمى) :
نعم، ها أنت يا إيزيس
12
عرفت وجهك، وأشعر بابتسامة ثغرك، وقد أصبحت أناملي تعرف سيماك (تتناول من الزهور التي بين يديها فتضع منها على القائمة التي عليها التمثال) ، هذه قرباني التي آتي بها كل يوم إليك؛ كأني بهذه زهرة سوسن
13
بيضاء، إنها لك، ولا أظنني مخطئة إن كانت هذه أكبر منها وأطيب عرفا، (تشمها)
إنها زهرة نيلوفر حمراء،
14
وإليك أيضا هاتين الزهرتين المقدستين إنهما يشرفان على وجه الماء عند الصباح، وتتفتح أكمامها عند الزوال، فإذا احتجبت الشمس وراء الأفق، تحتجبان تحت الماء، كما يحتجب تحت النقاب وجه الحسناء. يقولون إن هذه الزهور جميلة، ولكن وا أسفاه! لا أرى جمالها، هاك زهرة جفن،
15
وهذه زهرة فتنة، عرفتها من عبيرها المتضوع، يقولون إن أشعة الشمس إذا عبثت بأكمام هذه الزهور صبغتها بأبهى الألوان التي تتمتع بها الأنظار، فلتقر بها عيناك يا إيزيس. أما أنا فلا أرى جمالها! ولكني سآتي إليك كل يوم مدى العمر، راجية، متوسلة، مبتهلة، أناديك في صلواتي بقلب محزون، أن ترأفي بحالي، وتجيبي ندائي وتنعمي علي بما أنعمت على عبادك الآخرين؛ امنحيني نعمة البصر، امنحيني نعمة البصر لأرى أشعة الشمس المشرقة، أشعة آمون رع الإلهية المقدسة، وسأذهب هذا العام أيضا، باكية، متوسلة، إلى معبدك يا إيزيس في يوم المعجزات، وسأبتهل إليك لتكشفي عني غطائي فتتجلى علي محاسن هذا الوجود. إيزيس اذكري أن مصابي عظيم، وأنه كان لي طفل صغير كان يرى، نعم كان يرى، ثم ابتدأ يتكلم، فيصف لي ما يرى على قدر ما يتصور، فلم يك أشهى على قلبي من رؤية الأشياء بعينيه، وسماع وصفها بلسانه، ولكنه مات يا إيزيس ولم أره قط! والآن قرباني إليك دموعي وحسراتي، وحرقتي في صلاتي، ليلي دائم، أما لليلي من آخر؟ إن كنت لا تريدين يا إيزيس أن تكشفي عني ظلماتي، فعجلي بمماتي، أسلميني إلى المنون، محبة السكون؛
16
لأحظى بعد الحساب برؤية ولدي المحبوب في الأمنتي، فأراه إذ ذاك لأول مرة، نعم لأول مرة ... تقبلي يا إيزيس هذه الزهور (تقف) ، تعالي يا يوما (تتأهب للخروج، ولكن تقف بغتة، وتصيح فرحة)
ولكني أسمع صوتا ... نعم ... اذهبي يا يوما وائتيني بإبريق الماء المصفى، لقد أقبل زوجي، ها هو. (تخرج يوما وتعود سريعا، وبيدها إبريق وطشت ومنشفة.)
الواقعة الخامسة (مييريس - يوما - رحيو - ثم باخ)
مييريس :
مرحبا بك في دارك يا مولاي! (تصب يوما الماء على يدي سيدها، وتناوله مييريس المنشفة.)
رحيو :
أنا سعيد برؤياك في منزلك يا مييريس، لعلك قضيت نهارك في صفاء؟
مييريس :
نعم، فقد حضر لدي بعض الأطفال، وأخذوا يلعبون، فسرني ضحكهم ولعبهم، وكان صوت أحدهم يشبه صوت ولدي، فأدنيته مني، وتلمست وجهه بيدي كما كنت أفعل مع ولدي، فشعرت بشعر كشعره، ورأس كرأسه، وجسم حي كجسمه، فاطمأن له قلبي، وجفت عيناي فلم أبك، وكأن صوتا خفيا كان يناديه من أعماق قلبي قائلا: أيها الطفل الصغير، إن سنك سن الذي سلبتنيه المنون، محبة السكون، ولكنه الآن في الأمنتي وبرزخ الأرواح، أسعد منك حالا؛ لأنه في حماية من النوائب التي تترصدك، إنه أسعد منك حالا؛ لأنه متمتع بالحياة في نور شمس من ذهب، وحوله جنات من زهور تجري فيها الأنهار المعطرة، وأنا إذا حانت ساعتي، وتلقفتني المنون محبة السكون، فيومئذ أراه، نعم أراه لأول مرة، فأداعبه كما أداعبك، وألاعبه كما ألاعبك، ويومئذ لا تفرق بيننا المنون، اذهب يا ولدي والعب، إن السعادة ليست من متاع هذا العالم الفاني. (يدخل باخ باحثا عن قصعته.)
رحيو :
أجبني يا باخ، ألا تذهب لاستقبال ولدك.
باخ :
كنت أود يا مولاي، ولكني ذهبت إلى النيل الساعة فلم أجد به سفنا.
رحيو :
لقد وصلت السفينة هذه الليلة، وأمر الكهنة أن تبقى في منعطف النهر إلى الساعة، فاذهب.
باخ :
شكرا لك يا مولاي (يخرج).
رحيو :
أاستعد كل من في الدار للصلاة لإيزيس، فقد أوشكت الشمس أن تغيب؟
مييريس :
اذهبي واستعجلي من في الدار يا يوما.
يوما (تجثو متوسلة) :
مولاتي!
مييريس (تضع يدها على رأس يوما) :
ما بك؟
يوما :
السفينة!
مييريس :
وبعد؟ آه تذكرت، أنت مخطوبة لابن صانع الفخار، ولكن لا يمكنك أن تخرجي الآن، فمن يدرينا أن لا تكوني التي يصطفيها آمون هذا المساء.
يوما :
إن آمون لا يعرفني.
مييريس :
إذا اصطفاك فهو يعرفك.
يوما :
أنا ... أنا خادمة حقيرة، لا أظن يا مولاتي، إنه لا يحتمل.
مييريس :
ولم؟
يوما :
أتظنين أنه يحتمل؟
مييريس :
طبعا، فبادري.
يوما (لنفسها وهي خارجة) :
الإله آمون يصطفيني ...! رب الأرباب!
مييريس :
رحيو، رحيو، أنحن وحدنا؟
رحيو :
نعم.
مييريس :
إذن قل لي ماذا جرى؟
رحيو :
إهانة أخرى لحقت بي.
مييريس :
كيف؟
رحيو :
ما كدت أتمثل بين يدي فرعون في إيوانه، حتى هبطت له ساجدا، فسألني بصوت جاف: ماذا تريد؟ وأنت تعلمين أن العادات تقضي على مخاطبه أن لا يجيب، وأن يتظاهر بأنه ارتج عليه لهيبته وجلاله ...
مييريس :
ألم تفعل كذلك؟
رحيو :
فعلت ولكن ...
مييريس :
حاذر، أما من أحد يسمعك؟
رحيو (متلفتا) :
كلا، ولكنه بدل أن يأمر بقيامي، أو يستعد لسماع كلامي - آه من هذا الكلب الحبشي - تظاهر بأنه لا يراني، فتركني جاثيا أمامه طويلا طويلا، ثم لما تذكر أني لم أبرح مكاني، ورأى أن الغضب يكاد يذهب بجناني، قال إن روحا خبيثة استولت علي، وأخذ يتظاهر بالإشفاق علي ظاهرا، وهو يهزأ بي باطنا، وأخيرا أذن لي بالانصراف، ونسي أنني لو كنت أريد ...
مييريس :
صه صه، ألا تعلم أن الآلهة على مقربة منك، وأنها تسمع صوتك.
رحيو (مستنكرا) :
هو هو. الآلهة!
مييريس :
ماذا تعني؟
رحيو (مستهزئا ثم متحمسا) :
أعني أني ابن رئيس كهنة، وأعرف هذه الآلهة، وقد نسي فرعون أني لو أردت أن أعدد للشعب ما أداه والدي له من الخدمات، وأن أسلح رجالي الذين يشتغلون في مزارعي، وأن أرسلهم عليه ...
مييريس :
رحيو ! رحيو!
رحيو :
أتظنين أنهم يعصونني، إن فرعون لا يغفر لي أني ابن رئيس الكهنة السابق، وأن أبي كان صديق فرعون السالف، وأنه كان يريد أن يبدل آلهتهم بإله حق واحد، ونسي فرعون أني لو صحت في قومي؛ أن يا قوم قد جاءني أبي في الرؤيا وأوحى إلي ما أوحى، لتبعني من قومي كل من أدمت ظهره عصا جابي الضرائب، وخشي أن يؤخذ قسرا إلى حرب لا يعلم فيها من الغالب، وأقبل القوم إلي من كل حدب ينسلون، ويصدعون بما يؤمرون.
مييريس :
ولكنهم يخشون أربابهم.
رحيو :
لن يخشوهم طويلا!
مييريس :
أسمعهم قادمين للصلاة.
رحيو :
نعم، فلنتأهب للصلاة كيلا يكون لهم سبيل إلي حتى يئون الأوان.
مييريس :
أي أوان؟
رحيو :
لو أمكنني أن أتمم ما كان يفكر فيه أبي، وأنتقم أيضا ممن ألحق بي كل هذه الإهانات ...
مييريس :
صه صه، أسمعهم مقبلين. (تسمع أنغام مصحوبة بالموسيقى قادمة من بعيد.)
المصلون (من بعد) :
إيزيس يا ذات العلا
أنت قصد المستجير
أنت عون للغني
أنت ذخر للفقير (تتقطع الأصوات عند دخول المرسح، تدخل نسوة الدار تتبعهن الخدم.)
الواقعة السادسة (السابقون - النساء - الخدم - ثم ساتني)
رحيو (يتقدم نحو السطح ناظرا للأفق) :
لم تنزل الشمس عن الأكمة، ولكنني أرى في النيل ... يوما، يوما، هذه السفينة القادمة بخطيبك.
يوما :
ها هي! ها هي! قد وقفت، إنهم يدقون الوتد، حاذت الشاطئ، رموا الهلب، إن رجالا يخرجون منها. هذا الرجل الغريب ...
رحيو (مبتسما) :
إنه ليس غريبا.
يوما :
لم أعرفه لتغير زيه. (يدخل باخ.)
رحيو :
ألم تستقبل ولدك؟
باخ :
وجدت يا مولاي على الطريق الموصل للنيل جعرانين ميتين.
رحيو :
إذن لا يستطيع أحد أن يمر في ذلك الطريق قبل أن يطهر، إلا رئيس الكهنة.
باخ :
لقد نبهت المارة يا مولاي، فاضطروا أن يأخذوا طريقا آخر طويلا.
رحيو :
وهل عرفت ولدك؟
باخ :
كلا، ولكن سيخرج من السفينة مع الخارجين (يبتعد).
يوما :
ولكن ... ولكن ها رجل مقبل إلى هذا المكان، وهو ذلك الذي ظننته غريبا، أين وجدت الجعرانين يا باخ ؟
باخ :
بالقرب من شجرة التين.
يوما (جزعة) :
ويلاه! سيمر من هناك ...! إنه لا يدري (بارتياح)
شكرا لهم لقد نبهه بعضهم.
رحيو :
إنه توقف.
يوما (بجانب شجرة التين تقول) :
ولكنه استمر في طريقه، ويلاه! إنه سائر، لقد تقدم ومر! «إلى مييريس» مولاتي مولاتي، إلي إلي ... آه يا آمون! (تهرب مع مييريس واضعة يديها على عينيها.)
رحيو :
إنه قادم إلى بابنا، ها هو. (يدخل ساتني.)
ساتني (مسلما محنيا رأسه) :
سلام على رحيو.
رحيو :
ماذا! أهذا أنت يا ساتني؟
باخ :
ولدي!
ساتني (جاثيا) :
أبي.
باخ :
أأنت، أأنت الذي مررت في هذا الطريق بالرغم من الجعرانين؟
ساتني :
نعم، وسأوضح لك.
باخ :
لا بد أنك مستظهر الكلمات السحرية؛ لأني أنا رأيتهما، رأيتهما بعيني رأسي، ويجب أن أتطهر قبل أن أقرب الصلاة، ألا تعلم أن اليوم عيد الاصطفاء؟
ساتني :
أعلم ذلك، وأين يوما؟
باخ :
إنها هنا، وستراها قريبا.
رحيو :
ساتني.
ساتني :
أتناديني؟
رحيو :
نعم، ألم تر الجعرانين على طريقك؟
ساتني :
رأيتهما.
رحيو :
ولم تتحول عن الطريق؟
ساتني :
كلا.
رحيو :
ولم؟
ساتني :
لأن قلبي استنار بالعلم حيث كنت.
رحيو :
أنت كاهن، أفلم يكن من واجباتك أن تذهب أولا إلى الهيكل قبل أن تجثو أمام أبيك؟
ساتني :
لن أدخل الهيكل ما حييت. (يسمع من بعيد صوت بوق ينفخ فيه طويلا.)
رحيو :
النداء للصلاة! (يصعد إلى السطح، ويمد يديه إلى الشمس الغاربة، وتقف النساء مستقبلة إياها؛ بعضهن بيدهن القيثارات، والبعض بيدهن الدفوف والساجات أو المزامير، والبعض يرقصن، والخدم يصفقون بأيديهم توقيعا على هذه الأصوات المصطحبة بالموسيقى من وراء المرسح.)
رحيو :
إيزيس، إيزيس، إيزيس، أناديك ثلاثا بالتعظيم والتقديس.
الجوقة (نشيد) :
إيزيس يا ذات العلا
أنت قصد المستجير
أنت عون للغني
أنت ذخر للفقير
رحيو :
إيزيس احفظي لنا برنا، قوتنا، من خبيث الرياح، واحفظي لنا جسم آبائنا، من بلاء الزمن.
الجوقة :
إيزيس احفظي لنا برنا، قوتنا، من خبيث الرياح، واحفظي لنا جسم آبائنا، من بلاء الزمن.
رحيو :
إيزيس احفظينا.
الجميع :
إيزيس احفظينا.
رحيو :
هنا فاحفظينا، واحفظينا هناك.
الجميع :
هنا فاحفظينا، واحفظينا هناك.
رحيو :
وفي كل آن، وفي كل حال، وما دام هيكل، وما دام نيل.
الجميع :
وفي كل آن، وفي كل حال، وما دام هيكل، وما دام نيل.
الجوقة (نشيد) :
إيزيس يا ذات الصفا
نيلك النيل الكبير
فأفيضيه على كل الورى
فيضك الوافي الغزير
رحيو :
إيزيس!
الجميع :
إيزيس!
رحيو :
إيزيس!
الجميع :
إيزيس!
رحيو :
إيزيس!
الجميع :
إيزيس! (يخر الجميع جاثين إلا المغنيات والراقصات.)
رحيو :
نتوسل إليك يا آمون، أن تصطفي العذراء التي نقدمها قربانا إليك، أغثنا باصطفائها يا آمون!
الجميع :
أغثنا باصطفائها يا آمون! (سكوت تام، يسمع من بعد صوت البوق.)
رحيو :
هبوا فقد تم الاصطفاء (يهب الجميع، ويتكلمون فيما بينهم كما يشاءون).
رحيو (إلى ساتني) :
لم لم تصل مع المصلين، ووقفت بعيدا عن المبتهلين؟
ساتني :
تعلمت الحكمة في بلاد قوم يعقلون.
رحيو :
أنت! وهل نسيت أنك من كهنة آمون؟
ساتني :
برئت من الكهنة ومن آمون!
أصوات :
اسمعوا، اسمعوا، الاسم، يجهرون بالاسم. (تسمع جلبة من بعيد.)
رحيو :
الاسم، الاسم. (يصعد إلى السطح، ويظهر قرص الشمس محمرا عند الغروب، ويحمر الأفق.)
ساتني (إلى يوما) :
لقد جمع الله شملنا يا يوما، وأراك كما كنت تحملين ثياب العذارى، أكنت مترقبة عودتي يا يوما؟
يوما :
نعم يا ساتني، كنت أترقب عودتك.
ساتني :
ولم تبرح ذكراي من بالك؟
يوما :
اسمع! (جلبة من بعيد.)
أحد الخدم :
يخيل لي أني أسمعهم ينادون باسم رونيت.
غيره :
كلا كلا، ليس هذا الاسم.
ساتني :
وما يعنيك من صياحهم، أنسيت عهودنا؟
يوما :
كلا، اسمع. (جلبة مقتربة.)
أحد الخدم :
أمتيرا، أظنها أمتيرا.
غيره :
كلا، أظنها حيحور.
غيره :
كلا، أمتيرا مقيمة في غير هذا الحي.
غيره :
لا أستطيع تبين ما يقولون.
غيره :
لأنهم مروا وراء النخيل.
ساتني (إلى يوما) :
أجيبي، أما لك آذان إلا لهذا الصياح؟ إني أهواك يا يوما.
أحد القوم :
إنهم يقتربون، إنهم يقتربون.
غيره :
أظنهم يقصدون كارنو؛ لأن دارها قريبة من هنا.
غيره :
كلا، بل أظنها حينحون أو كرما.
ساتني (إلى يوما) :
أزال حبي من فؤادك يا يوما؟
يوما (ملتهية عنه) :
كلا ، كلا، إني أحبك يا ساتني، ولكن يخيل لي أن ... اسمع، اسمي يصيحون به!
ساتني :
فلينادوا به ما يشاءون فإني هنا أحميك.
يوما :
ولكن إذا كان الإله اصطفاني يا ساتني؟
ساتني :
أي إله؟ إنما الكهنة هم الذين ينطقون. (تقترب الأصوات.)
أحد الخدم (قادما) :
هي يوما، وهم قادمون إلى هنا. أسرعوا، أسرعوا وأكرموا وفادتهم.
غيره :
لا أظنها هي.
غيره :
بل هي.
غيره :
بلا شك هي.
غيره :
لا لا.
غيره :
هي هي يوما.
ساتني :
لا تنخدعي، فما إلههم إلا من حجر.
يوما (فكرها شارد) :
لا شك أنهم ينادون باسمي.
أحد الخدم :
قد قدموا.
غيره :
ها هم. (يأخذ الجمع الذي بالمرسح في الانسحاب.)
أحد الخدم (وهو خارج) :
هي يوما.
أصوات (من الخارج) :
يوما، يوما.
الوكيل (إلى رحيو) :
مولاي، إنها يوما.
رحيو :
إذن فاذهب واستقبل الوافدين كما تقضي به الطقوس. (يخرج كل من بالمرسح إلا يوما وساتني.)
الواقعة السابعة (يوما - ساتني)
ساتني :
إذن أنت؟
يوما (متهللة) :
نعم أنا!
ساتني :
لك أن ترفضي.
يوما :
نعم، ولكن أجبر على مبارحة البلاد.
ساتني :
نبرحها معا.
يوما :
أنا يا ساتني، أنا المصطفاة، فكر في ذلك، إن الإله اصطفاني من بين أترابي جميعا!
ساتني :
لا تبقي هنا.
يوما :
وأين تريد أن أذهب؟
ساتني :
حيث أذهب.
يوما :
نعم نعم، أنا المصطفاة! اسمع صوت الجماهير.
ساتني :
ارفضي.
يوما (مبتسمة مشرقة الوجه) :
وإذا رفضت لا تعود أنت تهواني.
ساتني :
إنك لا تدرين إذن شيئا، إنما يدعونك للموت.
يوما :
نعم، وأي موت يا ساتني!
ساتني :
أنت لي، وقد أقسمت على ذلك، أنسيت القسم؟
يوما :
كلا، ولكن لم تخطر ببالي هذه السعادة لما أقسمت.
