239

ولا ينحصر هذا النقص في ما تقدم بل يمتد إلى كثير من المعاني العصرية والتعبيرات الخيالية، والتصورات التي استحدثها الزمان، فالعربية في حاجة إلى نظر في كل ذلك، وهو أمر طبيعي لا مناص منه إذ لو نشر هوميروس، وامرؤ القيس، وأرادا تمثيل جميع هذه الأحوال بلغتيهما لاضطربت عبارتهما، وأشكل عليهما التعبير، ولو ركب النابغة سفينة البحار لما أجاد بوصفها إجادته بوصف سفينة البر، أي: ناقته الضاربة في فيافي البيداء.

نقل الألفاظ الأعجمية واستحداث الألفاظ العربية

وكان شغف العرب بلغتهم يدفعهم إلى الحرص عليها، ومباراة الأعاجم بها فما بدت لهم ثغرة إلا وسدوها ولا حلية إلا وزينوها بها حتى أنه لم يكن يثقل على طباعهم أن ينقلوا إليها مئات من الألفاظ الأعجمية، ثم ردوها إليهم ألوفا مؤلفة، بل لم يستنكفوا من التصرف ببعضها، وصوغ الأفعال منها وتصريفها، وإن كانت غير مصرفة في الأصل، فقالوا «فلسفة» و«تفلسف» و«زنديق» و«تزندق» و«طراز» و«طرز» و«دهقان» و«دهقن وتدهقن».

ولكن هذا الأخذ عن الأعاجم لم يكن إلا نزرا يسيرا بجانب ما استخرجوه من مفردات لغتهم، وطبقوه على المعاني المستحدثة، ولا سيما في العلوم التي لم يكن لها أثر في الجاهلية، والاصطلاحات التي اقتضاها انتظام أحكامهم وتوغلهم في الحضارة، فإنهم لما شرعوا في وضع العلوم العربية؛ كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والبديع والعروض، والدينية كعلم الكلام والتفسير والفقه والحديث، والعلوم الطبيعية والرياضية، وسائر ما نقلوه من كتب الأعاجم كالفلسفة والمنطق، والطب والفلك، والحساب والهندسة والجبر، والكيمياء شرعوا في كل ذلك، وليس في لغتهم إلا شبه شيء مما يشير إلى مدلولاته، فما كان أيسر عليهم من أن يستخرجوا من لغتهم أوضاعا استكملوا بها جميع مدلولاتهم العلوم العربية والدينية، ومعظم مدلولات العلوم الطبيعية، واتسعت لغتهم لكل ذلك حتى عول الأعاجم على كثير من موضوعاتهم، ونقلوها إلى لغاتهم «الجبر، والسمت، والقلي، والنظير، والكحول، والسموم».

نهج العرب وتوسعهم في اللغة

ولما اتسعت أحكام سياستهم، وتغيرت طرق معاشهم، وازدادت تصوراتهم بما رأوا، وسمعوا، وقرءوا، وكتبوا وضعوا أسماء وأفعالا لكل ما استحدث لديهم من طعام وشراب، ولباس، ومتاع ، ونظام حكومة، وطريق سياسة، وتوسعوا في المعاني الشعرية والأساليب الإنشائية، فكانت اللغة تجاريهم في النمو والسعة.

اصطلاحاتهم

وإن أردت التثبت من توسعهم في ذلك الاستحداث، فدونك كتب اللغة فلا تكاد تجد صفحة منها خالية من الاصطلاحات الموضوعة بعد الإسلام، وإليك أمثلة منها:

الدور الحركة، وعود الشيء إلى ما كان عليه ... والدور عند الحكماء والمتكلمين والصوفية هو توقف كل من الشيئين على الآخر ... وقياس الدور عند المنطقيين هو أن تؤخذ نتيجة القياس وتضم إلى عكس إحدى مقدمتيه ... والدور في الحميات عند الأطباء عبارة عن مجموع النوبة أو زمانها ... والدور عند الموسيقيين القطعة المستقلة من الشغل ... وعلم الأدوار علم الموسيقي ... والدور عند الشعراء القطعة من الموشح ونحوه...

الدرجة المرقاة ... ودرجات الأمزجة عند الأطباء مراتبها في الشدة والضعف ... والدرجة عند أهل الجفر وأرباب علم التكسير تطلق على حرف من حروف سطر التكسير ... وعند أهل الهيئة تطلق على جزء من 360 جزءا من منطقة الفلك ... ودرجة الكوكب عندهم هي مكانه من فلك البروج، ومنها درجة طلوع الكوكب، ودرجة غروب الكوكب، ودرجة ممر الكوكب ...

ناپیژندل شوی مخ