ساتني :
هيا معي.
يوما :
دعني.
ساتني :
هيا معي.
يوما :
أتريد إذن حقا أن أرفض ...؟
ساتني :
نعم، لأني أهواك.
يوما :
وأن أصم آذاني عن نداء إلهي؟
ساتني :
اربأي بنفسك من الموت.
يوما :
وما عسى القوم يقولون تحدثا بي. تدبر، إن الإله اصطفاني أنا على حقارتي، وفضلني على غيري من العالمين، فضلني على من هن أبهى مني جمالا، وأكثر مالا، وأعز نفرا، أأختفي إذن من وجه الإله؟
ساتني :
إذن أنت ترغبين الموت في سبيل الفخر؟
يوما :
إنما أبتغيه في سبيل مصر، في سبيل فيضان النيل على أرض القطر، في سبيل إخصاب الحقول، في سبيل إنماء البقول، في سبيل إنبات الزرع، وإدرار الضرع، إني إذا صممت الآذان عن هذا النداء، وافتديت نفسي دون هذا الفداء، أصبح اسمي ممقوتا وذكري مرذولا، في كل مكان تنيره أشعة الشمس المقدسة، وتخرج من بين أترابي فتاة غيري، فتتحلى بالثياب المزركشة، وتخلع عليها الخلع السنية، من نسيج التيل والخيوط الذهبية، وتتوج هامتها بإكليل من ورق السوسن المقدس؛ فتهلل لها الجماهير، وتقدم بدلي قربانا للنيل.
ساتني :
لتمت سواك من تشاء، أما أنت فستبقين لسعادتي وسعادتك.
يوما :
بل لمذلتي ومذلتك.
ساتني :
أنيري الأرض يا يوما بسناء جمالك، وأنعمي علي بحفظ حياتك، وابقي معي أجملك بأثمن الحلل، وأزين صدرك بأجمل الأزهار، وأعطر شعرك بأزكى الأعطار.
يوما :
مياه النيل السندسية خير حلة، وزهوره الجميلة خير حلية.
ساتني :
أكنت تهوينني؟
يوما :
نعم كنت أهواك.
ساتني :
اذكري، اذكري يا يوما إذ سافرت من عامين، وكنت تجرين بجانب السفينة على الشاطئ لتودعيني ما أمكنك المسير، يخيل لي الآن أني أرى قدميك الصغيرتين وهما عاريتان، وأسمع وقعهما على الرمل وهما مسرعتان، ولما شحطت السفينة، أتذكرين، ولبث القوم يدفعون قاع النيل، ليدفعوا السفينة إلى وجه الماء وهم ينشدون، أخذت أنت تصفقين وتنادينني، ولما عومت السفينة، وصاح القوم صيحة الفرح، حزنت أنت، وسكنت مكانك وقد تولاك الجزع، وشعرت أنك تبكين، ثم صعدت إلى الجسر وأشرت إلي بيديك إشارة الوداع، وأخذ جسمك الصغير يتضاءل للنظر كلما ابتعدت السفينة، حتى حجبتك عنا غابات النخيل. أتذكرين، أتذكرين أنك وعدتني بانتظاري حتى أعود؟
يوما :
وقد انتظرتك.
ساتني :
أتذكرين إذ اتفقنا على مكان نبني فيه دارا تجمعنا، أتذكرين؟
يوما :
نعم.
ساتني :
وهل تفضلين على دار الحبيب طمي النيل؟
يوما :
طمي النيل مقدس، والنيل مقدس تسع مرات؛ فهو أبو مصر، وهو منبت النبات لإنسانها وحيوانها، وخير الزرع ما سقي ماؤه، وهو يشرب ماء العيون.
ساتني :
سأكشف عنك جهالتك يا يوما، فإنهم يعدونك ضحية لأكاذيبهم.
يوما :
يا للآلهة! اتق غضبهم الشديد.
ساتني :
إني لا أخشاهم، فهم لا يستطيعون شيئا.
يوما :
كيف تزعم ذلك؟ وأنا شاعرة بقوتهم الخفية في نفسي، وحبهم أمكن في قلبي من حب البشر، إني كنت أحبك يا ساتني إلى اليوم حبا لا يعادله حب في الأرض، حتى كان يخيل لي أن أنفاسك ترسل الحياة إلى نفسي، وما زلت إلى هذا الصباح، أخشى أن تصطفيني الآلهة فتفرق بيننا. فما الذي حول قلبي إذن هذا التحويل، ومن عساه يكون سواهم؟ كنت لي كل شيء، فأصبحت الآن لا تعد شيئا مذكورا في عيني، كنت أرتعد إذا رأيت عقربا، وأبكي إذا أدمت أناملي أشواك التين، والآن لا أهاب الموت وهو يطلبني، فكيف يكون ذلك إذا لم تشأه الآلهة؟
ساتني :
أصغي لي لأقنعك.
يوما :
لن تزيدني أقوالك إلا اعتقادا بمكانتي إذ اصطفاني الإله.
ساتني :
إنما اصطفتك الكهنة.
يوما :
الأمران سواء؛ فصوت الكهنة صوت الآلهة.
ساتني :
هذا ما يدعون، وما كانت آلهة مصر لتكون، لولا أنهم ابتدعوها.
يوما :
لقد ذهب القوم الذين كنت بينهم بعقلك (تتبسم تبسم إشفاق)
من يستطيع أن يكفر بآلهة مصر؟ تدبر يا ساتني ما تقول.
ساتني :
هذه الآلهة غير موجودة، ولا دار عليين ولا درك أسفل ولا جحيم.
يوما :
ها ها، لقد فقدت الصواب بلا ريب يا ساتني، أتنكر الجحيم؟ ولكننا نعتقد بوجود الجحيم.
ساتني :
كيف ذلك؟
يوما :
ألا ترى الشمس إذا مالت للغروب احمر لونها؛ لتعرضها للهيب الجحيم عندما تعلوه، هلا نظرت فيأتيك بصرك باليقين؟ (تضحك)
آلهة مصر لا وجود لها!
ساتني :
نعم لا وجود لها، وما معابدنا إلا مرابط للأنعام والماشية من كل حيوان قذر حقير، أو منازل لأنصاب وأزلام لا تسمع ولا تعي فكيف لها تعبدين؟ صدقيني يا يوما فما عهدتني من الكاذبين، إني أهواك ولا أود أن أراك من الهالكين، وما افتداؤك أكاذيبهم بنفسك بنافعهم شيئا، وما تضرين إلا نفسك لو كنت تعلمين، وما كانت مياه النيل طالبة ضحية حتى تفيض فيضها العميم ، وسواء قدمت لها فداء أم لم تقدمي فهي فائضة، تلك سنة النيل من قديم، لا تذهبي ضحية لأكاذيبهم يا يوما واربأي بنفسك أن تكوني من الخاسرين. إني لا أقوى على بعدك فمن لي بمن يقنعك باليقين؟ أتذكرين إذ سرت في طريقهم وبه جعرانان ميتان، ولم أتنح عنهما، أأصابني أذى، أم أدركتني على زعمهم المنون؟ أليس في بقائي حيا بين يديك برهان مبين؟ إني أكاد أفقد صوابي إذ أراك معرضة عما أقول، ففيم تفكرين؟ أين عقلك؟ أين فهمك؟ ألا تسمعين؟
يوما :
إني لا أسمع إلا صوت قلبي.
ساتني :
وسأنجو بك بالرغم منك.
يوما :
وكيف ذلك؟
ساتني :
أحول بينهم وبينك بالقوة.
يوما :
وبأي حق تحول؟
ساتني :
سأنبئك به بعد فلا تعارضين.
يوما :
إن فعلت نزعت حبك من فؤادي.
ساتني :
لا يعنيني شيء بعد إذ تنجين.
يوما :
ولكني أنتحر.
ساتني (يقبض عليها بكلتا يديه) :
ويلك ألا تعقلين؟ ما هذا الثور وهذا العسنت وابن آوى إلا أوثان!
يوما :
ولكن آبائي كانت تعبدهم.
الواقعة الثامنة (تدخل الجموع، رحيو وكان مختفيا وراء عمود في نهاية المنظر السابق يتقدم نحو القادمين.)
أصوات (رجال) :
يوما! يوما!
أحدهم :
إلى السطح!
آخرون :
إلى السطح! لتصعد إلى السطح.
أحدهم :
ولترفع ذراعيها إلى السماء، إشارة إلى قبول الفداء.
ساتني (إلى يوما) :
ابقي مكانك، سنهرب معا.
يوما (بسرور وإشراق) :
إنه اصطفاني من بين أترابي.
الجميع :
يوما!
ساتني :
إنها رافضة، إنها رافضة، وسأذهب بها.
الجميع :
كلا، كلا، إلى السطح! إلى الصلاة، إلى الصلاة!
رحيو :
تقدمي للصلاة يا يوما.
ساتني :
إنها تأبى.
رحيو :
لا تعترضها، أطلق لها حريتها.
مييريس :
اختاري لنفسك يا يوما بين عبد ومعبود.
رحيو :
بين مجد الفداء ...
ساتني :
بل بين الإفك وبيني.
يوما :
قد اختارني ربي فداء لقومي.
ساتني :
إنك تسعين للموت.
يوما :
بل إلى الحياة الحقة الخالدة، إلى الحياة في ملكوت الآلهة.
ساتني :
إنهم كاذبون.
يوما :
صه ...
ساتني :
سأنجو بك بالرغم منك. (تصعد يوما إلى السطح، وتستقيم مستقبلة الشمس الغاربة، وترفع يديها إلى السماء، يهلل القوم تهليلا كبيرا، فيصيح ساتني بأعلى صوته.)
ساتني :
اسمعوا يا قوم إني هاديكم إلى آلهة خير من آلهتكم، إلى آلهة في غنى عن الضحايا.
الجميع :
إنها آلهة كاذبة.
ساتني :
إنها خير من هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.
الوكيل :
أسكته يا رحيو، أسكته.
رحيو (بصوت منخفض) :
بل دعه يتكلم، دعه يتكلم.
ساتني :
إني جئتكم لأكشف عنكم غطاءكم، وأذهب عنكم جهالتكم، ولأدمر أوثانكم وأحطم أصنامكم، جئت لأهديكم إلى الحق، وأرشدكم إلى صراط مستقيم أفتعبدون ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم، أف لكم ولما تعبدون.
17
رحيو (إلى وكيله عندما يراه يقترب من ساتني ليسكته) :
دعه يتكلم. (بينما ساتني يتكلم، ينصرف القوم عنه، وتذهب مييريس بيوما، وتنزل الستار وساتني لا يزال يتكلم.)
هوامش
الفصل الثاني
(هيئة المرسح كما في الفصل السابق.)
الواقعة الأولى (رحيو ثم الوكيل، عند رفع الستار يكون رحيو وحده فيدخل عليه الوكيل قادما من الخارج.)
رحيو :
ماذا رأيت؟
الوكيل :
إنهم يهيئون معدات الاحتفال.
رحيو :
في المعبد؟
الوكيل :
في المعبد.
رحيو :
لعيد المعجزات؟
الوكيل :
لعيد المعجزات.
رحيو :
ويظن الكهنة أنهم قادرون على الاحتفال به غدا؟
الوكيل :
لم أر منهم ما يشعر بالعدول عن ذلك.
رحيو :
وهل يستطيعون الاحتفال بدون يوما؟
الوكيل :
لا أدري.
رحيو :
لا ريب أنك واهم يا صاح، فهل ذهبت إلى النيل؟
الوكيل :
نعم يا مولاي.
رحيو :
وماذا رأيت؟
الوكيل :
رأيت السفينة المقدسة، ووجدتهم يتممون تهيئتها.
رحيو :
لا أفهم شيئا مما يفعلون.
الوكيل :
ولا أنا يا مولاي، وقد علمت أن بعض الجنود تمردوا، وأبوا أن يذهبوا ثانية لتنفيذ ما أمروا به أمس.
رحيو :
أبوا؟
الوكيل :
نعم.
رحيو :
وماذا يقولون؟
الوكيل :
يقولون إنهم خائفون.
رحيو :
ومم يخافون؟
الوكيل :
إنهم يخافون من ساتني.
رحيو :
ساتني!
الوكيل :
نعم، ويقولون إن معجزة الأمس من فعله.
رحيو :
كيف ذلك، وماذا يقولون؟
الوكيل :
يقولون إنه هو ...
رحيو :
إنه هو ساتني؟
الوكيل :
نعم.
رحيو :
وإنه صاحب المعجزة؟
الوكيل :
نعم.
رحيو :
المعجزة التي حالت دون الجنود ودون أن ينفذوا أمر رئيس الكهنة؟
الوكيل :
نعم.
رحيو :
يقولون ذلك؟
الوكيل :
كل القوم به يتحدثون.
رحيو (بعد إطراق طويل وتأمل) :
حسنا، وقد آن أن تعرف حقيقة الأمر، فتستطيع أن تبلغهم إياها؛ ألا فاعلم أن ساتني تثقف في البلاد التي رحل إليها، فعرف أمورا كثيرة، ووقف على أسرار كبيرة، اقترب مني وأعرني سمعك.
إنه يدعو إلى آلهة غير آلهة مصر وأقوى منها سلطانا، ولعلك تذكر أن أبي وأمنحوتب فرعون مصر كانا يقولان مثله، وكانا يريدان أن يكشفا لنا عن هذه الأسرار، لولا أن منعوهما كما تعلم، ويظهر - أما أنا فلا أدري، فإن ساتني ما زال يكرر علي ذلك منذ حضر إلى المدينة أي منذ شهرين - يظهر - وسترى أن ما يقوله ساتني جدير بالإصغاء - قلت لك يظهر أن الأوان قد آن لظهور هذه الآلهة إلينا، وكأني بها وقد آتت ساتني سلطانا فوق قدرة البشر، وهذا لا ريب فيه، ولم يبق أحد لم يؤمن به، ألا تراه لما أراد أن يحتفظ بخطيبته وهي عروس آمون، لم يستطع أحد مقاومته، وما أخطأ الجند الليبيون إذ قالوا إنه هو الذي أطلق الرعد فأرسل عليهم الصاعقة، وفتح فوق رءوسهم ميازيب السماء، لما أتوا بأمر فرعون وكهنته؛ ليخلصوا يوما من يده.
الوكيل :
ويقول الشيوخ منا إنهم لم يسمعوا الرعد إلا مرة واحدة في حياتهم.
رحيو :
بلغ القوم جميعا ما قلته لك، وأبلغهم أيضا أن من يحاول معارضة ساتني فيما يفعل، فجزاؤه أن يصيبه ما أصاب الجند أمس من الرعب فتفرقوا، وقل لهم: إن روح فرعون السابق قد حلت في جسم هذا الفتى، وإني قد رأيت أبي أمس في الرؤيا، وإن مصر سترى من عظيم الحوادث ما لم تر.
الوكيل :
سأقول ذلك.
رحيو :
وها قد أقبل رسول الآلهة الجدد، فدعني أكلمه، واذهب فأعد على القوم ما سمعته. (يخرج الوكيل ويدخل ساتني قادما من الخارج.)
الواقعة الثانية (ساتني - رحيو - يركع رحيو أمام ساتني)
ساتني (يلتفت وراءه) :
لأي إله أيضا تركع؟
رحيو :
أركع لك، فإن لم تك إلها، فأنت روح إله.
ساتني :
لا أفهم ما تقول.
رحيو :
لا يستطيع إلا رسول الآلهة أن يرسل من السماء نارا متى شاء.
ساتني :
ولكنني لست ...
رحيو :
كفى كفى، أتريد أن نكفر بك وننكر معجزاتك؟ وضح الحق أمس فلا سبيل إلى إخفاء سلطانك، فلا تقصر هداك بعد يا ساتني علي وعلى مييريس ويوما وأهل بيتي وعشيرتي، بل لك الآن أن تدعو القوم جميعا فقد استرعت معجزاتك القلوب والأسماع.
ساتني :
لندع هذا، واستقم يا رحيو، وخبرني ماذا أصاب يوما؟
رحيو :
يوما، إنها ظنت أولا أن زمجرة الرعد إشارة على غضب آمون عليها.
ساتني :
أما زالت تعتقد بآمون بالرغم مما علمتها؟
رحيو :
ولكنني حولت معتقدها، وأفهمتها أن العناصر في خدمتك، وأن ما أزعجها لم يكن إلا من علامات قوتك.
ساتني :
ولم تكذب عليها؟
رحيو :
إنني لم أكذب، ومع ذلك فقد فرحت بما علمت، ولو كنت رأيتها ...
ساتني :
كفى، إذن خاب أملي في إرشادكم، وأنا أجهد نفسي معكم منذ شهرين.
رحيو :
أتذكر منذ تركتنا أمس صباحا ... لقد تركتنا وأنت تعتقد أنك طهرت نفسها من الخرافات، فكنت تتكلم وهي لا تجيبك، صامتة لا تقوى على معارضتك، حتى ظننت أنك نزعت منها الاعتقاد بآمون، فما كدت تبرح حتى آوت هي إلى خلوتها، وثار ثائرها كأن شيطانا تولاها، فأخذت تبكي وتصيح، وتضرب الأرض بقدميها، وتقطع شعورها.
ساتني :
وماذا كانت تقول؟
رحيو :
كانت تصيح قائلة: إلى الهيكل، إلى الهيكل، أريد أن أذهب إلى الهيكل، إن الإله اصطفاني وهو في انتظاري، ومصر سيقضى عليها، ثم تقول عبارات متقطعة لا يفهم لها معنى، وأخيرا حاولت أن تنتحر.
ساتني :
تنتحر؟
رحيو :
نعم، وقد ردوها عن عزمها، وما هدأت وعرفت أن آلهتك أقوى من آلهتها حتى أخذتها إلى هذا المكان، وأريتها الجنود المرسلة لأخذها، وقد بددتهم الصاعقة، وشتتهم الرعب، فصارت تقول: عجبا! أهو؟ هو حبيبي ساتني هز السماء والأرض لأجلي! لأجلي أنا! وهي تريد الآن أن تقبل نعليك، وتقدم لك قربانا وتعبدك دون آلهتها، وها هي قادمة مع مييريس فابق أنت.
ساتني :
كلا. (يخرج ويصحبه رحيو قليلا، ثم يعود، فتدخل مييريس ويوما.)
مييريس (إلى يوما) :
أهو هنا؟
يوما :
كلا .
مييريس :
دعيني إذن (تخرج يوما).
الواقعة الثالثة (رحيو - مييريس) (مييريس وحدها، تتقدم خطوات غير مطمئنة نحو تمثال إيزيس، فتقترب منه وتمسه. سكوت.)
مييريس :
ما أنت إلا من خشب ...! (تطرح ذراعيها علامة اليأس، وتبتعد ببطء تاركة الزهور تتساقط من بين يديها وتبكي.)
رحيو :
ماذا أرى؟ مييريس! أما زلت تأتين بزهور لإيزيس؟
مييريس :
ستكون هذه آخر مرة. اسمع، يجب أن تطلب من ساتني أن يشفيني، لا تقل إنه لا يستطيع، فقد شفى أمرستي.
رحيو :
شفى أمرستي.
مييريس :
نعم، وسقاها شرابا فيه شفاء، أذهب من جسمها العلل.
رحيو (مصدقا) :
أيستطيع؟
مييريس :
لقد رآه القوم، وكتوي أيضا.
رحيو :
ما بالها؟
مييريس :
كتوي المقعدة استطاعت أن تسير على قدميها هذا الصباح، فذهبت وملأت جرتها من النيل، وقد أخذت جيرانها الدهشة وعمهم الفرح لما رأوها، وكيف شفيت؟ إنما مست فقط طرف ردائه بدون أن يشعر، ثم إنه شفى ابن ريتي، إنه يعرف آلهة أقوى من آلهتنا، آلهة ربما كانوا فتيانا، أما آلهتنا فقد طال عليهم القدم، وإلا فخبرني كيف استطاع يوم قدومه، أن يسير في طريق به جعرانان ميتان دون أن يصيبه سوء؟ وهو لا يزال مذ حل بيننا، يفعل ما ينهى عنه الدين، ويحقر آلهتنا، فلو لم يكن مؤيدا بسلطان أقوى من سلطانهم؛ لأصبح منذ حين في الغابرين، فمن هم آلهته؟ ليفصح عنهم، لعل القوم بهم يؤمنون.
رحيو :
سألته فأنكر.
مييريس :
لماذا؟
رحيو :
لأنه لا يعتقد بوجود آلهة مطلقا.
مييريس :
لا يعتقد بوجود آلهة مطلقا؟! إنه يهزأ بك.
رحيو :
ربما كان مضطرا إلى كتمان سرهم.
مييريس :
أتدري يا رحيو أن أمرستي التي حدثتك عنها، ما زالت منذ سنتين، تبتهل بجانبي كل عام في يوم المعجزات إلى المعبودة إيزيس، تلتمس منها الشفاء، فلم يجب لها نداء.
رحيو :
نعم، وهو يقول إنه كان يستطيع أن يشفي كل من شفتهم إيزيس.
مييريس (لنفسها) :
بل يستطيع فوق ذلك أن يشفي من تركتهم إيزيس، (تسكت قليلا)
ليعلمك يا رحيو تلك الكلمات التي يستطيع بها عمل المعجزات.
رحيو :
سألته فأبى.
مييريس :
أكرهه على ذلك.
رحيو :
إنه يقول إن هذه الكلمات لا وجود لها.
مييريس :
هدده بالإعدام فيتكلم.
رحيو :
لا أستطيع.
مييريس (بحدة) :
إنك لم تع إذن ما قلته، لقد شفى أمرستي وشفى كتوي، فلم لا يشفيني أنا؟
رحيو (بتألم) :
آه يا مييريس، أتظنين أني كنت أنتظر رجاءك حتى أرجوه؟
مييريس :
إذن كلمته، وماذا قال لك؟
رحيو :
لم يقل لي إلا هذه الكلمات: لو كنت أستطيع شفاء مييريس، لأبصرت عيناها من حين.
مييريس :
ما من شيء يستحيل على الآلهة فعله، وآلهتنا على كل شيء قديرة، فما بال آلهته وهي أقوى سلطانا، إن لم يجبك إلى ما التمسته فألح عليه، مره، بل هدده وأكرهه على ما تريد، لك الأمر والنهي عليه، وما هو إلا ابن صانع فخار من عبيدك، فاقرعه بالسوط حتى يصدع بأمرك، افعل به ما تشاء فحياته في يديك، أرهبه، بل رغبه، اعرض عليه حقولنا ونخيلنا، قدم له ماشيتنا وأنعامنا، ضع بين يديه جواهرنا وحلينا، قل له إننا نؤمن به إلها حيا قادرا على كل شيء، فليشفني، أريد الشفاء، أريد رؤية الأشياء، أريد الإبصار (بغضب)
ولكن أنت لا تدري قيمة البصر؛ لأنك مبصر، ولا تقدر نعمة النور؛ لأنه يملأ عينيك، ولا تدري مقدار مصابي؛ لأنك لا تشعر به. نعم إنك ترثي لبلوتي، وترق لحالي، وتظن أن ذلك جهد استطاعتك فلا تملك فوقه أمرا، كلا كلا، ولكن لا لا، لقد أخطأت وظلمتك يا رحيو فسامحني، إن شدة المصاب أفقدتني الصواب، تصور ألم الأعمى، وقد ولد أعمى وحرم لذة المشاهدة، وبجواره قوم يبصرون، إني أغبط أحقر رعاة ماشيتك، وأفقر ناسجات بردك على نعمة البصر، فإذا سمعت أحدا منهم يشتكي من دهره، لا أستطيع كف يدي عن ضربه على بطره، إذ أرى كل النعم لا تعادل نعمة بصره، ويخيل لي أنكم معشر المبصرين في نعيم دائم، وأنه يجب عليكم أن لا تكفوا عن التسبيح وشكر الآلهة على ما منحتكم (بشدة)
البصر! ولا أدري ما هو، ولا أستطيع أن أتصور كيف تبصرون الأشياء دون أن تلمسوها، وتعرفون الأشخاص دون أن تسمعوها، وتدركون الشمس دون أن يصيبكم شعاعها، وتتعرفون الزهور قبل أن يصل إليكم عبيرها، يقولون إن الزهور جميلة، فيا ليتني كنت أراها أيها الحبيب، وكم أكون سعيدة يوم أرى وجهك؛ لأتبين فيه صورة ولدنا الذي فقدناه، أو لتشير لي إلى من يشبهه بين الأطفال فأراه، مصابي بكفافي مصاب مزدوج، فما أشد ألمي! أواه ما أشد ألمي! (ترتمي بين ذراعي زوجها)
إن لم أجد بدل الأمل الذي فقدته في آلهتي أملا بشفائي، فلا أدري ما أنا فاعلة، ولأذهبن ذات ليلة ملتمسة الجدران والأشجار، تدلني يداي، وتقودني قدماي، حتى أبلغ النيل، فألقي بنفسي فيه لأموت.
رحيو :
حبيبتي، حبيبتي، ما هذا الكلام؟
مييريس :
لقد أقبل، وأسمعه يتكلم، فلأتركنك معه، بل قدني إلى مخدعي وعد إليه، وإن كنت تهواني فلا تنسني لديه، نج امرأتك يا رحيو. (تدخل المنزل يقودها رحيو، فيدخل ساتني يتبعه نرم وسوكتي وبتيو.)
الواقعة الرابعة (ساتني - نرم - سوكتي - بتيو)
نرم :
نعم نعم، أنت قادر مقتدر فاجعلني غنيا، لقد طال علي الأمد وأرهقني ضرب السياط، أريد أن أكون غنيا؛ لأضرب بالسياط مثلما ضربوني، ولا يكلفك ذلك إلا كلمتين، فلا تبخل بهما.
ساتني (بقسوة) :
دعني فلست بساحر.
سوكتي :
أما أنا فلا أطلب مالا مثل هذا الأحمق يا مولاي، فدعه واستمع لي أنا، إني أريد منك أن تميت خميس؛ فإنه سلب مني الفتاة التي كنت أهواها وأريد الزواج بها، (يدفعه ساتني فيتمسك بأذياله وهو يبكي)
الرحمة الرحمة يا مولاي، لقد سلب مني روحي فأفقده روحه من فضلك.
ساتني :
دعني.
سوكتي :
أجب ندائي.
بتيو (يتداخل بينهما ضاربا سوكتي) :
انصرف من هنا، إنه لا يريد أن يراك (يخرج سوكتي)
اسمع يا مولاي، انظر كيف صرفته، مرني أضرب لك من تشاء، ولكن استجب دعائي، أريد أن يستقيم عودي فيعتدل قوامي، وتقوى قدماي على حملي مثلك، وعندي في مخبأ مكين ثلاث أساور من ذهب، سرقتها منذ حين، فأعطيك إياها أجرا، وأزيدك شكرا.
ساتني :
اذهب بها لرئيس الكهنة.
بتيو :
لقد أعطيته أربعة مثلها، فلم يفعل لي شيئا. (يقترب نرم وسوكتي، ولكن يدخل رحيو فيهربان، ويتبعهما بتيو منزعجا فيقع فيقوم ويقع حتى يختفي.)
الواقعة الخامسة (رحيو - ساتني - ثم يوما والوكيل)
رحيو :
ماذا يريدون منك؟
ساتني (إلى رحيو) :
إنهم يتبعونني إلى هنا، ويظنون أن لي قدرة فوق قدرة البشر، ويطلبون مني المعجزات.
رحيو :
أو لم يروا منك معجزتين؟
ساتني :
حاشا أن أكون أتيت بواحدة.
رحيو :
بلى وستأتي بغيرهما، وتشفي زوجتي مييريس.
ساتني :
ليس في وسع أحد شفاؤها، لا أنا ولا غيري.
رحيو :
إذن فعدها بالشفاء، ولا تنزع من قلبها الأمل.
ساتني :
وكيف أستطيع الوعد بما لا أملك؟
رحيو :
قل لها إنك ستدعو ربك، وأن قد يأتي يوم ...
ساتني :
لا رب لي أدعوه، ولو كان لهذا العالم رب فهو عظيم القدر، عالي المكانة، بعيد عنا، لا يشبهنا في شيء، فلا تصل إليه أصواتنا، وهل تظن أن عملا من أعمالنا مهما عظمت، أو صلاة من صلواتنا مهما خلصت، يؤثر على مشيئة ذلك الرب؟ إذن لو اعتقدت بوجوده، ثم جعلته خاضعا لإرادة عبيده؛ لكفرت به من حيث تؤمن، وأنزلته منزلة تأباها عظمته وكرامته.
رحيو :
ولكن آلهتنا على الأقل لا تغلق دوننا باب الأمل.
ساتني :
ابق عليها إذا شئت.
رحيو :
لقد زعزعت في قلب مييريس الإيمان بها.
ساتني :
أو آسف أنت على ذلك؟
رحيو :
لم آسف للآن ولكن ...
ساتني :
ماذا تعني؟
رحيو :
أعني أنه يحسن بك أن لا تقطع رجاء مييريس من رد بصرها إليها، وإن كنت واثقا أنه لا يعود، بل منها به.
ساتني :
لئن منيتها لاضطررت أن أمني غيرها بما يرجوه، أفترى إذا كان طفل مريض استطعت بما أوتيت من العلم أن أشفيه وكان ذلك أمرا ميسورا، أو أن امرأة وهمت أنها مريضة، فمست طرف ردائي، فظنت أنها شفيت وكان ذلك مقدورا، أأدعي أنا أني من القادرين، وأحط بنفسي إلى منزلة الكهنة والساحرين؟ لقد كان ورائي الآن قطيع من البؤساء يضرعون، ويزعمون أني نبي أو رسول أو إله مما يعبدون، وأن لي من القدرة ما أستطيع به شفاء مرضاهم، وتحقيق أمانيهم، وكثيرا ما يزعمون، أكان فرضا علي إذن أن أخدعهم جميعا وأوافقهم على ما يدعون؟ لقد أتيت مكذبا لما بين أيديهم، أفأكون أنا أيضا من الكاذبين؟
رحيو (بحدة) :
ها ها، أنت لا تريد أن تكذب، لا تريد أن تكذب على المساكين لتخفف من شقائهم، لا تريد أن تكذب على مييريس لتبقي على بعض آمالها، لا تريد أن تكذب على أحد؟
ساتني :
قط.
رحيو :
إذن فلنر (ينادي جهة اليسار)
يوما، ائتوني بيوما. (إلى ساتني)
وتلك أيضا لا تكذب عليها؟ إذن فإذا أتتك فلتقل لها إنك من البشر مثلنا، وأنك لم تمنح قوة فوق ما لنا، وأنك لم تأت أمس بالمعجزة التي هالتنا، وسترى إذا صدقتك أنها مسلمة نفسها للكهنة أو منتحرة، فما أنت صانع؟ (تدخل يوما وتود أن تركع أمام ساتني، فيمنعها، وفي تلك اللحظة يدخل الوكيل ويلقي كلاما في أذن رحيو فيضطرب رحيو ويقول):
رحيو (للوكيل) :
وهل أقبل؟
الوكيل :
نعم بذاته.
رحيو :
إذن فهذا أمر من فرعون.
الوكيل :
نعم.
رحيو :
ويلاه! (يخرج مع الوكيل).
الواقعة السادسة (ساتني - يوما)
ساتني :
ما بك، وما لي أراك حزينة؟
يوما :
إنك سترغب عني، وقد ظهر أنك إله.
ساتني :
اطمئني فلست بإله.
يوما :
إن لم تكن إلها فأنت منه قريب، وما تتزوج إلا من بنات فرعون.
ساتني :
ستكونين زوجتي.
يوما :
أو تقسم؟
ساتني :
نعم.
يوما :
اقسم بآمون (ترجع في قولها)
بل بربك.
ساتني :
ولكن ربي لا شأن له فيما بيننا.
يوما :
إذن من يتولانا؟
ساتني :
لا يتولانا أحد.
يوما :
إنك تكتم السر عني، أتظنني فتاة ساذجة، أم تهزأ بي؟
ساتني :
ويحك لا هذا ولا ذاك، وما حاجتك إلى قسم وأنا أهواك، وسأتخذك زوجا؟!
يوما (مشرقة) :
أأكون زوجتك؟ أأصبح أنا يوما الحقيرة زوجة رجل يأمر السماء فتنقض؟ (تسكت قليلا)
كلما تذكرت أنك أطلقت الرعود لأجلي ...
ساتني :
كلا أيتها المغرورة، إني لم أطلق الرعد.
يوما :
حسنا، حسنا لقد فهمت، أنت لا تريد أن يعلم الناس أنك عثرت على كتاب الحكمة، كتاب توت، اطمئن سأكتم الأمر (تضع ذراعيها حول عنقه، وتقترب منه مداهنة حتى يكاد وجهها يلمس وجهه)
خبرني كيف وجدته؟
ساتني :
لم أجد هذا الكتاب وما بحثت عنه، وما أحطت برموزه السحرية علما، وما كان لو وجدته بنافعي شيئا.
يوما :
اجلس، ألا تريد أن تجلس؟ يقال إن هذا الكتاب موضوع في ثلاثة صناديق مدفونة في قاع البحر.
ساتني :
لقد قلت لك إني ما وجدته ولا بحثت عنه.
يوما :
إذن فما الذي صنعته حتى أرسلت من السماء نارا؟
ساتني :
لم أرسل نارا من السماء.
يوما :
عجبا! إذن لا أهواك (ثم تقول بخلاعة)
كلا بل أهواك، أهواك، (تسكت قليلا)
إذن لما سافرت بك السفينة كان يعجبك منظري وأنا أجري حافية القدم وراءها على الشاطئ.
ساتني :
نعم.
يوما (بغضب) :
تكلم تكلم، (تداعبه)
أما خنقك البكاء إذ ذاك؟ لا؟ بلى وقد بحت لي بذلك، أما أنا فلا أدري؛ لأني لم أرك إذ ذاك، ولكني رأيتك لما عدت وعلمت أني اصطفيت لأكون قربانا للنيل، رأيت وقتئذ عينيك ... إنك تحبني ... وقلت إنك تحول بيني وبين النيل فما صدقتك، حتى بالأمس أيضا، وبالرغم من أقوالك كنت عازمة على أن أهرب وأذهب إلى الهيكل، فلما تجلت علينا مقدرتك آمنت بك وبقولك، أما هززت السماء والأرض لأجلي؟
ساتني :
كلا.
يوما :
عدنا. أراك لا تثق بي، أتظن أني أبوح بما توصيني بكتمانه؟ (تضع يديها على خدي ساتني)
أما أنت ...؟
ساتني :
قلت لك كلا، وألف مرة كلا.
يوما :
إذن فهي آلهتك، آلهتك التي لا أعرفها.
ساتني :
كلا.
يوما :
إذن فمن؟
ساتني :
لا أحد.
يوما (مستاءة) :
آه (سكوت)
إذن فليست قدرتك فوق قدرة باقي البشر.
ساتني :
كلا.
يوما (يائسة) :
كأني بك تقول الحق؟
ساتني :
ولا ريب فيه.
يوما :
ما أشقاني!
ساتني :
لماذا؟
يوما :
كان ذلك أشهى (سكوت طويل)
ولكن الصعود إلى السفينة المقدسة في النيل أشهى إلى قلبي وأحلى!
رحيو (متأثرا) :
ادخلي يا يوما (إلى الوكيل)
خذها إلى مولاتها وأخبرها بما صار (يخرج الوكيل ويوما).
الواقعة السابعة (رحيو - ساتني)
رحيو :
ساتني، بلغني نبأ هائل! علمت أن فرعون لما شعر أن القوم انصرفوا عنه وأخذوا يكيدون له، أراد أن يكون البادئ بالشر، فكنت أول من أصابتهم نقمته؛ إذ صادرني في مالي، وقضى علي بالنفي من مصر، وقد أتى إلي كبير حاشيته حاملا أمره، يدعوني فيه أن أبارح داري، وأسلم نفسي للجيش المسافر إلى الحبشة.
ساتني :
ألا تستطيع شيئا ضد هذا الأمر؟
رحيو :
نعم أستطيع، أستطيع قتل حامله.
ساتني :
أتقتل؟
رحيو :
اسمع، إني مرشدك إلى وسيلة تروج بها مبادئك، وتخدم بها مصالحي فتحل مكانا عليا، إني مسلح كل رجالي، وسأجعلك عليهم وليا، وسيطيعونك ما شئت؛ إذ يعتقدونك إلها أو نبيا، لا تقاطعني واستمع، سيخشاك الجند فلا يعصون لك أمرا، فإذا قتلنا فرعون وكبير كهنته أصبح لنا ملك مصر طرا.
ساتني :
لا أود القتل.
رحيو :
ليكن ما شئت، فاكتف بأن تنذرهم أنك معيد عليهم ما رأوه من معجزاتك الأولى.
ساتني :
ولا أود الكذب.
رحيو :
إذا كنت لا تود أن تقتل ولا أن تكذب، فلا تمن نفسك يوما أن تصل إلى منصة الأحكام.
ساتني :
إني جئت لأحارب الأفاكين من كهنة آمون، لا لأعمل ما يعملون.
رحيو :
لن تنتصر عليهم إلا إذا حاربتهم بسلاحهم، فاغتنم الفرصة، ولا تنكر ما يعتقده الملأ فيك من القدرة، واعلم بأنك إذا اقتصرت على التأثير على عقولهم دون أوهامهم، لا يتبعونك ولا يستسلمون لك، أنت أكثر منهم علما؛ فلك عليهم سلطان، فإذا أردت أن تسمو بهم إلى قمم المجد، فاربط عيون من يعتريه الدوار منهم عند الصعود.
ساتني :
لا أستطيع.
رحيو :
كأني بك تخشى أن تسود عليهم؟
ساتني :
إنك لا تهتم بسيادتي عليهم، اهتمامك بشفاء غليلك، وتحقيق مطامعك.
رحيو :
إنهم يريدون أن يجروا أهل مصر إلى حرب ظالمة قاسية لا خير فيها والقوم متقاعدون، فلما علموا أنهم للقتال لا ينهضون، أجلوا رحيل الجيش إلى يوم المعجزات؛ إذ تنطق المعبودة بما يشتهون، فغدا تساق تلك الجموع إلى الحرب سوق الأنعام، وأنت قادر على خلاص الألوف منها بتضحية بعض النفوس.
ساتني :
الحق يعلو بلا حاجة إلى الكذب أو الدماء .
رحيو :
يستحيل ، فإن الجموع كالحسناء، تخدعها الأباطيل، فإذا خدعتها أو قهرتها ملكتها.
ساتني :
كفاك ما قلته فاقصر اللسان.
رحيو :
ما أنت إلا عنيد أو أعمى أو جبان. (تدخل مييريس تقودها يوما.)
الواقعة الثامنة (رحيو - ساتني - يوما - مييريس - ثم رجال شتى، وبتيو وسوكتي ونرم)
مييريس :
رحيو ... أين أنت ...؟ (يوما تقودها نحوه)
أصحيح ما علمته؟ أنفيت وصودرت؟
رحيو :
نعم.
مييريس :
تشجع ولا تجزع، أما أنا فلا فرق عندي بين قصر وكوخ.
رحيو (إلى ساتني) :
ألا زلت مصرا على إبائك يا ساتني؟
ساتني :
لقد قلت لك إني لا أحب القتل.
مييريس :
وأنا معك يا ساتني، القتل قبيح ... ولكن أنا، انظر لقد أصبحت فقيرة، وعن قريب سأرحل عن هذه الديار، فهل تنعم علي بالشفاء؟
ساتني (بارتباك) :
لو استطعت لكنت فعلته من حين يا مولاتي.
مييريس :
أعلم أنك قادر، إنك قادر، فأت بمعجزة.
يوما :
نعم ائتنا بمعجزة، وأثبت لنا أن ربك أعز من أربابنا، فإذا لم تفعل فإني ذاهبة بالرغم منك ومن غيرك، لأقدم نفسي للكهنة قربانا أو أنتحر.
رجل (داخلا) :
اشفنا، اشفنا.
ساتني :
لا أستطيع.
رجل آخر :
المعجزات طوع يديك.
ساتني :
لا معجزات.
رجل :
إذن فليست آلهتك بأعز من آلهتنا.
ساتني :
لا آلهة لكم.
الرجال (يزعجهم كفره) :
أوه!
رجل :
لم تصرفنا عن آلهتنا، إن لم تكن لديك آلهة أخرى مكانها؟
آخر :
لن نغفر لك تحقيرك آلهتنا.
رجل :
سنسلمك إلى الكهنة حتى لا تقتص منا الآلهة إذ استمعنا لك.
آخر :
سيقتص منا آمون!
ساتني :
كلا.
رجل :
ستتخلى عنا إيزيس!
ساتني :
لا تسوء حالكم عما أرى.
آخر :
إذن فأثبت لنا أنك أقوى من آلهتنا.
مييريس :
بمعجزة.
رحيو :
إنه أقوى من آلهتنا.
يوما :
ائتنا بمعجزة أو دعني أموت. (الثلاثة يتحدثون معا.)
ساتني :
أتريدون معجزة؟ أتريدون معجزة؟ حسنا، فسترون معجزة عبرة للعالمين، هيا هيا ائتوني من حقولكم بكل مكب على الأرض يحرثها، أو قائم على المياه يرفعها، هيا فائتوني بأرقائكم وأجرائكم، وصناعكم البؤساء وعمالكم، وادعوا إلي قاطعي الأحجار وحاملي الأثقال، وارفعوا عنهم الأسواط ليخلصوا إلي.
مييريس :
وما أنت صانع بهم ؟
ساتني :
أرشدهم إلى ما اختلفتم فيه.
مييريس :
مباغتة بلا تمهيد؟
ساتني :
نعم، بلا تمهيد.
رحيو :
أتظنهم مستعدين لفهم ما تقول؟
ساتني :
أراك خائفا.
رحيو :
كلا، ولكني أعلم أن النهار لا يعقب الليل على الأثر، وأن بينهما شفق الفجر.
ساتني :
إنما أريد أن أريهم نور الحق ساطعا يأخذ سناه بالأبصار، فتشرق عليهم شمس الحقيقة مهتكة الأستار، لا حجاب اليوم ولا أسرار، ومن الضلال إبقاء هذه الأمة في ظلمات الضلال، وتركها تتعثر في أذيال آمالها، ولن تتحقق تلك الآمال، تمنونهم بحياة أخرى؛ لتسلبوا منهم نعيم هذه الحياة، وتستحلون كدهم وأجرهم، وتعدونهم جزاء أوفى باسم الله؟
رحيو :
إنهم قوم فقراء ...!
ساتني :
وهل كان علم الحق وقفا على الأغنياء؟ أما كفاكم أسر الأشباح فتودون أيضا أسر الأرواح؟ ها هم (يدخل تدريجا عبيد وصناع شتى، حتى يمتلئ بهم المرسح وفيهم باخ وسوكتي وبتيو القزم)
ها هم ضحايا الجهل، ها هم إخوان الشقاء. لقد عرفتهم، فقد وسم الذل جباههم، وأحنى الكد ظهورهم، أما أنت راع، أيطعمونك مثل ما يطعمون الأنعام التي ترعاها، أم يثخنون ظهورها بالسياط التي طالما تصلاها؟ إنهم يحقرونك وأنت من البشر، ويقدسون ما ترعاه من الغنم والبقر، وأنت أيها الزارع، تزرع ويحصدون، وتجوع ويشبعون، تقوم نهارك تحت شمس محرقة، تطن في آذانك الزنابير، وتهب في وجهك رياح لافحة؛ كأنها زفرات السعير فتقطع سنابل القمح الغزيرة، ثم تأوي ليلك إلى حفرة حقيرة، فيأكل مواليك مما حصدت أكلا شهيا، وينامون على فرش ناعمة نوما هنيا، وأنت يا رافع الماء من بطن النهر لري الحقول، القائم على عمله من قبل السحر إلى ما بعد الأفول، أتراك أسعد حظا من تلك الماشية التي شدت إلى الساقية؟ وأنت يا نازع الأحجار من بطون الجبال لتقيم آثار مجد وجلال، وحافر القبور في جوف الصخور، وباني الأهرام لرفات وعظام، أين تنام؟ أما في العراء تحت القبة الزرقاء؟ أوقفت حياتك على إحياء ذكر من مات، فكانوا بك أحياء وكنت بهم في الأموات، وأنت يا مربي الأسود ليوم القتال، أين أبوك؟ أما افترسه الأسد فما بكاه أحد؟
فويلكم يا قوم، حتى مم تقيمون على هذا الضيم، كيف ترضون بالشقاء والكد مع الفقر والضعة، ومواليكم لا يعملون وهم في عز وسعة؟ لقد قالوا لكم إن ربا اسمه آمون رع يقول: اصبروا فلن يطول هذا الحيف بكم أكثر من أيام حياتكم ... يا للغفلة أبهذا تنخدعون؟ يقولون لكم: ما دمتم في هذه الحياة الدنيا فكدوا واعملوا، وليجن غيركم ثمرة ما تعملون، واصبروا على الجوع وأنتم غيركم تطعمون، واحتملوا الأسى في سبيل من لا يرحمون، وناموا في العراء يا رافعي القصور والمعابد، واقضوا فاقة يا صانعي السبائك وصانعي القلائد، وانظروا نعمة السعداء منكم ولا تغبطوهم على ما فاتكم، فإن هذا الحيف لا يطول أكثر من أيام حياتكم، ثم إذا انتقلتم إلى الأخرى، وجدتم ثم وجدتم ملكا كبيرا وخيرا كثيرا؛ ألا إنهم من الكاذبين، فلا تصدقوا ما يقولون، فلا هناك كما يدعون برزخ أرواح ولا دار عليين، ولا حياة لكم بعد هذه الحياة لو كنتم تعقلون، ولقد استعبدوكم بما أقاموا لكم من النصب والأزلام، وبما ألزموكم من عبادتها والسجود لها، يقولون لكم اجثوا أمام هذا المعبود فهو منتقم جبار، أو اسجدوا لذاك فهو كريم ستار، وألقوا في أفئدتكم أن آلهتكم ذوو بطش وسلطان، ثم حجبوهم في هياكلهم لا يسمحون لكم برؤيتهم إلا مرة في العام تغريرا بكم وإرهابا لكم، وعلموكم أن ليس لأحد من البشر أن يمس صور آلهتهم، وأن من يمسها يصعق، وسأريكم أنهم كاذبون، هاكم كبيركم آمون
1
أبو الآلهة كما يزعمون، فسحقا له وليكن من الهالكين، ما أنت إلا رجس من عمل الساحرين، فعليك لعنة الأولين والآخرين، بما خدعتهم في آمالهم وما يرجون، من فقير وأسير ومريض ومحزون، عليك لعنة الأجيال الأولى، بما بكت وأنت وتحملت باسمك من البلوى، عليك لعنة المظلوم وقد أخرسه خوف بطشك ونقمتك، عليك لعنة الصابرين بما صبروا أملا في رحمتك، عليك اللعنة بما أصابني منك قائما ومن كهنتك، وبما سيصيبني وقومي بعد زوال دولتك، فمت (يلقي في وجهه معقدا فيحطمه )
وأنتم يا قوم افعلوا مثل فعلي، تسلقوا هذه القوائم، أزيلوا هذه المعالم. لا تخشوهم فهم جماد لا يعقلون، وحطموهم فهم لا يشعرون، ابصقوا في وجوههم، اصفعوهم ما هذا إلا طين! (يهب القوم وكانوا يقاطعون ساتني بتمتمتهم وأصوات استغرابهم، فيقتربون من التماثيل، ويفعلون فعله، وهم يزأرون غضبا واستخفافا، فإذا بدأ أشجعهم بمد يده إلى الأصنام يتبعه الآخرون فيقلبون الآلهة عن مقاعدها.)
رحيو :
والآن أشواني مفتوحة لكم فخذوا منها ما تشاءون (إلى الوكيل)
وليذبحوا لهم من غنمي ما يشبعهم أجمعين. (صياح وفرح، ويخرج القوم متباطئين، وفي أثناء ذلك يقترب بتيو من تمثال ساقط مترددا وبه بقية خوف منه، فيرفصه بقدمه، ثم ينجو بنفسه فيقع فيقوم، ثم ينظر إلى نفسه فلما يتيقن أنه لم يصب بسوء يجلس على بطن أحد الآلهة ويرقص ضاحكا.)
بتيو :
ها ها ها، ها ها ها، ها ها ها. (ثم ينظر تمثال إيزيس الصغير وقد أحاطته مييريس بذراعيها فيشير إلى رجلين فيقتربان من التمثال.)
يوما :
مولاتي، إنهم يرومون أخذ إيزيس.
مييريس (بجزع) :
بل دعوها لي.
رحيو :
كلا يا مييريس.
مييريس (تبتعد عنها) :
خذوها ... بل انتظروا.
رحيو :
ما بالك؟
مييريس :
أأستطيع أن أدعها قبل أن أودعها، إن ساتني لما هاج سخطه على آلهتنا لم يسمها، انظر إليها أنت الذي تستطيع أن تراها، وتذكر كم من الدموع قد سكبتها على صورتها، إنها كانت منذ حلت دارنا كأنها بعض أسرتنا، فكم عيون لامعة بالآمال تعلقت بعينيها المطفأتين كعيني، إني أقدسها لا تقديس المعبودات وقد دالت دولتها، لكن أقدس فيها ذكرى الآلام التي رأتها والدموع التي تلقتها ... صدقت لا بد من تحطيمها، ولكن لأودعها (تخاطب التمثال)
إيزيس إنك لم تشفني، ولكني كنت أجد العزاء في قربك، وعجبا كيف كانت ترتفع لك الأصوات من أعماق القلوب، وأنت جماد لا يسمع ولا يعي؟ لقد عبدك الناس لا لحياة ذاتية فيك، ولكن لحياتك في قلوبهم، وهي بعض حياتهم، فإذا مت اليوم؛ فلأنهم سلبوا منك روحهم التي تعلقت بك، سأسلمك إليهم ليحطموك، فسلاما عليك بما منحتني من الصبر والسلوى، وسلاما عليك بما آتيتني من الآمال وإن خابت، وسلاما عليك بما خففت عن قلبي من الهموم والأحزان! (للرجال)
خذوها وحطموها إذا شئتم، ولكن بإشفاق. (يذهبون بالتمثال.)
ساتني (إلى يوما وقد بقيت بعد خروج القوم) :
انظري يا يوما، قد ماتت الآلهة وأنا حي أرزق، انظري إليهم، أتصدقينني الآن؟ (تنظر يوما إلى التماثيل المحطمة بحزن شديد، ثم تجهش بالبكاء أمام ساتني وهو مندهش.)
هوامش
الفصل الثالث
يمثل المرسح رحبة أمام دار صانع الفخار، على اليمين من وسط المرسح إلى أقصاه طولا وعرضا جدران دار مبنية باللبن، وفيها بابان أحدهما أصغر من الآخر، وعلى أحد الجدران وهو قصير أوان من طين معرضة للشمس لتجف، وعلى يسار المرسح جدار قصير يناله المتكئ، وفي صدر المرسح بين هذا الجدار والدار فرجة ينفذ منها إلى طريق يؤدي للنيل، ولا يرى المتفرج الطريق إنما يرى ماء النهر عن بعد وضفته الأخرى وعليها نخيل ومزارع، ومن وراء الدار يمينا، ووراء الجدار القصير يسارا نخل باسق، منظر الدار حقير والجو صاف وضوء النهار شديد.
الواقعة الأولى (كريبا - ساتني)
كريبا جالسة متربعة أمام رحاة من حجر صغير فوق حجر كبير تطحن عليها حبوبا من الذرة أمام باب الدار، وساتني جالس على حائط قصير يفكر.
كريبا :
ولدي.
ساتني :
نعم يا أماه.
كريبا :
أحقا يا ولدي أنك لا تعتقد أن القمر إنما يأخذ في النقصان؛ لأن خنزيرا في السماء ينهش منه كل يوم قطعة؟
1
ساتني :
كلا يا أمي.
كريبا :
إذن فما هو الحيوان الذي يلتقمه؟
ساتني :
لا يلتقمه حيوان.
كريبا (ضاحكة) :
حقا إن لك أفكارا لا يتصورها أحد، ويدهشني أن أباك يكاد يوافقك عليها، ولأسرع بتجهيز الخبز له، حتى إذا عاد وجده حاضرا.
ساتني :
هذا رسول رحيو.
كريبا (جزعة) :
رسول قاتل الآلهة؟
ساتني :
وهل من لا روح فيه يحيى ويموت؟
كريبا :
لا أود أن أراه. (تجمع الحب.)
ساتني :
لماذا؟
كريبا (لنفسها) :
برررر ... سأبخر المكان غدا بالحشائش المقدسة. (تخرج ويدخل الوكيل.)
الواقعة الثانية (ساتني - الوكيل)
الوكيل :
أتعلم شيئا يا ساتني مما جرى اليوم؟
ساتني :
لا.
الوكيل :
آه! إنها حوادث فظيعة، فظيعة جدا.
ساتني :
أيوما في خطر، أم مييريس، أم رحيو؟
الوكيل :
الجميع بخير في القصر.
ساتني :
إذن؟
الوكيل :
إن بين أتباعنا من استهوتهم الأغواء، فأتوا من الأعمال الذميمة ما يؤسف عليه؛ إذ نهبوا بيت جارنا وقتلوا وكيله.
ساتني :
كيف ذلك؟
الوكيل :
أتذكر ما أمرني به مولاي هذا الصباح بعد تدمير الآلهة؟
ساتني :
كلا.
الوكيل :
بلى، عندما أمرني بأن أفتح لهم خزائن القمح.
ساتني :
نعم نعم، وبعد؟
الوكيل :
فذهبت لأنفذ أمره، ولكني اندهشت لما رأيت القوم قد تجمعوا أمام الباب، وأخذوا يتآمرون فيما بينهم ثم انصرفوا عنا، ويظهر أنهم قصدوا بيت جارنا، فأوغروا صدر أتباعه وأحزابه عليهم؛ إذ أرادوا أن يحطموا تماثيل آلهتهم، وينهبوا خزائن الدار، ولما حضر الجند لصدهم، دارت بين الجند وبينهم معركة قتل فيها نبك الوكيل وغيره، فتفرق المتآمرون، وأمرني مولاي بأن آتي إليك لترد إلى هؤلاء القوم رشدهم، وتردعهم عن غيهم، وقد وجدت بعضهم على مقربة من دارك، كأنهم يريدون الاحتماء بك. ها، انظر، إنهم قادمون (يخاطب القادمين قبل أن يدخلوا)
ادخلوا، تعالوا. إن ساتني يدعوكم (يتقدم فيدخلهم).
الواقعة الثالثة (ساتني - الوكيل - بتيو القزم، ثم سوكتي ونرم)
ساتني (إلى بتيو) :
إلى أين أنت ذاهب؟
الوكيل :
أين تذهب، ومن أين جئت؟
بتيو :
كنت معهم أتبعهم حيث يذهبون.
الوكيل :
من أين جئت الآن؟
بتيو :
جئت مع من جاء، وكان معي سوكتي ونرم.
ساتني :
وأين هما؟
بتيو :
هناك.
الوكيل :
أحضرهما.
ساتني (يتقدم نحو الباب) :
تعال يا سوكتي، وأنت أيضا يا نرم (يدخلان ذاهلين مبهوتين).
الوكيل :
لم تختبئان؟
نرم :
لا نختبئ منك، ولكننا نخشى الجند الليبيين.
ساتني :
ولم تخشونهم؟
سوكتي :
لأنهم يطاردوننا.
الوكيل :
ولم يطاردونكم؟ (ينظر الثلاثة بعضهم إلى بعض.)
ساتني :
أجب يا بتيو.
بتيو :
بتيو لا يدري شيئا.
الوكيل (للآخرين) :
أنتما تدريان؟
نرم :
لقد حسبونا إياهم.
الوكيل :
حسبوكم من؟
نرم :
أظنهم حسبونا أصحاب حادثة الجار.
الوكيل :
إذن قد أساء أصحاب تلك الحادثة، ماذا فعلوا؟ تكلم.
نرم :
إنهم فعلوا عنده ما جعلتنا نفعله عندكم.
الوكيل :
وهل علم الكهنة بما حصل؟
نرم :
كلا، ولكن صاحب الدار أرسل في طلب الجند.
ساتني :
أأرسل في طلب الجند لهذا فقط؟
نرم :
لا أدري.
ساتني :
لو لم يكن إلا ما تقول، لما أرسل في طلب الليبيين؛ فإنه من حزبنا ويعتقد ما نعتقد، لا بد في الأمر من سر، تكلم. (يتثاءب بتيو حتى يسمع صوت تثاؤبه)
تكلم.
سوكتي :
نعم.
ساتني :
ما هو؟
سوكتي (إلى نرم) :
تكلم.
نرم :
قد كانوا مغتاظين من صاحب الدار؛ لأنه شرير.
الوكيل :
نعم إنه قاس، ولكنه كريم لا يبخل بالكثير على الفقراء.
سوكتي :
نعم، يعطي في الدنيا ليأخذ في الأخرى.
نرم :
أي بعد موته.
ساتني :
والآن لا يعطي؟
نرم :
مطلقا.
ساتني :
عجبا!
بتيو :
لا يعطي الآن شيئا حتى جاعت البطون و... (يضحك).
نرم :
ولكن شبعت الظهور مما تطعمها سياطه.
سوكتي :
وهذا لا يغني من جوع.
نرم :
فطلب عبيده قمحا ليأكلوه.
بتيو :
فأوسعهم ضربا حتى أشبعهم (يضحك).
الوكيل :
أما أخذوا من القمح ما منعوه؟
بتيو :
الجوع (يضحك ويرقص).
ساتني :
أكنتم عالمين بما هم فاعلون؟
سوكتي :
نعم.
الوكيل :
ولم انضممتم إليهم وقد دعاكم مولاي رحيو إلى خزائنه؟
نرم :
خطر ببالنا أنه خير لنا أن نأخذ من قمح ذلك الرجل اللئيم، بدل قمح سيدك الكريم.
سوكتي :
وهذا عدل.
بتيو (إلى الوكيل) :
ألا يسرك هذا فيبقى القمح في خزائنك؟ (يضحك ويضحك معه رفيقاه.)
نرم :
إننا نحبك أنت.
بتيو :
نعم؛ لأنك رجل كريم، ونحن معك كرام.
سوكتي :
وهذه هي القصة.
بتيو (يجمع أفكاره) :
انتظر، أما ذلك الرجل فهو لئيم، فنحن معه لئام (لرفيقيه)
أليس كذلك، هه، أليس كذلك؟ (الجميع يشمخون بأنوفهم ويضحكون)
أما وكيله نبك فقد كان لئيما مثله فمات وحسنا فعلوا.
ساتني :
ماذا تعني؟
سوكتي (ضاحكا) :
إنهم أخذوا الوكيل ثم ... (يضحك ولا يستطيع إتمام الكلام من الضحك).
نرم :
ثم أدوا له ما هم مدينون به من ضربات العصا.
ساتني :
أرأيته؟
نرم :
نعم.
سوكتي (بشمم) :
وأنا أيضا، وأنا أيضا.
بتيو :
وكم ضحكنا لأن ... لأن الوكيل سمين ... وطويل أيضا، ومع ذلك ألقوه ... ألقوه على الأرض فسقط كما أسقط أنا، مثلي أنا بتيو، مع أنه كبير وطويل، فسررت (يلعب بتيو بإحدى قدميه أثناء ما يأتي).
الوكيل :
إنهم أساءوا صنعا.
نرم :
كلا، ومع ذلك فقد كان ذلك الوكيل شيخا، ونال من اللذات ما كفاه.
سوكتي :
نعم كان شيخا، وحسنا فعلوا إذ قتلوه، لقد كان سمينا جدا، وما أظنه إلا امتلأ من لذات الدنيا حتى لم يعد يطيق فخلصوه.
نرم :
صدق، ومثل هذا يجب أن يرحل ليخلو المكان لغيره.
ساتني :
ولكن القتل حرام.
سوكتي :
وما يضر القتل؟
نرم :
نعم، قتل رجل كريم حرام، ولكن قتل رجل لئيم حلال.
ساتني :
رب من تظنه لئيما كان كريما وأنت لا تدري.
سوكتي :
لو لم يكن لئيما لما ظننته كذلك.
الوكيل :
أنت لم تفهم، فاسمع، أنا لست رجل سوء في نظرك ...
سوكتي (مقاطعا) :
ولهذا لا يريدك أحد بسوء.
الوكيل :
دعني أتمم كلامي، أتذكر «كوب» العبد الأسود، فهذا مثلا كان يظنني من أهل السوء.
نرم :
نعم.
الوكيل :
فإذا كان قتلني؟
بتيو :
ولكن نحن لسنا عبيدا سودا مثله.
الوكيل :
أنتم لا تفهمون، تدبروا قليلا فيما أقول، إنه كان يظنني رجل سوء مع أني لست كما يظن، فكان يعد معذورا إذا قتلني حسب قولكم. (الجميع يطرقون مفكرين.)
سوكتي :
فهمت، أنت تقول إن ذلك العبد لو كان قتلني ... لا ليس كذلك.
ساتني :
يجب على المرء أن يحترم النفس البشرية. (يطأطئون الرءوس باحترام موافقين كيلا يطول الأخذ والرد، وفي تلك الأثناء تسقط من نرم صرة، فيسرع بالتقاطها، ويحاول إخفاءها، والخروج بها قبل أن يلحظه أحد.)
الوكيل :
ما الذي معك؟
نرم :
لا شيء، هذا شيء لي.
بتيو (يبدأ بفتح الصرة) :
هذا، هذا عقد! أرنيه.
نرم :
نعم عقد.
ساتني :
من أين لك هذا؟
نرم :
سلبته من صاحب الدار.
ساتني :
وتظن أنك أحسنت صنعا؟
نرم (مترددا) :
ولكن ... نعم.
ساتني :
لقد وهمت.
نرم :
لا تخف، فإنه لم يرني أحد.
ساتني :
ولكنه أمر قبيح.
نرم :
لا، إنما القبيح ما يؤذيني فعله، وحيث لم يرني أحد فلا خوف علي، إذن فما فعلته غير قبيح.
ساتني :
إذا كان هذا الفعل لا يؤذيك، فإنه أذى صاحب العقد.
نرم :
لديه غيره.
سوكتي :
وهو يتمتع بتلك الحلي من زمن طويل، ونرم لا شيء عنده، وما هذا عدل، وكذلك أنا فإني لم أملك قط مثل هذا. (يخرج من صدره سوارا.)
ساتني :
وأنت سلبت هذا السوار؟
سوكتي (فرحا) :
إنه لي.
ساتني :
أراكم فرحين (يضحكون).
نرم :
وبتيو ...؟
ساتني وسوكتي :
نعم وبتيو؟
نرم :
إنه نال خيرا من هذا كله.
الوكيل :
ماذا؟
بتيو :
جارية.
الوكيل :
أسبيتها قهرا؟
بتيو :
ما رضيت بي أنثى قط طوعا.
سوكتي :
ولكنها فرت منه.
بتيو :
نعم (ويبكي).
ساتني :
عليكما أن تردا هذا العقد وهذا السوار لصاحبهما.
نرم :
نردهما؟ ولكن لديه غيرهما.
ساتني :
هذا لا يعنيك، أإن كنت بائع عطر مثلا، أتجد من العدل أن يأتي إليك رجل فيسلبه بحجة أن ما لديك منه كثير، وأن ليس عنده منه شيء؟
نرم :
إنك تقول أشياء يصعب علي فهمها.
ساتني :
عليك أن ترد هذا السوار يا سوكتي.
سوكتي :
أمرك يا مولاي.
ساتني :
وأنت يا نرم ترد العقد.
نرم :
أمرك يا مولاي. (يسود عليهم الحزن ويسكنون.)
ساتني :
أراكم متأسفين، أشعرتم بأنكم أخطأتم فيما فعلتم؟
سوكتي :
نعم، أخطأنا.
ساتني :
حسنا.
نرم :
نعم أخطأنا إذ أخبرناك بما فعلنا؛ لأننا نراك قد استأت.
ساتني :
إني استأت لما فعلتم، فأردت أن أرشدكم إلى ما فيه خيركم.
نرم :
إذن فما كنت تقوله لنا غير صحيح، والنعيم والجحيم موجودان.
ساتني :
كلا.
نرم :
إذا لم يكن إله يجزينا على ما فعلنا؛ لأنه لا إله ولا إنسان يعاقبنا على ما اقترفنا؛ لأنه لم يرنا أحد فممن نخاف؟ (سكوت)
ومع ذلك سأرد العقد.
سوكتي :
أما أنا فلن أرد السوار؛ لأني لم أسرقه إنما الذي سرقه أحد عبيد صاحبه.
الوكيل :
ولكنه معك.
سوكتي :
نعم، أخذته منه.
الوكيل :
أأعطاه لك طوعا؟
سوكتي :
إنه لم يمنعه؛ إذ كان جريحا ومحتضرا.
ساتني :
كان عليك أن تسعفه.
سوكتي :
لم تكن بيننا معرفة.
ساتني :
ولكنه إنسان مثلك.
سوكتي :
وكم في الناس مثلي ومثله!
ساتني :
تجب عليك إغاثة الملهوف.
سوكتي :
وما جزائي على ذلك؟
ساتني :
اغتباطك بفعل الخير.
سوكتي :
إنه لا يعادل اغتباطي بحيازة السوار.
ساتني :
إن السعادة في فعل الخير وترك الشر، فإذا أردت أن تحسن إليك الناس فأحسن إلى الناس، وإذا خشيت أن يسيئك أحد فلا تسئ إلى أحد، أفهمت؟
سوكتي (واجما) :
نعم.
ساتني :
وأنت؟ وأنت؟
نرم وبتيو (كل بلهجة تخالف لهجة الآخر) :
نعم. نعم.
الوكيل (إلى سوكتي) :
أعد ما سمعته.
سوكتي :
إذا كانت الناس لا تسرق أساور ...
الوكيل :
وبعد؟
سوكتي :
لا تسرق أساور ... (ويضحك).
ساتني (إلى نرم) :
وأنت؟
نرم :
إنه أخطأ إذ أخذ السوار.
ساتني :
لماذا؟
نرم :
لأنك غضبت.
ساتني :
كلا، ليس لأجل ذلك.
سوكتي :
أنا لم أخطئ.
نرم :
بل أخطأت، انتظر، لقد فهمت؛ إذا سرقت فقد يأتي رجل آخر ويسرقك، وكذلك إذا قتلت.
ساتني :
أصبت، ولماذا يجب عمل الخير؟
نرم :
انتظر (إلى سوكتي)
وإذا صنعت خيرا مع إنسان لا تعرفه، فقد يأتي إنسان آخر لا يعرفك فيصنع لك خيرا.
الوكيل :
حسنا، حسنا، أفهمت الآن يا سوكتي؟
سوكتي :
أظن أني فهمت.
ساتني :
قل، ماذا فهمت؟
سوكتي (بعد عناء طويل) :
فهمت أنك لا تريد أن يسرق أحد أساور.
ساتني :
بل أريد أن لا يسرق أحد شيئا مطلقا، أفهمت؟
سوكتي :
لا.
الوكيل (إلى بتيو وهو مصغ بانتباه شديد) :
وأنت؟
بتيو :
أنا؟ أنا بي دوار شديد. (يتحادث ساتني مع الوكيل فينسحب بتيو وسوكتي خفية.)
الوكيل :
انظرهما!
ساتني :
إن الشجرة التي قوس الدهر جزعها لا تقومه في يوم.
الوكيل :
مثل هذه الشجرة تترك على حالها أو تنزع من جذورها.
ساتني :
بل نحاول بالصبر تقويم جزعها ما استطعنا (بشدة)
وعلى كل حال يجب أن لا نهمل النبت الناشئ كيلا يعوج عوده. (يسمع صراخ من الخارج.)
الواقعة الرابعة (ساتني - الوكيل - نرم - ثم مييريس ويوما)
الوكيل :
ما هذا الصراخ؟
ساتني :
أظنه من نساء تولاهن الجزع. (تدخل يوما قائدة مييريس وهما مضطربتان.)
يوما :
ادخلي بنا يا مولاتي، تعالي، نحن هنا في منزل صانع الفخار أبي ساتني . ساتني، النجدة النجدة! أسرع أسرع، أباك يا ساتني.
ساتني :
مييريس! يوما! ماذا أتى بكما؟
يوما :
سنخبرك بعد، الحق به أولا.
مييريس :
أسعف أباك إنه جريح، وقد أرسلت إلى القصر ليأتوني بمن يلقي السحر على الروح الخبيثة فتخرج من جسمه.
يوما :
أحاط بنا قوم ...
مييريس :
ولكنه دافع عنا ... ويلاه! إنهم سيجهزون عليه، اذهب (يتناول ساتني والوكيل ما مع نرم من السلاح ويخرجان عدوا)
يوما، إنه جرح، جرح وهو يذود عنا، مع أنه من العبيد.
نرم :
مولاتي ...
مييريس :
أسرع إلى القصر وأتني بمطاردي الأرواح الخبيثة.
يوما :
آه يا مولاتي، إني أخشى عليه، فقد خلفته طريحا على الأرض.
مييريس :
سيخلصونه، ويأتون به إلى هنا.
يوما :
وهل يأتون به حيا؟
مييريس (إلى نرم) :
طر إلى القصر يا نرم، أما تسمع؟ أسرع وقل لهم أيضا أن يرسلوا إلينا النائحات والنادبات، وكل ما يلزم الميت عند الوفاة، فإذا مات في سبيل الدفاع عنا، فإني أريد أن يحتفل به احتفالهم بي إذا مت.
الواقعة الخامسة (مييريس - يوما)
مييريس :
والآن أرشديني يا يوما إلى طريق النيل.
يوما :
أتريدين الموت يا مولاتي، أبلغ بك اليأس إلى هذا الحد؟
مييريس :
وا أسفاه! وا أسفاه! لم لحقت بي لما هربت من القصر، فتبعتني وأرجعتني؟
يوما :
ألم أفطن إلى قصدك يا مولاتي؟
مييريس :
وهل بقي للحياة معنى فأعيش؟
يوما :
ولكنك كنت بالرغم من مصابك متعلقة بالحياة، فما الداعي ليأسك اليوم؟
مييريس :
ما أعظم الفرق بين أمس واليوم! إلى الأمس كنت آمل أن أشفى بمعجزة.
يوما :
ربما كانت تلك المعجزة لا تحصل.
مييريس :
نعم، ولكني كنت لا أنفك عن ترقبها، حتى تفارق روحي البدن.
يوما :
لكنك تدركين إذ ذاك أن ما عللوك به كان خرافة، وأن لا شيء بعد الموت.
مييريس :
سواء صدقوا فيما زعموه أو كذبوا، فالإيمان بما وراء الموت عزاء وسلوى، أترين إذا أنا مت، لأستقبلن المنون بثغر باسم؛ إذ أكون على وشك اللقاء بولدي المحبوب في العالم الآخر، إن فقد أم ولدها يا يوما، مصاب شديد لا تكاد الأم تصدق به، وكأني بالذي قدر هذا الفراق الأليم، أراد أن يخفف من وقعه، فألهم الأم العزاء الجميل؛ إذ ألهمها أمل اللقاء القريب، فهي تقول في نفسها: ما هذا إلا فراق وبعد الموت التلاق ... قد يكون ما تدعيه يا ساتني صادقا، ولكن إذا كان مذهبك يقضي على الأم، بقطع الرجاء من لقاء صغير ثكلته، أو عزيز فقدته، ويجعل الموت سدا بين الحياة والآمال، فأبشر بأننا معشر النساء أول من يكفر بك وبمذهبك.
يوما (بحرقة) :
مولاتي لا تصدقي ما يقول، لا تصدقي.
مييريس :
وا أسفاه، لقد خاب الرجاء!
يوما :
لا تصدقي يا مولاتي.
مييريس :
كيف؟ ولو كانت آلهتنا موجودة لانتقمت منا على تحقير تماثيلها.
يوما :
أما ترينها انتقمت منك من قبل تحقيرها.
مييريس :
تقولين ذلك رأفة بي يا يوما، وتحاولين رد الإيمان إلى قلبي، مع أنه تزعزع في قلبك.
يوما :
وما أدراك يا مولاتي إنه لم يتزعزع.
مييريس :
لقد أبيت تقديم نفسك قربانا ... وخيرا صنعت.
يوما :
ما أبيت.
مييريس :
ما أبيت؟
يوما :
كلا، وهل تعلمين كيف عرفت اليوم أنك بارحت القصر؟
مييريس :
كيف علمت ذلك؟
يوما :
كنت أحاول الهرب أنا أيضا.
مييريس :
كنت تحاولين الهرب؟
يوما :
نعم، لأذهب إلى الهيكل، وأسلم نفسي إلى الكهنة؛ ليقربوها إلى آمون الذي اصطفاها.
مييريس :
وهل ما زلت على اعتقادك بهذه السخافات؟
يوما (بصوت منخفض) :
لقد رأيت إيزيس يا مولاتي.
مييريس :
أأبقوا إذن على بعض تماثيلها؟
يوما :
ما تمثالا رأيت يا مولاتي، بل أبصرت إيزيس نفسها، رأيتها رؤيا العين ...!
مييريس :
رأيتها! أنت رأيتها؟ وكيف رأيتها؟ لا أدري كيف يرى الإنسان؛ إذ لا أفهم تماما معنى الرؤية.
يوما :
لقد كلمتني.
مييريس :
وسمعت صوتها؟
يوما :
سمعت صوتها.
مييريس :
كيف ذلك؟ كيف ذلك؟ أكنت نائمة فتمثلت لك في الرؤيا؟
يوما :
ما كنت نائمة، بل رأيتها في اليقظة، وسمعت صوتها؛ إذ كنت في خلوتي أبكي، فإذا بحركة شديدة ملأت نفسي رعبا، ثم انبلج نور بهر عيني، وشممت عرقا طيبا انشرح له صدري، ورأيت المعبودة قد تجلت علي بجلالها وجمالها، وما لبثت أن اختفت.
مييريس :
وكيف إذن سمعت صوتها؟
يوما :
عادت إلي في الغد، وكلمتني بعد أن نادتني باسمي، وقالت لي: إن خلاص مصر في يديك.
مييريس :
ولم أخفيت ذلك عنا؟
يوما :
خشيت أن لا يصدقني أحد.
مييريس :
ما أسعد حظك يا يوما! إنك لا تدرين مبلغ ما أصابني من الألم بعد أن ذهب من نفسي إيمانها، وتزعزعت فيها معتقداتها، وخاب في الثواب والمآب رجاؤها، وقد خجلت من نفسي كيف خدعوها بترهاتهم وأباطيلهم تلك السنين الطويلة، ومع ذلك، فماذا أفادني الآن ظهور الحق وبطلان تلك الأباطيل؟ خلا قلبي من الإيمان بها، فأصبح كدار أصابها حريق فأمست خالية خاوية لا يرى فيها إلا أطلال ورماد (تمسح دموعها)
أراني كامرئ جائع فاته الطعام ولا يجد ما يسد به رمقه، أو ظامئ منع الماء فلم يرو غليله، أو عار نزعت عنه ثيابه فلا يجد ما يستره، كنت عمياء البصر، فأصبحت روحي أيضا عمياء، فمن لي بشعاع من نور الأمل، يضيء به روحي؟ من لي ولو بأمل كاذب، يحل محل الأمل الخائب؟
يوما :
ما لك والكاذبين؟ تناسي ما سمعته، واذكري ما لقنتك أمك، إذا كانوا حطموا آلهتنا في تماثيلها، فأحيي أنت ذكرها في قلبك، ألا بذكرها تطمئن القلوب.
مييريس :
نعم نعم، سأحيي ذكرها في قلبي، لقد نبهوا عقلي، فزعزعوا معتقدي، فلأخالف عقلي ولأعد إلى آلهتي، فإن لم أستطع الإيمان بها كل الإيمان، فلا أقل من أن أفعل ما يفعل المؤمنون، وإذا كانت آلهتي كاذبة، فلأتمسكن بها حتى يخيل لي أنها من الصادقين، نعم وإني مقدسة تلك الأباطيل، مصدقة تلك الترهات، ممجدة تلك السفاسف، عابدة تلك الصور المشوهة، راكعة أمام تلك النصب الجامدة، ساجدة لتلك الأحجار الهامدة (تركع)
ويلاه لقد كنت ونفسي فارغة منهم كغابة بلا طير، وشجرة بلا ثمر، ونهر بلا ماء ... لا شك أن الإيمان جنة النفوس.
يوما (راكعة) :
وحياتي قربان لهم لو يتقبلون.
مييريس :
إنما الإيمان الأمل، والأمل غاية الحياة.
يوما :
أريد تقديم نفسي قربانا لخالقها.
مييريس :
ألا ترين يا يوما أن النفس مندفعة إلى الاعتقاد بقوة فوق قدرة البشر؟
يوما :
وهل يستغني الفقير عن الكريم؟
مييريس :
ولا يستغني الضعيف عن القوي.
يوما :
إذا لم يكن لنا رب فلمن نشتكي؟
مييريس :
ومن ندعو لتخفيف آلامنا، ومن نشكر على تحقيق آمالنا؟
يوما (منتحبة) :
ما أشقانا وأتعسنا لو تخلى عنا إلهنا!
مييريس (تندفع إلى أحضان يوما) :
لا أود أن يتخلى عني، لا أود أن يتخلى عني.
يوما :
إنه لا يتخلى عن المؤمنين به.
مييريس :
آلهة! آلهة! لا بد لنا من آلهة، الأرض دار السقام، ومهبط الآلام، فلتكن السماء دار الرحمة ودار السلام، تجل يا آمون على خلقك، واظهر لعبيدك.
يوما (بعد سكون) :
تجلي علينا يا إيزيس! ارحمينا (تصرخ منفعلة)
مولاتي أظن أنها ستظهر لي مرة أخرى، إيزيس! مولاتي أسمعت؟
مييريس :
لم أسمع شيئا.
يوما :
وهذه الألحان وهذه الأناشيد؟ ها هي!
مييريس :
لا أسمع شيئا.
يوما :
إنها تتكلم ... نعم أيتها المعبودة.
مييريس :
أترينها؟
يوما (منبهرة) :
أراها وها هي مقبلة علينا!
مييريس :
أيتها المعبودة ...
يوما :
لقد اختفت. لم تتمكني من رؤيتها يا مولاتي، ولكن أما سمعت خطاها؟
مييريس :
نعم، أظن أني سمعتها. أظن، وكفى بذاك عزاء.
يوما :
ما أسعدني! إلى الهيكل، إلى الهيكل. لقد أشارت إلي بيدها قائلة: إلى الهيكل، هيا بنا يا مولاتي إلى الهيكل.
مييريس :
هيا بنا إلى الهيكل، ولنصل لهم (تخرجان مسرعتين).
الواقعة السادسة (ساتني - باخ - رجال، ثم الساحر ومساعداه، وكريبا) (يدخل الساحر ومساعداه يليهما باخ محمولا على محفة، ووراؤه وزوجته كريبا، ويحيط بها ويسندها نساء يدخلن معها إلى المنزل ليوصلنها، يأخذ الساحر قليلا من الطين من صندوق يحمله أحد مساعديه فيكوره في يده، ويبدأ يقول بصوت أغن):
الساحر :
يا باخ يا ابن ريتي جرحت فحلت في جسمك روح خبيثة، فسأتلو عليك ما يذهب بها «إن فضائل هذا الذي أمامي يتألم؛ فضائل أبي المعبودات، وفضائل جبينه، فضائل جبين تومو، وفضائل عينيه، فضائل عين حوريس مبيدة المخلوقات» (سكوت).
باخ :
ابتعد عني.
الساحر :
شفته العليا إيزيس، وشفته السفلى نفتيس، وعنقه عنق المعبودة، وأسنانه سيوف، ولحمه أوزيريس، ويداه من أرواح الآلهة ، وأصابعه ثعابين زرقاء وحيات من أولاد المعبودة سلكيت.
2
باخ :
ابتعد عني فما عدت أعتقد بسحرك.
الساحر (يخرج من الصندوق تمثالا صغيرا) :
حوريس هنا، رع هنا، نادوا أولياء عين شمس ...
باخ :
أما انتهيت. (يدفع بيده التمثال عندما يقربه منه الساحر فيسقط التمثال.)
الساحر :
إن الأرواح الخبيثة التي حلت في جسمه أقوى من التعاويذ، فهو لا شك هالك، ولا يجب أن يحضر وفاته إلا ابنه فقط، فاخرجوا أجمعين. (يخرج الجميع إلا باخ وساتني.)
الواقعة السابعة (ساتني - باخ)
ساتني :
أبي.
باخ :
أأنت هنا يا ولدي؟ أحسنت، لقد سررت بانصراف هذا الساحر الكاذب، فاشفني أنت.
ساتني :
ستشفى يا والدي، فاصبر يأتك الشفاء.
باخ :
بل اشفني حالا.
ساتني :
لا أستطيع.
باخ :
لم لا تريد شفائي؟ أما تراني مجروحا؟ إني متألم فهيا أسعفني.
ساتني :
لو كان الأمر في يدي لجدت بكل ما عندي في سبيل شفائك.
باخ :
إنك تعرف من التعاويذ ما يجهله كهنتنا، فاتلها علي.
ساتني :
لا أعرف شيئا من هذه التعاويذ.
باخ :
لا أظنك تدعني أموت.
ساتني :
لن تموت، فاطمئن.
باخ :
أطمئن، وبم أطمئن (سكوت)
ألا تريد أن تشفيني؟
ساتني :
لا أستطيع.
باخ :
إذن أنت لا تستطيع إلا التدمير. ولدي ارحمني، إن دمي يسيل وحياتي تسيل معه، ولا أريد أن أموت (بشدة)
لا أريد، لا أريد. لا تترك يدي، لا تتخل عني، أريد أن أحيا، أريد أن أعيش، لقد قضيت حياتي دائبا مكبا على العمل، فكم شقيت وكم تألمت. ساتني أتدعني الآن أرحل قبل أن أتمتع بالراحة والسعادة كما وعدتني؟
ساتني :
آه يا والدي!
باخ :
أتبكي؟ ويلاه! إذن قضي الأمر! نعم، أرى ذلك في عينيك (يتلفت)
وهذا السكون الذي حولي؟ آه، الموت! الموت! (سكون طويل)
وبعد ماذا يكون؟ (سكون)
ألا تجيب؟ إذن فهذه غاية فقير مثلي؛ كد في الحياة، وشقاء في طلب الرزق، وفقر مدقع، وحرمان من كل لذة، ثم موت؟ أموت وينتهي كل شيء؟ لا جزاء ولا عقاب؟ أنتهى كل شيء؟ (بشدة)
ساتني، ساتني، رد علي يقيني، رد علي إيماني، آه لم ولدت أيها الكافر المضل؟ أولدت لتهدم، وهل العدم مذهبك؟ لا كنت يا نذير الخراب! لقد تمكنت فأقنعتني بكذب ما يعبدون، فرد لي الآن إيماني، أو أثبت لي أنك من الصادقين، ردني إلى سذاجتي وجهلي، فقد كانا عمادي رد لي إيماني.
ساتني :
لا تيأس.
باخ :
كيف لا أيأس، ولا دار بعد هذه الدار، ولا جنة للصابرين؟
ساتني :
بلى يا أبت، وسترفع إلى دار عليين.
باخ :
أنت الآن من الكاذبين، وأراك تغرر بي، لا أوزيريس، لا أوزيريس لا شيء بعد هذه الحياة، فعليك اللعنة بما علمتنيه، وعليك اللعنة بما سلبتنيه، رد علي إيماني. (يحاول القيام فيسقط من السرير فيحمله ساتني باحترام ويرده إلى مرقده)
أيها الولد الضال، والرجل المضل، عليك اللعنة! ليتني أستطيع الآن فأنتقم منك، اقترب مني، اقترب أيضا (يقبض على عنقه)
آه، ليت لي قوة، فأنشب أظافري في عنقك، ها ها يا ملعون. (يفرج عنه ويسقط ميتا.)
ساتني (مرتعبا) :
لقد مات، يا أماه يا أماه (يصلح وضع والده)
آه يا والدي المسكين ليت كل الحقائق كانت كاذبة، فلا أبكيك اليوم! (يجثو باكيا ويداه ممدودتان على جسم والده فتدخل كريبا.)
كريبا :
هل مات؟
ساتني :
نعم، وا أسفاه!
كريبا :
ويلاه، ويلاه! سيدي مات، وا أسفاه! مات السيد، مات السيد، مات السيد!
الواقعة الثامنة (ساتني - باخ ميتا - كريبا - ثم النائحات)
النائحات :
مات السيد، مات السيد!
كريبا :
وا سنداه! وا أبتاه!
النائحات :
وا سنداه! وا أبتاه!
كريبا :
وا ولداه! وا ولداه!
النائحات :
وا أبتاه! وا ولداه! (يرتمين على الجثة صارخات، ويلطمن صدورهن بقبضة أيديهن وهن يرقصن رقص النائحات في المآتم دون أن ينتقلن من أماكنهن، وينحنين إلى الأرض فيحثين التراب على رءوسهن.)
3
كريبا (تنحني أمام الجثة) :
إلى أبيدوس،
4
إلى أبيدوس! إلى أوزيريس،
5
إلى أوزيريس!
النائحات :
إلى أبيدوس، إلى أوزيريس!
كريبا :
في يوم حشر الناس، نجمع معا يا باخ.
النائحات :
إلى أبيدوس، إلى أوزيريس! (يقلدن بأيديهن صورة أخذ الجثة وحملها، وهي حركة من الطقوس الدينية.)
كريبا :
يا نصيبي يا شقيقي يا حبيبي
لا تبارح دار أنسك وصفاك
لا تبارح أرض بيت قد رعيته
لا تبارح قلب زوج قد رعاك
اتركوه، اتركوه، اتركوه
كل قصدي في حياتي أن أراك
النائحات :
إلى أبيدوس، إلى أوزيريس!
كريبا :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
النائحات :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود (يشرن إليه).
دليثي :
بعد أن أبكيك، حنو ترثيك، ثم يتلو ولدك الكلمات السحرية، إذا لقيت أوزيريس، والقضاة الاثنين والأربعين، في محكمته الربانية، ونصب لك الميزان، وسئلت عن أعمالك، فقل إنك فعلت الخير، وما أتيت الشر، ولم تخالف قط الأوامر الإلهية.
ساتني :
أما أنا فلا أتلو الكلمات السحرية.
النائحات :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
حنو :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، وبعد أن أبكيك، نوريت ترثيك ثم يتلو ولدك الكلمات السحرية، فإذا لقيت أوزيريس وقضاته في المحكمة الربانية، فقل إنك أطعمت الفقير، ونصرت المسكين، ولم تنهب هيكلا للآلهة، ولم تقتل قط نفسا بشرية.
ساتني :
لن أتلو كلمات لا فائدة منها.
النائحات :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود.
نوريت :
لا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، يتلو عليك الكلمات السحرية، فإذا لقيت أوزيريس فقل له إنك لم تنزع عن الموتى أكفانها، ولم تبخس الكيل والميزان، ولم تصد الحيوانات المقدسة، قل له إني عفيف.
النائحات :
إني عفيف، إني عفيف!
كريبا :
قل له أعطني اليوم جزائي، فإني عفيف، أعطني مما تعطي السماء، أعطني مما تخرج الأرض، أعطني مما يأتي به النيل من منابعه القاصية الخفية، ولا تيأس ولا تقنط، فساتني اليوم موجود، يتلو عليك الكلمات السحرية. (يسكتن جميعا ناظرات إلى ساتني.)
ساتني :
كلا لن أقول شيئا. (يندهشن جميعا.)
كريبا (تقترب منه واضعة يديها على كتفيه) :
اتل الكلمات السحرية.
ساتني :
لا أتلوها (ويبتعد).
كريبا :
إذن عليك اللعنة! (تسقط مغمى عليها، فتسرع إلى إسعافها النساء، ويشهق ساتني بالبكاء.)
هوامش
الفصل الرابع
يمثل المرسح داخل معبد به أعمدة غليظة كالأبراج، وعليها نقوش هيروغليفية، وعلى يسار المعبد الهيكل، وفي مقدمة المرسح سرداب صغير ظاهر للمتفرجين، وخاف عن الممثلين، وبه آلات المعجزات ، وهي عبارة عن رافعة وحبال، وفي وسط المرسح عرشان متقابلان ومسندان إلى عامودين، وأحدهما فخيم معد لجلوس فرعون، والآخر بسيط معد لرئيس الكهنة، الكهنة قائمون للصلاة ينشدون.
الكهنة (نشيد) :
يا أبا الإحسان، يا إلهي، يا صفا ضيا الأكوان، رحمتك، واهدنا للهدى، رب الصلاح، يا إله الناس، آمون، أسبل الغفران. يا علي، يا قوي، يا متين، يا عظيم الشأن، بالجود والينا، يا ضيا الأكوان. رحمتك واهدنا للهدى، رب الصلاح. يا إله الناس، آمون، أسبل الغفران. (يدخل فرعون منفعلا ووراءه الضابط يعدو مضطربا، فيجلس فرعون على عرشه، ويتقدم نحوه الكهنة محيين، فيشير لهم فيجلسون على المقاعد حول العرشين.)
الواقعة الأولى (فرعون - رئيس الكهنة - ضابط - شيخ هرم - ستة كهنة)
فرعون (للضابط غاضبا) :
ويلك! سأجعلك عبرة للعالمين.
الضابط :
أفرعون، حباك آمون رع الصحة والحياة والقوة ...
فرعون :
وما فعلت فيما أمرتك به؟
الضابط :
مولاي يا ملك المصرين، يا صديق رع وحبيب موتو، منحك آمون ...
فرعون :
كفى، ماذا فعلت؟
الضابط :
ليتني مت ...
فرعون :
ستموت قريبا فلا تعجل، ولكن لم لم تنفذ أيها الكلب الحقير ما أمرتك به؟
الضابط :
ساتني ...
فرعون :
ساتني، نعم ساتني المجرم أين هو؟
الضابط :
أفرعون، ليكن آمون وسوخو ورع وحوريس ...
فرعون :
ويلك! سأريق دمك على طرف العصا، ساتني، أين ساتني؟ لقد أرسلتك لتأتيني به فأين هو؟
الضابط :
لا أدري.
فرعون :
ويحك يا خائن! ما أنت إلا شريكه!
الضابط :
يا لآمون!
فرعون :
أذهبت إلى دار أبيه ودار رحيو؟
الضابط :
بحثنا عليه فيهما فلم نجده.
فرعون :
إذن هرب.
الضابط :
لا أدري.
فرعون :
يا لك من خائن! سيكون جزاؤك الموت. فليؤخذ. واستمعوا جميعا لما يقضي به رئيس الكهنة.
رئيس الكهنة :
ليقم كل منكم بما أمر به، وليتفرق صغار الكهنة بين الجموع إذا فتح باب المعبد، وليدعوهم إلى الصلاة بخشوع، عسى أن تجيب المعبودة نداءنا فتظهر لنا منها المعجزات، وإذا خرجتم من هذا المكان فستزاح الأستار المقدسة عن وجه المعبودة، فيتجلى لفرعون، ولي أنا كبيركم، قبل أن يؤذن لكم برؤيته، فنركع أمامه بخشوع، ونتلو من صلواتنا السرية ، ما لم تسمعه أذن بشر، فطأطئوا هاماتكم، واسجدوا لفرعون عاش ممتعا بالقوة والصحة (يسجد الجميع أمام فرعون حتى تلمس جباههم الأرض، خلا شيخا واحدا يدعوه رئيس الكهنة بإشارة منه، ويحدثه بينما القوم سجد) أخرج المسجون من القبو (يطأطئ الشيخ رأسه، ويقول رئيس الكهنة للجميع)
هبو (ولفرعون)
واركع يابن آمون رع إلى ممثل ربك. (يقوم فرعون ويركع مترددا أمام رئيس الكهنة، ويلبث كلاهما واقفا لا يتحرك حتى يخرج القوم جميعا.)
الواقعة الثانية (رئيس الكهنة - فرعون)
فرعون (يستقيم معتزا ويقول غاضبا) :
ليت هوام مصر تجتمع، فلا تبقي على قطعة من لسانك.
رئيس الكهنة (ببرود) :
يا فرعون، إن هوام مصر كثيرة، ولساني قليل لا يكفيها. فلن يتحقق رجاؤك.
فرعون :
هذا ما أدى إليه تسليمي وضعفي.
رئيس الكهنة (متملقا) :
أفرعون يابن آمون، وصاحب المصرين، وحبيب رع ...
فرعون :
كفى كفى، نحن وحدنا الآن، ولا يخدعني تمليقك، وكفاني منك دهاء تخفيه تحت ستار الاحترام. حلت بيني وبين إعدام ساتني، وألقيت في روعي ما ألقيت، حتى فر ساتني من بين أيدينا.
رئيس الكهنة :
وهل في ذلك ما يدعو إلى كل هذا الغضب؟
فرعون :
لقد أذاع ساتني في القوم أن المعجزة لن تحدث.
رئيس الكهنة :
ستتم المعجزة.
فرعون :
ومن يدري؟
رئيس الكهنة :
أنا أدري.
فرعون :
كيف ذلك، وقد قال ساتني إنه سيدخل إلى المعبد؟
رئيس الكهنة :
يجوز.
فرعون :
وقال إنه يعرف سردابا سريا يحرك منه أحد رجالكم رأس الصنم.
رئيس الكهنة :
ربما صدق.
فرعون :
وهو يكرر أن المعجزة لن تتم، وكأني بالقوم مصدقيه، إذا صح ما يقول فما أصنع لأثير الحرب على الحبشة؛ إذ كفر القوم بآلهتنا؟
رئيس الكهنة :
ولم تثير الحرب على الحبشة؟
فرعون :
إني في حاجة إلى مال وجوار وعبيد، وسيكون لمعابدك نصيب من الغنائم.
رئيس الكهنة :
لا أود إهراق الدماء.
فرعون :
الخزينة خالية، والمقامع الآن لا تملأ الأكياس، ولا تجبي الضرائب، فما حالنا غدا إذا ذهبت خشية الآلهة أيضا من النفوس؟ ومن يطيعني إذا فقد القوم الإيمان بالرب الذي باسمه آمر وأنهى؟
رئيس الكهنة :
لن يحول ساتني دون إتمام المعجزة.
فرعون :
أنت لا تدري.
رئيس الكهنة :
بل أدري.
فرعون :
أمات إذن ساتني؟
رئيس الكهنة :
لم يمت.
فرعون (مدركا السر فجأة) :
إذن أنت تخفيه.
رئيس الكهنة :
نعم.
فرعون :
علمت أني أود التخلص منه فاستخلصته أنت لنفسك.
رئيس الكهنة :
نعم.
فرعون :
وما تفعل به؟
رئيس الكهنة :
أفعل به ما أريد لا ما تريد.
فرعون :
ولكن جريمته جريمة ضد مصر.
رئيس الكهنة :
بل ضدي أنا، وذلك أفظع، فاطمئن.
فرعون :
إذن فلم تتردد في قتله كل هذا التردد؟
رئيس الكهنة :
ليعلم كل ما جنته يداه.
فرعون :
بل قل إن ساتني من رجالك وأنك تحميه.
رئيس الكهنة :
ليس من الحكمة أن أجعله شهيدا في عيون مريديه، ما دامت لنا عن ذلك مندوحة، وإنك إن قتلته لا تقضي إلا على نفس واحدة، أما أنا فأرجو القضاء على مذهبه، ذلك خير لنا وأبقى.
فرعون :
وماذا تصنع به هو؟
رئيس الكهنة :
أجعله كاهنا.
فرعون :
كاهنا!
رئيس الكهنة :
نعم، فلقد كان في زمرة الكهنة قبل سفره، وكان محبا للعلم وتقيا، فلما اغترب زاد علما وفقد التقوى.
فرعون :
لقد كنت دائما أقول إن الاغتراب مفسد للنفوس.
رئيس الكهنة :
وأنا من رأيك لأن فيه كثرة اطلاع، ولكن أرجو أن أرد لساتني الإيمان بآلهتنا.
فرعون :
لن تصل إلى ذلك.
رئيس الكهنة :
إن من يستنشق هواء معابدنا طويلا، لا يستطيع أن يفرغ منه صدره، فإذا آمن ساتني لبث بيننا آمنا، وإذا كفر خرج من بيننا إلى يد الجلاد.
فرعون :
أسلم لي ساتني.
رئيس الكهنة :
ليتني كنت أستطيع، فلا أخالف لك أمرا، ولكنه كاهن كما أخبرتك، فحياته مقدسة، ولا أستطيع مخالفة الأوامر التي صدرت إلي من الآلهة.
فرعون :
ما هذه السخافات التي تنطق بها، أتظنني أحد كهنتك؟ لي الأمر وعليك الطاعة.
رئيس الكهنة :
وأنا، أتظنني أحد جنودك؟
فرعون :
ولكني أريد.
رئيس الكهنة :
وربي لا يريد.
فرعون :
لا أعبأ بربك.
رئيس الكهنة :
حذار يا فرعون أن يسمعك شعبك.
فرعون :
أريد أن أكون السيد الآمر المطاع، ومن الآن لا أرضخ لمثل ما كنت تذلني به منذ حين.
رئيس الكهنة :
وبم أذللتك، وقد عنت لك وجوه الأكبرين؟
فرعون :
نعم، ولكني ركعت لك بعد ذلك.
رئيس الكهنة :
إنك لم تركع لي ولكن للإله الذي أمثله.
فرعون :
إنما أركع له في وجهك، وأقدم له صلواتي بين يديك.
رئيس الكهنة (مبتسما) :
اطمئن فسأبلغه إياها!
فرعون :
أتهزأ بي فوق ذلك؟ لقد عيل صبري. آه، لو أستطعت لقتلتك أيها المنافق.
رئيس الكهنة :
يا لك من مغرور!
فرعون :
إنك ترتعد كأنك تخشى السيف أيها الجبان؟
رئيس الكهنة :
أنت لا تدري سوى القتل أيها السفاح.
فرعون :
كذبت.
رئيس الكهنة :
ومن ولاك فرعونا؟
فرعون :
حاذر أن ألقي بك يوما إلى الأسود فتنهش لحمك.
رئيس الكهنة :
بل حاذر أنت أن ألقي عن رأسك تاج مصر، فأعلن للملأ أن روح الآلهة قد انسلت منك (سكوت)
هدئ روعك يا فرعون ولنتحد، فما لأحدنا غنى عن الآخر، إنما نحكم الناس بما يخشونه من جبروتك، وما نمنيهم به من النعيم. فاستمع لقولي ولنتحد، وإن يوما يزول فيه سلطان أحدنا بشر فيه الثاني بزوال سلطانه، إني أراهم يشيرون لنا ظانين أننا نصلي طويلا بحرقة وخشوع، وقد حانت الساعة التي تظهر فيها على شعبك، فيحييك بالتهليل والتكبير، ويدخل وراءك إلى الهيكل، فاستقبل شعبك، أما ساتني فدع أمره إلي، واطمئن، فستتم المعجزة. (يدخل الموكب، ويخرج بفرعون على نغمات الموسيقى «مارش» ثم يأتون بساتني أمام رئيس الكهنة.)
الواقعة الثالثة (رئيس الكهنة - ساتني)
رئيس الكهنة :
أعرفت من أنا؟
ساتني :
نعم، أنت الكاهن الأكبر.
رئيس الكهنة (بلطف كثير) :
وأنا أيضا عرفتك، أنت ابن صانع الفخار، أنت الذي كنت صغيرا فربيناك، وجاهلا فعلمناك، ثم أدخلناك في زمرة الكهنة الصغار، ولما ظهرت نجابتك ووضح ذكاؤك، أعددناك لرفيع المراتب وعالي المناصب، وقد كان لك من ودي نصيب لا تنساه، ولا تنس أنك مدين لنا بكل ما لك من العلم والجاه، ولقد كان في أعمالك يا ولدي ما يستوجب سخطي وغضبي، ولكن حل الأسف محل الغضب، وحل الحزن محل السخط (سكوت)
أراك مأخوذا .
ساتني :
كنت منتظرا وعيدا وعذابا، فما سمعت إلا عتابا وقولا مستطابا.
رئيس الكهنة :
فليطب قلبك، وانس من أنا. إنا في خلوة، فلنتحادث كما يحادث رجل ولده، وإن شئت وقد رفعك العلم منازل؛ فلنتحادث كما تتحادث الرجال، لقد أعلنت للملأ أن المعجزة غير واقعة.
ساتني :
المعبودة من حجر وهل يتحرك الحجر؟ فلن تنحني رأسها إلا بواسطة من البشر.
رئيس الكهنة :
طبعا.
ساتني :
أو تعترف بذلك؟
رئيس الكهنة :
أعترف لك أنت، وإنما نخاطب الناس على قدر عقولهم، ولو كنت بقيت بيننا متتبعا تعاليم كهونتنا، مترقيا في درجات نظاماتنا، لرأيت اللاهوت يرقى معك، ورأيت الآلهة تتجرد من ماديتها كلما تعمقت في العلم، وما نقدم للعامة إلا آلهة يدركونها بالحس الذي لا يدركون بغيره، أترى إذا ذكرت لهم إلها لا يرونه ولا يسمعون صوته، أيؤمنون به؟ أما ربنا نحن فغير أربابهم وما يعبدون «إنما إلهنا إله واحد أحد، فرد صمد، قائم بذاته، لا يشبهه شيء، وهو خالق كل شيء، لم يلد ولم يولد، وهو أبو الآباء وأم الأمهات»،
1
وإنا نستغفره كلما دعوناه ليظهر برهانه بتلك المعجزات، فإن في الناس سذجا لا يصدقون بالمقدرة إلا إذا ظهر أثرها. أما أنت فقد رفعك العلم عن مستوى مداركهم، لقد قلت لهم إن المعجزة لا تتم، وأوافقك على جواز عدم حدوثها، ولكن أمتأكد أنت أنها لا تحدث؟
ساتني :
لقد قلت لهم إنه لو ترك التمثال وشأنه لما تحرك منه عضو.
رئيس الكهنة :
ومن يصدقك منهم؟ بل قل إنك كنت تريد أن تمنع بالقوة حدوث تلك المعجزة في نظرهم، لا تنكر، أما كان ذلك قصدك؟
ساتني :
ربما.
رئيس الكهنة :
وها أنا قد قبضت عليك، فحلت بينك وبين ما تريد، فلن يتحقق رجاؤك، ولن يصدق زعمك، وبعد ساعة يحتفل بعيد المعجزات وأنت هنا مسجون، وتتم المعجزة بالرغم منك، أصدقت الآن أنها واقعة؟
ساتني (بعد سكوت) :
نعم صدقت.
رئيس الكهنة :
إذن، طاش سهمك، وخفق مسعاك، وفقدت مكانتك لدى شيعتك، وما الكهنة الذين تحت إمرتي بأقوى منك إيمانا بأربابهم ولا أوثق يقينا ، على أنهم يدانونك في العلم أو يزيدون، فأنا ناصح لك أن تنضم إليهم، وتعود إلى حظيرتنا.
ساتني :
لا أعود.
رئيس الكهنة :
إن إباءك ليحزنني يا ولدي، وتذكر ما اضطر بالرغم مني إلى استعماله من القسوة معك. ساتني، اربأ بي أن أدفع بك إلى قضاة أقل حكمهم الموت، واربأ بنفسك أن تموت في شبابك، والمستقبل أمامك باسم الثغر.
ساتني :
لا أخشى الموت.
رئيس الكهنة :
حتى ولو ... تذكرت ... ألم تكن خطيب الفتاة يوما التي اصطفاها الإله لتكون قربانا؟ أنت تعلم أنها تنجو من التضحية إذا زفت إلى كاهن، وما أحسن آل رحيو الاحتفاظ بها، فقد فرت من دارهم وأتت إلى المعبد، ورأيتها فألفيتها حسناء رشيقة، فإذا تزوجت بها خلصتها، وأسعدتها وسعدت بها.
ساتني :
يوما، يوما! (يبكي).
رئيس الكهنة (يضع يده على كتفه) :
ها أنت ترى من جهة موت يوما وموتك، ومن أخرى حياتكما في عز وسعادة، فمالك صامت؟ إني أخاطبك بلسان الإشفاق كما ترى، وأزيد فأنصح إليك أن تترك للعامة آلهتها، ذلك خير لها، وإن أردت البرهان فابق بيننا ... (يهم ساتني بالرد عليه)
انتظر لا تجب قبل أن أتمم حديثي، أنت تريد السعادة للبؤساء، ألا فاعلم أن لا سعادة لهم في غير الدين، ولقد رأيت حالهم وقد خلا قلبهم من الإيمان، وفتنة الأمس ذهبت بروح أبيك، وقيل لي إنه مات وهو يعاني أشد الآلام، أصحيح ذلك؟ أنا لا أعرف تفصيل الأمر، وقد حضرت أنت وفاته، فقص علي ما جرى.
ساتني :
آه! أصاب ظني، إنك تقصد تعذيبي، علمت أنك لا تنال مني بتقطيع جسمي، فأردت أن تسحق قلبي.
رئيس الكهنة :
وهل أسمعتك غير الحق؟ أما جرح والدك في الفتنة التي أثارها ارتداد القوم إثر كلامك؟ لقد عرفت أباك حيا وكان رجلا ساذجا وتقيا، فمات ضحية أقوالك وأفعالك، وعن قريب تلحق به يوما كذلك.
ساتني :
صه! كأني بك تريد أن يضعف الأسى من قوة إرادتي.
رئيس الكهنة :
كلا، وسأطوي عن ذكر ذويك كشحا، فإن ما أصابهم من النائبات لا يعد بجانب ما يصيب الأمة المصرية منك شيئا مذكورا، إن أنت نزعت من قلب هذه الأمة إيمانه، فأي وازع تقيمه فيه مقامه؟
ساتني :
إن ما تسميه إيمانا أسميه خضوعا أعمى وخنوعا.
رئيس الكهنة :
سمه ما شئت، أفما علمت أن النفوس إذا خلت من خشية الآلهة انفكت قيودها، فلا يكبح لشهوتها جماح؟
ساتني :
ما منعت خشية الآلهة من الجرائم، بقدر ما ارتكبه القائلون بها لتأييدها في قلوب الناس.
رئيس الكهنة :
ليكن، ولكنها واجبة.
ساتني :
وهل جعلتم لخشية الآلهة محلا، وأنتم تنتقمون من الناس، ولا تدعون للآلهة حسابهم وعقابهم؟ لم تعدون المقامع، وتقيمون المحارق، وتتخذون الجلادين لقطع الرقاب، وتشغلون المجرمين في المناجم تحت التراب؟ ألا إن الحقيقة أنكم لا تعتقدون بحياة أخرى بها ثواب وعقاب، ولو اعتقدتم بها لأوسعتم إلى الموت الخطى؛ لتحظوا بدار نعيم وملك لا يفنى.
رئيس الكهنة :
أي كابح في نظرك إذن للشهوات؟
ساتني :
خشية الشرائع والطمع في رضاء الناس.
رئيس الكهنة :
أو تظن أنهما كبحا جماح الأمة بالأمس بعد تدمير آلهتها؟ أترى القوم ردهم الطمع في رضاء الناس عن الطمع في أموالهم ونفوسهم؛ إذ سرقوا ما سرقوا وقتلوا من قتلوا؟ أم فعلوه طمعا في رضائك أنت؟ فهل أنت راض عما فعلوا؟
ساتني :
لا أدري ما أقول، فإن حجتك قوية، نعم إن قوما رسفوا أجيالا طويلة تحت نير الذل في قيود العبودية، حتى انحطت مداركهم وماتت نفوسهم، ليسكروا بخمرة الحرية إذا جاءتهم على غرة، فيركبون متن الشطط ويأتون أفظع الجرائم، ولكن أتريد أن تقضي عليهم لأجل ذلك بالبقاء في تلك القيود؟ انظر إلى الطفل الصغير وهو يتعلم الخطى على متكأ أما تراه إذا نزع المتكأ من بين يديه سقط، فهل أنت قائل بوجوب بقائه على هذا العماد حتى يموت؟
رئيس الكهنة :
وهل أنت قائل بوجوب نزع كل عماد (سكون)
ألا إن الإيمان عماد القلوب، ففيه شفاء وفيه عزاء وزعزعته في القلوب من شر الأمور.
ساتني :
كم دالت أديان قبل دينكم، فانفطرت لزوالها قلوب، فلو خشينا زعزعة الإيمان لما وجد جديد في الأديان.
رئيس الكهنة :
إن ديننا لا يزال جديدا بالرغم من تقادم عهده، انظر إلى قاعات معابدنا تجدها ملأى بألواح الشكر على ما استجيب فيها من الدعوات.
ساتني :
ولو كانت تسطر الدعوات التي لم تجب، لما وسعت معابدكم ألواحها!
رئيس الكهنة :
إذا خابت دعوة المصلي مرة فقد آب مزودا بالآمال مرارا، فالأمل نعمة ومن الكرم منحها للبائسين.
ساتني :
إنكم تمنونهم بنعيم مقبل، لتنسوهم أنكم في نعيم مقيم.
رئيس الكهنة :
وهل في طاقة مخلوق أن يمنح الناس جميعا سعادة في هذه الحياة؟ إنما نحن أكرم منك على كل حال، فلا نبخل عليهم بالعزاء والآمال.
ساتني :
لكنهم يدفعون ثمنها غاليا.
رئيس الكهنة :
نعم، وخزائن معابدنا طافحة بما يحصدون من الحنطة، ولكن كل الشعب إلى نفسه، يستنفد في أيام رخائه ما يجب أن يدخر لأيام نحسه، فنحن إنما نفكر فيه وندخر له، وهو يأتينا بما يجمع فرحا بتقديمه لآلهته، لقد أعلنا للملأ أن النيل مقدس، وحرمنا أن تلقى في الأقذار، أفعلنا ذلك لأن النيل إله يعبد؟ كلا، بل لنتقي شر الأوبئة الفاتكة بنفوس العباد، وما ألهنا من الحيوانات إلا ما كان ذا نفع للناس حرصا على بقاء نوعه، أرأيت أنك لم تحصل من العلم إلا قليلا.
ساتني :
كأني بكم تخشون أن يبلغ الفلاح رشده، فيناقشكم الحساب على ما كذبتموه، ولا يرتد عنكم بخشية الآلهة؛ من بنات آوى وحملان وثيران، مما لا وجود لها كما أوهمتموه.
رئيس الكهنة :
أتظن أن لا وجود لها؟
ساتني :
نعم.
رئيس الكهنة :
أتدري أين أنت؟
ساتني :
أنا في المعبد.
رئيس الكهنة :
أنت في المعبد الذي نشأت فيه صغيرا، ولم يبح لك أن تتخطى نطاقه الأول المقدس، أما الآن فأنت في النطاق الثالث، انظر، هذا هو قدس الأقداس، بإشارة مني ينزاح الحجر الساتر له، فتتجلى لناظريك المعبودة، ولم يستطع مخلوق غير رئيس الكهنة وفرعون - إن كان فرعون من زمرة الكهنة - أن ينظر إلى صورتها من غير أن يصعق، إلا في يوم عيد المعجزات الذي سنحتفل به بعد قليل، أفتظن نفسك قادرا على البقاء في حضرتها؟
ساتني :
وما يمنعني؟
رئيس الكهنة :
سترى، فإذا أخذك الخوف فناد وخر ساجدا، ولا أطلب منك بعدها إلا أن تعيد على من أغويتهم ما ترى. (يشير رئيس الكهنة بيده فيحل الظلام محل النور.)
ساتني :
وي! (يثب ساتني جازعا، ويعود نور ضئيل ببطء، ويكون المعبد خاليا.)
الواقعة الرابعة (ساتني وحده)
ساتني :
أنا وحدي ...! (يتولاه الجزع فيعتمد واقفا على أحد الأعمدة ووجهه إلى الجمهور)
وحدي في المعبد، وعن قريب تظهر المعبودة، أنا عارف أنها تمثال أصم، ولكن ما هذا الخوف الذي دب في جسمي حتى بلغ عظامي؟ (يصرخ)
آه، لقد ظننت في الظلام شيئا، لكني أعلم أن لا شيء هنا، ما أجبن الإنسان! ألأنهم ملئوا مخيلتي في الصغر بأقاصيص دينية، وأفعموا قلبي رعبا من الآلهة، وأورثني أبي وجدي وآباؤهما من قبل ذلك الخوف، أرتعد فرقا أنا وتظلم علي بصيرتي؟ أنا واثق بأن إلههم كاذب وأنه طوع يد كاهنهم، ولكن ما بال هذه العمد الصامتة رهيبة، كأنها محاطة بالأسرار، وينبعث منها إلى قلبي ذلك الرعب الشديد؟ (ينزاح الحجر ببطء عن قدس الأقداس فيجهد ساتني نظره ليراه)
أرى الحجر ينزاح عن قدس الأقداس، ويلاه! ما أشد اضطرابي وأعظم خوفي! (يتمتم كلمات متقطعة، ويمسح جبينه بظهر يده، ويرتعد ويسقط على الأرض ويبكي، ويبقى كذلك حينا ثم يقول)
ويلي ما أشد جبني! (يعض يديه)
خسئت أيها الجسم الضعيف لأقهرنك، إني خجل من نفسي، خجل من نفسي! أريد أن أتقدم لأرى، أريد، ولكن في قدمي قيودا مما ألقوه في روعي صغيرا وما ورثته عن آبائي، إنما أحارب نفسا أشرباها الخوف صغيرة، وأجيالا عتيدة طوتها الأيام، والآن تبعثها نفسي من مراقدها، فلأتشجع، ولأجاهد، ولأنتصر على الموتى، لي حياة ولي إرادة، فأنا أنا، فلأتشجع. (يجاهد نفسه حتى يملكها ويستقيم على قدميه بعد تردد ومجهود، ثم يتقدم بجأش رابط وقدم ثابتة نحو المعبودة شامخا برأسه، وضاما ذراعيه إلى صدره، فيظهر له رئيس الكهنة ويضع يده على كتفه.)
رئيس الكهنة :
رأيت الخوف لم ينل منك، فلننظر هل للرحمة سبيل إلى قلبك ، تعال (يسحب ستارا يخفي السرداب الذي على اليسار)
انظر، هذه هي الرافعة التي يوكل أحد رجالنا بتحريكها فتتم المعجزة، أي إن المعبودة تحني هامتها فتطمئن القلوب، وها أنا مقيمك مقامه وسآذن فتفتح الأبواب، ويدخل الناس إلى الهيكل فاستمع لهم، فإذا أثر في نفسك نداؤهم فحرك هذه الرافعة واحن لهم هامة المعبودة، واكذب عليهم ذلك الكذب الذي يرجونه ليبعث في نفوسهم نور الأمل.
ساتني :
لن تحدث تلك المعجزة.
رئيس الكهنة :
انظر واسمع ثم نرى. (يخرج من السرداب، يعود الحجر إلى مكانه، ويبقى ساتني واقفا بحيث ينظره المتفرجون، ويشير الرئيس فتقبل الكهنة.)
الواقعة الخامسة (رئيس الكهنة - ساتني في السرداب - الكهنة)
رئيس الكهنة :
أأعد كل شيء؟
كاهن :
كل شيء معد.
رئيس الكهنة (لكاهن آخر) :
اسمع (يكلمه سرا فينحني الكاهن ويخرج، وبينما يدخل جمهور المصلين، يرى ذلك الكاهن وقد دخل إلى السرداب من الداخل يسارا وبيده خنجر، فيقف وراء ساتني وساتني لا يشعر به)
فليدخل الناس (ويشير بيده فينصرف الكهنة).
الواقعة السادسة
الشعب (يدخل قوم بؤساء إلى المعبد من كل منفذ مندفعين يتزاحمون بالأكتاف، ويدخل أربعة رجال يحملون محفة عليها فتاة جميلة مقعدة ذات ثياب ثمينة) - مييريس - يوما - جميع الممثلين.
الفتاة المقعدة :
أدنوني من المعبودة، ضعوني بجانبها علها تطرد الروح الخبيثة التي قيدت قدمي عن المسير. (يتزاحم بجانبها عرج يمشون متكئين على عصيهم، وقوم أيديهم أو أرجلهم ملفوفة بقماش أبيض.)
فتاة عمياء (تقول لقائدها) :
إذا زحزح الحجر فتأمل في المعبودة لتصف لي شكلها؛ لأتصوره إذا لم تمن علي بالبصر لأراها. (يتقدم مقعد يسير على يديه.)
المقعد :
أريد أن أكون على مقربة منها، أدنوني من مكانها، وعن قريب أمشي. (يتقدم غلامان يقودان أمهمها وبها مس من الجنون، وهما يحاولان تهدئة ثائرها، وأم تحمل ولدا على ذراعها، وتلتمس أن يدعوها تقترب من مكان المعبودة، ورجل رأسه ملفوف في غلالة لا يظهر منها إلا عيناه وفمه وهو يزاحم من بجانبه بالأكتاف، وعمي ومقعدون محمولون على المقاعد.)
امرأة :
ستتكلم المعبودة، وستجيب الدعاء وتتعهد بحماية مصر وبنيها.
أخرى :
لا أظن، ويقولون إن مصائب عظمى تتهددنا.
أخرى :
وإذا كانت لا تتكلم؟
أخرى :
ألا تسكتون؟ (موسيقى دينية، يدخل رئيس الكهنة فيجلس على عرشه، ويجثو الشعب.)
الواقعة السابعة (الشعب - رئيس الكهنة - رحيو)
رئيس الكهنة :
كبرت قدرة آمون! (سكون)
الشعب :
كبرت قدرة آمون!
رئيس الكهنة :
سيفتح باب الهيكل.
أصوات :
سينزاح الحجر ... أنا خائف ... سنرى المعبودة ... اسكتوا ... صه ... (يرفع رئيس الكهنة ذراعيه إلى السماء.)
كاهن (يخاطب في السرداب بصوت منخفض الرجال الموكلين بأمر الحبال) :
هيا (يشد الرجال الحبال، فيتزحزح الحجر، وتنكشف المعبودة للمصلين، ولكن لا يراها المتفرجون، فيسجد المصلون ومن لا يستطيع السجود يخفي وجهه بذراعه).
رئيس الكهنة :
هبوا، وانظروا وادعوا (يسمع رعيد الخوف في الشعب، ويغمى على نساء من الخشية فيحملوهن)
أيتها المعبودة إن خلقك يسجدون لك صاغرين.
الجميع :
إياك نعبد يا إيزيس!
رئيس الكهنة :
فامنحينا هذا العام أيضا نعمتك الكبرى، وأحني هامتك إشارة إلى أنك تحمين مصر سنة أخرى.
الجميع (بصوت منخفض) :
إيزيس إياك نعبد!
رئيس الكهنة :
رحمة أيتها المعبودة بالبؤساء، نظرة يا إيزيس إلى الفقراء، أظهري فضلك، أحني رأسك، الرحمة الرحمة! حلت بنا بلايا كثيرة، وأحاطت بنا أرواح شريرة.
الشعب :
حلت بنا بلايا كثيرة، فاطردي عنا الأرواح الشريرة.
رئيس الكهنة :
نوت يا أم العالمين، اصرفي عنا الشياطين. يا نوت العذراء، أجيبي النداء! إيزيس يا روح مصر الخصيبة، لبي الدعاء، أحني رأسك، ساتي يا ملكة السماء أحني رأسك.
الأم :
حلت روح بعض الأموات في ولدي يا إيزيس، وها هو محتضر فأقدمه لك يا إيزيس، انظري إلى جماله وارأفي بحالي وحاله، انظري إلى شبابه وأبقي عليه يا إيزيس، أبقي عليه لأمه يا إيزيس.
الجميع :
الرحمة الرحمة!
رئيس الكهنة :
أشيري إلينا يا إيزيس أنك سميعة النداء، مجيبة الدعاء، فأحني رأسك!
الفتاة العمياء :
ردي إلي البصر، فقد سلبنيه الشيطان قبل أن أولد، واسمحي لي أن أرى السماء وصفاءها والشمس وضياءها، إني شقية يا إيزيس، ولي حبيب يهواني وأهواه، فأود أن أراه، ما أشد تعاستي يا إيزيس!
الجميع :
إيزيس الرحمة!
رئيس الكهنة :
أنوك يا روح الوجود ، وحياة كل موجود، ارحمي عبيدك الخاشعين فقد مثلوا في حضرتك طائعين، ولا تتخلي عن أولادك البائسين.
الجميع :
نعم نعم، لا تتخلي عن أولادك البائسين!
ولد :
لأبي الأعمى أدعوك يا إيزيس!
الجميع :
إيزيس حاتحور الرحمة!
رئيس الكهنة :
تمي يا ربة العدل ومرآة الحق، أحني رأسك.
الفتى المقعد :
لقد نحرت لك يا إيزيس عشرة حملان، فارفعي القيد من قدمي علهما تسيران.
الرجل الملفوف الرأس :
ينهش لحم وجهي شيطان رجيم، فخلصيني من عذابه الأليم.
المقعد :
إني أدب على الأرض كأحقر الدود، فاشفيني يا إيزيس لأستقيم على قدمي كالعود.
ولدا المجنونة :
انظري إلى أمنا يا إيزيس قد تولاها الجنون، فما عادت تعرفك ولا تعرف أبناءها، انظري كيف تضحك.
أم الصغير :
أنت أم يا إيزيس، فبحق ولدك أبقي على ولدي، لا تدعيني أذهب من حضرتك خالية اليدين من ولدي المحبوب، أنت أم يا إيزيس.
رئيس الكهنة :
صلوا ابتهلوا تضرعوا، خروا على وجوهكم ساجدين، نعم نعم، أيضا أيضا، اسمعوا؛ إنها ستجيب نداءكم (سكوت طويل)
صلاتكم ليست حارة، وتضرعاتكم لا حرقة فيها. توسلوا، اصرخوا، اذرفوا الدموع.
الجميع :
إيزيس ردي عنا الأذى، إيزيس أجيبي النداء.
رئيس الكهنة :
اجهروا بصلاتكم، ارفعوا صوتكم.
الشعب :
آلامنا كثيرة، دموعنا غزيرة، زفراتنا محرقة، فارحمينا يا إيزيس.
رئيس الكهنة :
صيحوا أيضا، صيحوا أيضا حتى الموت.
الشعب :
أتتخلين عن مصر يا إيزيس؟ يا ويلنا، إن تركتنا فمن لنا، وأي مصاب يحل بنا؟ أغيثينا، أجيرينا، الرحمة الرحمة!
رئيس الكهنة :
الرحمة الرحمة! (تتصاعد زفراته)
ما أشقى هذا الشعب يا إيزيس إذا تخليت عنه!
أصوات (تسمع بين زفرات المصلين) :
إنها لا تسمع نداءنا، فلن تجيب دعاءنا، فويل لنا، ثم ويل لنا!
رئيس الكهنة :
خابت آمالنا، فقدنا الرجاء.
الجميع :
فقدنا الرجاء!
صوت صائحين :
لقد أحنت رأسها ... كلا ... بلى. (سكون تسمع من خلاله تأوهات أسى ويأس.)
رئيس الكهنة :
يا أم المعبودات، يا حامية مصر!
أم الصغير :
إيزيس، يا أم حوريس، ولدك الصغير إله حي، فهل تدعين ولدي الصغير يموت؟ انظري إليه، انظري إليه.
المقعد الصغير :
أما في قلبك رحمة يا إيزيس؟
المقعد :
ما شئت يكون يا إيزيس، ففكي قيودي.
الرجل الملفوف الرأس :
اشفيني من بلائي يا إيزيس، حتى لا ينفر القوم مني، اشفيني من بلائي.
رئيس الكهنة :
أجيبينا، أحني رأسك.
الجميع :
الرحمة! (يتلوى الجميع من اليأس ويصرخون وينتحبون ويدعون.)
ساتني (يظهر عليه التألم الشديد لحالة القوم فيحرك الرافعة قائلا) :
ما أشقاكم يا قوم وما أتعسكم! حقا إنكم جديرون بالرحمة. (عند حدوث المعجزة أي إحناء المعبودة رأسها للمصلين - ولا يرى ذلك المتفرجون - يعلو هتاف الشعب وتهليله، ويأخذ قوم ممن كانوا يمشون على عصي عصيهم فيلعبون بها في الهواء راقصين، ويستولي على الجميع الفرح فينشدون ما يأتي إلا من لم تجب دعواتهم فيلبثون في أماكنهم ينتحبون على ما فاتهم، ويزداد بهم اليأس والقنوط.)
الشعب (نشيد) :
إيزيس قد نلنا
من فضلك العفوا
فلتصفحي عنا
ولتهدنا الصفوا •••
بالنيل تحيينا
تحيي لنا القطرا
لا زلت تولينا
من فيضه الخيرا
هوامش
الفصل الخامس
(نفس منظر المعبد الذي في الفصل السابق.)
الواقعة الأولى (رحيو - ساتني - رئيس الكهنة - الكهنة - ثم الشعب - سوكتي - نرم - بتيو - كريبا - ثم مييريس ويوما)
عند رفع الستار يكون القوم ساجدين بوجوههم على الأرض والكهنة قائمون للصلاة ينشدون.
الكهنة (نشيد) :
مجد إيزيس علاه
يغفر الذنب العظيما
فليكن آمون برا
برعاياه رحيما •••
هب لنا آمون عفوا
عن جميع الخاطئينا
واجعل الأيام صفوا
للجناة التائبينا
رحيو (إلى رئيس الكهنة) :
ها قد سجد أمامك بأمر فرعون الثائرون نادمين.
رئيس الكهنة (إلى الشعب) :
حطمتم تماثيل آلهتكم وحقرتموها، ولكن وسعت رحمتها كل شيء، فطأطأت إيزيس هامتها رضاء عنكم، وها قد أقبلتم نادمين، وأتيتم تائبين، واستنكرتم ما أتيتم من الكبائر، وجئتم للعقاب مستقبلين، ولكن آلهتكم تقبلت توبتكم، وكشفت عنكم غمتكم، وسمحت لكم بتقديم القربان للنيل، وأذنت أن يفيض عليكم هذا العام أيضا خيره العميم، فأين التي اصطفاها ربكم لفداء مصر، ألم تحضر؟
يوما (تهب قائمة مشرقة الوجه) :
ها أنا ذا.
رئيس الكهنة :
ألبسوها الحلة المقدسة، وخذوها في موكبها إلى دار المجد ونعيم الخلد.
يوما :
هيا. (تهب بعض النساء وتخرج مع يوما يسارا.)
رئيس الكهنة :
لقد ولجت الهيكل في هذا الصباح، عند بزوغ أنوار آمون رع المقدسة من العالم السفلي، فاستقبلت وجه إلهنا، وسمعت ما ألقاه علي من الوحي، وها أنا معيد عليكم ما أمرني به ربي ... يا رحيو (يهب رحيو واقفا)
لقد ذهبت إلى فرعون نور رع وسناه، فاعتذرت نادما على ما فعلت ورجوت منه الصفح عما أتيت، وأقسمت بجثة أبيك أن تخلص له الخدمة، ودفعت لنا بتلك الجثة رهينة على البر بيمينك، ثم كشفت لنا عمن تآمروا على خلع رب مصر عن عرشه، لينال منهم غضبه وعدله، وأعلنت للملأ أنك لم تدع قومك يحطمون تماثيل آلهتك، إلا مأخوذا بما دبره لك ساتني من السحر فسلب به عقلك، وقد منحك مولاك العفو كرما منه وفضلا، وما كنت لتناله لولا ما أوتي فرعون من الحلم والرحمة، عفا عنك ولكن بشروط ستعلمها بعد حين (يطأطئ رحيو رأسه ويجثو) . ساتني (يهب ساتني مطرقا يخيل لناظره أن الخجل والألم قد نالا منه)
ساتني لقد اعترفت بقدرة الآلهة التي اجترأت على إنكارها، وها أنت معلن للملأ إيمانك بها، بسجودك لها بعد كفرك بها، ولقد لقنت في هذا الهيكل أسرار علومك الأولى، فأصبحت حياتك مقدسة لا سبيل إليها، فارحل عن مصر قبل أن تغرب شمس يومك، واغرب عن وجه الآلهة (يبتعد ساتني مطرقا ويفسح له القوم السبيل ليمر، وتسمع دمدمة بين الحاضرين تحقيرا له، وتمد له قبضات الأيدي مهددة، وبعضهم يدفعه بيده حتى يصل إلى آخر المرسح يمينا فيختبئ مخفيا وجهه بيديه)
وقد نطق آمون بغير ذلك (يترك القوم ساتني، فيقف ساتني ويرتمي على أحد الأعمدة باكيا خفية)
لقد قال إنكم جميعا أيها الحاضرون في هذا المكان تستحقون الموت، وهذا قضاؤه.
الجميع :
آمون الرحمة! الرحمة يا آمون!
رئيس الكهنة :
لا نداء ولا دعاء، ولا يجديكم النحيب والبكاء، ألا فاسمعوا ما يقوله لكم ربكم بفمي.
الجميع :
كن رحيما أنت بنا، أشفق علينا، استغفر لنا ربك، استرحمه، نتوسل إليك، لا نريد الموت، لا نريد الموت، لا نريد الموت.
رئيس الكهنة :
إني مشفق عليكم ورحيم بكم، ولكن إثمكم عظيم، أفكرتم في فظاعة جرمكم؟ ما عهدت الأيام قوما فعلوا فعلكم، آلهتكم! تحطمون آلهتكم؟ وأي آلهة؟ آمون وتوميريس! ليتني كنت قادرا على تسكين غضبهما! لكن ماذا تريدون أن أقدمه قربانا لهما، مما يناسب فظاعة تمثيلكم بهما؟
الشعب :
خذ ما تريد، خذ كل ما لدينا، ولكن أبق على حياتنا.
رئيس الكهنة :
كل ما لديكم؟ إن ما لديكم قليل.
الشعب :
خذ ما تنبته الأرض.
رئيس الكهنة :
ومن يطعمكم؟ أنتم تدفعون عشر ما تحصدون، فلأقدمن لآلهتكم ربع حصيدكم عشر سنين ... ولكنه قليل ...! فإن زدته نصف ما تملكون في دياركم أترضى آلهتكم ...؟ أم أنتم راضون؟
الشعب :
نعم راضون، نعم راضون.
رئيس الكهنة :
لا أراه مكفرا عما فعلتم أيها المجرمون، فاصبروا عسى ينطق ربي بلساني، أو عسى ربي أن يهدين (يطرق قليلا)
أقيموا الصلاة آناء الليل وأطراف النهار، واسجدوا مع الساجدين، وقدموا لمعبدنا عشرا من عذاراكم كل عام لخدمة الدين.
الشعب :
لك عذارانا يا آمون، لك بناتنا.
رئيس الكهنة :
ربكم رحيم، ربكم رحيم، وإني سامع صوته مؤذنا بالعفو عنكم، فاهبطوا ساجدين (يسجد القوم)
ثم اسمعوا ما يأمركم به ربكم! أطيعوا فرعون وكونوا له مخلصين، فهو ظل آمون في أرضه ومنفذ أحكامه في العالمين، ولقد شاء ربكم أن ينتقم فرعون من ملك الحبشة لخروجه عن طاعته، وكفرانه بنعمته، فليتأهب منكم للقتال كل قادر عليه، وليلحق بصفوف الجيش، فقد تأهب الجيش للرحيل إليه.
الشعب (يتململ) :
أوه! أنحارب؟ أنحارب؟
رئيس الكهنة :
لقد شمخت الحبشة بأنفها، واستعدت لغزو مصر بجيشها، أفلا تدافعون عن أوطانكم، وتذودون عن حمى بلادكم؟ ألا تردون الذئاب عن قطعانكم، وتصدون العدو عن دياركم، وتحمون أعراض نسائكم؟ أتريدون أن تصبحوا عبيدا للعبيد، وترسفوا غدا في أغلال وقيود؟
الشعب :
لا لا، لا نريد، لا نريد.
رئيس الكهنة :
فشدوا إذن الرحال لتأديب أعداء ملوككم.
الشعب :
سنقاتلهم، سنقاتلهم.
رئيس الكهنة :
وسيأتيكم النصر من ربكم، ألا تعلمون أنه إن ينصركم فلا غالب لكم، ولا تحسبن الذين قتلوا منكم في سبيله أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون، وما أنتم إلا منتقلين من الأرض إلى السماء لو كنتم تعلمون. فجاهدوا في سبيل ربكم لتحظوا لدى أوزيريس بدار عليين، إنما اطمئنوا فلن يموت منكم أحد، وستطيش سهام أعدائكم، فتتساقط لدى أقدامكم سقوط الطير رماه الصياد نبالا، وستفل سيوفهم فلا تنال من أجسادكم منالا، وإن يرسلوا النار عليكم ضراما ستكون نيرانهم عليكم بردا وسلاما، ولقد علمتم أن آلهتكم لا تنطق عن الهوى، وأنها تحمي مصر وأهلها، وأنها ذات قوة، قوة دونها كل القوى، وقد شهدتم بالأمس تمثال إيزيس قد طأطأ لكم هامته الصما.
الشعب :
إلى الحرب! إلى الحرب!
ساتني (يهب من مكانه) :
لقد طال جبني ... وما طأطأت إيزيس رأسها، إلا لما أرخيت لها حبلها. (هياج واضطراب.)
رئيس الكهنة :
دونكم هذا الرجل فافعلوا به ما شئتم، ودونك أنت هذا الشعب افتنه مرة أخرى إن استطعت. (سخط من الشعب، يقف ساتني واجما لا يستطيع الكلام، ويخرج رئيس الكهنة محمولا على عرشه ومعه رحيو.)
الواقعة الثانية (ساتني - الشعب)
ساتني :
كنت في الهيكل.
الشعب :
كذبت.
ساتني :
أنا الذي حركت الرافعة فانحنى رأس الصنم.
الشعب :
يا للكفر! كفى كفى يا فاجر، كفى يا فاسق.
ساتني :
أنا فاجر؟ ليتني كنت رضيت، فكان لكم في موت بعضكم حياة، ولا بد لكل إصلاح من تضحية، ولكني أشفقت عليكم من الألم، وحلت دون سفك الدم، وفاتني أن الطفل لا يولد للحياة إلا بدم وألم، فهذا جزاء رحمتي لكم، وإشفاقي بكم. (هياج وسخط.)
الشعب :
اقتلوه اقتلوه، إنه يريد قتل أطفالنا.
ساتني :
الموت في سبيل الحق مجد وحياة!
الشعب :
اقتلوا الخائن، اقتلوا الفاجر.
ساتني :
والبقاء على ذل الخنوع موت في الحياة!
الشعب :
كفى، اقتلوه! (يفتح باب في أقصى المعبد يسارا ويظهر منه موكب يوما تتقدمه وتتبعه الموسيقى والراقصات، ووراءهن في المقدمة الكهنة بالمباخر والصواج، وتتبعهم يوما محمولة على الأيدي في محفة، ويحيط بها العذارى، وهي محلاة بالثياب المقدسة، وواقفة على قدميها مشرقة الوجه تسحرها سعادة ما هي فيه.)
الواقعة الثالثة (موكب يوما - ساتني - الشعب)
الشعب :
موكب يوما ، يوما المصطفاة ، يوما عروس آمون، المجد لفادية مصر! (يتقدم الموكب إلى يمين المرسح ليخرج من باب المعبد إلى النيل وسط تهليل الشعب.)
ساتني :
يوما، يوما، كلمة يا يوما، نظرة إلي، ودعيني يا يوما، أنا ساتني، ألا تسمعينني؟ ألا تنظرين إلي يا يوما؟ (يغطي صوته تهليل الشعب، وتكون يوما منصرفة إلى ما هي فيه، فتمر بدون أن تسمع صوت ساتني، ويتبع الشعب موكبها.)
الواقعة الرابعة (ساتني - مييريس - دليثي - بتيو متخلفا عن القوم وبيده خنجر)
مييريس (إلى دليثي وهي تقودها) :
خذيني إلى ساتني، ابتعدي (إلى ساتني)
يا ساتني، كنت بين القوم وسمعت ما تقول، فأثر في نفسي، ولم تسمع نداءك يوما لانصرافها إلى ما هي فيه، كل منا يشعر يا ساتني بميل إلى تضحية نفسه في سبيل من يحبه أو يقدسه، فإن لم تكن المعبودات ففي سبيل من تكون التضحية؟
ساتني :
في سبيل البؤساء.
مييريس :
في سبيل البؤساء! (يقترب بتيو في هذه الأثناء من ساتني، ويطعنه بين كتفيه بالخنجر.)
بتيو :
انظري، ها هو أيضا يسقط كما سقطت الآلهة.
ساتني (مطروحا على الأرض) :
أأنت قاتلي يا بتيو؟ (ينظر إليه بتحديق)
وا أسفاه عليك! وا أسفاه عليك! (يموت. ينظر بتيو طويلا إلى الخنجر، ثم يلقيه مستنكرا، ويقترب من ساتني، فيجثو على مقربة من جثته ويبكي.)
دليثي (إلى مييريس) :
هيا بنا نصلي يا مولاتي فقد خلا المعبد.
مييريس :
لا، لا أصلي لآلهة باسمهم يقتلون الناس! (يسمع من بعيد صوت تهليل الشعب ونغمات الموسيقى التي تصحب موكب يوما إلى النيل.) (ستار الختام)
ناپیژندل شوی مخ